اللاجئون الفلسطينيون في لبنان

ـ مقدمة (فيوليت داغر) 5

الفصل الأول: حق اللجوء والعودة في القوانين الدولية

القسم الأول: مقدمة وخلفية تاريخية

آ ـ المؤسسة ودور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيي

   ب ـ التحدي الذي يواجه وكالة الأنروا

القسم الثاني: الرحيل (اللجوء) الفلسطيني وأسبابه

آ ـ الإرهاب الصّهيوني

ب ـ الطّرد والإبعاد

ج ـ تعطيل الأمن والحكومة قبل نهايةِ الانتداب

د ـ الرد الإسرائيلي على اللجوء الفلسطيني

القسم الثالث: خلق مأساةِ اللاجئِ الفلسطيني

القسم الرابع: حق العودة في القانون الدولي

آ ـ اللاجئون الفلسطينيون ومعاهدة 1951

ب ـ اللاجئون واتفاقية جنيف الرابعة

ج ـ حق العودة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

د ـ حق العودة كعرف أساسي في القانون الدولي

القسم الخامس: قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة 194

آ ـ القرار 194(3) كانون الأول/ديسمبر 1948

ب ـ قرارات الأمم المتحدةِ الأخرى المعززة لحق اللاجئ الفلسطيني

ج ـ قرارات مجلس الأمن الخاصة باللاجئين الفلسطينيين

 

القسم السادس: المنظومة الحالية لحماية اللاجئين غير كافية

آ ـ تجنب إعادة المأساة الفلسطينية

 

ب ـ الفعالية في المستقبل تتطلب تعاوناً دولياً:

 

القسم السابع: استنتاجات

آ ـ أي إطار للحلِ يتطلب اعتراف إسرائيل بمسئوليتها:

 

ب ـ وجوب اعتماد الحل النهائي على المعايير الدّولية:

الفصل الثاني: أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

ـ أولاً: الوضع الراهن من خلال أقوالهم وكتاباتهم

   ـ لمحة تاريخية

   ـ مرجعيات اللاجئين الفلسطينيين

1 ـ الدولة اللبنانية:

2 ـ الأونروا:

أ ـ القطاع التربوي:

ب ـ القطاع الصحي:

ج ـ قطاع الخدمات والإغاثة الاجتماعية:

3 ـ منظمة التحرير الفلسطينية والمرجعية السياسية:

الوضع الاقتصادي ـ الاستفادة من خبراتهم:

بروز الأزمة الاقتصادية:

الحقوق المدنية:

الوضع الاجتماعي من خلال عينات:

الهجرة كحل

   ـ رفض التهميش والعمل على الواقع

   ـ غربة عن البلد المضيف وتوق للبلد الأصل

   ـ الوضع الأمني والوجود المسلح للفصائل الفلسطينية في المخيمات

   ـ الموقف من السلطة الفلسطينية واتفاقيات أوسلو

   ـ استشراف آفاق المستقبل

   ـ الجمعيات الأهلية اللبنانية

ـ ثانياً: مقاربة نفسية اجتماعية للواقع المعاش

   ـ الانخراط في المجتمع المستقبل

   ـ استراتيجيات التعامل مع الآخر

   ـ علاقة الأنا بالآخر

الفصل الثالث: ثمن البؤس: فلسطينيو لبنان

   ـ أولا: في البؤس الفلسطيني في لبنان

   ـ ثانيا: في انتاج البؤس الفلسطيني في لبنان

   ـ ثالثا: سيرورة التهميش، ثمن البؤس

   ـ وضعية الهامش

ملحق: في ألف باء حقوق الإنسان الفلسطيني

 

ملحق: في ألف باء حقوق الإنسان الفلسطيني

 

 

* اللاجئون الفلسطينيون في لبنان

  (اللجنة العربية لحقوق الإنسان) ديسمبر 2000

* فيوليت داغر ـ محمد حافظ يعقوب ـ محمد أبو حارثيه

* الطبعة الأولى 2001 م

* جميع الحقوق محفوظة للناشر

* الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع

   سورية ـ دمشق ـ ص.ب: 9503 ـ هاتف: 3320299 ـ فاكس: 3335427

   تلكس: 412416 ـ بريد الكتروني: ahali@cyberia.net.lb

* التوزيع في جميع أنحاء العالم:

* الأهالي للتوزيع

   سورية ـ دمشق ـ ص.ب: 9223 ـ هاتف: 2213962

   فاكس: 3335427 ـ تلكس: 412416

 

فيوليت داغر

محمد حافظ يعقوب

محمد أبو حارثيه

 

اللاجئون الفلسطينيون في لبنان

اللجنة العربية لحقوق الإنسان

 

الأهـالي

 

 

د. فيوليت داغر:

باحثة مختصة في علم النفس وتدرسّه، شغلت عدة مواقع لبنانية وعربية ودولية في المنظمات غير الحكومية. لها كتابات وأبحاث في قضايا الهجرة والعنف والمرأة والطائفية والحقوق الإنسانية. رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان.

د. محمد حافظ يعقوب:

كاتب وباحث فلسطيني. حائز على دكتوراه دولة في علم الاجتماع، من مؤسسي اللجنة العربية لحقوق الإنسان، مؤلف “العطب والدلالة في الثقافة والانسداد الديمقراطي” ومؤلفات عديدة في القضية الفلسطينية آخرها: بيان ضد الأبارتايد: اللاجئون الفلسطينيون والسلام.

أ. محمد أبو حارثية:

محامي فلسطيني حائز على درجة البكالوريوس في القانون وفي الإدارة. ماجستير في القانون الدولي لحقوق الإنسان. أحد نشطاء حقوق الإنسان على الصعيد الفلسطيني. له العديد من الدراسات والمقالات المنشورة. يشغل حاليا منصب المدير العامّ لمؤسسة “الحق” في فلسطين.

 

مقدمة

مضى أكثر من خمسين عاما على تأسيس دولة إسرائيل، وما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية الغربية بمنطقة الشرق الأوسط يشهد تصاعد عنف دائم، بحيث باتت هذه المنطقة من أكثر مناطق التوتر في العالم. لقد أدت الحروب الإسرائيلية ـ العربية والصراعات والانفجارات التي ولدها وجود الكيان الإسرائيلي، بما فيها ما سمي بالحرب “الأهلية” اللبنانية والحرب الإيرانية ـ العراقية وحرب الخليج الثانية، لانهيارات اقتصادية ودمار بيئي وتراجع اجتماعي وعنف سياسي وتأخر حضاري وانتهاكات لا مثيل لها لحقوق الإنسان.

من المعروف أنه بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، أعيد بناء الخارطة الدولانية في هذه المنطقة وفق موازين قوى واعتبارات لم تأخذ مصالحها في الحسبان. هذه التركيبة لم تكن محصلة نضج سياسي ومجتمعي محلي بقدر ما هي ابنة علاقات هيمنة ومصالح خارجية. لقد كان الوصول للشوط الأخير من وعد بلفور تأكيداً لسياسة التواجد الاستيطاني في شرقي وجنوب المتوسط التي اتبعتها بريطانيا وفرنسا. ثم جاء الدور المتعاظم للولايات المتحدة في المنطقة، خاصة بعد أفول عهد الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي. لقد سهّل هذا الأمر للقوة العظمى لعب دور الشرطي العالمي “بشرعنة” ممارسة الانتهاكات، وفرض سياساتها على العالم، ضمن ازدواجية صارخة في المعايير وعدم احترام قواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

أبرز اكتشاف النفط في منطقة الخليج وتصاعد دوره على صعيد الاقتصاد والطاقة عالمياً المطامع الجيوستراتيجية للدولة العظمى خاصة. وحفاظا على مصالحها في المنطقة، اعتمدت السياسة الغربية مبدأ الاستمرار والثبات للحليف السياسي المحلي بغض النظر عن طبيعة نظامه التعسفية وموقفه من الحقوق الإنسانية. فدعمت في عدة أماكن في العالم العربي أنظمة مستبدة تستأثر بمقدرات شعوبها وتنتهك حقوقها الأساسية لتجعل من استمرارها أطول فترة زمنية ممكنة في الحكم برنامجها المركزي.

رغم تأكيد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حق كل إنسان في الجنسية، وإقرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين في أهم قرارات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة الناصة على حق العودة، فإن منح الجنسية ومفهوم العودة في القوانين الإسرائيلية مازال يخضع لاعتبارات دينية تمييزية تعطي حق الجنسية الإسرائيلية لكل يهودي من أي بلد في العالم وتحرم منه من يحق له ذلك من غير اليهود بناء على مبدأ الدم أو الأرض.

خلال قرابة ستين عاما أوجد منطق العودة الإسرائيلي لكل يهودي إلى أرض الميعاد ومنطق إبعاد الفلسطيني عن فلسطين، لإعادة تكوين الخارطة البشرية لهذا البلد، شعبا إضافيا، ليس بالمعنى العددي فقط بل بالمعنى الاجتماعي والنفسي. أي معنى الخوف من الآخر الفلسطيني الذي يعني وجوده كفلسطيني زعزعة للإيديولوجية الصهيونية القائمة على مبدأ شعب بلا أرض لأرض بلا شعب. وقد طبقت إسرائيل مفهومها للجنسية على الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد حرب 1967 ضمن سياستها الاستيطانية في هذه الأراضي التي يقيم فيها اليوم أكثر من مائتي ألف مستوطن، في خلاف لكل القوانين الإنسانية الدولية. وللأسف، خلال أكثر من نصف قرن، كان اللوم يطال الضحية لا الجلاد، والمكافأة تمنح لمن يلتحق بإسرائيل لا لمن يطالب بحقوق الفلسطينيين.

كتلتان بشريتان كانتا تتكونان يوما بعد يوم: الأولى، إسرائيلية على معظم أرض فلسطين، تملك مقومات أساسية للقوة بالمعاني الاقتصادية والعسكرية ومدعومة بقوة من الولايات المتحدة. والثانية، فلسطينية، محرومة من مقومات القوة والسيادة بجميع المعاني وموزعة بين الاحتلال الإسرائيلي واللجوء خارج فلسطين. خلال هذا الوقت كانت تمضي إسرائيل في ممارسة سياساتها الاستيطانية في المنطقة ضاربة بعرض الحائط قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، غير عابئة حتى بعرب 1948 الذين تمارس ضدهم التمييز العنصري والتفرقة الدينية والسياسية والإدارية والمالية والاجتماعية والثقافية وغيره.

لكن الإحباط واليأس من تردي الأوضاع بسبب فشل 9 سنوات من المفاوضات نتيجة التعنت الإسرائيلي في التقدم في العملية السلمية وعدم التزام إسرائيل بالاتفاقيات التي أبرمها حكامها المتعاقبين مع ممثلي الشعب الفلسطيني، ما كان منها سوى تفجير انتفاضة جديدة في الأراضي الفلسطينية. كانت زيارة شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي، للمسجد الأقصى في 28 أيلول 2000 الشرارة التي أشعلت فتيل صدامات عنيفة ودامية ما زالت تمتد رقعتها منذ 29 أيلول ويتأجج احتدامها يوما بعد يوم. لقد بدا آخر احتلال مباشر في العالم بأبشع صوره عبر مواجهات يومية بين أطفال فلسطينيين عزل وجيش لا يتوانى عن الرد على الحجارة بالرصاص الحي والمتفجر وعن قصف المدن الفلسطينية بالصواريخ والدبابات والطائرات محدثا خسائر بشرية ومادية هائلة.

راح ضحية هذه الأحداث بعد شهرين على بدئها، وقت إعداد هذه المقدمة، عدة آلاف من الجرحى الفلسطينيين وفاق عدد القتلى المائتين وستين، نسبة الأطفال بينهم عالية. والوضع ينذر بتصاعد أعمال العنف وبخطر دفع المنطقة لاحتمالات مواجهات غير منظورة الأشكال قد تكون أشد عنفا ومأساوية مع استمرار استخدام القوة المفرطة وغير المبررة للرد على الاحتجاج على استمرار عدوان الاحتلال. ذلك ضمن فرض جو من الحصار الاقتصادي والصحي على الفلسطينيين وحظر تجول على بعض المناطق وفصل مدن ومناطق الضفة الغربية عن بعضها وعن قطاع غزة ومدينة القدس عن سائر الأراضي الفلسطينية. يضاف لذلك محاولة منع وصول الإمدادات الطبية والغذائية إليهم وتدمير غير عقلاني للبيوت والأشجار والاعتداء على عدد كبير من سيارات الإسعاف والجسم الطبي وغيره من تصرفات لا إنسانية تناهض معايير القانون الدولي الإنساني والشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي تؤكد جميعها على الحق في الحياة وفي العيش بكرامة، في السلم كما في الحرب.

من الصعب التنبؤ بما تحمله الأحداث هذه من احتمالات، لكن يبدو أن القاعدة الوحيدة للعنف في المنطقة هي التأكيد على هيمنة مبدأ القوة على العدل والأمر الواقع على الحقوق. مما يبني للمؤقت على حساب المستقبل ويجعل من كل إجراء سياسوي قنبلة موقوتة.

قبل حدوث التطورات الأخيرة، شاء هذا البحث أن يسهم في إلقاء الضوء على حجم انتهاك حق شعب في العيش بسلام على أرضه، وحق هذا الإنسان، الذي اضطر لمغادرة بلاده عنوة، بالعيش بكرامة في البلد المضيف إلى أن تتسنى له العودة لبلده الأم. لقد اعتمد بشكل أساسي على دراسة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كمثل لواحدة من أبلغ مآسي القرن العشرين التي لم ينته مسلسلها بعد. من جهة، بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بأبشع أشكاله وتعنت إسرائيل بقبول حق عودة فلسطينيي الشتات إلى ديارهم. ومن جهة أخرى، لأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان محرومين، خلافاً لنظرائهم في الأردن أو سوريا، من حقوقهم المدنية والاجتماعية. ذلك بحجة منع أية محاولات لفرض توطينهم على الأراضي اللبنانية، بسبب “الوضع الخاص للبنان وبالنظر لتركيبة سكانه الطائفية”.

لقد كانت قضية توطين اللاجئين الفلسطينيين ومواجهتها تثار بشدة في الآونة الأخيرة، ضمن مناخ متوتر بين السلطة الفلسطينية ولبنان عشية استحقاقات لبنانية وفلسطينية وسورية. ورغم إصرار السلطة الفلسطينية على ضرورة تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 194 الصادر في 11 كانون الأول 1948 الذي يقر بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لديارهم، كان هناك ضعف في موقفها التفاوضي عقب ما أوصل إليه اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو عام 1993 لأسباب لا مجال للخوض بها هنا. مما زاد من مخاوف التوطين في لبنان، البلد العربي الوحيد الذي ينص دستوره في مقدمته على وجوب رفض التوطين. وكان لبنان قد قاطع مجموعة العمل الخاصة باللاجئين ورفض المشاركة في المفاوضات المتعددة الأطراف بانتظار أن يحصل تقدم حقيقي في المفاوضات “الثنائية”.

خلال كل هذا الوقت، وكما في السابق، كانت الانتظارية سائدة في لبنان في جو من تجاهل المسؤوليات تجاه اللاجئين الفلسطينيين ونقص حس في الشعور بمعاناتهم. فالعلاقة بين رفض التوطين وعدم تحسين أوضاعهم المعيشية لا تقوم على أية قواعد عقلانية أو حقوقية. وقد نجم عن المعاناة القاسية تدهورا في الأوضاع الاقتصادية والنفسية والاجتماعية للاجئين بسبب حرمانهم من حقوقهم المدنية والاجتماعية، إضافة لانعكاس تقليصات خدمات ومشاريع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين عليهم المرتبطة بتسريع تحضيرات إنهاء مسؤولية المجتمع الدولي تجاههم. كذلك نتيجة تراجع منظمة التحرير الفلسطينية في تقديم الخدمات لهم منذ خروجها من لبنان ودخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت سنة 1982. الأمر الذي يفسر وجود 60% من اللاجئين في لبنان تحت خط الفقر حسب إحصاءات اليونيسيف.

من ناحيتها، رفضت إسرائيل، التي تستأثر بموازين القوى وتحصل على دعم دولي ما زال يعفيها من تحمل مسؤولياتها السياسية والقانونية والأخلاقية فيما سببته للشعب الفلسطيني من مأساة، رفضت بشكل مبدئي القبول بحق العودة للاجئين الفلسطينيين وتبنت مبدأ التوطين في أماكن الإقامة. ذلك مع القبول بأقلية صغيرة جداً في أراضي الدولة الفلسطينية التي ستقوم لاحقا ـ والتي ما زالت ترفض القبول بإعلانها من طرف واحد وتهدد بعواقب ما سيترتب على ذلك من نتائج. لقد كانت تحاول تضمين اتفاق إطار التسوية النهائية تخلي اللاجئين عن حق العودة إلى أراضي إسرائيل والقبول بحق نازحي 67 بالعودة وفق قدرة الدولة الفلسطينية المقبلة على استيعابهم، لكن ضمن إشرافها على تقدير حجم هذا الاستيعاب. أما الباقون فيتم تعويضهم من خلال لجنة دولية تتولى هذه المهمة.

كانت مفاوضات الوضع النهائي حول القدس والاستيطان والحدود واللاجئين تراوح مكانها عندما انفجر الوضع مجددا مع انتفاضة الأقصى في 29 أيلول، واضعا المنطقة في فوهة بركان وفاتحا الباب لكل الاحتمالات. وهذا التغيير في المعطيات قد يقوّي مطالب “حركة العودة” التي نشأت من مبادرات شعبية في أوساط المجتمع الفلسطيني على أساس الحق التاريخي للشعب الفلسطيني بالعودة إلى وطنه وكحق غير قابل للمساومة. ذلك خلافا للموقف الآخر الذي يبغي الالتفاف على حق العودة من خلال البحث عن حلول ممكنة أو واقعية في إطار عملية السلام واستبدال ذلك بالتعويض والتوطين والتهجير. الأمر الذي يعزز الشعور بالظلم فلسطينيا وعربيا بل وإنسانيا. حيث من غير المفهوم أنه في حين يمنع الفلسطيني من العودة إلى بلاده يفتح الكيان الإسرائيلي مجال الهجرة إلى فلسطين لكل يهود العالم.

