فاز باراك حسين أوباما بمنصب الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية ولم يكن ثمة من يجرؤ حتى وقت قريب على المراهنة على نجاحه، لأن منبت الرجل ولونه ومحيطه تبدو عقبة لا يمكن تجاوزها في بلد ما زال يميز بين أبنائه، ويعتبر مكونه الأنغلوسكسوني ضمانة تفوقه، بالرغم مما يقال عن المثال الأميركي والديمقراطية التي يتغنى بتصديرها للعالم.

لكن السنوات الثماني العجاف حملت معها للأميركيين مصائب جمة من خسائر بشرية واقتصادية وسياسية وأخلاقية. كما أن محاربة الإرهاب والحروب الاستباقية لم تواجه الإرهاب بل أججت جبهاته، وفي الأخير جاء الزلزال المالي فأنضج واقعا لم يكن للفائز بالانتخابات أن يحقق النتيجة المريحة التي حققها من دونه. لقد تضافرت خصائص الشخص مع انقلابات في المشهد الأميركي مع متطلبات المرحلة لتكون التوليفة هي ما شهدناه مؤخرا.

لكن هل سنجد في خطوات أوباما القادمة داخل البيت الأبيض الوصولية أم الأصالة؟ هل سيبقى وفيًّا لمبادئه ووعوده الانتخابية وقادرًا على اتخاذ قرارات تاريخية مهما كانت كلفتها، أم أن عقدة النقص التي ظهرت خلال حملته الانتخابية من أصوله الأفريقية والإسلامية ستلاحقه ولن يكون من طينة الرجال العظام الذين يصنعون التاريخ؟

هل سيكون أول رئيس أسود لأميركا فقط أم رئيسًا أيضًا لفقراء السود والمهمشين (لا يفوتنا أن بروز بعض الشخصيات الداكنة البشرة في مراتب عليا لا يلغي أن أربعة أضعاف من هم تحت خط الفقر في الولايات المتحدة الأميركية هم من السود، وأن البطالة بينهم هي ضعف ما يسجل عند البيض، وأن أصحاب هذا اللون يحوزون على نسبة 60% من الأجور التي يحصل عليها البيض)؟

هل سيولي الملف الفلسطيني بعضًا من اهتمامه، وهو العارف كما يفترض أن هذه القضية هي أم وأب المشاكل الفظيعة التي تعاني منها المنطقة، وأنها تؤثر بقدر أو بآخر في العالم كله وفي بلده بشكل كبير، أم أن الذين سيحيط نفسه بهم (وقد عين على رأسهم الملقب برامبو) سيكونون له بالمرصاد لضبط إيقاع مساراته وقراراته بما يصب دوما في مصلحة الكيان الصهيوني الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟

غالب الظن أن أوباما لن يصنع المعجزات في زمن لا يوجد فيه أنبياء ولا قديسون يتولون مسؤوليات هذا العالم الذي يسير على رأسه، ولو أن الكثيرين على الكرة الأرضية يصرون على أن يروا فيه المخلص الجديد بعد سنوات البوشية المنقرضة العجاف، لكنه بالتأكيد لن يكون بضحالة وغباء سلفه الذي يدين له بفوزه بسبب ما اقترفه من ذنوب وآثام في حق شعوب العالم. وطبعا لن يغطي ضعف خبرة أوباما على الرمزية الكبيرة لفوزه في بلد كان القوة العظمى إلى أن بدأ العالم يشهد عودة الروح لتعدد القطبية.

في كل الأحوال هناك عامل أساسي أردت أن ألفت إليه النظر في هذه السطور، لأنه لعب دورا حاسمًا في فوز باراك أوباما، بمعزل عن مصالح "الأستبلشمنت" الأميركي (من أجهزة استخبارات ومؤسسات اقتصادية وصناعية وعسكرية نافذة وجماعات ضغط خاصة الصهيونية إلخ) الذي يعول اليوم على شخص يمكن أن يحدث صدمة موازية تسهم في تغيير صورة أميركا في العالم وتعطي الأمل للأميركيين بأنه ما زال بإمكانهم أن يثقوا في بلدهم وقدرته على حماية مصالحهم، وأقصد بهذا العامل الأساسي المجتمع المدني ودوره الفاعل جدًّا في تنظيم ودعم حملة من خرج من صفوفه.

هؤلاء بشرائحهم الوسطى والفقيرة المتعددة الأعراق والأجناس والألوان هم من أوصلوا من جسدوا فيه آمالهم، وليس المقتدرون الذين يصنعون السياسات والسياسيين هم من صنعوا المعجزة.  العبرة هنا هي أن التغيير يمكن ويجب أن يأتي من الأسفل، بمعزل عن الخضوع لألاعيب من يسعى للتغيير من فوق، ومن يعمل ضمن موازين قوى يجيرها لصالحه باسم اللعبة الديمقراطية والقوانين الانتخابية.

