وباء وبلاء وعهر الرأسمالية – فيوليت داغر
كيف لفيروس
تسبب خلال أربعة أشهر بوفاة 230 ألف إنسان، أن يحدث
انتشاره في أسابيع قليلة
انهيار منظومات وشلل
اقتصديات
كبرى وتوقف حركة نصف البشر
وتراجعاً مزلزلاً للبورصات وخروج من سوق العمل لجحافل من
الناس ومحو سنوات من النمو وتراكم المال، في الوقت الذي
يتوفى طبيعياً في العالم نحو 150 الف إنسان يومياً، وجراء
الأمراض المعدية بمعدل 17 مليون سنوياً، دون أن يتوقف
العالم عن الدوران ويحجر على البشر في منازلهم؟
أين منا تعزيز ثقافة السلم واللاعنف واتفاقات المناخ
وغيرها عندما لا نشهد سوى المزيد من العدوان والحروب
وتفاقم الشقاء والجوع وزيادة الأمية وغياب العدالة
الإجتماعية، بينما الإنفاق العسكري الدولي بلغ في السنة
الماضية فقط 1917 مليار دولار، في حين أن التنمية
المستدامة يكفي لتحقيقها 10% من هذا الرقم على مدى 10
سنوات، ثم نجد دولة كالولايات المتحدة تضع صلب أهدافها
انفاق 1200 مليار دولار لرفد سلاحها النووي بما هو جديد
خلال 20 سنة؟
أما فرنسا الساعية لتجديد سلاحها النووي بانفاق 100 مليار
أورو خلال 15 سنة،
والتي تواصل صم آذانها عن الدعوات لتخفيض انفاقها العسكري
والقضاء على أسلحة الدمار الشامل بما فيها النووية،
هل تملك ما يكفي لتغطية كلفة هذه المشاريع
عندما يكون صاروخ
M51
واحد يساوي مبلغ
120
مليون أورو، أي ما يعادل المعاش السنوي ل
7500ممرض،
أو24
000
جهاز تنفس طبي، علماً أن غواصة نووية تحمل
16من
هذه الصواريخ والصاروخ 6 قنابل ذرية؟
كيف ستدفع الشركات الفرنسية التي سيتم التضحية بها لمن
عملوا لها وكيف ستمول الدولة بالضرائب التي كانت تدفعها
لضخها في شرايين التعليم والصحة وغيره من قطاعات أساسية،
في حين أن مئات المليارات من الدين العام تراكمت، للأفراد
وللشركات، وبلغت ضعف ما كانت عليه بداية الألفية الثانية،
بما يرجح سلوك الطريق الذي سبقتها إليه اليونان وايطاليا
والسودان وفنزويلا وغيرها؟
يرى دكتور زياد حافظ أن الدولة النيوليبرالية هي أقرب
للدولة الأمنية والدكتاتورية، وإن تظاهرت بالتمسك بالحرية
الفردية المطلقة والالتزام بالمشاركة الديمقراطية. وكونها
لا تقر بوجود مجتمعات بل أفراد تحميهم، تؤمن بالداروينية
الاجتماعية والبقاء للأقوياء، أي الأغنياء، وتعزز سيادة
السوق وطبقة رجال الأعمال والمال والنخب على حساب سيادة
الدولة. وكما برز واضحاً في إخفاقات مواجهة الفيروس،
فالنظام النيوليبرالي بقيادة الولايات المتحدة (وفي قلبها
عائلات روتشيلد وروكفلر وأربورغ وغولدمان ساكس ولازار
واسرائيل موسى سيف وغيرهم) سعى لتفكيك دولة الرعاية
والتركيز على السياسات النقدية والمؤسسات المالية والنظام
المصرفي، كما ونجح في تفكيك نفوذ النقابات الأوروبية
والمؤسسات الحكومية.