لقد خصص الفصل الأول من هذا البحث لدراسة هذه المسألة، أي حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة استنادا للقوانين والأعراف الدولية. وقد أعده المحامي محمد أبو حارثية مدير مؤسسة الحق الفلسطينية، أقدم منظمات فلسطين غير الحكومية لحقوق الإنسان. سيتعرف القارئ عبر هذه الدراسة الموضوعية والموثقة، على المدرسة الفلسطينية لحقوق الإنسان التي يتجسد نضالها من خلال عدة مراكز وجمعيات نوعية المستوى عالية الأداء كفاحية الروح أممية الخطاب. لقد حرص كاتبها على توضيح مختلف جوانب وإشكاليات الموضوع بما فيه وجهة نظر الطرف الإسرائيلي. كما توقف عند خلاصة نتاج الأمم المتحدة بشقيها الجمعية العامة ومجلس الأمن كهيئتين يغلب الطابع السياسي على نشاطهما، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي عبر مواثيق حقوق الإنسان. الأمر الذي يكشف معنى التصلب الأمريكي والإسرائيلي لوقف محاولات المنظمات غير الحكومية تفعيل اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية السكان المدنيين في فلسطين. وبهذا ما يوضح معنى الجملة التالية للباحث الفلسطيني فاتح عزام في ندوة باريس 1996: “مازال هناك هوة كبيرة بين حقوق الفلسطينيين وفقا للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وجملة ما قرأنا وتتبعنا من اتفاقيات ووعود رافقت المباحثات الفلسطينية ـ الإسرائيلية منذ مدريد”.

أما الفصل الثاني فهو عبارة عن بحث عياني حول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال شهادات لعدد منهم التقت بهم كاتبة هذه السطور نهاية سنة 1999 وخلال العام ألفين، في مخيمات شاتيلا وعين الحلوة ومار الياس وخارج المخيمات. الاعتماد بشكل أساسي على الشهادات انطلق من مبدأ أن الأفضلية يجب أن تعطى للاجئين في وصف أوضاعهم بدلا من الحديث عنهم والارتكاز على ما يكتب حولهم. خاصة وأنه في ظل التهميش والتغييب الذي يعانون منه، لا يتعامل القانون اللبناني معهم باعتبارهم أجانب وحسب ـ رغم أنهم يحملون وثائق لبنانية ـ وإنما يحرمهم، من ضمن قائمة الممنوعات الطويلة، من الحق في التعبير عن أنفسهم من خلال جمعيات أو نقابات أو منابر إعلامية خاصة بهم. وهو بالطبع يخالف بذلك وغيره الشرعة الدولية لحقوق الإنسان واتفاقات جنيف الخاصة باللاجئين التي وقع عليها لبنان وكذلك الاتفاقات العربية والقومية التي التزم بها عام 1965.

تجدر الإشارة هنا إلى أن منهجية تناول هذا الموضوع لم تسمح بتوسيع إطار البحث إلى الأرضية اللبنانية التي يعيش الفلسطينيون ضمنها وما تركته هذه العلاقة وهذا الوجود من إشكالات عند الطرف اللبناني. إضافة لكل مخلفات ما سمي بالحرب “الأهلية” اللبنانية عند الطرفين وبالأخص من وجهة نظر نفسية. معالجة هذا الموضوع بشكل جدي وعلمي تتطلب بحثا قائما بذاته بما لا يسمح بالاقتضاب في هذا الإطار.

القسم الآخر من الفصل الثاني يقوم على معالجة تحليلية للعلاقة بين الذات والآخر من وجهة نظر سيكولوجية. لقد شاء أن يلقي الضوء على خلفية سلوكيات تترك السؤال حائراً حول مغزاها وجدواها عند من لا يتبناها ومن لا ينتمي لأغلبية ترى هذا السلوك منسجما مع تكوينتها وتؤدلج له لتقنع نفسها ومن عداها بأنه عادي وطبيعي. وإذا كان مفترضا أن الآليات النفسية مشتركة عند بني البشر، فإن تفعيل بعضها دون غيرها عند فئة معينة وفي زمن ما يخضع لتركيبة محددة إبنة موروثات ثقافية وإيديولوجيات يقدر لها أن تنمو في ظروف تاريخية موآتية. تترعرع هذه الأنماط السلوكية التي تبتعد عن أنسنة الآخر وعن التسامي عندما لا تجد من رادع لها في الأعراف وفي القوانين الوضعية التي لا يفتقد لها فحسب المناخ السائد وإنما على العكس من ذلك يقوم بتشجيعها.

في الفصل الثالث من الكتاب يتناول محمد حافظ يعقوب، السياسة الرسمية للدولة اللبنانية وسيرورة التهميش القسري الاجتماعي والسياسي وإنتاج البؤس. بتعبير آخر، آليات خنق الحقوق الإنسانية الأساسية. وتقارب هذه الدراسة التحليلية موضوعها من زاويتين: أولاهما سياسية، بما في ذلك عمقها التاريخي، أي منذ وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان إثر النكبة وحتى اليوم. أما الثانية فهي زاوية التسويغات التي تبرر المواقف السياسية المختلفة للدولة اللبنانية وأطرافها تجاه فلسطينيي لبنان. وهي تتناول في العمق المشكلة البنيوية للعمل السياسي في لبنان: “البؤس الفلسطيني في لبنان، يؤكد محمد حافظ يعقوب، هو، في أُسّه، بؤس سياسي أي فوق حقوقي. إنه حالة سياسية مستثناة من الحقوق أو في الأصح تستوجب حقوقها المخصوصة التي هي لها، ويعني ذلك عملياً غياب الحقوق. إن البؤس الفلسطيني في لبنان هو أولاً بؤس السياسة في لبنان كيلا نقول بؤس لبنان في سياساته. فالسياسة تبدو هنا كما لو كانت خلواً من أي مضمون غير مضمونها الذي تحدده هي ذاتها، أو كما لو كانت محكومة فقط بغاياتها التي يرادُ إنجازها، وأن معاييرها التي لها تجبّ ماعداها، كل ماعداها، من معايير وتلحقها بها. هكذا توضع المعايير الإنسانية والمواثيق والمعاهدات والبروتوكولات الدولية المصدّق عليها من قبل لبنان، وهي بالتعريف سياسية أي حقوقية وإجرائية إذن، بين قوسين حين يتصل الأمر باللاجئين الفلسطينيين، ويدفع بها إلى الخلف في سلم الأوليات”.

عسى لهذا العمل أن يسهم في تعميق التأمل الحقوقي العربي والعالمي في قضية اللاجئين الفلسطينيين وتوسيع فضاء المعرفة بحقوق مغتصبة آن لها أن تستعاد.

فيوليت داغر

محمد أبو حارثيه

حقوق اللاجئين الفلسطينيين

وحل دائم يستند على القانون الدولي

 

 

القسم الأول: المقدمة وخلفية تاريخية

المقدمة:

يمكن القول دون أدنى مبالغة بأن حالةَ الفلسطينيين وحيدة في التاريخ الحديث. حيث تم اجتثاث أغلبية سكان البلد بشكل متعمّد وقسري من قبل أقليةِ ذات أصول أجنبية وذلك بغرض الاستيلاء على الأراضي والبيوت والمدن ومختلف أسباب الحياة(1). وكنتيجة لقيام دولة إسرائيل على أرضٍ فلسطينية في 1948 ومن ثم احتلالها لكامل فلسطين إثر حرب 1967، أضحى ثلثي الفلسطينيين يَعِيشونَ اليوم في المنفى كلاجئين، وبعبارة أخرى اصبح اليوم فلسطيني واحد من كل ثلاثة فلسطينيين يعيش في بلده ووطنه تحت الهيمنةِ والاحتلال الإسرائيلي(2).

لقد شكلت قضية اللاجئين الفلسطينيين اليوم تحديا للعالم المعاصر، على الرغم من الاهتمام المتصاعد الذي بدأ بشأن حقوقَ اللاجئ الفلسطيني، وتحديدا في أعقاب إبرام الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لاتفاق أوسلو واتفاق الجانبين على مناقشة وضع اللاجئين الفلسطينيين في مفاوضاتِ الحل النّهائي بين السلطة الوطنية الفلسطينيةِ وإسرائيل.

ففي القرن العشرين، لم يقم المجتمع الدولي إلا ببِضْع محاولاتَ منظّمة لحل مشكلة اللاجئين التي نجمت عن الاضطهاد والحروب(3)، في الوقت الحاضر، تمخض عن نقص اهتمام المجتمع الدولي باللاجئين آلاما كبيرة تجاه شعب قد عانى الكثير. وقد أصبح من واجب الحكومات العمل داخل وخارج حدودها لوقف انتهاكات حقوق الإنسان المرافقة لأوضاع اللاجئين. ومن الضروري التأكد من أن كل لاجئ يتلقى الحماية التي يحتاج ويستحق. وعليها أيضا أن تساهم بشكل أكثر تكافئا وإنصافا في تكاليف و... اللاجئين الفلسطينيين. إن أي تقصير في الوفاء بالالتزامات الأولية تجاه اللاجئين هو خيانة بحق الملايين من الرجال والنساء والأطفال الذين يحتاجون للحماية بشكل يائس(4).

لقد نشأت العديد من المنظمات الدولية التي تعنى بشؤون اللاجئين بعد الحرب العالمية الأولى(5) ³لمساعدة اللاجئين الروس إثر ثورة أكتوبر 1917، اللاجئون الأرمن واليونان والجماعات الأخرى المضطهدة في تركيا وجماعات النازحين في الحروب الداخلية والصراعات السياسية).

وفي أواسط الحرب العالمية الثانية، انضمت عدة بلدان إلى إدارة الأمم المتحدة للمتابعة وإعادة التأهيل (UNRRA) لتقديم المساعدة لقرابة ثمانية ملايين نازح(6) ³بعد احتلال دول المحور الألماني الإيطالي لشيكوسلوفاكيا واليونان وبولندا ويوغسلافيا وغيرها). وقد قامت الإدارة عمليا بإعادة معظم اللاجئين إلى بلدانهم باستثناء قرابة مليون شخص كانوا غير مرغوب بهم في بلدانهم.

وفي عام 1946، تدعّم عمل هذه المؤسسة بالمنظمة الدولية للاجئين (IFO)˜7)، وبعد ثلاث سنوات توقفت عن العمل في حين استبدلت المنظمة الدولية للاجئين بالمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة في 1951. وقد عهد للمفوضية مهمة التوصل لإيجاد حل دائم لمشكلة اللاجئين، وتقديم الحماية الدولية للاجئين الواقعين تحت انتدابها، وللتنسيق مع نشاطات الهيئات التطوعية المهتمة بشؤون اللاجئين. ومساعدة الفئات الأكثر احتياجا للعودة إلى بيوتهم (في حال كانوا يرغبون بذلك)، أو مباشرة الإقامة في ظروف وأوضاع جديدة في بلدان اللجوء. ومهما كانت الأحوال، لم يكن مقبولا أن يبقى وضع اللاجئ دون حل لأمد غير محدد(8).

ومع أزمة اللاجئين الفلسطينيين تغيرت المعطيات. فقد وضع اللاجئون الفلسطينيون تحت إشراف هيئة مستقلة عن المفوضية العليا للاجئين والمنظمات التابعة لها. سميت في البدء وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة. في 1948 صدر قرار الجمعية العامة رقم 194³3µ الذي نص على تشكيل لجنةَ الأطراف الثّلاثة للمصالحة في فلسطين (CCP)˜9). وقد أعطي للجنة المصالحة مهمة “تسهيل الرجوع والإقامة والتأهيل الاجتماعي والاقتصادي للاجئين الفلسطينيين ودفع التعويضات”(10).

وقد أعطيت الأولوية في الموقف العربي الدولي للتعويضات والعودة إلى الوطنَ. الأمر الذي أدى إلى نزاع بين تركيا وفرنسا والولايات المتحدة. وقد أعلنت إسرائيل بأنّها ستَسْمحُ لعدد (trivial) من اللاجئين بالعودة إِلى فلسطين في سياقِ اتفاقيةِ سلامِ عامّةِ. ولكن اللاجئين سَيَكُونونَ عاجزين عن العودة إِلى بيوتهم الأصليةِ، لإنها إما دمرت أو تم السكن بها من قبل المهاجرين اليهود(11).

في هذا الوضع بدأت لجنة المصالحة بالبحث عن بدائل وأرسلت بعثة مسحِ اقتصاديةِ إِلى المنطقةِ بمهمةِ استقصاء حل اقتصادي لما هو في الجوهر مشكلةَ سياسيةَ. وقد أوصت البعثة بإنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين فلسطين (أونروا)، تتولى القيام بأغلب مهمّاتَ وكالة الأمَم المُتّحِدةِ للاجئين الفلسطينيين (UNRPR).

وتضمنت مسؤوليات الأونروا في الأصل وضع مخططات لتأقلم اللاجئين في الأوضاع الاقتصادية في البلد المضيف ومنحهم مساعدات طارئة لذلك. وكون الصراع السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين قد بقي بدون حل، فإن ما تم تقديمه باعتباره مشكلة تحل في المدى القصير تحول إلى مشكلة مزمنة طويلة الأمد، مع ملايين الفلسطينيين المرتبطين بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين في الغذاء والصحة والتعليم. وبسبب أهمية الأونروا التّاريخية فيما يتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين، نجد من الضروري التعريج عليها بمزيد من التفصيل(12).

خلفية تاريخية:

شكل عام 1917 نقطة انعطاف في تاريخ فلسطين، ولا يعود ذلك وحسب لنهاية النفوذ التركي على فلسطين، لكن أيضاً بسبب إعلان بريطانيا في تشرين ثاني/نوفمبرِ من تلك السّنةِ عن وعد بلفور. هذا الإعلان الذي شكل أساس القضية الفلسطينية والذي ترتب عليه تغيير تاريخ فلسطين وباقي دول الشرق الأوسط.

فقد طبقت المادة 22 من عهد عصبة الأمم في الأراضي العربية المنتزعة من الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى وولدت أربع دول جديدة في المنطقة هي العراق ولبنان وسورية وفلسطين(13). ووفقا للمادة المذكورة تخضع الدول الأربع للانتداب المؤقت لمساعدتها على الاستقلال التام(14).

وخلال فترة الانتداب تزايد عدد السكان اليهود أكثر من أربعين مرة: من 56 ألف نسمة في 1917 إلى 560 972 1 في 1946. معظم المهاجرين جاءوا من أوربة الشرقية. هذا التغير الديموغرافي في البنية السكانية حصل ضد رغبة السكان الأصليين وبالرغم من معارضتهم له(15).

الأمر الذي قاد الحكومة البريطانية في 1939 إلى أن تتذكر التزامها بالحفاظ على حقوق السكان الأصليين وأن رعايتها لم تكن دائمة وإنما من الواجب أن تؤدي إلى استقلال فلسطين. ووفقاً لذلك، أعلنت في ورقةِ بيضاءِ عن نيتها بتحديد الهجرة اليهودية لفلسطين إِلى 75000 خلال السّنَواتِ الخمس التّالية وأَنْ تَمْنحَ فلسطين استقلالها ضمن فترة عشْر سَنَوات(16). وعند فشلها في تنفيذ هذه السياسة أحالت الحكومة البريطانية مشكلة مستقبل فلسطين إلى الأمم المتحدة في الثاني من نيسان/أبريل 1947(17). ووفقا للمادة 10 من ميثاق الأمم المتحدة، دعت الجمعية العامة إلى جلسة خاصة في 28 نيسان/ إبريل. وقد طلبت خمس دول عربية إنهاء الانتداب وإعلان استقلال فلسطين. وعوضا عن ذلك، وبتأثير من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي والدول الواقعة في فلكهما، تبنت الجمعية العامة في 29 نوفمبر 1947، القرار 181 ³3µ القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية وقد تغيبت بريطانيا عن التصويت. وقد أعطى القرار 181 ³2µ للدولة اليهودية التي أقرها ما نسبته 47.56 • من إجمالي مساحة فلسطين والدولة العربية حوالي 88.42 • من مساحة فلسطين في حين خص القرار مدينة القدس التي وضعت تحت نظام دولي خاص، بما نسبته 65.0 • من إجمالي مساحة فلسطين(18).

في كانون الأول/ ديسمبرِ 1947، أعلمت الحكومة البريطانية الأمم المتحدة بأنها ستنهي الانتداب وتسحب قواتها من فلسطين في 15 مايو/ أيارِ 1948. وقد زج قرار التقسيم البلد في الفوضى. ويشهد تدوين الأحداث التاريخية: جرائم القتل، الحرائق، القْصفُ والمجازر وغير ذلك من الفظائع والجرائم التي اقترفتها المنظمات الصهيونية خلال الفترة الباقية للانتدابِ. وقد امتنعت سلطة الانتداب من وضع قواتها من أجل إعادة القانون والنظام وعم غياب الأمن كامل البلاد. وبينما خاضت الأمم المتحدة في المناقشةِ حول الحكومةِ المستقبلية في فلسطين، كان اليهود الصّهاينة يَضعون موضع التنفيذ خطتهم الخاصةِ في الاستيلاء على فلسطين وتأسيس دولة يهودية، فيما عرف بخطة د (D). الغرض الرئيسي منها السيطرة على مساحةِ الدّولةِ اليهوديةِ من فلسطين وتدمير القُرىِ العربيةِ القريبة من المستوطنات اليهوديةِ وإخراج السكان الفلسطينيين من سكناهم(19).

آ ـ إنشاء ودور الأونروا:

في أواخر 1948، تبنت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة القرار 121³3µ، الذي أنشأت بموجبه وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (UNRPR).

(منظمة أنشأت لإعداد وتطبيق برامج الإغاثة والمساعدات الضرورية من وكالات الأمم المتحدة المختصة والمنظمات غير الحكومية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر)، حيث كان دورها تحقيق التنسيق الإداري والمسؤوليات الميدانية مع الهيئات التطوعية المتواجدة.

وقد أظهرت بعثة المسح الاقتصادي في آب/أغسطس الحاجة الملحة لاستمرار الإغاثة لما بعد 31 آب/ أغسطسِ 1950. وأوصت بإنشاء مؤسسة منظمة جديدة كليا تُركّزَ على مشاكل اللاجئين أنفسهم. وبعد ذلك في كانون الأول/ ديسمبرِ 1948، اتخذت الجمعية العامة في الأمَم المُتّحِدة قرارا بتشكيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA) في القرار 302 من 8 كانون أول/ ديسمبرِ 1949 في الفَقَراتِ 4 و761. مهمتها الوقاية من ظروف المجاعة والبؤس بين اللاجئين الفلسطينيين وتوفير الشّروط اللازمة للسّلامِ والاستقرارِ، وتلك الإجراءات البنّاءة من الواجب القيام بها في أسرع وقت بهدف إنهاء المساعدة الدولية للإغاثة(20).