ففي الدول الغربية قوى كثيرة لا تحترم بالضرورة الإنسان وحقوقه، ووجهها الآخر تطغى عليه عنجهية القوة وبداهة الهيمنة بوصفهما من مسلمات النظام العالمي السائد. من هذه الدول أيضا من لا يضمن الحد الأدنى من الرفاه والتوازن لكل مواطنيه.

من جهة أخرى يبدو أن العلاقات الغربية العربية ليست قائمة على التكافؤ والاحترام المتبادل باعتباره أساسا لبناء الثقة الأكيدة والجسور المتينة، ثم إن الطاقات العربية الفكرية، عندما تشكل ندا جديا وطرفا في مشروع شراكة حقيقية، تبقى غالبا مهمشة.

لكن شتان ما بين حالهم وحالنا، ولا مجال لمقارنة هنا مع أشكال الحكم في بلدان يغيب عنها حتى مجرد التداول على السلطة أو يحصل فيها التغيير إن حصل بالتزوير والعنف أو بالانقلابات العسكرية أو بالتوريث أو بتجديد الطاقم الحاكم لنفسه دون الحاجة لكلمة الشعب.

فإذا ما انتقلنا لفضاء المجتمع المدني العربي، أي الفضاء الحيوي والديناميكي غير الحكومي من عرب وكرد وأمازيغ وأفارقة سود وبيض، مسيحيين ومسلمين، علمانيين ومتدينين من كل ملة ونحلة، يجمعهم رفض منظومة الاستبداد السائدة والفساد المستفحلة واعتبار أنفسهم صمام الأمان في كل انتقال سلمي نحو مجتمع ينعم بالحرية والعدالة.

هذا المجتمع ما زال غير جاهز بعد لإحداث النقلة نفسها بفرض التغيير بآليات ديمقراطية. إنه ما زال مفتتا بفعل عوامل مجهضة خاصة بتركيبته وثقافته وأنماط إنتاجه وعلاقاته بمحيطه والعالم. وتزيد من تشتيته فيروسات أتت من خارجه لتضعف مناعته إذا لم تصبه في مقتل.

واحد منها برامج المساعدة المالية المقدمة للجمعيات والمنظمات غير الحكومية، التي تُوضَع شروطها وأجنداتها لخدمة مصالحها ومن تمثل وليس لمن تتوجه إليهم. فعلى سبيل المثال ترفض برامج التمويل الأوروبية دعم أي برنامج حول حوار أو تعاون عربي أوروبي، وتستبدل به الأوروبي المتوسطي.

وبعد النجاح في استعمال تعبير العالم العربي، بدل شمال أفريقيا والشرق الأوسط حصلت هجمة مضادة شعواء تتهم كل من يستعمل العربي بالشوفينية والإسلامي بالتطرف.

لقد صرفت مئات الملايين من الدولارات لمشاريع ضمن هذا التصور وجرى تهميش وعزل كل من هو خارجه. وعندما تغيب دولة أوروبية من خارج الاتحاد أو دولة عربية متوسطية ربما لا ينتبه لذلك أحد ولا يكترث به، في حين أن وجود دولة إسرائيل شرط لازم لأي تمويل أو دعم أوروبي.

وفي الطرف الآخر من الأطلسي وضعت إدارة بوش استمارة غربلة للجمعيات تبعد أي مساعدة أو تمويل عن كل من يتعامل مع جمعية أو حزب مصنف أميركيا في قائمة الإرهاب.

نتيجة القول هي أن عملية تطويع ما يسمى بالمراكز الاصطناعية (أي التي تنشأ بمبادرة شخص بمقر ممول وعدد من الموظفين الذين أخرجهم التمويل من بؤس البطالة وأزمة سوق العمل، يعملون بصورة منفصلة تمامًا عن الصراع المجتمعي والمقاومة المدنية وعن نضالات وابتكارات ونتاج هذا المجتمع)، قد خلقت سماسرة محليين لترويج البضاعة الغربية وخلط الأوراق.

فهناك من الناشطين الحقوقيين من يعتقل ويطرد من عمله ويحرم من السفر ويلاحق في الشارع، ولا يتم الدفاع عنه بدعوى ميوله الإسلامية أو الوحدوية العربية، في حين يتم تجميل صورة مجموعة من الأشخاص نجدهم في كل مكان يتحدثون وكأنهم وحدهم من يمثل هذا "المجتمع المدني العربي المحاصر".

بالمقابل لا ترضخ المفوضية الأوروبية لمن يطالبها برفع المنظمات الإسلامية الفلسطينية عن قائمة الإرهاب، أو بمقاطعة البضائع الإسرائيلية لوقف الاستيطان باعتباره العائق الأكبر لأية مباحثات جدية ومجدية.

قائمة الممنوعات هذه يعرفها في كل الأحوال أصحاب المراكز الممولة وقد يطرحون شيئا منها أحيانا كي لا يبرزوا بمظهر كاريكاتيري، لكن هذه الصورة المرعبة القائمة على الحقن المالي الموجه والمشروط بدأت تظهر نتائجها السلبية على المجتمع المدني العربي.