في فرنسا، تضاعفت خلال ثلاثين سنة مضت مصاريف المستشفيات
من الأدوية والصناعات التي تباع بالصيدليات 250%. وحيث لا
تتوفر معلومات كافية وشفافة عن نجاعة الأدوية المستعملة،
يسجل في 2018 أن المستشفيات اشترت ما مقداره 7.6 مليار
اورو من الأدوية، مقابل الاقتطاع لتوفير المصاريف من أجور
العاملين وعدد الأسرة.
دواء الهيدروكسيكلوروكين، كان القضية التي شغلت الأوساط
الطبية والسياسية إثر تفشي الوباء وألقت الضوء على نهج
السلطات الحاكمة. العقار المتحدر من النيفاكين، والكينين
المكتشف منذ 1949، تنتجه مختبرات سانوفي الفرنسية ويستعمل
لعلاج المرضى منذ عقدين من الزمن. دراسة تقييمية له، اجريت
في 2009 من طرف السلطة العليا الصحية، وجدت انه يوصف بنسبة
64% من الأطباء العموميين. لم تعترض على ذلك يومها، بل
أثنت على الأطباء وبقي الدواء يباع بشكل حر دون رقابة. إلى
أن اتخذ رئيس الوزراء قراراً في 26 مارس بمنع الاطباء من
وصفه، وما زال لم يتراجع عن موقفه رغم العرائض
والاحتجاجات.
هكذا، بين ليلة وضحاها بات العقار خطراً على المرضى، بينما
لم يسمع أحد سابقاً بأنه تسبب بمشكلة لأحد. اليوم لا رقابة
على من يلجأ له سراً، وليس من معرفة دقيقة بنتائج العلاجات
التي حلت محله، والتي قد تعرض المرضى لتأثيرات جانبية غير
معلومة. بروتوكول البرفسور راوول اعتمد على هذا الدواء،
بإضافة الأزيتروميسين له، ووصفه في بداية الأعراض. إنما
الدراسات التي أجريت مع بداية تفشي الوباء وشملت سائر طرق
علاج الفيروس، لم تطبق بروتوكول راوول كما يجب، وكأنها
تريد أن تثبت أنه غير مفيد ولا يمكن الاعتماد عليه.
لماذا هذا التعاطي مع «الهايدروكسي كلوروكوين»؟
عقار كان
ترامب قد منح موافقته لاستعماله ليتراجع بعد حين ويستبدله
بدواء "الرمديسيفير".
السويد من أول البلدان التي لجأت له أيضاً، تخلت عنه قبل
أيام بحجة مضاعفات جانبية على النظر وآلام رأس شديدة وتخوف
من تأثيرات على القلب. فهل هذا صحيح أم أن في الأمر
تداعيات لحرب أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة لقتل هذا الدواء
وفرض
الرمديسيفير مكانه بالقوة (يشاع أن ثمنه مائة ضعف ومن يقول
أنه لم يحدد بعد)؟ لكن في أفريقيا حيث يستعمل العقار
البخس الثمن والمتوفّر بكثرة،
لم يتحدثوا عن عوارض جانبية ويقلعوا عن استعماله، ولم نسمع
بنسب وفيات تضاهي البلدان الأخرى.
"الرمديسيفير" تنتجه شركة "جلعاد ساينس" الأمريكية ومقرها
في فوستر سيتي بكاليفورنيا. وجدت جلعاد سنة 2017 ضالتها في
شركة إسرائيلية ناشئة، تأسست عام 2009 ، تدعى كيت فارما،
ومتخصصة في مجال الأبحاث والهندسة الوراثية المناعية
وتصنيع العقاقير الخاصة بالأمراض المناعية. فمن شركة تقدر
آنذاك ببضع عشرات من ملايين الدولارات، كان العرض
للإستحواذ عليها خيالي، ودفع 11،9 مليار دولار!