في أيلول/ سبتمبر 1998، كان عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في وكالة الانروا 3.5 مليون شخص(21).

توزع اللاجئون في وسورية ولبنان والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة الى جانب العراق ومصر (الملحق 17) وقد أنشأت الأنروا مكاتب لها في بيروت ودمشق والقدس الشرقية (للأردن وغزة). وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية بعد حرب 1967، وفصل الضفة الغربية عن المملكة الاردنية الهاشمية، تم إنشاء مكتب في عمان، وبقي مكتب القدس يعنى بشؤون الضفة الغربية. وقد وضعت قيادة المكاتب الخمسة في بيروت ونقلت مؤقتا إلى فيينا في 1976 أثناء الحرب الأهلية.

بالإضافة إلى قيام الأنروا، صدر القرار 302 القاضي بتأسيس لجنة استشارية(22) لتقديم النصح والمساعدة لمدير الوكالة.

تقوم عمليات الأنروا على فرضيتين:

الأولى: قبول الدّولة المعنية بنشاط الأنروا داخل أراضيها (أو الأراضي الواقعة تحت سيطرتها).

الثانية: الصلاحيات المعطاة لها من الجمعية العامة للأمَم المُتّحِدة للقيام بعدد من المهمات نيابة عن المجتمع الدولي لاحترام لاجئي فلسطين(23).

ومن الضروري التركيز على أنه وبخلاف المنظمات الأخرى للأمم المتحدة، تقوم الأنروا بمهمات نوعية ذات طابع حكومي(24).

في 1 مايو/ أيارِ 1950 تولت الأنروا كل وظائف سلفها (UNRPR)، وخلافا لها، كان على الأنروا أن تكون قادرة على الفعل التنفيذي الميداني وليس مجرد جهاز تنسيق. الأمر الذي يعني حاجتها لجهاز إداري مختلف تماما وأكبر من سلفها(25).

أصبح تعريف الأنروا للاجئ أساسي جدا ضمن الإحصاء الجاري في 1950 ـ 1951 وهو مقبول اليوم كما يلي: “الشخص الذي يتمتع بإقامة طبيعية في فلسطين لسنتين كحد أدنى قبل صراع 1948. والذي، كنتيجة لهذا النّزاعِ، خسر كلا من بيته ووسائل عيشه ولجأ في 1948 إلى إحدى البلدان التي تتواجد فيها الوكالة، لاجئ أيضا بهذا التعريف، المولود المباشر لهذا اللاجئ وهو يحصل على المساعدة إذا كان مسجلا عند الأنروا ويعيش في منطقة عملها ويحتاج لذلك”(26).

الأنروا وسالفتها كان من المفترض أن تكون هيئات مؤقتة تستجيب لوضع طارئ مباشر. وقد ورثت الأنروا هذا الوضع الطارئ مع فارق هام(27): كان يفترض في الأنروا أن أن تتخطى المفهوم الأولي وأن تطور برامج تهدف إلى الاندماج الاقتصادي للاجئين في البلد الذي فقدوه. وحتى 1955، كان من غير الممكن التخطيط على المدى الطويل. وركزت الوكالة في السنوات الأولى لعملها على تأمين الحاجيات المباشرة كالغذاء والمأوى والملبس. وقد عدلت برامجها وفقا لتغير حاجات اللاجئين قبل أن توجه اهتمامها لبرامج التعليم والصحة التي تنال الأفضلية في عملها الراهن(28).

ب ـ التّحديات التي تُواجها الأنروا:

أدى الفشل في إعادة اللاجئين إلى ديارهم أو التعويض لهم واستمرار وضع الفاقة خلال العقود الخمسة الماضية بالجمعية العامة للحث على تمديد ولاية الأنروا(29). وعلى الرغم من حل مشكلات اللاجئين في أوربة، لم يطرأ تقدم يذكر على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين. ومازال اللاجئ الأنموذج يعيش في مخيم، لا مهنة له ولا يكسب شيئا يذكر وهو مرهون تماما بحصته اليومية من الأنروا. وهو لم يتسلم أي تعويض لملكيته في إسرائيل، وليس عنده الفرصة للتعليم أو العمل في مكان تواجده(30). كما لا يحق له العودة إلى القسم الفلسطيني الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية وهو لا يرغب بذلك، بل ولا يستطيع في معظم الأحيان. كذلك حال التوجه إلى دول عربية أخرى وهي في معظمها تمتلك فائضا في قوة العمل. أما بالنسبة لباقي أجزاء العالم، فإن العرب بمؤهلات تعليمية قليلة يعانون من مشكلة قوانين تحديد الهجرة في عدة بلدان حتى ولو لم تقرر هكذا خطوة.

تتابع الأنروا تقديم الأساسي في التعليم والصحة وخدمات اجتماعية للاجئين الفلسطينيين في لبنان وسورية والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة. وما زالت مهماتها تتمدد في الزمان وتتوسع في الإطار في غياب حل نهائي لمشكلة اللاجئين في المنطقة. ودور الأنروا حاسم في تأمين الأساس الاجتماعي لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين في مواجهة الإهمال الدولي لقضيتهم. وللأسف تبقى الأنروا وكالة تغطية الجرح وليس بوسعها التصدي للعقبات الأساسية التي تعترض اللاجئين في حقهم بالعودة(31). فلقد أصبح من المقر به عجز العامل الاقتصادي عن صنع السلام. إلا أن دور الأنروا سيبقى أساسيا في غياب الحل السياسي(32).

القسم الثاني: الرحيل الفلسطيني وأسبابه

بَدأتْ الحربُ في فلسطين في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. وفي بِدايةِ نيسان/ أبريل من السنة التالية باشر البريطانيون انسحابهم. وقد غادر آخر جندي بريطاني فلسطين في 12مايو/ أيار. وقد غادر السكان العرب معهم(33). في الرابع عشر من مايو/ أيار كان عدد اللاجئين الفلسطينيين 200 ألف نسمة، بعد ذلك بقليل، دخلت الجيوش العربية فلسطين من العراق وسورية ولبنان وشرقي الأردن في حرب رسمية انتهت بقرابة 700 إلى 900 ألف لاجئ فلسطيني من المناطق الواقعة تحت السيطرة اليهودية(34) ولم يبق سوى 170 ألف عربي في هذه المناطق.

قبل مناقشة أسباب الرحيل الرئيسية من الضروري الإشارة إلى أن كلا من اليهود والدول العربية يعلنان تنصلهما من أية مسؤولية. الإسرائيليون يعتبرون مشكلة اللاجئين محصلة للحرب بين الدول العربية وإسرائيل. والقصة التقليدية الإسرائيلية تقول بأن الرحيل هو مسئولية القادة العرب الذين طالبوهم بذلك مع وعد العودة كأبطال بعد تحرير ديارهم، وأن القادة الإسرائيليين شجعوهم على البقاء في بيوتهم وقراهم. في دراسات حديثة العهد لعدد من المؤرخين وعلماء السياسة منهم بيني موريس يتضح بأن هذه الصورة قد تم فبركتها على عدة أرضيات، إن أسطورة المسؤوليةِ العربيةِ قد تعرت:

1 ـ في الواقع، لم يكن هناك تنسيق هام بين القادة العرب لتشجيع الفلسطينيين على العودة، على العكس، ومنذ مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 1948، كانت الهيئة العربية العليا تحث السكان على البقاء في منازلهم دون أن تنجح في ذلك(35).

2 ـ هناك ألاف الفلسطينيين من الطبقات الوسطى والغنية غادروا طوعيا المناطق التي حددتها الأمم المتحدة لإسرائيل فيما اعتبر الخطوة الأولى للجوء الفلسطيني هؤلاء الذين غادروا مباشرة بعد التصويت على قرار التقسيم عددهم ثلاثين ألف غادروا لما اعتبروه مناطق أكثر أمنا. وقد عانى العرب بسبب ذلك من نقص في الاتصالات ومشكلات اقتصادية وإدارية، خاصة منذ باشر البريطانيون بالرحيل. ويقدم موريس الأسباب التالية لتفسير مغادرة سكان 369 قرية لمسقط رأسهم:

أ ـ الطرد من قبل القواتِ العسكريةِ اليهوديةِ.

ب ـ الخوف من الهجمات اليهودية أو لِكَون الشخص قد شارك في القتال.

ج ـ اعتداء عسكري على القرى والأحياء من قبل الفرق العسكرية اليهودية

د ـ رفض إطاعة السكان لطلبات القادة المحليين في البقاء بديارهم وممتلكاتهم

هـ ـ حملات الهاجانا (حرب نفسية).

و ـ تأثير سقوطِ، أو الخروج من، مدينة مُجَاوِرة.

طبقاً لموريس morris طردت أغلبية الفلسطينيين من قبل قواتِ الدّفاعِ الإسرائيلية، أو هَربتْ بسبب الهجمات الإرهابية للقواتِ العسكرية اليهودية(36).

يوجد تقريباً مليون فلسطيني تَركوا أو اُجبروا على ترك بيوتهم ومدنهم وقُراهم(37).

انتزعت منهم أراضيهم وملكياتهم واصبحوا لاجئين بدون أية وسيلة للعيش. وقد نجم الرحيل عن ثلاثة أسباب رئيسية: الإرهاب الصهيوني، الإبعاد وانعدام الأمن ووسائل حفظ القانون والنظام في الشهر الأخير من الانتداب. “نجم الرحيل العربي الفلسطيني عن حالة الذعر التي نجم عن القتال بين الجماعات، الشائعات المتعلقة بأفعال حقيقية أو منسوبة للإرهاب أو من الطرد”(38).

أ ـ الإرهاب الإسرائيلي:

لقد قامت المنظمات الإرهابية الصهيونية لعدة سنوات بالهجوم على السلطات البريطانية بهدف مقاومة سياستها المعلنة في الورقة البيضاء في 17 مايو/ أيار 1939 ومن ثم إجبار السلطات البريطانية على التراجع عن مواقفها والعودة بها لتبني مبدأ هجرة اليهود المفتوحة الى فلسطين، ولهذا نظمت المنظمات الصهيونية خلال هذه الحقبة الهجرة اليهودية من أوربة الى فلسطين على وجه مخالف للقوانين المحلية وعبر حملة إرهابية واسعة استهدفت الإدارة البريطانية لضرب التقييدات على الهجرة من خلال الهجمات اليهودية على الإدارة البريطانية وقيام أفراد المنظمات الصهيونية بنَسفَ المكاتبَ الحكومية والهجوم على مخازنَ وثكنات ومستودعات الجيش، والتعرض لموظفي الحكومة والجنود البريطانيين بالقتل والاختطاف وغير ذلك من أمال التخريب والتدمير التي طالت المؤسسات والإدارة العامة.(39)

وقد أشار الكونت برنادوت في تقريره للأمم المتحدة لتدمير إسرائيل للقرى العربية بعد الاحتلال(40). أشار في التحقيق الذي أجراه إلى التدمير المنهجي للقرى على نطاق واسع. هذا التدمير كان يهدف إلى منع السكان الذين هربوا أو أجبروا على الرحيل من العودة إلى بيوتهم. في تشرين الثاني/ نوفمبرِ 1953، جرى هدم مائة وواحدة وستون قرية عربية على الأرض بعد احتلالها من قبل القواتِ الإسرائيلية. الكثير من هذه القُرى جرى هدمه بعد قرار الأمم المتحدة الصادر في 11 كانون الأول/ ديسمبرِ 1948 والذي يدعو إسرائيل للسماح بعودة اللاجئين إِلى بيوتهم، طبقا للخطة د(41).

في 9 نيسان/ أبريل 1948، قامت منظمة الأرغون Irgun بذَبح 300 من الرجال والنِساء والأطفال بدون استفزاز أو أي سبب من أي نوع كان(42)، مما يؤكد على أن مجزرة دير ياسين كان سببها الأساسي وهدفها ترحيل الفلسطينيين في 1948، وهذا ما تؤكده النتائج التي حققها الإرهاب الصهيوني من خلال حالة الفزع التي خلقتها المذبحة على صعيد السكان، وحيث ان المنظمات الصهيونية لم تحقق ما تصبو إليه بالكامل من وراء هذه المجزرة فقد اعتمد اليهود في سبيل تكملة دور المجزرة أسلوب الطرد الفيزيائي للسكان (كما حدث في طبريا في 19 أبريل/ نيسان، في حيفا في 22 أبريل/ نيسان، في يافا في 28 أبريل/ نيسان، وفي صفد في العاشر من مايو/ أيار 1948).

ب ـ الطرد والإبعاد:

بالنظر لفَشل الإرهاب الصهيوني في إجبار الفلسطينيون على المغادرة، لَجأَت القوات اليهودية إِلى أسلوب الطّرد، حيث قامت هذه القوات وفي مناسباتِ عديدة باستعمال مكبرات الصوت لتهديد السكان المدنيين وأمرهم بالرحيل مع السماح لهم بأخذ ما يمكن أن يحملوه. والعديد منهم جرت سرقته من قبل الجنودِ الإسرائيليين عند عبور نقاط التفتيش العسكرية. وفي كل مرة يجري فيها إخلاء منطقة، يأتي الجنود لنهب وتحطيم معظم ما تم تركه من قبل سكانها. ليأت مهاجرون يهود جدد للإقامة فيها(43).

ج ـ تعطيل الأمن والحكومة قبل نهايةِ الانتداب:

خلال الشّهور السّتة الأخيرة للانتداب، لم تكن الحكومة البريطانية قادرة على حفظ الأمن والقانون كما أنها لم تكن ترغب في الطلب إلى قواتها القيام بهذه المهمة، وقد كان همها الأساسي خروج موظفيها ومعداتهم. وثمة مؤشر واضح للغياب الكامل لأي جهاز حكومي بريطاني ألا وهو غياب أية ردود أفعال على مجزرة دير ياسين، فلا أحد من البريطانيين أبدى اعتراضه، أو حاول منع المذبحة، كما أن أحدا من الطاقم البريطاني لم يساعد أو يسعف جريحا أو حتى يدفن قتيلا(44). وبالرغم من أن المادة 22 للانتداب طلبت من الحكومة البريطانية تَطويرِ مؤسسات للحكم الذاتي في فلسطين، لم تقم بإنشاء لأي جهاز إداري من أي نوع ولم يجري تهيئة ما يحفظ الأمن والقانون عند رحيل قوات الانتداب وإدارته.

في 10 شباط/ فبراير 1948، أكدت لجنة فلسطين في الأمم المتحدة في تقريرها على الحاجةَ لوجود بوليس دولي، وطرحت مسؤولية إنهيارِ الأمنِ عند إنهاءِ الانتدابِ ما لم يكن هناك وسائلَ كافيةَ تحول دون ذلك. وفي 16 شباط/ فبرايرِ، وفي تقريرِ خاص قدم إِلى مجلس الأمنِ، أوضحت اللّجنة أنه ما لم تتخذ إجراءات آنية فسينشأ وضع لا يمكن السيطرة عليه وتكون إراقة الدماء والصراعات واسعة النطاق مع بدء الانسحاب البريطاني من فلسطين(45). حالة الفوضى الكاملة التي زجت بها فلسطين دفعت العديد من العرب الفلسطينيين العزل للتوجه سواء إلى مناطق أكثر أمنا داخل فلسطين أو في البلدان المجاورة.

د ـ الرد الإسرائيلي على اللجوء الفلسطيني:

بعد حرب 1948، باشرت الجماعة الدولية الضغط من أجل إعادة اللاجئين الفلسطينيين وكان الرد الإسرائيلي:

1 ـ إن أي وجود فلسطيني هام سينال من الأمن الداخلي الإسرائيلي.

2 ـ مع كل اليهود القادمين لإسرائيل لم يعد هناك مكان للفلسطينيين.

3 ـ لقد غادر الفلسطينيون بشكل طوعي لهذا خسروا حقهم في العيش في إسرائيل(46).

في 1948 لم يكن لإسرائيل موقفا محددا من قضية عودة اللاجئين، وقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون في اجتماع وزاري في 16 حزيران/ يونيو 1948 بأنه “لن تقبل عودة أي عربي”(47). وكان وسيط الأمم المتحدةِ الكونت برنادوت Bernadotte، قد أعلن عن قلقه العميق لمشكلة اللاجئين، ولكنه فشل في جهوده لإقناع إسرائيل بالسماح لهم بالعودة، أما وزير الخارجية في الحكومة الإسرائيلية المؤقّتة موشيه شيرتوك Moshe Shertok، فقد أعلنَ في رسالة وجهها في أول آب/ أغسطسِ 1948:

“إن عودة آلاف العرب أثناء الهدنة إِلى دولةِ إسرائيل التي مهددة بجيوش العدو ستؤثر في الواقع على حقوقنا ووضعنا بشكل خطير، عندما تكون الدول العربية مستعدة لعقد معاهدة سلام مع إسرائيل فإن هذه القضية ستكون موضوع حل بناء كجزء من حل شامل مع الأخذ وبعين الاعتبار لوجهة نظرنا”(48).

وقد أعلم وزير خارجية إسرائيل وسيط الأمم المتحدةَ بشكل غير رسمي، أنه في حين تمتنع إسرائيل عن عودة واسعة للعرب قبل السلام فهي ستأخذ بعين الاعتبار عودة بعض الحالات التي تستلزم معالجة خاصة. وقد أرسل برنادوت Bernadotte تقريرا متفهما للجمعية العامة في نهج القرار 194 الصادر في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1948، وذلك قبيل اغتياله من الإرهابيين الصهاينة. أسس القرار للجنة المصالحة في فلسطين وطالب “باتخاذ الخطوات التي تساعد الحكومة والهيئات المختصة على اتخاذ كل ما من شأنه انجاز التسوية النهائية لكل الأسئلة العالقة”. وقد جاء في الفقرة الأولى من القرار: “بالنسبة للاجئين الراغبين في العودة إلى بيوتهم والعيش بسلام مع جيرانهم يجب السماح لهم بذلك في أقرب زمن عملي ممكن. ويتم دفع التعويضات لملكية كل من لا يرغب بالعودة لما خسره وفقا لمبادئ القانون الدولي أو بالقسط من قبل الحكومة والسلطات المعنية”. بعد 52 عاما، مازالت إسرائيل ترفض تطبيق القرار 194. وقد أعلنت لجنة المصالحة في تقريرها الثالث بأنها لم تنجح في جعل إسرائيل تقبل مبدأ عودة اللاجئين الفلسطينيين(49).