ومن هذه النتائج:

1 - إعطاء العديد من المراكز المحترفة الأولويات لحاجات سوق التمويل، بحيث لم تعد الاستجابة للحاجات المجتمعية الفعلية هي الأساس.

2- تعدد النشاطات الممولة وازدياد المطبوعات الموزعة بشكل شبه مجاني، مما أعطى للحركة المدنية صورة مضخمة لا تعكس واقعها وقدراتها الحقيقية ومدى تواصلها مع الناس.

3 - انتقال التأثير من البعد الداخلي المتمثل في غياب الديمقراطية الداخلية إلى بناء مؤسسات ربحية ونخبوية والابتعاد عن الناس وهمومهم والترويج لمشاريع مستوردة على حساب المشاريع الموضوعية ذات الجذور الثقافية المجتمعية. نجد مثلاً تمويلاً ضخمًا لأي شبكة متوسطية أو أوروبية متوسطية أو لنشاطات تواكب منتدى المستقبل، في حين تتم محاصرة أي مؤتمر يغطي العالم العربي ومشكلاته أو الفضاء الإسلامي.

4 - تحويل هذه المراكز المغلقة بعلاقة التبعية الإستراتيجية إلى مروجة لمشاريع خارجية، لأن مصدر الرزق بات عامل إفساد لعدد كبير من مناضلي المجتمعات المدنية العربية التي تحاصر بين سندان الأنظمة التسلطية القومية ومطرقة التغلغل المالي الشمالي.

5 - انتقال قضية التمويل من مجرد وسيلة من وسائل الإدارة والنمو إلى غاية في ذاتها ترك أثرًا واضحًا في اختزال المشروع والطموح الذي كان يتبناه بعض المراكز الحقوقية والمنظمات، حتى أصبح جزءا من عقلية ربحية حولت المنظمات المدنية ومنظمات حقوق الإنسان إلى سلعة، وحولت المركز إلى مؤسسة اقتصادية.

للأسف، وكما كانت المنظمات التقدمية الجيدة قبل نصف قرن تدفع ضريبة التكوينات الرديئة، تعيش اليوم حركة حقوق الإنسان وضعا مشابها. فهل يسمح السقوط المدوي لتجربة المحافظين الجدد بفرز واضح بين من تحول إلى عراب لتجربة أسوأ إدارة أميركية منذ بيان الاستقلال الأميركي، أو مندوب لمشاريع الهيمنة الأوروبية، أم أننا لم نصل بعد لدرجة من النضج تسمح بفرز كهذا؟

لقد بتنا مطالبين وبإلحاح بالانتقال إلى العمل الجاد والفاعل بين صفوف من يمكنهم أن يغيروا هذا الواقع العربي الرديء، لا أن نبقى في الهامش نراوح مكاننا وننتظر أن يفرض علينا أصحاب المصالح الخارجية التغيير بالشكل الذي يخدم مصالحهم وفي الوقت الأنسب لهم.

من يعول على أوباما أو على الغرب لإحداث تغيير في مجتمعاتنا العربية هو لا شك مخطئ، إن لم يكن ساذجا، لأن حقوقنا علينا أن نفرض احترامها على من لا يؤمن بها، وننتزعها ممن لا يراها في مصلحته، لا أن نستجديها وكأنها منة تهبط علينا من السماء بقدرة قادر.

لقد فرضت المقاومات في العراق وفلسطين ولبنان والصومال وأفغانستان وغيرها واقعا لم يكن للآخر بد من التعامل معه والاتعاظ بدروسه. لا بل ساهمت في قلب موازين نشهد تداعياتها اليوم وستبقى ارتجاجاتها حتى بعد حين لمن يعرف كيف يقرأها.

فلماذا نسخر من إمكانياتنا ونشعر باحتقار أنفسنا ونقلل من قدرنا عندما يكون بوسع المقاومة المدنية أن تبني لغد مختلف؟ ألم يحن الوقت لتغيير الزاوية التي من خلالها نقرأ ما يجري من حوادث وما يحدث من متغيرات، ونتصالح مع ذواتنا بما يمكننا من فرض احترامنا على الغير ووضع تصوراتنا بموازاة رؤى الآخرين؟

متى نعود لحلبة الزمن لنصنع حاضرنا ومستقبل أبنائنا دون أن نكبل أيادينا ونترك عقدة النقص تلاحقنا في حلنا وترحالنا؟

إن الخلل البنيوي في دخول النخب ساحات تجارة البؤس، من قبول المهادنة والتذبذب وشراء الذمم إلى عدم الوضوح في الرؤيا والخلاف المفاهيمي في الإستراتيجيات وفراغ الأطروحات البديلة وانعدام الشجاعة والمراجعات النقدية والاتكاء على البيانات المدجنة والندوات المسطحة والمؤتمرات السياحية هي واقع لا بد أن نحرز فيه نقلة نوعية قبل أن يفوتنا قطار الزمن العابر.