رأسمال مختبر "جلعاد ساينس" السنوي 100 مليار دولار
وأرباحه تصل ل5 مليار. وفي حين ما زال لم يقدم أي إثبات
على أن دواء رمديسيفير مناسب ضد الفيروس، تصعد أسهمه
ببورصة نيويورك في يوم واحد بما معدله 10 مليار دولار، إثر
عملية اعلانية ناجحة. لا يتوانى هذا المختبر عن التأكيد (
29 نيسان الماضي) أن الدواء الذي انتجه ضد الفيروس التاجي
أظهر نتائج ايجابية، وسجّل نسبة وفيات 8% ضمن المجموعة
التي تلقّت علاجه، مقابل 11% بمجموعة العلاج الوهمي. كما
ويسرّع من مدة تعافى المرضى الذين عولجوا به، من 15 إلى11
يوماً. لم يجر بالطبع الحديث عن العوارض الجانبية الكثيرة
التي يحدثها وكأنها غير موجودة.
لكن دراسة أجريت بين 6 فبراير و12 آذار في 10 مشافي في
ووهان على237 مريض عولج ثلثيهم برمديسفير، لم تصل، حسب
مجلة «ذي لانسيت» الطبية، لنتيجة تسجل لصالح الدواء في
المجموعتين أو تحسّن الحالة السريرية للمرضى. كما أنّ
معدّل الوفيات كان بحدود 14% في المجموعتين. ويشير عالم
أوبئة في جامعة ولونغونغ بأستراليا إلى أنه : على الرغم من
أنّ الدراسة وجدت أنّ المرضى الذين يُعالجون بعقار
رمديسيفير يتعافون بشكل أسرع، من اللافت أن الباحثين قاموا
بتوسيع تعريفهم للتعافي، وأنّ تضمين مصابين كانوا بمرحلة
التعافي في النتائج يفتح الباب أمام الكثير من الشكوك.
عندما نبحث عن مالكي شركة "جلعاد ساينس" نجد انهم من أكبر
رؤوس الأموال العالمية، منهم بلاك روك وفنغارد وغيرهم،
همهم تسجيل الأرباح السريعة. بلاك روك تستحوذ على حصة
واسعة من الشركات الفرنسية، وهي في طليعة الشركات التي
تحوز على أهم مؤشرات بورصة باريس كاك40. رئيس بلاك روك
الذي منحه رئيس الوزراء وسام تقدير، يستدعى لقصر الرئاسة
بشكل دوري ويتم الاعتماد عليه باصلاحات التقاعد.
فرنسا، تتحضر، بحسب أوليفييه كونشون، منذ سنوات لسن قوانين
في حال تعثر المصارف لسبب ما. تبني على ما حدث في 2008
لمصرف لحمان برازر الذي وزع الكارثة على مجمل المنظومة
الاقتصادية. نتذكر 2013، عندما اعترضت صعوبات جمة اثنان من
أكبر المصارف القبرصية، وسارع حينها البنك الأوروبي
للانقاذ، بعد فرض شرط الاعتماد على الحسابات الجارية
للمودعين العاديين. فرض ضريبة بنسبة 6.75% على الحسابات من
20 إلى مائة الأف، و9,9% لما فوق. فقبرص كانت حقل التجارب
المناسب و9.9% هي أقل من 10%،
حيث التعامل مع الرقمين يختلف نفسياً.
أيام قليلة ليكتشف البرلمان القبرصي المخطط ويعترض عليه،
يتبعه بذلك بعض الاعلام الأوروبي. يعدل البنك الأوروبي
بالمخطط أشياءا ويفرضه دون العودة للبرلمان. يجد أصحاب
الحسابات ما فوق المائة ألف 60% من أموالهم لم تعد ملكاً
لهم. أما الأربعين الباقية فممنوع عليهم المس بها قبل ستة
أشهر، لحين تحسن وضع البنك القبرصي. الخطة تفرض أيضاً
اغلاق مصارف البلد لاسبوعين وتحديد كمية السحوبات بين مائة
وثلاث مائة أورو في اليوم، تجميد الفوائد على دفاتر
التوفير، ورفع الضريبة على الشركات، بما يستتبعه من تسريح
عمال وبطالة. يتبع ذلك تدخل صندوق النقد الدولي والتهديد
بفرض ضريبة 10% على كل المودعين في البنوك الأوروبية إن
حصل تخلف عن ايفاء القرض. لكن حيث ما من موافقة على مد
اليد الى الجيب في البلدان 28 للاتحاد الأوروبي، وخاصة
المانيا التي رفضت المساعدة، فالسطو سيكون على حسابات
المودعين بما فيها الصغيرة.