أما الموقف العربي من القرار 194 فيتوقف عند نقطتين، الأولى أنه يعتقد بأن هذا القرار غير شرعي، لأنه يقوم على الوجود غير الشرعي لدولة إسرائيل (المؤكد للقرار 181³2µ، وثانيا، لأنه يقوم على حل المشكلة الفلسطينية كقضية لاجئين، وهي نظرة جرى رفضها باستمرار. “إن السكان الأصليين لفلسطين من العرب كان لهم حقا في العودة لديارهم ووطنهم غير قابل للمساومة. وهذا الحق لا يمكن أن يكون موضوع خيار أو ترخيص، كذلك لا يمكن التخلي عنه أو المقايضة به”(50). من أجل هذا صوتت الدول العربية ضد هذا القرار، ومع هذا، في 1949، أصبح هذا القرار مصدر الحق المطلق للشعب الفلسطيني بالعودة وبدأ التأكيد على الفقرة 11 باعتبارها مرجع العودة الفورية وغير المشروطة ولكل الأراضي الفلسطينية للاجئين والتعويض على من لا يريد العودة للخسائر في الأملاك. مطالبين بأن تقع حقوقهم في نطاق مبادئ القانون الدول أو الإنصاف(51).

إن التفسير الفلسطيني لجملة “يجب أن يسمح به” “كحق” هو أنها تقصد حق العودة وحق التعويض، في حين أن الإسرائيليين وحلفائهم يفسرون هذه الجملة كدعوة للأخذ بعين الاعتبار بالمبادئ الإنسانية العامة، وليس باعتبارها “إلزاما” للحق بالعودة.

وقد تم التأكيد على القرار 194 في كل عام من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ولكن دون جدوى. فالاعتراض الإسرائيلي على حق اللاجئين في العودة لم يتغير قيد أنملة. ومع الإصرار الإسرائيلي على رفض الانصياع للقرار بعودة اللاجئين والتعويض، أصدرت الجمعية العامة توصية إلى لجنة المصالحة في 14 من ديسمبر/ كانون الأول 1950 في القرار رقم 394 ³5µ للتأكيد على حماية الحقوق والملكيات والمصالح للاجئين الفلسطينيين. وفي تقريرها العاشر (1951) ذكرت لجنة المصالحة بأنها طلبت ضمانات من إسرائيل حول عدم القيام بأية خطوة اتخذت أو يمكن أن تتخذ لإضعاف مهمة مكتب اللاجئين وكان الجواب: “لم نحصل على أية إجابة على هذا الطلب”(52).

القسم الثالث: خلق مأساة اللاجئ الفلسطيني

وفقا لتقديرات الحكومة الأردنية فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين الذي عبروا إلى الأردن إثر حرب 1967 كان 410248 لاجئ فلسطيني(53) منهم 145 ألف لاجئ من حرب 1948، بعضهم رحل بسبب الحرب، وبعضهم الآخر أجبر على الرحيل بالقوة(54).

وتحت ضغط الرأي العام العالمي وقرارات الأمم المتحدة، أعلنت إسرائيل في يوليو/ حزيران 1967 أنها ستسمح بعودة اللاجئين في الحرب الأخيرة، ولكنها لم تقبل في الوقت والشروط المحددين من قبلها سوى عودة 14 ألف من أصل 410248 لاجئ. وفي الوقت نفسه قامت السلطات الإسرائيلية بطرد 17 ألف فلسطيني من فلسطين.

هذا حدث في أقل من عشرين عاما بعد المأساة الأولى. الأونروا في الأردن تساعد 325 ألف لاجئ. ولكن ووفقاً لتقديرات الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، في تقرير صادر في 15 سبتمبر/ إيلول 1967، فإن هذا الرقم لا يغطي سوى 70• من مجموع عدد اللاجئين وهناك حوالي 30• يعيشون دون أية مساعدة من أي نوع.

يمكن تفسير الرحيل الثاني في 1967 بعدة أشكال. البعض غادر خوفا من مجازر يقوم بها الإسرائيليون، البعض أرغم على الرحيل بعد هدم منزله أو اتخاذ إجراءات تعسفية بحقه، والبعض الآخر يحمل ذكرى 1948 ولا يرغب في العيش تحت الاحتلال الإسرائيلي. وقد طردت القوات الإسرائيلية في العديد من المدن والقرى بشكل فيزيائي أو عبر مكبرات الصوت والتهديدات النفسية(55)، كذلك عبر هدم منازلهم وقراهم بعد نهاية العمليات الحربية. “في منطقة القدس تم هدم قريتي الباطر وبيت الأقصى بعد نهاية الحرب”(56).

لقد طالب كل من قرار مجلس الأمن رقم 237 الصادر في 14 يونيو/ حزيران 1967(57) وقرار الجمعية العامة الصادر في 2252 تاريخ 14 يوليو/ تموز 1967 بتسهيل عودة السكان الذين غادروا منذ اندلاع الحرب إلا أن إسرائيل أعلنت أنها ستسمح فقط للذين عبروا إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن بين 5 يونيو و4 يوليو 1967. والذين ثبت لإسرائيل كونهم كذلك، يمكنهم العودة لنهاية 31 أغسطس/آب 1967. الأمر الذي جعل من المستحيل على اللاجئين عمليا القيام بذلك(58). وأخيرا فإن أكثر اللاجئين حداثة هم ضحايا الغزو الإسرائيلي إلى لبنان في 1982(59) والحرب بين الولايات المتحدة والعراق في 1991(60).

القسم الرابع: حق العودة في القانون الدولي

آ ـ اللاجئون الفلسطينيون ومعاهدة 1951:

الفلسطينيون هم الفئة الوحيدة الموضوعة خارج نظام ومعاهدة 1951(61). فالطابع السياسي للقضية الفلسطينية اعتبر خارج صلاحيات المفوضية العليا للاجئين التي تصف فعالياتها ونشاطها بغير السياسي(62).

الصعوبة الأساسية في تحديد الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين وحقوقهم تكمن في كونهم كجماعة، يتحدون التعريف السهل. ونتيجة لذلك، نشأت عدة مشكلات مفبركة اقتادت على الأقل حقوقي واحد للقول: “الفلسطينيون أنفسهم يرفضون تعبير اللاجئ”(63). وكما يصف البسيوني: بين 194 8 و 1969. كان الفلسطينيون ينعتون من قبل المتحدثين بسام دول أوربة الغربية وأمريكا “باللاجئين”، ومنذ ذاك التاريخ بدأ “سوء الفهم” بالحدوث. حتى في الأمم المتحدة كان يتم في كل عام التأكيد على القرار الذي يضمن “للاجئين” حق العودة إلى منازلهم والتعويض على من خسروا ممتلكاتهم. ولم يكن هناك إقرار بأن هؤلاء اللاجئين يشكلون “شعباً”(64).

الاتفاقية المتعلقة بوضع اللاجئين (يوليو/ تموز 1951) تحدد تعريف اللاجئ في المادة الأولى الفقرة آ ³2µ 28 باعتباره الشخص الذي إثر أحداث جرت قبل أول يناير/ كانون الثاني 1951 ولكونه من الثابت أن كان يخشى على نفسه من الاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو قوميته أو انتمائه لفئة اجتماعية أو سياسية أصبح خارج البلد، وهو غير قادر أو غير راغب بسبب هذا الاضطهاد في العودة إليها. وعليه، سواء اعتبر المرء الفلسطينيون بدون دولة أو لا، فإن الاتفاقية تشمل من هو “خارج دولة جنسيته” أو “من لا يحمل جنسية” ومقيم “خارج بلد سكناه السابق”. ومع هذا لا تطبق الاتفاقية على كل اللاجئين الفلسطينيين وتنص المادة 1 فقرة د (D) على استثناء “الأشخاص الذين يستلمون المساعدة من مؤسسات ووكالات المفوضية العليا لحماية ومساعدة اللاجئين”. فبالنسبة للاجئين الفلسطينيين الذين غادروا منازلهم بقرارهم وكان ذلك خوفا من القوات المسلحة الإسرائيلية، يمكن اعتبارهم طردوا بالقوة(65). فاتفاقية اللاجئين كذلك النظام الأساسي للمفوضية العليا للاجئين يحدد اللاجئ باعتباره الشخص “غير القادر.. أو غير الراغب” بالعودة إلى بلد جنسيته أو إقامته السابقة.

ليس ثمة شك في أن الفلسطينيين في المنفى هم حقيقة لاجئين، إلا أنهم وحيدين في إبداء رغبتهم بالعودة إلى وطنهم رغم أن الظروف السياسية العامة التي أدت إلى رحيلهم مازالت قائمة. وكما يقول السيد عسقول: “يختلف اللاجئون الفلسطينيين عن كل اللاجئين بكونهم أصبحوا لاجئين كنتيجة لأعمال تتافى مع مبادئ الأمم المتحدة..” ووجود اللاجئين من جهة ثانية، هو النتيجة المباشرة لقرار اتخذته الأمم المتحدة نفسها عن سابق معرفة بالنتائج التي يمكن أن تنجم عن هكذا قرار. من هنا فإن اللاجئين الفلسطينيين هم المسؤولية المباشرة للأمم المتحدة ولا يمكن وضعهم في التصنيف مع باقي اللاجئين التضليل بشأن هذه المسؤولية(66).

وتقاوم الدول العربية أي تغيير في وضع اللاجئين الفلسطينيين يمكن أن يخفض من الرؤية المتميزة لمشكلة الفلسطينيين والرغبة السياسية في عودتهم الفعلية. وأثناء صياغة الاتفاقية، شدد العرب على العودة إلى الوطن، وعلى كون وضع اللاجئين الفلسطينيين وضعا مؤقتا، وأن مناقشتها لقرارات الجمعية العامة تنطلق شرط عودة الفلسطينيين لمنازلهم. وعندما قدمت الاتفاقية، تم استثناء العرب الفلسطينيين بشكل دائم بالفقرة د D. وجملة “في الوقت الحاضر” تعني عدم شمول الأشخاص الذين يتلقون حماية أو مساعدة في زمن محدد من هيئة أو وكالة تابعة للأمم المتحدة: وهي لا تعني أنه عند توقف هكذا حماية تتعلق باللاجئين سيكونون غير معنيين بالاتفاقية. حتى تتوقف الأشكال القائمة للمساعدة والحماية من قبل الأونروا، ينضم تلقائيا المعنيون لاتفاقية جنيف. فما لم يتم حل القضية الفلسطينية ومع توقف مساعدة وحماية الأمم المتحدة، يستفيد اللاجئون الفلسطينيون من اتفاقية جنيف(67).

كذلك، فإن الاستبعاد من الاتفاقية لا يشمل فقط الأفراد الذين كانوا يحصلون على الإعانة والحماية من الأونروا في 28 يوليو/تموز 1951، ولكن أيضا الأشخاص الذين يصبحون تحت سقف هذه الحماية بعد هذا التاريخ. بما فيه الأشخاص الذين ولدوا بعد تاريخ توقيع المعاهدة لأن طبيعة تصنيف الأونروا تعتمد على الفئة والطبقة ولا تعتمد على الشخص الفرد(68).

ولا تستبعد الفقرة د الفلسطينيين الذين لا يتسلمون إعانة من الأونروا. ويمكن أن يحصلوا على وضع اللاجئ في مواصفات اتفاقية جنيف إذا طلبوا حق اللجوء في الخارج(69).

ب ـ اتفاقية جنيف الرابعة واللاجئين:

تعطي اتفاقية جنيف الرابعة سلطة قانونية أقوى لحالة اللاجئين الفلسطينيين. وقد وقعت إسرائيل وصدقت على هذه الاتفاقية، من هنا يمكن اعتبار ملزماتها قابلة للتطبيق. حتى بالنسبة لما سبق أحداث 1947 ـ 1948. وتنص المادة على: “يحظر الترحيل الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أية دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، مهما كانت الدوافع”. ويقول المعلقون على اتفاقية جنيف بأن هذا الحظر “هو مطلق ولا يسمح بأي استثناء..”.

إن كل ما قامت به إسرائيل من نقل بواسطة القوة والضغوط النفسية على اللاجئين الفلسطينيين يشكل انتهاكا لاتفاقية جنيف الرابعة. والتذرع بسهولة بأن هذه الاتفاقية ليس ذات مفعول رجعي يشكل ضربة لغاية الاتفاقية نفسها(70).

وهناك أقسام خاصة بحماية حق العودة، سميت “الإعادة” في الصراعات المسلحة وظروف الاحتلال. في اتفاقيات جنيف الأربع المبرمة بتاريخ 12 اغسطس/ آب 1949 يجري التطرق فيها ولعدة مرات لحماية ضحايا الحرب والتأكيد على وجوب عودة أو إعادة كل ضحية(71). الاتفاقية الأولى، المادة 63 ³3µ، الاتفاقية الثانية، المادة 63 ³3µ، الاتفاقية الثالثة، المادة 142 ³3µ، الاتفاقية الرابعة، المادة 158 ³3µ كلها تقر بحق العودة والإعادة. وأكثر من ذلك، فهي تنطبق على حماية المدنيين كما هي حالة الفلسطينيين.

إن رحيل الفلسطينيين العرب كان نتيجة الحرب. وقد أقرت اتفاقية جنيف الرابعة في 21 أكتوبر 1950 وصدقت عليها إسرائيل في 6 يوليو/ تموز 1951 وهكذا فإن فقراتها تم نقاشها في نطاق حق من انتزعوا من أرضهم في العودة(72).

نقرأ في المادة 44 من الاتفاقية: “عند تطبيق تدابير المراقبة المنصوص عليها في هذه الاتفاقية، لا تعامل الدولة الحاجزة للاجئين، الذين لا يتمتعون في الواقع بحماية أية حكومة، كأجانب أعداء لمجرد تبعيتهم القانونية لدولة معادية”. فيما يطبق على اللاجئين الموجودين بعد وقوع المنازعات. وتتحدث المادة 13 عن المعاناة الناجمة عن الحرب والمادة 26 عن العائلات المشتتة وليس كل الأشخاص النازحين.

هناك حجج قانونية قوية في القانون الدولي لدعم حق اللاجئين في الإعادة والتعويض عن الخسائر التي لحقتهم في حربي 1948 و 1967. لقد وضعت قواعد الحرب ذات الطابع الإنساني لحماية “حقوق الإنسان” الواجب تطبيقها بالفعل في زمن النزاعات. ويشكل رفض الإعادة والتعويض خرقا للقوانين الإنسانية في زمن الحرب(73).

ج ـ حق العودة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

تؤيد المادة 13 الفقرة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق العودة بالنص على: “يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة إليه”. وتؤكد تقارير الأونروا بشكل متكرر بأن رغبة اللاجئين في العودة إلى ديارهم لم تتناقص بل عل العكس “تعززت” بقرارات الجمعية العامة حول الإعادة(74). ووفقا للإعلان العام لحقوق وواجبات الإنسان “لكل شخص الحق في حرية الحركة والعيش داخل حدود أية دولة” و”لكل شخص الحق في العودة إلى بلده” (المادة13). وقد تأكد هذا الحق في المادة 12 للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. في اللحظة التي غادر فيها اللاجئون الفلسطينيون فلسطين كانت “أرضهم” ضمن كل احتمالات الشروط المذكورة أعلاه.

يجد الموقف الإسرائيلي بعض الدعم في أخذ جانب من المواثيق الدولية ليرد على حق العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمكن أن يفسر في الفقه القانوني، كما سنرى لاحقا، وكأنه يحتوي ما يتفهم لرفض إسرائيل العودة على نطاق واسع للفلسطينيين، وتعتمد إسرائيل في حجتها على أنها إذا سمحت للفلسطينيين بالعودة إلى المناطق التي سيطرت عليها في 1948 فعلى هذا يترتب تدفق عنصر عدائي بحجم يقوض أمنها الوطني الخاص. ومثل هذا التهديدِ للأمنِ الوطنيِ يُعلّقْ تطبيق مبادئ الإعلان العالميِ لحقوق الإنسان. وقد لاحظ أحد المعلقين على هذا الاستنتاج بأنه ليس ثمة ما يلزم الأمم المتحدة الحرص على ضمان وبقاء الصهيونية في إسرائيل أكثر من بقاء التمييز العنصري في جنوب إفريقية(75).

إضافة إلى ذلك، فإن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يسمح بتجميد الحقوق الخاصة بالدخول والسفر للأشخاص من بلدانهم وذلك في ماهو ضروري “لحماية الأمن الوطني أو النظام”. وبذلك يمكن منع الفلسطينيين من العودة إلى ما هو اليوم إسرائيل. ولكن بإمكان استثناء الأمن الوطني الإسرائيلي ابتلاع كل القواعد العامة لتطبيق واحترام الحقوق(76).

ويمكن استعمال جدل الأمن الوطني في أي وقت للتهرب من الالتزامات الدولية بذرائع جد واهية. ومن الضروري ملاحظة أن إزعاج الأغلبية اليهودية في إسرائيل لا يعادل موضوع الأمن الوطني، فعلى العكس، تشكل العودة السلمية للاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم بحسب رأيي شرطا أساسيا لسلام مستقر ودائم في الشرق الأوسط.

أخيرا، فإن استثناءات كالمذكورة أعلاه، لا يجب أن تسمح أو تعيق روح المساندة الدولية لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة(77). وعلى هذا النهج، يحتوي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على عدة بنود استند عليها القرار 194. كالمادة 13 الفقرة الثانية التي تنص على أنه “يحق لكل شخص مغادرة أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه”. وفي نفس السياق جاء مضمون الفقرة الثانية من المادة 17 التي جاء بنصها: “لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا”(78).

لا شك بأن هذه الشروط تدعم قضية اللاجئين وتؤكد على حق المهجرين قصرا عن بلدهم منذ حرب 1948 في العودة إليها. وعلى الرغم من كون الإعلان لا يحمل الصرامة الإلزامية من الناحية القانونية إلا انه يقدم المبادئ والمرجعية العامة لكل الشعوب والأفراد، مما يدعو إلى وضعه باستمرار في الذهن في تكوين أي مرجعية قانونية. الأمر الذي يمكن أن يتم بالتعليم على تشجيع واحترام الحقوق والحريات الأساسية واتخاذ الإجراءات على الصعيدين الوطني والعالمي لتحقيق الاعتراف والاحترام الفعليين لهذه المبادئ من قبل شعوب الدول الأعضاء فيما بينهم والشعوب التي تخضع لقوانينهم(79). ومع هذا، فهو وثيقة مفيدة بالرغم من طابعها غير الإلزامي باعتبارها تحقق الركيزة والقاسم المشترك بين مختلف المعايير التي تسهم في جعل العودة للاجئين الفلسطينيين الذين لا يملكون دولة إلى وطنهم ممكنة.

ومن مساخر الأقدار، أن اليهود يؤكدون على حق العودة، ولكنهم يتحدثون عن حق اليهود في العودة. باعتبار أنهم قد طردوا قبل ألفي عام، فهل من الصعب عليهم أن يفهموا الحنين غير القابل للإخماد عند الفلسطينيين في العودة إلى بلدهم(80).

إن وجود قوانين وطنية إسرائيلية كـ “قانون العودة” الصادر في الخامس من يوليو/ تموز 1951 الذي يكفل لكل يهودي في العالم العودة للمطالبة بالجنسية الإسرائيلية والإقامة، يجعل من الصعب الفهم كيف حرم شعب كامل من حقه في وطن وحرم من حقه في العودة، في حين أن أشخاصا لم يضعوا قدمهم يوما في هذه الأرض يحصلون على حق الجنسية الكامل وإبعاد أهل البلد منه؟(81).

د ـ حق العودة كعرف أساسي في القانون الدولي:

الأغلبية العظمى من شعوب العالم تمارس عرفاً حق العودة في قوانين دولها وأعرافها، ومع ذلك، فإن الفلسطينيين في وضع غير عادي بسبب التنكر المنهجي لحقهم في العودة منذ أحداث 1947 ـ 1948(82). لقد كان حق العودة معترف به ومطبق على الصعيد العالمي بشكل لا يحتاج معه لأن يسجل في قانون أو ينظم في اتفاق(83).

ويقر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين. وهو اتفاقية دولية دخلت حيز التطبيق(84).

القسم الخامس: قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 المتعلقة بتطبيق حق اللجوء وفقا للقانون الدولي:

آ ـ القرار 194 (3) كانون الأول/ ديسمبر 1948:

إن أوضح وأكثر النصوص مباشرة في القانون الدولي فيما يتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة هي الفقرة 11 من القرار 194 (3) الذي أقر في كانون الأول/ ديسمبر 1948، ونظرا لوضع فلسطين في ذاك الوقت، فقد نص القرار على وجوب السماح للفلسطينيين الراغبين في العودة إلى منازلهم والعيش بسلام مع جيرانهم بالعودة في أقرب وقت عملي يسمح بذلك، وفي حال اختيار الفلسطيني للبقاء في الخارج وتعبيره عن رغبته في عدم العودة فهنا دون شك يجب ان يتم دفع التعويضات المادية والمعنوية لكل من يختار هذه الرغبة، وذلك عما يكون قد لحق بهؤلاء الأشخاص من أضرار معنوية نشأت عن معاناتهم وأيضا مادية كبدل عيني عما فقدوه من ممتلكات جراء ذلك.

ووفقا لمبادئ القانون الدولي وقواعد العدالة الإنصاف الدولي، يفترض في التعويضات الواجب تقديمها لابناء الشعب الفلسطيني أن تتم عبر الحكومات أو السلطات المسئولة وذلك بمقتضى اتفاق ثنائي أو دولي خاص بهذا الأمر.

ولكي يغطي القرار الجانب العملي لإعمال حق الشعب الفلسطيني في العودة أنشئ القرار لجنة مصالحة من أجل فلسطين، هدفها الأساسي العمل على تسهيل ما هو وارد في الفقرة 11 من القرار. ولقد تم التأكيد على هذا القرار من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة دوريا وبشكل عام كلما ناقشت الجمعية العامة أمرا متعلقا بهذه القضية، وهو يمثل الحجة الأقوى في القانون الدولي لعودة اللاجئين الفلسطينيين. وفي الواقع، فإن أحد الأخصائيين قد لاحظ بأن الفقرة 11، لم تكن موضوع نقاش وأن القضية المركزية إنما كانت في التطبيقات العملية لإعادة اللاجئين إلى وطنهم، وهذا ما يرجع اساسا لوضوح لغة القرار وعباراته، ولهذا ان تنفيذ مضمون القرار وتطبيقه لا يرتبط عمليا بالبعد والقرب من زمن إقراره لكونه يتسم بطابع البقاء والديمومة اذ ان استمرارية القرار معلقا حكما على تطبيقه. وهذا الموقف يبقى على خلاف مع النهج الرسمي الإسرائيلي بشأن حق العودة(85).

أما إسرائيل، فتناقش شرعية المطالب الفلسطينية المستندة على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194، لأن قبولها بهكذا حق، يعني تحملها مسئولية خلق اللاجئين الفلسطينيين في حين أنها تدعي أن الدول العربية هي المسئولة في عام 1948(86).

والموقف الرسمي الإسرائيلي وفقا لأهم المختصين، هو أن الدول العربية مسئولة عن خلق مشكلة اللاجئين لأنها طلبت من الفلسطينيين إخلاء فلسطين لتحريرها من الصهاينة. بعد ذلك، رفضت إسرائيل حق العودة لأنه سيؤثر كليا على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، ويجعل من اليهود أقلية حيث لم يكونوا.. ومع الموجة الجديدة من المؤرخين الإسرائيليين “التحريفيين”، تكشفت وثائق هامة حول حرب 1948 وأصول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وأصبح من الواضح الآن أن إبعاد الكم الأكبر من الفلسطينيين من الأراضي الواقعة تحت الانتداب كان هدفا استراتيجيا لمؤسسي دولة إسرائيل.

يتكون القرار من 15 فقرة تناولت النزاع المستمر فضلا تشكيل لجنة مصالحة لفلسطين متكونة من ثلاثة دول أعضاء في الأمم المتحدة(87). وقد تكلفت هذه اللجنة بذات المهام التي أنيطت سابقا بوسيط الأمم المتحدة ولهذا تلخص عمل هذه اللجنة ومهمتها بمساعدة حكومات وسلطات المنطقة على إنجاز “تسوية نهائية لكل القضايا المعلقة بين الطرفين”.

وتنص الفقرة الثانية التي تتعلق بموضوع اللاجئين التي سطرت بوضوح وبشكل صريح، على طموح اللاجئ الأساسي في العيش بكرامة وإنجاز الخطوات العملية لإعادة اللاجئين. ووفقا لهذا، فهي تعطي اللجنة الصلاحية لمناقشة الحكومة الإسرائيلية في هذا الموضوع. وقد أدى فشل الإعادة للاجئين إلى تبني القرار 513³4µ 3 من قبل الجمعية العامة الذي ينص في الفقرة الثانية منه على أن دواعيه لا تحتوي أي دوافع مسبقة تتعلق بالعودة المنصوص عليها في القرار 194 فقرة 2.

ب ـ قرارات الأمم المتحدةِ الأخرى المعززة لحق اللاجئ الفلسطيني:

في السنوات التي تلت احتلال باقي فلسطين في يونيو/حزيران 1967، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مجموعة من القرارات منها القرار 2252، 2452³23µ، 2535³24µ، 2787، 2963³27µ والعديد من القرارات الأخرى المتعلقة باللاجئين في 1947 ـ 1948 و1967. وهي تتناول بشكل منفصل حق العودة عند كل من المجموعتين العائدتين لحربي 1947 ـ 1948 و 1967.

يتناول القرار 2452 آ قضية اللاجئين بعد حرب 1967، وهو يدعو لتطبيق قرار مجلس الأمن 237 الصادر في 14/6/1967 الذي يطالب دولة إسرائيل “بتسهيل عودة السكان الذين غادروا المناطق منذ اندلاع العداوات”.

ويتناول قرار الجمعية العامة رقم 2452ب موضوع اللاجئين في 1947 ـ 1948. حيث بعد التذكير بالقرارين 194و513، يؤكد على المبادئ المقررة فيهما حول إعادة اللاجئين وإعادة إسكانهم.

أما الفقرة الثانية من القرار 2452آ فتطالب الأمين العام بمتابعة وإصدار تقرير عن “التطبيق الفعال للقرار”.

بعد التذكير بالقرار 237 (1967) الصادر عن مجلس الأمن والقرارين 2252و2452آ، المتعلقة باللاجئين لعام 1967 والفقرة ب، التي تؤكد على الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، يطالب هذا القرار مجلس الأمن باتخاذ الإجراءات الفعلية لتطبيق هذه القرارات ويوجه الانتباه إلى رفض إسرائيل تطبيق القرار المتعلق باللاجئين بعد حرب 1967.

القراران 3089³28µ و3236³29µ يهتمان بحق العودة غير القابل للتصرف إلى أرض فلسطين.

يتعرض القرار 3089ب للاجئين في 1947 ـ 1948 بالأسلوب الوارد في القرارين السابقين. وتتعرض الفقرة د للحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني وحق اللاجئين بالعودة الذي أقره القرار 194³3µ وحل عادل لمشكلة اللاجئين. الفقرة ج تتناول اللاجئين الذين طردوا من أراضي غزة المحتلة في 1967.

أما القرار 3236 فقد فصل بين اللاجئين في 1947 ـ 1948 و 1967 و 1973. تتناول الفقرة آ فيه الحقوق الوطنية وتعنى الفقرة ب بالحقوق الفردية. ويمكن تلخيصه بضرورة عودة الفلسطينيين على مرحلتين الأولى اللاجئين في 1967 والثانية اللاجئين في 1948 و 1967(88).

ج ـ قرارات مجلس الأمن الخاصة باللاجئين الفلسطينيين:

كان لمجلس الأمن دورا صغيرا فيما يتعلق بقضية اللاجئين. فالقرار 73 الصادر في 11 أغسطس/ آب 1949، يعبر عن الأمل في أن “تبدي الحكومات والسلطات المعنية” في نزاع 1947 ـ 1948 عبر مفاوضات تقودها إما لجنة المصالحة أو مباشرة للتوصل إلى اتفاقية بشأن كل القضايا العالقة بينها بما فيه ضمنا بالضرورة قضية اللاجئين وإن لم يجر الإشارة لها بالاسم. بعد حرب الـ 1967، تبنى مجلس الأمن القرار 237 الصادر في 14 حزيران/ يونيوِ 1967، وقد تطرقت الفقرة الأولى فيه لمطالبة الحكومة الإسرائيلية بتسهيل عودة السكان الذين غادروا أماكن سكناهم أثناء العداوات.

ويتعرض قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 لسلام عادل ودائم في منطقة الشرق الأوسط بإقرار مجموعة مبادئ(89) منها ضرورة تحقيق “تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين”.

وربما لقرار مجلس الأمن 338 الصادر في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1973 والداعي لوقف إطلاق النار علاقة بموضوع اللاجئين الفلسطينيين وخصوصا الفقرة الثانية منه التي دعت لمباشرة المباحثات بين الأطراف المعنية ومناشدة كافة الأطراف تَطبيق كل أجزاء قرار مجلس الأمنِ 242 فور وقف إطلاق النار. على حتى قرارِ الوقتِ الحاضرِ 242، بما فيه قضية اللاجئين ضمن المواضيع التي يقوم عليها السلام..

القسم السادس: المنظومة الحالية لحماية اللاجئين غير كافية

تعتمد المنظومة الحالية لحماية اللاجئين على المبادرات الفردية للدول، ولا يوجد آليات للتحقق من عملهم ومدى احترامهم لتعهداتهم. وتقدم الحكومات معلومات جد ضئيلة عن معاملتها للاجئين. وتطالب اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين الدول بتقديم المعلومات الكافية عن أحوال اللاجئين ومدى تطبيق وانتشار الاتفاقية والقوانين المتعلقة بقضايا اللاجئين للمفوضية العليا للاجئين. وتصدر الأخيرة تقارير حول ممارسات الدول الموقعة على هذه الاتفاقية لا يجري تعميمها.

آ ـ تجنب إعادة المأساة الفلسطينية

من واجب حكومات العالم وقف انتهاكات حقوق الإنسان التي ترغم الناس على ترك بيوتهم وأهاليهم. كما كان الحال مع الشعب الفلسطيني. ومن واجب المجتمع الدولي التدخل فورا في المناطق التي تعاني من انتهاكات حقوق الإنسان. هذا التدخل يستند على احترام القوانين الإنسانية الدولية وليس على اعتبارات المصالح السياسية(90). وإذا ما وضع المجتمع الدولي الأسس الضرورية والرغبة السياسية للوقاية من انتهاكات حقوق الإنسان فإن العديد من أزمات اللاجئين والمآسي الفردية ستجد الحلول المناسبة. لقد قامت الحكومات القوية بدعم عدة أنظمة في صراعات كانت حقوق الإنسان فيها الضحية الأولى(91).

ب ـ الفعالية في المستقبل تتطلب تعاوناً دولياً:

على كافة الدول دعم عمل ممثلي الأمين العام للأمم المتحدة لقضايا الأشخاص المبعدين في العالم. بالسماح لهم بالدخول إلى البلدان والأماكن التي توفر لهم المعلومات الضرورية لعملهم للقدرة على وصف انتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين بشكل دقيق لتحديد المسئولين ووقف غياب المحاسبة.

القسم السابع: استنتاجات

آ ـ أي إطار للحلِ يتطلب اعتراف إسرائيل بمسئوليتها:

قد يكون أكثر واقعية مطالبة إسرائيل قبل الاقتِراب من حل كامل مشكلة علاقاتها مع جيرانها العرب، أن تقبل بشكل صريح المبادئ الواردة في القرارِ 194. بالمقابل، يمكن تقديم الضمان لإسرائيل بأن الأنروا أو أية هيئة أخرى تابعة للأمم المتحدة ستقوم برصد الرغبة الحقيقية للاجئين في العودة من جهة والتحقق من كون كل من يريد العودة لإسرائيل قادم من هذا الجزء من فلسطين أو من أبنائهم.

من الواضح أن مشكلة بهذا التعقيد لا يمكن حلها بمجرد تنفيذ الالتزامات القانونية. ولكن من الضروري قبل كل شئ الاعتماد على هذه التعهدات لتحديد من هو مسئول تكاليف تطبيق حل مبتكر. وحتى في حال التوصل إلى حل يختلف في شكله عن موقف الجمعية العامة للأمم المتحدة فمن الضروري أن يأخذ بعين الاعتبار أكثر مصالح وحقوق اللاجئين في هذا الجزء من العالم، كجزء من التسوية العامة للعلاقات.

عندما تقر إسرائيل بمسئوليتها، يمكن الانتقال لحل دائم وعادل ومقبول للقضية الفلسطينية، وترفع مسئولية كهذه بشكل كامل عندما ينطلق حل قضية اللاجئين من الاعتراف بخطأ وقع فيما يفتح الطريق لقبول مبدأ العودة والتعويضات للاجئين في 1948 و1967. ومن الواجب أن يتضمن ذلك العودة غير المشروطة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة لكل من نزح عام 1967. المسألة التي كان من المفترض مباشرتها.

على إسرائيل أن تتعاون مع المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى والمنظمات غير الحكومية الإنسانية للتوصل إلى حلول دائمة لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وعليها كما على جميع الدول المضيفة للاجئين أن تسمح للاجئين بحق الحركة لبلدانهم لضمان احترام حقوق الإنسان والتمهيد لبرنامج لإعادة اللاجئين(92).

ب ـ وجوب اعتماد الحل النهائي على المعايير الدّولية:

إن فشل الوسيط ولجنة المصالحة في جهودهم لعودة اللاجئين الفلسطينيين لا يجوز أن يمس مشروعية حق العودة الذي يقره القانون الدولي. وتنص الفقرة الثانية من القرار 194³3µ على مسألتين نوعيتين في صلة مع حق العودة:

1 ـ يملك اللاجئون وحدهم حق الاختيار بين العودة إلى بيوتهم داخل حدود إسرائيل وعدم العودة.

2 ـ لقد ترتب على وضع اللاجئين الفلسطينيين شرعية الإعادة والتوطين في وطنهم فلسطين. وتبنت الأمم المتحدة عدة قرارات بهذا الاتجاه كذلك حول حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.

“إن الوضع الحالي للاجئين الفلسطينيين، داخل أو خارج المخيمات، لا يمكن تحسينه بالمشاريع “الإنسانية” التي تهدف لتحسين شروط حياتهم (بالطبع نحن مع تقديم ما يمكن على الأصعدة الصحية والمعاشية والتعليمية)، ولكن المطلب الأساسي والعاجل اليوم هو التوصل إلى تسوية سياسية شاملة لقضيتهم قائمة على الاعتراف بحق العودة وتقرير المصير. فاللاجئون ليس مجرد سكنى أحياء فقيرة تحتاج لتحسين نوعي في أسلوب العيش. قضية اللاجئ هي قضية وطنية، مظهرها الإنساني هو نتيجة وضع اللاجئ وليس جوهر الموضوع”. إن غياب الحل للقضية الفلسطينية، وقبل كل شئ الجانب المتعلق بموضوع اللاجئين، سيستمر في خلق ظروف غياب الاستقرار في المنطقة بكاملها. وللمساهمة في تسوية عادلة، فإن المجتمع الدولي مدعو لدعم حل قائم على تطبيق قرارات الأمم المتحدة. وعليها السعي لضمان احترام القانون الدولي. الأمر الذي يسمح بممارسة اللاجئين لحق العودة كما نص عليه القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وكل القرارات اللاحقة ذات الشأن عينه.

أخيراً وبغض النظر عن تفصيلات أي اتفاقية نهائية، تبقى الطّموحات السّياسية للاجئين مطلب أساسي لا غنى عنه، مطلب عزيز على العالم الديمقراطي: “حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير”.

فيوليت داغر

أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

دراسة ميدانية

 

شكر وعرفان

أود أن أشكر بداية الصديق فاتح عزام على مساعدته القيمة لإنجاز هذا العمل. كما أعبر عن امتناني الكبير وتقديري لكل السيدات والسادة الذين تكرموا باستقبالي والإدلاء بشهاداتهم والذين تفضلوا بتوفير إمكانية إجراء بعض اللقاءات وتقديم تسهيلات ووضعوا بتصرفي وثائق ومعلومات أساسية.

كل شئ في هذا المخيم، في ذاك المخيم، في عذاب المنفى واللجوء، كل شئ يتحرك من زمنه الأول، حيث البيت والخروبة وبهاء فلسطين، إلى زمن القرار الغاضب حاملا خمسين عاما من الصبر والمذبحة، ورافعا مفتاح العودة عمود دم ونار وإصرار..

المخيم هو القرار، في الميدان وعلى طاولة المفاوضات، في هيئة الأمم وفي ساحة النظام العالمي الجديد، ومنه الحرب ومنه يجئ السلام. والمخيم يقول: لن أبيع الشهداء بأموال التعويض وصدقات الدول المانحة ولن يخدعني شعار التعايش والتوطين والحلول التي تسمي نفسها واقعية، راضية بالذل أمام عنجهية القوة والغطرسة الحربية..