لذا، جرى بفرنسا فبركة قوانين بهدوء وسرية، وبما يشرّع
لوضع اليد على
دفاتر إدخار
المودعين وتحميل زبائن شركات التأمين تبعات اخلالاتها.
وحيث أن كل فرد عليه مسؤولية معرفة القوانين حتى لو أُقرت
بسرية، فهو في النهاية من سيتحمل دفع الضريبة إن حصلت
زلازل اقتصادية. وإذا كان عامة الناس يجهلون الواقع،
فالقريبون من مراكز القرار وأصحاب الأموال الطائلة يعلمون
على الأرجح بالخفايا، وربما أخرجوا ودائعهم أو تحسبوا
باتخاذ اجراءات تحميهم من الحجز عليها. ما يذكرنا بما يحصل
في لبنان أيضاً، وكأنه أنموذج يبدأ بالصغير ليتمدد للكبير.
من ناحية أخرى، التجربة المرة التي مرت بها إيطاليا صعّدت
من حدة الموقف المناهض للاتحاد الأوروبي، بحيث بات ثلث
الايطاليين فقط مع البقاء في كنفه. وقد ذكّرت رئيسة مجلس
الشيوخ الأوروبيين بالدور الايطالي المتضامن مع المانيا
بعد الحرب العالمية الثانية، عندما سددت نصف ديونها كما
وساعدتها مرارا حتى بعد أن وحدت شطريها، لتلقى بمرارة هذا
النوع من المعاملة في الوقت الذي خسرت فيه
28.000
من مواطنيها.
رؤية معبرة لما يسمى بالتحالف الأوروبي للخروج من اليورو
والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والنيوليبرالية، يعتبر
ببيان 14 نيسان الماضي، أن جائحة الكوفيد 19 وما خلفته من
أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، أظهرت بشكل مأساوي عمق
تناقضات النظام الرأسمالي النيوليبرالي، وقضت على ما تبقى
من أوهام حول الاتحاد الأوروبي. سعى النيوليبراليون خلال
سنوات لتفكيك دولة الرعاية التي اعتبروها عبئاً وخطراً على
الاقتصاد والازدهار. وكانت نتيجة أكثر من 4 عقود من سياسات
الخصخصة وضعف الدعم والتشغيل في القطاع العام وتخفيض أجور
التقاعد، تفكيك الأنظمة الصحية التي عجزت عن الاستجابة
لتحديات الجائحة. الحكومات التي خدمت النيوليبرالية تتحمل
المسؤولية في ذلك، كما سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه بلدان
الجنوب الأوروبي، بما فرضته عليها من تقشف باسم الاستقرار
الأوروبي. وحيث كل طرف بقي وحيداً بمواجهة الأزمة، فعند
انتهاء الجائحة سيجعلون الشعوب تدفع الأثمان باجراءات
متشددة وبالتضييق على الحقوق والحريات التي اكتسبت
بالنضالات. أما الحل فهو بنظر التحالف الاستغناء عن
الاتحاد الأوروبي الذي وضع تراكم رأسمال في صلب اهتماماته،
واستعادة نظام الرعاية ودولة القانون واطاحة العملة
الموحدة ومحو ديون الدول، لتحيا الشعوب بالتضامن فيما
بينها وبالنضال كي لا تتحمل أخطاء الحكومات وتبني سياسات
اجتماعية وبيئية واقتصادية قائمة على المساواة والعدل.
نشر على الميادين نت في 7 أيار/مايو 2020
|