والمخيم يقول: لا أعرف حلا سوى عودة أبنائي إلى موطن أحلامهم وأجدادهم، على أرضهم وتحت زيتونهم. المستقبل لنا، لأجيال لم تنس أسماءها ولم تفارق لحم التراب الذي ينتظرها هناك في فلسطين التاريخية.. والمخيم يعرف طريق المستقبل، ويقرأ ما تقوله حجارة اللاجئين وأحلام الصغار...

مقتطفات من بيان لفعاليات ومؤسسات اللاجئين في جنوب الضفة بمناسبة ذكرى مجازر صبرا وشاتيلا.

1 ـ وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال ما قالوه وكتبوه:

لمحة تاريخية:

كانت نتيجة الحرب التي دارت رحاها في الشرق الأوسط سنة 1948 والتي على أساسها قامت دولة إسرائيل تدمير حوالي أربعمائة قرية في الجليل والساحل والوسط الفلسطيني وتشتيت حوالي 950 ألفا من شعبها خارج وطنهم بتهجيرهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة مثل الأردن، سوريا، لبنان. عام 1967، عادت السلطات الإسرائيلية واحتلت الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وطردت منها حوالي 500 ألف فلسطيني مجبرة إياهم على ترك ديارهم مرة ثانية. قبل هذه الحرب، كان الفلسطينيون يقطنون حوالي 531 مدينة وقرية ويشكلون نسبة 85• من سكان الأراضي التي أصبحت فيما بعد تابعة لدولة إسرائيل.

حسب إحصائيات هيئة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين لعام 1999 يتوزع اللاجئون الفلسطينيون كالتالي:

 ـ يضم قطاع غزة حوالي 798.444 ألف لاجئ أي ما يعادل 22• من مجموع اللاجئين موزعين على ثمانية مخيمات، حيث تبلغ نسبتهم إلى مجموع السكان في قطاع غزة 76.8•.

 ـ الضفة الغربية تحتوي من ناحيتها على569.741 ألف لاجئ فلسطيني يشكلون ما نسبته 17• من اللاجئين المسجلين في الأونروا و73،1• من نسبة سكان الضفة موزعين على 19 مخيما.

أما في الدول المضيفة فيتوزع اللاجئون الفلسطينيون كالآتي:

 ـ تحتل الأردن المرتبة الأولى من حيث نسبة اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين فيها، أي ما تعداده 1.512.742 لاجئ بما يعادل 40.6• من مجموع اللاجئين المسجلين لدى الأونروا و31• من مجموع السكان في الأردن موزعين على عشرة مخيمات.

 ـ يبلغ نصيب سوريا 11• من مجموع اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا أي حوالي 374.521 ألف شخصا بما يعادل 4• من مجموع السكان في سوريا يتوزعون على عشرة مخيمات.

 ـ يعيش في لبنان حوالي 370.144 لاجئ فلسطيني أي ما نسبته 11• من مجموع اللاجئين الفلسطينيين و10.2• من نسبة السكان الذي يبلغ تعداده من 3 إلى 4 ملايين شخص، أكثر بقليل من نصفهم موزعين على حوالي 12 مخيما والباقون في تجمعات سكنية.

تجدر الإشارة إلى أنه يوجد في سوريا ولبنان مخيمات وتجمعات سكنية للاجئين الفلسطينيين لم تدخل ضمن الإحصاءات المذكورة لسبب أنها غير معترف بها تحت إشراف الأونروا. نلفت النظر كذلك إلى أن بعض الأرقام المذكورة ليست دقيقة بسبب المعايير التي تستعملها وكالة غوث اللاجئين لتعداد السكان. فتقديرات الأونروا للاجئي لبنان من الفلسطينيين لا تشمل مثلا الذين لا يستفيدون من خدماتها بينما تضم عددا من الذين هاجروا من لبنان بعد اجتياح إسرائيل لبيروت سنة 1982 والذين ذهبوا إلى قطاع غزة والضفة الغربية منذ توقيع إتفاق أوسلو والذين حصلوا على الجنسية اللبنانية من أبناء القرى السبع سنة 1994.

بالمقابل، قدرت دراسة قام بها النروجيون في المخيمات الفلسطينية عدد الفلسطينيين في لبنان اليوم بحوالي 180 ألف نسمة. إن الفرق كبير كما يتبين بين الرقم الذي تقدمه الأونروا والإحصاء هذا، ثم إن أي واحد منهما لا يعبر عن الحقيقة. فاللاجئون الفلسطينيون المقيمون في لبنان مقسمون لمجموعات مختلفة: منها من هو داخل المخيمات ومنها من هو خارجها، كذلك منها من يحمل الجنسية اللبنانية ومنها من يحمل جنسيات بلدان أخرى، بحيث أن دائرة الإحصاء في منظمة التحرير لم تستطع هي أيضا أن تقدم مسحا شاملا ودقيقا لهم. كذلك الحال بالنسبة للدولة اللبنانية التي لم تقدم أرقاما رسمية دقيقة، في حين أنها تملك كما يقال أرقاما أكثر دقة تحتفظ بها للاستحقاقات المقبلة. ولهذا فقد كانت أرقام المسؤولين اللبنانيين ترتفع وتنخفض حسب مواقفهم السياسية والهدف المقصود من تصريحاتهم وطروحاتهم.

مرجعيات اللاجئين الفلسطينيين:

مرجعيات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هي: وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

1 ـ الدولة اللبنانية:

من المعروف أن فلسطينيي لبنان يشكلون بحق أسوأ وضع بالمقارنة مع اللاجئين الفلسطينيين في أماكن اللجوء الأخرى. فهم محرومون من حقوقهم المدنية والاجتماعية، بما يتضمن ذلك من حرمان من حق العمل والاستفادة من التقديمات الصحية والتربوية والاجتماعية. فإجازات العمل التي تؤهل قانونا صاحبها ممارسة مهنته تعطى بالقطارة للفلسطيني (ما يقارب إجازة عمل لكل ألف فلسطيني حسب إحصاء المكتب المركزي اللبناني للإحصاء الذي صدر في 1995). وهو إن وجد عملا فليس من ارتباطات قانونية تفرض على رب العمل التزامات نحوه. هذا الوضع يعكس المنهجية التي اتبعتها الدولة اللبنانية تجاه اللاجئين الفلسطينيين منذ نصف قرن من الزمن، وكانت الذرائع كثيرة لتتنصل من أية التزامات تجاههم.

كيف يجري تقييم هذه الأوضاع من طرف السلطات اللبنانية؟

لم يكن من السهل الحصول على لقاءات بكبار المسؤولين اللبنانيين ( كانت وزارة الرئيس سليم الحص تتولى مقاليد الأمور أثناء إجراء الدراسة). وقد أفهمت من مسؤولين مقربين من رئيس الوزراء أنه حتى لو تم ترتيب لقاءات لن يكون هناك من شيء يضاف لما يدرج على صفحات الجرائد من تصريحات لهم، كما أنه ما من أحد غيره مخوّل بالإدلاء بتصريح يتعلق بموضوع اللاجئين. التحفظات ترتبط بالطبع بمباحثات السلام مع إسرائيل وما قد ينتج عنها من ترتيبات تخص وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. بما يحرص المسؤولون على عدم الكشف عن تفاصيله، مكتفين بالقول أنه لا بد من انتظار نتائج ما ستسفر عنه تحركاتهم الديبلوماسية التي هي بالتأكيد لصالح الطرفين اللبناني والفلسطيني.

طبعا لا يغيب عن ذهن أحد أن موضوع رفض توطين الفلسطينيين في لبنان هو من المسلمات البديهية كما يذكر ذلك رئيس الوزراء الدكتور سليم الحص في كلمته في موضوع التوطين خلال مؤتمر جامعة القديس يوسف في 26/11/ 1999. فالفقرة “ط” من مقدمة الدستور تشير لذلك بصريح العبارة. وهذه “العبارة الدستورية لم تكن رفضا زجريا للفلسطينيين، وإنما تبنّ لقضيتهم (...) حفاظا على حقهم بالعودة إلى بلادهم وحفاظا على الوفاق في لبنان الذي باتت مسألة رفض التوطين جزءا منه..” ويضيف الحص في كلمته “موضوع اللاجئين سيعالج في محادثات الوضع النهائي على المسار الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. أما جوابنا فهو: نحن أيضا معنيون مباشرة بهذه القضية، كوننا نستضيف عددا كبيرا من اللاجئين، ولن نرضى بأن يفرض علينا حل بالاتفاق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل لا يكون منسجماً مع موقفنا المبدئي..”.

بانتظار ما سيحدث من مستجدات على الساحة الشرق ـ أوسطية، نورد ما أدلى لنا به الدكتور خليل شتوي، مدير شؤون اللاجئين في وزارة الداخلية اللبنانية حول موضوع اللاجئين الفلسطينيين، على أن نعطي فيما بعد المجال للمعنيين أنفسهم للإدلاء بشهادتهم حول واقعهم المعاش وتقييمهم لوضعهم:

يبدأ خليل شتوي بالحديث عن: “نزوح الفلسطينيون بعد إعلان دولة إسرائيل إلى البلدان المجاورة في لبنان، سوريا، الأردن وجزء قليل في مصر، حيث أتى إلى لبنان في 1948 حوالي 125 ألف لاجئ توزع 25 ألف منهم داخل ما يسمى بمخيمات والمائة ألف الباقون سكنوا عند أقارب أو أصحاب أو في أماكن سكنية أو فنادق. فالمساحة المخصصة في المخيمات للاجئين كانت مخصصة لهذا العدد فقط. لكن بعد الخمسينات توضحت الصورة أمام اللاجئين واللبنانيين والعرب بأن العودة إلى فلسطين غير ممكنة. الذين حملوا معهم ما توفر من أموالهم تم صرفه في السنتين الأولتين. واستقبالهم عند أقاربهم أو أصدقائهم كان محدودا في الزمن. فتراجع وضعهم الاقتصادي أدى لازدياد عدد الذين يسكنون داخل المخيمات. الحاجة لإيجاد عمل أدت لزيادة عدد القاطنين في مخيمات في ضواحي المدن الكبرى. فكان النزوح وكان الطلب للسكن في مخيمات بيروت وصيدا أكبر منه في مخيمات موجودة في مناطق أخرى من لبنان. أدى هذا الوضع لعدم تناسب بين المساحة وبين العدد السكاني للاجئين الفلسطينيين.

عندما وصل الفلسطينيون إلى لبنان في 48 كان في استقبالهم في اليوم الثاني الرئيس بشارة الخوري الذي نزل لهذا الغرض إلى الجنوب. مما يدل على تعاطٍ مع الفلسطينيين يتناسب مع العلاقة التي كانت موجودة سابقا بين الشعبين من حيث صلة التاريخ والجغرافيا واللغة والقرابة. دليل على ذلك أنه كان هناك عدد كبير من اللبنانيين موجودين في فلسطين آنذاك أتوا إلى لبنان. ودليل آخر هو أن القرى السبع التي اقتطعت من لبنان عام 1923 لجأ سكانها اللبنانيون سابقا إلى لبنان مع الفلسطينيين. فالمساحة الجغرافية التي نزح منها اللاجئون لا يتعدى طولها 15 ـ 20 كلم على حدود جنوب لبنان. كان هناك تداخل كبير بين سكان جنوب لبنان وسكان شمال فلسطين بكافة طوائفهم ومناطقهم.

أنشئت عام 50 وكالة غوث وتشغيل اللاجئين كلفتها الأمم المتحدة بإعانة وأيضا تشغيل اللاجئين. كانت الأهداف كثيرة، منها العودة إلى فلسطين بموجب قرار صدر عن الأمم المتحدة ربطت فيه هذه الهيئة الاعتراف بدولة إسرائيل بالعودة إلى فلسطين. فالفلسطينيون والدول العربية كان هدفهم العودة، والمجتمع الدولي والأمم المتحدة عبر وكالة الإغاثة كان هدفهم تشغيل الفلسطينيين حيث هم بما ينفي الحاجة للمساعدة الدولية. وبالتالي أصبح هناك تخلٍ عن المطلب السياسي للاجئين.

باءت مشاريع تشغيل اللاجئين التي قامت بها الوكالة من 1950 إلى 1955 بالفشل. فشلها أدى لتغليب طابع الخدمات وأصبحت أشبه بمنظمة شبه حكومية تقدم الخدمات الأساسية السكنية (التي تقوم بها البلدية) الصحية والتعليمية، أي الخدمات الأساسية الثلاث التي تقدمها الدولة تجاه مواطنيها. هناك فروقات كبيرة بين البلدان المضيفة الثلاثة: سوريا، لبنان، الأردن والتي تشرح الخلافات الظاهرة حاليا في تعامل هذه الدول الثلاث مع اللاجئين الفلسطينيين فيها. فالأردن عند وصول اللاجئين إليه اتخذ عدة قرارات: أولا إلغاء كلمة فلسطين من التعابير الدبلوماسية، وضم الضفة الغربية للأردن واعتبار المقيمين في الضفة من لاجئين أو مقيمين أساسيين كأردنيين، حيث لم يعد من خلاف سوى بالأصول للتفرقة بين مواطن أردني وآخر. فهذا الوضع له خصوصيته، لكن رغم هذه الخصوصية، أدت الخلافات السياسية إلى ما وقع سنة 1970 وما نعرفه جميعا.

سوريا بلد مساحته الجغرافية 189 ألف كلم مربع، عدد سكانه عند اللجوء ربما حوالي 3 ـ 4 ملايين نسمة بينما اليوم أكثر من 16 مليون. ففي سوريا نفس عدد اللاجئين الموجودين في لبنان الذي مساحته 10 آلاف كلم مربع ويضم حوالي 4 ملايين نسمة حاليا. الفرق بين البلدين هو أربع أضعاف بعدد السكان و18 ضعف بالمساحة. وهناك اختلاف بالنظامين السياسيين منذ النزوح وحتى اليوم. فالتعاطي في سوريا مع اللاجئين كان تعاطيا مختلفا حيث منحوا لأسباب مرتبطة بطبيعة النظام كافة الحقوق ما عدا الجنسية.

في لبنان، لم تسن نظم وقوانين خاصة متعلقة باللاجئين. فالنظم والقوانين اللبنانية تقسم المقيمين على الأراضي اللبنانية لقسمين: اللبنانيين وغير اللبنانيين. من ضمن غير اللبنانيين يأتي الفلسطيني. أي ما من موقع قانوني للفلسطينيين في لبنان خارج اعتبارهم غير لبنانيين. طبيعة النظام في لبنان مختلفة عن طبيعة النظامين السوري والأردني. فهي طبيعة اقتصاد حر في لبنان والخدمات الأساسية ما زالت تقدم من قبل القطاع الخاص أكثر منه القطاع العام، خاصة في مجال الخدمات الأساسية الصحية والتربوية. فيما يتعلق بالخدمات الصحية 90• يقدمها القطاع الخاص و10• القطاع العام. الخدمات التربوية تتراوح بين 50 و30• للقطاع الخاص ما بين التعليم الابتدائي والتكميلي والثانوي وتتدنى عن ذلك في المرحلة الجامعية. أما في سوريا أو الأردن فالغلبة للقطاع العام. لهذه الأسباب هناك تفاوت بين الخدمات التي تقدمها سوريا أو الأردن إلى اللاجئين الفلسطينيين وما يقدمه لبنان لهم.

ما هي واجبات أي بلد من بلدان العالم تجاه اللاجئين المقيمين على أرضه؟

ـ الحق الأول هو الحق بالإقامة والسكن. حاليا، سكن اللاجئين الفلسطينيين يتراوح حوالي النصف داخل المخيمات والنصف الآخر خارجها. من يسكن خارجها يتبع للقوانين ذاتها والشروط التي يتبع لها اللبناني بما يتعلق بالإيجار ودفع الرسوم وخدمات البلدية الخ. لا يوجد أي تمييز يمنع الفلسطيني من السكن في أي مكان من لبنان بحجة أنه فلسطيني، شرط دفع بدلات الإيجار. الأمر الآخر: الامتلاك. يحق للفلسطيني الامتلاك شأنه شأن أي مواطن عربي آخر، أي بما يفوق الأجنبي. ويتمكن من تملك أرض كالعربي ضمن حدود 5000 متر مربع خارج حدود بيروت و3000 م2 في مدينة بيروت. ويحق له امتلاك عقار خاص بمؤسسات العمل.

بما يخص الفلسطينيين القاطنين داخل المخيمات، فهم مقيمون بشكل مجاني داخل هذه المخيمات وعلى عاتق الدولة اللبنانية التي تدفع قسماً كبيراً من بدلات الإيجار نتيجة إقامة 8 أو 9 مخيمات من أصل 12 على أراضي تابعة لأملاك خاصة. والدولة اللبنانية ملزمة بدفع بدلات إيجار وإقامة لأصحاب الأراضي هذه بانتظار إيجاد حل آخر. إذا، السكن مسموح ومرتبط بعامل واحد هو القدرة الاقتصادية للاجئ الفلسطيني على دفع كلفة السكن، وما من تضييقات أو موانع بالتعريف العام لحقوق الإنسان حول الحق بالسكن.

ـ بما يخص الحق بالتنقل داخل البلد، وهو حق أساسي، فهو ممكن داخل لبنان دون إشكال. أما بما يتعلق بالتنقل بين لبنان وخارجه فهو مسموح كأي لبناني يتنقل من داخل وخارج لبنان ما عدا فترة زمنية امتدت من 1995 حتى 1998 وأخضعت اللاجئين الفلسطينيين إلى الحصول على سمة الدخول والخروج والعودة. كان ذلك مرتبطا بقرار سياسي صادر عن القيادة الليبية ومعمر القذافي ومتعلق بإبعاد كافة الفلسطينيين المتواجدين على الأراضي الليبية إلى مناطق الحكم الذاتي. بما أن هذه المناطق وفق الاتفاقات المعقودة مع إسرائيل غير مسموح لها باستقبال الفلسطينيين إلا بعد موافقة إسرائيلية ونظرا لعدم وجود هذه الموافقة كان يمكن أن يلجأ عدد من هؤلاء الفلسطينيين إلى لبنان دون تنظيم ودون اتصالات مسبقة مع الدولة اللبنانية. لهذا كان القرار 472 الصادر عن وزير الداخلية في أيلول 1995 والذي أخضع اللاجئين للحصول على سمة دخول وعودة (كما كان علينا كلبنانيين موجودين في فرنسا مثلا لسنوات طويلة أن نتقدم حين الرغبة بالخروج أو العودة بطلب للحصول على سمة الخروج أو العودة). إذا، ما عدا هذه الفترة تنقل اللاجئين الفلسطينيين هو تنقل حر وغير خاضع لشروط.

فيما يتعلق بالخدمات: الخدمات تقسم إلى ثلاثة أقسام: السكنية أو البلدية، الصحية وخدمات التعليم.

حول الخدمات السكنية، يمكن القول أن التعامل في هذه الخدمات هو نفسه للفلسطينيين وغير الفلسطينيين ويشمل الجميع دون تمييز. إما بما يخص الخدمات داخل المخيمات، تعتبر الدولة اللبنانية أن وكالة الإغاثة قد أنشئت للاجئين الفلسطينيين وأنه على عاتق هذه المنظمة والأمم المتحدة والمجتمع الدولي تقديم خدمات كافية للقيام بواجبات الخدمات السكنية داخل المخيمات. بما يتعلق بالدولة اللبنانية تتعامل مع المخيمات كما تتعامل مع أي بلدة أو ناحية أو حي. بمعنى أن المياه تصل إلى موقع معين والتوزيع يتم في الداخل على يد الفلسطينيين أنفسهم. أما الكهرباء فهي تصل وتوزع داخلها. إذ أن الخدمات الأساسية السكنية متوفرة إلى حد كبير داخل المخيمات.

 ـ أما عن الخدمات التعليمية، فهي بالواقع في سوريا والأردن أعلى من الخدمات المقدمة في لبنان. وهذا ناتج كما ذكرت عن طبيعة النظام المختلف وعن وجود قطاع خاص فاعل في لبنان أكثر من سوريا والأردن. لكن مع ذلك عدد من يتلقى التعليم من الفلسطينيين في لبنان بلغ هذا العام (1999) حوالي 55 ألف تلميذ موزعين كالتالي: يدرس في مدارس الوكالة 40 ألفاً، والباقون 15 ألف يدرسون في مدارس غير تابعة للوكالة موزعين على قطاعي التعليم الخاص والعام. الخاص يضم حوالي 3 آلاف تلميذ فلسطيني والقطاع التعليمي العام يضم حوالي 7 آلاف تلميذ فلسطيني. أي أن هؤلاء الـ 15 ألف بين عام وخاص يشكلون نسبة 25• يدرسون في مدارس لبنانية. أما إذا أخذنا الذين يدرسون في مدارس القطاع العام فالنسبة هي حوالي 13 إلى 15• في مدارس تنفق عليها الدولة اللبنانية.

ـ من ناحية الخدمات الصحية، الجميع يعلم أن الخدمات الصحية تقدم في لبنان عبر مستشفيات ومؤسسات خاصة بنسبة تفوق 90•. وقبول اللاجئ الفلسطيني في هذه المستشفيات خاضع للشروط نفسها التي يخضع لها اللبناني بما يتعلق بالإمكانيات المادية المتوفرة. فيما يتعلق بالمستشفيات الحكومية، الدولة اللبنانية هي حاليا في طور إحداث تغيير جذري في التعامل مع التقنيات المتطورة. لكن حتى الآن العمل في المستشفيات هو عمل متواضع. المستشفيات التي توجد على مقربة من مخيمات اللاجئين وبالأخص المستشفى الحكومي في عين الحلوة، رغم وجود نص يحصر إعطاء الخدمات للبنانيين، هذه المستشفيات لا ترفض استقبال وتقديم خدمات للاجئين الفلسطينيين ويعاملون كما يعامل اللبناني.

دراسة أجرتها مؤسسة نروجية بينت بأن هناك عدد من اللاجئين يلجئون لمستوصفات تابعة لوزارة الصحة اللبنانية أو لوزارة الشؤون الاجتماعية أو المستشفيات الحكومية ويعاملون كما يعامل اللبناني. لكن عددهم ضئيل نتيجة النسبة الضعيفة للقطاع العام في مجال الصحة.

حين نتكلم عن الحقوق المدنية، شرعة حقوق الإنسان تنص على مبدأ السكن والتنقل. هناك حقوق أخرى ضمن ما يسمى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهنا نأتي إلى مسألة حق العمل للاجئين الفلسطينيين المقيمين على الأراضي اللبنانية.

 ـ قانون العمل في لبنان لا يمنع الفلسطيني كونه فلسطيني من ممارسة أي مهنة أو عمل. لكن قانون العمل في لبنان ينص على أن قسما كبيرا من المهن محصور باللبنانيين دون غيرهم. أي استثني منها ليس فقط الفلسطيني وإنما الجميع. لكن هذا ليس قانونا وإنما قرار يصدر عن وزير العمل يحدد هذه المهن ضمن ما يسمى بالحفاظ على حق العمل للبنانيين. حتى هذا القرار ولسنوات خلت كان قد فتح استثناء لمن هو متزوج من لبنانية أو مولود من أم لبنانية وترك المجال لوزير العمل حق إعطاء هذا الاستثناء وممارسة الفلسطيني أي عمل من هذه المهن المحصورة باللبنانيين. وكان هناك استثناء آخر لمن كان مقيما على الأراضي اللبنانية منذ الولادة. هذا يشمل جزءا كبيرا من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

هذا في القانون، أما في الواقع فأعتقد بأن الفلسطينيين ولأسباب متعددة لا يستفيدون من هذا الاستثناء. الدولة لا تمنعهم من الاستفادة من هذا الاستثناء، لكن من الممكن أن يكون عدد الذين يتمكنون من ممارسة هذه الأعمال المحصورة باللبناني هو عدد قليل من الفلسطينيين. أما الجزء الأكبر منهم فيمارس هذه المهن، رغم منعها قانونا إلا بالحصول على إجازة عمل، دون الحصول على الإجازة. مثلا، أعمال العمار رغم كونها محصورة باللبنانيين فهي تمارس من قبلهم. أما ضمن الإطار العملي الذي يختلف عن الإطار القانوني، هناك العمل الخاضع لإجازة عمل وهناك العمل غير المعلن لوزارة العمل وهناك العمل الموسمي.

داخل المخيم أصبح هناك أشبه ببلدات صغيرة لها دورة اقتصادية مغلقة ومتوفر فيها كافة مستلزمات الحياة وخاصة ما يتعلق بالعمل. هناك الطبيب، الصيدليات، كافة المهن المتعلقة بالتصليحات والمواد الغذائية. نادرا ما توجد مهنة لا تمارس داخل المخيم، وهذا غير خاضع لرقابة الدولة. أصبح هناك حالة اكتفاء ذاتي داخل المخيمات. لكن بما يخص الأعمال الوظيفية، داخل المصارف والمؤسسات العامة مثلا، هناك قيود لحصرها باللبناني نتيجة واقع العمل في لبنان. فالذين يهاجرون من اللبنانيين لإيجاد عمل في الخارج عددهم كبير جدا. فالواقع، إن ما يتوفر من عمل في لبنان لا يكفي اللبنانيين في هذه المجالات فكيف يكفي لهم ولغيرهم؟ لا يجوز مطلقا القول أن عدد العاملين في لبنان يعكس عدد الإجازات الممنوحة. الأحياء السكنية المدنية التي يتوفر فيها عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين سكنا يتوفر فيها عدد من اللاجئين الذين يعملون في دكاكين ومهن حرفية صغيرة. وهذا الواقع نجده في كل الأماكن اللبنانية حيث يتواجد فلسطينيون.

أما حملة الشهادات فيخضعون لواقع آخر سواء كانوا محامين، مهندسين أم أطباء. بما يتعلق بالمهن الحرة وحملة الشهادات العليا فإن في قطاع الهندسة والطب والصيدلة والمحاماة ممارسة هذه المهن في لبنان خاضع للانتساب للنقابات. والانتساب للنقابات مشترط بقانون وهذا القانون ينص على أن يكون لبنانيا وهذا غير مسموح لكل من هو غير لبناني إلا ما ندر وما كان استثناء. وهذا واقع كثير من البلدان حتى فرنسا تطبقه حيث من هو غير فرنسي لا يحق له أن يكون له عيادة، بينما يحق له أن يعمل في المستشفيات. والأطباء الفلسطينيون يعملون في المستشفيات اللبنانية، منهم عدد كبير دون إجازة عمل. كما يمكن للفلسطيني العمل دون إجازة عمل كمهندس في مكاتب هندسية.

لكن العمل غير المعلن يحرمهم بالتأكيد من الكثير من الضمانات. وهذه هي المشكلة الأساسية حيث هم محرومون من ضمانات يقدمها الضمان الاجتماعي للبنانيين ولا يستطيع أن يقدمها للفلسطينيين. هو يقدمها حتى لمن هو غير لبناني، لكن ليس للاجئ الفلسطيني بسبب فراغ قانوني ناتج عن مبدأ المعاملة بالمثل لا يمكنه من الاستفادة من هذا المبدأ. هذا المبدأ يمنع مؤسسة الضمان الاجتماعي من تقديم التغطيات التي تقدم لسائر العاملين أكانوا من جنسية لبنانية أم غير لبنانية وذلك نتيجة عدم وجود الدولة الفلسطينية. من الممكن الوصول لحل قريب عند إقامة الدولة الفلسطينية.

الصعوبة الأساس هي أن الحرب امتدت من عام 75 إلى 89 وأن مؤسسات الدولة اللبنانية بعد هذه الفترة ابتدأت تعود لممارسة دورها، ولكن دون أن يتناسب مع صعوبة الأحوال الاقتصادية التي يمر بها لبنان حاليا. بحث الأمر مع المسؤولين اللبنانيين المعنيين ومع المدير الحالي لصندوق الضمان الاجتماعي ومع المعنيين بوزارة التربية والصحة من أجل تقديم خدمات تحمل الطابع الإنساني للاجئين الفلسطينيين. لكن هذه التقييمات مرتبطة بأمرين: أولا، عدم ارتباطها بأي موقف سياسي توطيني. ثانيا، قدرة الدولة اللبنانية على تقديم هذه الخدمات.

أمر آخر يجب الإشارة له هو أن واقع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مختلف عن واقعهم في سوريا والأردن. في سوريا وجودهم مدني، أي غير مسلّح وخاضع لحد بعيد للرقابة. بمعنى أن حرية العمل السياسي في لبنان رغم كل الاعتراضات متوفرة لهم أكثر من أي بلد عربي آخر، فهم يستفيدون من واقع لبنان في هذا الإطار. الندوات السياسية التي تقام، المقالات التي تنشر في الصحف اللبنانية وكتابها من الفلسطينيين المقيمين، قادة الفكر الأساسيين المتواجدين في لبنان، مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تقوم بعملها في لبنان، النشاطات السياسية، التداخل بين الفاعلين منهم فكريا وثقافيا مع المجتمع الأهلي اللبناني، هذا كله دليل صحة وعافية وهذا ما يتوفر لهم في لبنان أكثر من أي بلد لجوء آخر يستضيف الفلسطينيين.

ما يميز التعامل هو واقع بعض المخيمات في لبنان وليس جميعها. هناك واقع استثنائي. ليس من وجود مسلح في المخيمات في سوريا أو الأردن مثلا بينما السلاح موجود في بعض مخيمات لبنان. هناك دور سياسي قد يكون أحيانا معادي لمصلحة الدولة اللبنانية، لا بل معاديا لمصلحة قسم كبير من اللاجئين الفلسطينيين. ومن يقوم بهذا النشاط موجود على الأرض اللبنانية. هذا أمر غير ممكن توفيره في بلد غير لبنان.

وجود السلاح داخل المخيم يبرر الطوق الأمني حول المخيم، أو حواجز التفتيش العسكرية على أبواب بعض المخيمات وليس جميعها. الأمر الآخر، الحواجز متواجدة خارج إطار المخيمات وبعيدا عنها، في أحياء سكنية لبنانية. هناك نقاط للجيش اللبناني داخل بيروت وبين طرابلس وبيروت، وهذا له علاقة بالوضع الأمني في لبنان. أما وجودهم حول المخيمات فهذا مرتبط بما يجري داخل المخيمات من تسليح لهذه المخيمات ومرتبط بما يجري في محيط هذه المخيمات. هناك أحكام قضائية بحق فلسطينيين مقيمين داخل المخيمات ولا يتم تسليمهم حتى الآن للدولة اللبنانية. لو كان هناك من واقع سليم بالتعامل من قبل الفلسطينيين ما الذي يمنع من تسليم ما يسمى بعصبة الأنصار الموجودة في مخيم عين الحلوة؟ صدر حكم متعلق باغتيال الشيخ نزار حلبي حيث تم إعدام مرتكبي الجريمة الذين هم لبنانيون، أما مخطط الجريمة فهو فلسطيني موجود في مخيم عين الحلوة ومحكوم بالإعدام. هناك مفارقات كما نرى. وجود حواجز أمنية على مداخل المخيم مرتبطة بواقع التسلح داخل المخيمات وبالاغتيالات في المدن التي توجد فيها هذه المخيمات.

شهدنا مؤخرا تصاعدا حين حول أحد الناطقين باسم جزء من الفلسطينيين مخيم عين الحلوة إلى مخيم تدريب عسكري وخرّج دفعة عسكرية من الفدائيين. لسنا في أجواء 69 أو ما سبق الحرب أو ما تم خلال الحرب الأهلية. الدولة اللبنانية تمنع أي تدريب عسكري لبناني ولماذا لا فلسطيني؟ هي لا تسمح بذلك، ولكن ذلك موجود نتيجة التسليح الفلسطيني ونتيجة رغبة الدولة بعدم المواجهة المسلحة مع اللاجئين الفلسطينيين. المعركة الأساس والعدو الأساسي هو للفلسطينيين واللبنانيين ولا مبرر للدخول في مواجهة عسكرية.

أما ما يتعلق بموضوع الإعمار داخل المخيمات ويثار في الإعلام وفي الخارج. الإعمار يخضع للحصول على موافقات. لا يحق لأي مقيم خارج المخيمات أن يلجأ للإعمار إلا بعد موافقات إدارية طويلة. أي إعمار داخل المخيمات لا يخضع لموافقات ودون تقديم طلب إداري هو إعمار عشوائي وغير ممكن. يجب إيجاد حل آخر غير هذا. لو كانت الدولة اللبنانية تمنع على اللاجئين الفلسطينيين السكن خارج المخيمات وتمنع الإعمار داخل المخيمات لكان هذا الموقف غير مقبول إنسانيا. لكن كيف نتصور مخيم يتسع لعشرة آلاف شخص يحتوي على أربعين ألف؟ هل يمكن إيجاد خدمات سكنية لكل هذا العدد الذي لم يكن مخططا له؟ هل تم حوار بين وكالة الإغاثة والدولة اللبنانية حول ذلك؟ لا لم يتم شئ من هذا القبيل.

التدمير خلال الحرب الأهلية الذي لحق بعض المخيمات لحق أيضا قسما من الأراضي اللبنانية. أهالي مخيمات الدكوانة، تل الزعتر، جسر الباشا وجزء من ضبية والنبطية نزحوا لموقعين إما داخل المخيم أو خارجه. من سكن شأن اللبناني في شقة غير مسكونة خارج المخيم تلقى كاللبناني تعويضات إن بشكل مباشر من الصندوق المركزي للمهجرين أو غير مباشر عن طريق وكالة الغوث، ولدي إثباتات بذلك. لقد قدّر عدد اللاجئين المهجّرين بخمسة آلاف عائلة. حتى عام 1995 كان الصندوق المركزي للمهجرين قد دفع لحوالي 3300 عائلة. وعوضوا كما عوضت العائلات اللبنانية بغض النظر عن جنسيتهم. ومنذ هذا التاريخ هناك بالتأكيد عائلات أخرى استفادت من هذه التعويضات. أما من لجأ لداخل المخيم، الدولة اللبنانية ليست مسؤولة عنه وإنما وكالة الغوث. كان بالإمكان لوكالة الغوث أن تجري بعض الإعمار حيث ذلك ممكن في بعضها ولم تفعل ذلك. هناك أبنية تقام في مخيم شاتيلا وتباع الشقق من شخص لآخر. بالنسبة للسؤال حول الذين فقدوا بيوتهم خارج المخيمات لأن لبنانيين سكنوها ليس لهم من تعويضات. عليهم أن يعودوا ويسكنوا في بيوتهم والصندوق يدفع تعويضات لمن سكن مكانهم”.

2 ـ الأونروا:

نستعرض فيما يلي الدور الأساسي الذي تلعبه وكالة غوث اللاجئين المنبثقة عن الأمم المتحدة بمقتضى القرار 302 الذي صدر بعد عام من النكبة وبموجبه تم تأسيس الأونروا. من مهماتها الاهتمام بأوضاع اللاجئين وتقديم الخدمات الضرورية لهم في مجالات الإغاثة، الصحة، التعليم، الشؤون الاجتماعية والعمل، وذلك حتى تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الذي يطالب إسرائيل بعودة اللاجئين إلى الأماكن التي غادروها أو التعويض لمن لا يرغب بالعودة.

لقد قدمت هذه المنظمة الدولية خدمات شبه حكومية ومنتظمة للاجئين الفلسطينيين إلى أن بدأت منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، ثم بشكل خاص بعد 1993، بتطبيق تدابير تقشفية انعكست على نوعية وحجم ومستوى خدماتها.

“يعود ذلك بجزء منه، كما يقول السيد فتحي كليب في كتيبه الذي خصصه لهذا الموضوع، ليس فقط لتقاعس بعض الممولين من دول ومنظمات وجمعيات غير حكومية عن الإيفاء بتعهداتهم، وإنما خاصة لسياسات الدول المانحة الاقتصادية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبالدرجة الأولى بما يخص برنامج تطبيق السلام. هذا البرنامج الذي أطلقته وكالة الغوث منذ تشرين الأول 1993 مكلف بدعم تطبيقات اتفاقية أوسلو ريثما يحين موعد التسليم النهائي لأعمالها إلى السلطة الفلسطينية”.

يقول السيد صلاح صلاح رئيس اللجنة الدائمة للاجئين التابعة للمجلس الوطني الفلسطيني في تقريره سنة 1998: “هناك تخوف من سياسة متدرجة تتبعها الأونروا لإنهاء مسؤوليتها تجاه اللاجئين، وما يحمله ذلك من مخاطر سياسية تستهدف حرمانهم من حقهم بالعودة وتوطينهم في البلدان المقيمين فيها. وهذا يتنافى مع قراري الأمم المتحدة رقم 302 و194. مبعث هذا التخوف الأمثلة التالية:

محاولة نقل الخدمات التي تقدمها الأونروا في لبنان لتقوم بها جهات موازية لبنانية...

ما أشارت له الأونروا في تقريرها عام 94 ـ 95 بتجميد مبالغ من ميزانيتها لدفع تعويضات نهاية الخدمة للموظفين المحليين.

العجز الهائل في ميزانية الأونروا ـ لم يسبق له مثيل طيلة سنوات وجودها السابقة ـ وصل 70 مليون دولار حسب تقرير المفوض العام للأونروا تمنع سد الشواغر التي تطرأ: ـ تجميد توظيف 249 معلما تحتاجهم الأونروا في مناطق عملياتها لمواكبة الزيادة السنوية لعدد من الطلاب في مدارسها ـ وقف الخدمات التي كانت تقدم للعائلات الفقيرة غير المسجلة في كشوفات الأونروا ـ وقف المنح الدراسية للجامعات ـ تقليص نسبة 15• من الموظفين الدوليين”.

أ ـ القطاع التربوي:

يرى كليب “أن البرنامج التعليمي يستهلك نسبة كبيرة من ميزانية الأونروا. فهي تبلغ 19.5 مليون دولار من أصل 45.3 مليونا في 1997 (حسب تقرير المفوض العام للأونروا الصادر سنة 1998). لقد كان التعليم حتى 1965 للمرحلة الابتدائية، حيث أقر من حينها اعتماد التعليم الإعدادي. ولم تستطع الأونروا أن تشمل في برنامجها التعليمي المرحلة الثانوية إلا لسنوات خلت عندما اشتد الطلب عليها بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت باللاجئين ومنعتهم من إرسال أبنائهم للمدارس الخاصة في الوقت الذي تضع المدارس الرسمية تعقيدات أمام قبول الطلبة الفلسطينيين. مما يجعل من تحصيل العلم بعد المرحلة الإعدادية مسألة فيها نظر خاصة وأن الضائقة المالية تدفع بالأهل للاعتماد على بعض أبنائهم بدفعهم لسوق العمل باكراً. هذا بالإضافة إلى أن نسبة النجاح ليست مرتفعة نتيجة عدم اهتمام كاف منذ السنوات الأولى للدراسة وتدني مستوى المناهج وكذلك المدرسين واكتظاظ الصفوف ونظام الدفعتين وغيره من عوامل أدت بالوضع التربوي للتقهقر. ومع بداية الحرب في 1975 عاش الطلبة الفلسطينيون كغيرهم من أبناء الشعب اللبناني أوضاعا أمنية ومشاكل تهجير وتدمير للبنى المدرسية.

أما بما يخص التعليم الجامعي، فالعدد القليل شهد انحسارا كبيرا نظرا للأزمة الاقتصادية وتوقف المنح المقدمة من الجامعات منذ 1982 وتوجيه الطلبة لنوعية تعليم محدد وإغلاق سوق العمل بوجههم وغيره من أسباب جعلت التوجه للتعليم المهني في معهد سبلين المجاني التابع للأونروا بازدياد رغم قبول 30• فقط من الذين يتقدمون له”.

يضيف لذلك السيد سهيل الناطور:

“أمام الإيضاحات التي قدمها الفلسطينيون للمؤسسات الدولية حول الواقع المرير الذي يعيشون بدأت المصادر اللبنانية تحاول الرد دفاعا عن نفسها بافتعال أمور تبدو وكأن الأرقام متلاعب بها كما يتلاعبون بأرقام الوجود الفلسطيني في لبنان. مثلا: يقولون أنه مسموح للفلسطينيين بالدخول إلى المؤسسات التعليمية الرسمية، كما ويقولون أنه مسموح للفلسطينيين بالمعالجة في المستشفيات الحكومية مثل الفقراء اللبنانيين. الحقيقة أن هذه الأمور كانت ممنوعة بشكل كامل، لكن بدئ بتطبيقات تخفيفية نسبية حتى يأخذوا من أرقام قليلة حجة لمنع الاستحقاقات المطلوبة. القانون اللبناني يسمح للمؤسسات الرسمية أن يكون 90• منهم لبنانيون و10• أجانب. لذلك يحسب الفلسطيني والسوري والمصري وغيره ممن يعيش في لبنان ويريد أن يرسل أولاده للمدرسة الحكومية من نسبة العشرة بالمائة. عندما يكون هناك عدة آلاف فلسطيني في لبنان ولديهم عدد كبير جدا من الطلاب وفي كل لبنان ليس هناك سوى 300 فلسطيني في المدارس الرسمية بأكثر تعديل وألف في المدارس الخاصة لا يمكن أن نحسبهم كلهم على أنهم في مدارس لبنانية دون أن نذكّر بأن من هم في مدارس خاصة يكلفوا أهلهم مثلما يكلف الطالب اللبناني.

فبعض المتمولين من الخارج والأغنياء الفلسطينيين يستطيعون أن يرسلوا أولادهم إلى مدارس خاصة ولو مرهقة جدا. لكن هذه النسبة لا تشكل شيئا مهما. فالأونروا هي التي توفر في مرحلة الابتدائي والمتوسط التعليم المجاني لما يزيد عن 35 ألف طالب. هؤلاء عندما يريدون التوجه لمرحلة الثانوية يجب أن يجدوا مدارس تستوعبهم. لذلك وقعنا في مشكلة كبيرة عندما وجدنا أن معظم طلبة الثانوي قد خرجوا إلى الطريق دون أن يجدوا مجالا للوصول إلى مدرسة خاصة لبنانية أمام إغلاق المدارس الحكومية بوجههم. فاضطرت الأونروا أن تجمع تبرعات خاصة ودفعت المتعددة، فأنشأت مدرسة ثانوية في عين الحلوة وأخرى في بيروت للطلبة الثانويين امتصت المئات منهم”. ( لقد وردتنا ونحن نضع اللمسات الأخيرة على هذا الجزء رسالة مرسلة من أطفال فلسطينيين يقولون فيها أنه إثر إعتصام لهم أمام مكاتب الأونروا قررت الوكالة فتح مدرستين ثانويتين إضافيتين في الشمال).

“في عام 1998، يتابع الناطور، حصلت في صيدا حادثة معروفة، حيث أن غلاء أقساط المدارس دفع بعائلات كثيرة لبنانية لنقل أولادها من المدارس الخاصة إلى الحكومية وحيث أنها بدأت توفر تدريسا أفضل بتشديد من الدولة اللبنانية. عندها وجد الأهالي أن المدارس التي كانت في صيدا ـ في الوقت الذي فيه الجو في صيدا ومنذ زمن طويل متآخ بين الفلسطيني واللبناني ـ قد فضلت أن تسجل الطلبة اللبنانيين مكان الفلسطينيين، فطردوا حتى الطلاب الفلسطينيين السابقين لديهم. وجدنا عندها نحو 800 طالب وطالبة في التكميلي والثانوي خارج مقاعد الدراسة. وقتئذ، بادر الرئيس الحريري وأخته السيدة بهية لتمويل فتح صفوف في مدارس خاصة تابعة لهم ضمت الفلسطينيين كجزء من حل مشكلة مباشرة في ذلك الحين ولمدة عام دراسي واحد. لكن لا يمكن لأي مسؤول لبناني أن يقول بأن اللبنانيين حلوا المشكلة. فهي كانت مبادرة فردية لابن منطقة لا يريد مشاكل في منطقته مع سكانها، وخاصة مشكلة إنسانية ذات بعد افتعالي مباشر بسبب ضيق ذات اليد للبناني والفلسطيني في لبنان.

المكان الوحيد الذي نرى أن هناك قبولا فيه للطلبة الفلسطينيون هو كليات الآداب في الجامعة اللبنانية. أما كلية التربية أو الكليات العلمية فهي محظورة على الفلسطيني. لأن التربية تخرج مدرسين يعلمون في المدارس الرسمية فيجب أن يكونوا لبنانيين منذ عشر سنوات، ولأن الكليات العلمية عددها قليل والأفضلية المطلقة فيها للبناني. هذه الجنسية هي حائل أمام حق إنساني. فالذي تخرج طبيبا أو مهندسا هو من استطاع أثناء الثورة الفلسطينية أن يذهب بمنحة إلى الخارج، أما اليوم فهذه الشريحة هي قلة نادرة تكاد تعد على الأصابع أو من بعض المحظوظين الذين استطاعوا أن يحصلوا على منح سواء عبر تنظيمات أو من الدول في الخارج. بالكاد يمكن أن يصل الفلسطيني للثانوي، وهذا غير متوفر في كل المناطق. في الشمال مثلا لا توجد مدرسة ثانوية تابعة للأونروا، وهذه مشكلة كبيرة.

40• من أطفال الفلسطينيين في لبنان هم اليوم خارج مقاعد الدراسة وكثير منهم لم تدس أرجله المدرسة. نجد في سوق العمل أبناء الشهداء الذين لا موارد لهم وترسلهم أمهم للعمل لتأمين بعض القوت. هناك من الفلسطينيين في لبنان 10 آلاف أسرة شهيد. بالتالي، يمكن أن نتصور المأساة عندما نعرف أن أسر الشهداء لا تتلقى عونا. وعندما أعادت م ت ف في الأشهر الأخيرة الدفع مجددا لأسهر الشهداء كان المبلغ 70 دولارا في الشهر، الأمر الذي لا يكفي خبزا للعائلة. هؤلاء الأطفال يشكلون اليوم جيلا أميا بامتياز. فإذا كان الهدف إفقار الفلسطيني لقبول تنازلات سياسية بحقوقه، فهذا يؤدي لتدمير مجتمعه وانحدار مستواه الاقتصادي والاجتماعي لدرجة الأمية. والأمي حتى الكفوء بمهنته لا يستطيع أن يتطور، وهو بعيشه في لبنان وتفاعله مع المجتمع اللبناني يؤثر على هذا المجتمع ويجعله ينحدر اجتماعيا. اللبناني من نفس الشريحة يجد مجالا بأن يوظف في البلديات ووظائف الدولة بينما حتى هذا لا يتوفر للفلسطيني. فعندما يدفع به للأمية يمكننا أن نتصور المستقبل المرسوم لهؤلاء الأطفال. وهذا الوضع بدأ بالانحدار منذ 82 وهو يزداد استفحالا يوما عن يوم.

للمقارنة، عدد الفلسطينيين في لبنان كما في سوريا يقارب 365 ألفا. في سوريا، تستقبل مدارس الأونروا 70 ألف طالب في الابتدائي والمتوسط، في حين أن المدارس الحكومية والخاصة تستقبل الفلسطيني كالسوري. في لبنان، يوجد في مدارس الأونروا نصف العدد، أي 35 ألف طالب. فهل يمكن تصور مأساة الفلسطينيين التعليمية في لبنان الناجمة عن الفقر وعن الحرمان من الحقوق؟”.

ب ـ القطاع الصحي:

“تشرف الأونروا، يقول فتحي كليب، على 25 مركزا صحيا في لبنان تسعى من خلالها توفير الرعاية الطبية والعلاجية والوقائية للاجئين وتأمين خدمات الصحة البيئية. لكن المعالجة في عيادات الأونروا لا تفي بالمطلوب حيث أن ضآلة عدد الأطباء ومختصي الجسم الطبي بسبب ضعف الموازنة المخصصة للاستشفاء تؤثر سلبا على نوعية الأداء والوقت المخصص للمريض الذي عليه كي يستكمل علاجه أن يتحمل نفقات في مراكز أخرى تفوق إمكانياته المادية. وتصنيف الخدمات الطبية بين أساسي وثانوي بفعل انعدام التقديمات الصحية من قبل مؤسسات الدولة الرسمية يجعل من الصعوبة بمكان الحفاظ على مستوى الخدمات، خاصة مع تقليص الأونروا للموازنة منذ العام 1993 الذي جعل معدل الإنفاق في 94 ـ 95، 5.4 دولار سنويا لكل مواطن. فالمريض الذي عليه أن يشارك بحوالي 75• من نفقات العمليات الكبرى ولا يستطيع يجد نفسه على لائحة انتظار قد تودي به للموت. حدث ذلك لحالات عديدة بسبب الإهمال في المستشفيات والروتين الإداري في تحويل المريض من قبل وكالة الإغاثة والتأخر بإجراء الفحوصات الأولية الخ. هذا إلى جانب أن عمليات غسل الكلى مثلا أو حوادث السير لا تغطيها الأونروا، مما يعني أن الذي لا يستطيع أن يؤمن مصاريف العلاج محكوم عليه بالموت حيث فقط في سنة 1992 أحصي 40 حالة وفاة من مرضى الكلى، 36 منها لعدم قدرتهم على تأمين نفقات العلاج”.

يضيف الناطور:

“لقد جدد للأونروا على أن تقوم بالحد الأدنى من الخدمات وقامت بإجراء خطير هو ما سمي بإشراك المجتمع الفلسطيني في تحمل نفقات الخدمات التي تقدمها له. الذي يذهب للعلاج في عيادة الأونروا كان يقدم له المعاينة والدواء وإذا احتاج يحول لمستشفى. الآن المعاينة مجانية، لكن عليه شراء الدواء وإذا احتاج لمستشفى، فالأونروا تقدم فقط أجرة السرير، بينما تكاليف العملية والأدوية هي على نفقة أهل المريض. فكيف يمكن أن يدفعها شخص له عائلة من عدة أشخاص لا دخل له ثابت لأنه يعمل بالسوق السوداء بشكل متقطع دون أية ضمانات؟ إن أمراض السرطان والقلب والدماغ وغسل الكلى عندما تصيب أي من الفلسطينيين يمكن اعتباره مسبقا ميتا، لأنه سرعان ما يموت لعدم توفر الإمكانيات.

من ضمن إجراءات الأونروا الآن أن أي فلسطيني بلغ الستين سنة لا يعالج. يعللون ذلك بأنه بداعي الإمكانيات القليلة يفضلوا أن يعالجوا شابا مكانه، وكأن الأمر مفاضلة بين الناس. كانت لدينا لوائح بنحو سبعين أو ثمانين حالة غسل كلى في لبنان لفلسطينيين، خلال عامين لم يبق سوى عشر حالات فقط والباقي مات. الذين نجوا كانوا بفضل إحدى المؤسسات ولأن أصدقاء جمعية النجدة في الولايات المتحدة الأمريكية جمعوا تبرعا واشتروا آلات غسيل الكلى والأدوية وأرسلوها هدية إلى مستشفيات الهلال. فوضعت في مستشفى الهمشري في مخيم عين الحلوة وبدأت إحالة الفلسطينيين للعلاج فيها. الآن لدى الهلال مشكلة تأمين الدواء للغسيل بشكل دائم. لكنها تبقى أقل من المشكلة السابقة، مقارنة بما كان يحصل. حيث أن المستشفيات اللبنانية كانت تسمح بإجراء العملية بعد دفع الرسوم الباهظة حيث الحد الأدنى لكلفة كل عملية مائة دولار. فإذا كان المريض يحتاج لعمليتين في الأسبوع عليه أن يؤمن 800 دولار في الشهر لغسيل الكلى. وهذا المرض لا يشفى منه الإنسان.

عام 1999 حصل تطور خفف نسبيا من المشكلة إذ أن الأونروا، بسبب انخفاض موازنتها خاصة في مجال العناية الصحية، قررت أن لا تتعاقد مع مستشفيات لبنانية بل مع الهلال الأحمر الفلسطيني شرط أن يوفر الهلال الشروط التي تلتزمها الأونروا في معاييرها للعلاج. لذلك حددت الهلال في كل منطقة من مناطق لبنان مستشفى للتعاقد مع الأونروا. هذه المستشفيات توخت بأن تكون الأفضل لكنها رغم ذلك ضعيفة جدا بالنسبة لما يجب أن يكون من توفير خدمات. لذلك تصدّى عدد من المنظمات العاملة في حقل الخدمات الطبية في الدول الغربية حيث جمعوا أموالا واشتروا أجهزة وأرسلوها لمستشفيات الهلال بما حسّن الأوضاع نسبيا.

لجنة المفاوضات المتعددة الخاصة بشؤون اللاجئين قررت أيضا تكريس جزء من الجهد لدعم تحسين أوضاع اللاجئين صحيا في المخيمات وأرسلت طبيبا إيطاليا (لأن إيطاليا هي المكلفة بهذا الملف) إلى لبنان. فقد تابع مع الهلال الأحمر الفلسطيني توفير تمويل إعادة تأهيل الأطباء والممرضين في مستشفى الجامعة الأمريكية في لبنان وعلى عدة دورات، بما حسّن نوعية أداء الخدمات.

لكن، لأن الهلال ميزانيته قليلة جدا، كثير من هذه الخبرات بعد أن حصلت على شهادات الكفاءة بحثت عن مجالات عمل في الخارج لأنها تريد أن تعيش بشكل أفضل. هذا النزف يكمل حلقات الإفقار. فإذا لم يسد بمشروع كامل يوفر للمؤهل أن يجد عملا بشروط مناسبة ومريحة تكفل له العيش مع أسرته بكرامة يكون ما حدث هو جزء من سياسة التهجير”.

“أما بما يخص خدمات الصحة البيئية من تصريف مجاري وتوفير مياه للشرب وضبط الفائض من مياه الأمطار وجمع النفايات وتصريفها ومكافحة الحشرات فهي في حالة يرثى لها، حسب كليب. يكشف تقرير قدمته سنة 1995 وزارة الصحة اللبنانية عن مخيم البرج الشمالي، والذي يلخص وضع كل المخيمات إثر انتشار مرض طال جميع سكانه البالغ عددهم 10 آلاف شخص بسبب تلوث المياه، ما يلي: إن شبكة المجارير الأساسية منها والفرعية مكشوفة دون غطاء وتفوح منها روائح بشكل دائم، كما وأن وضع شبكة جر المياه إلى المنازل غير سليم، إضافة إلى قدمها. فكثير من المنازل تجر المياه إليها عبر نباريج موصولة بقساطل مفتوحة”.

أثار تقرير للمنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان الواقع الصحي للاجئين الفلسطينيين ووصفه بأنه شديد السوء نظرا لسوء التغذية عند الأطفال دون سن الدراسة وللتلوث البيئي خاصة تلوث مياه الشرب وما ينتج عنه من إسهال عند الصغار والكبار. ورصد التقرير إصابات أمراض القلب والضغط الشرياني والذبحة القلبية والقصور الكلوي والربو والسكري والقرحات المعدية والالتهابات العظمية والاضطرابات النفسية الناتجة عن الضغط الاقتصادي والاجتماعي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني مشيرا إلى أن نوعية الاستشفاء الذي تقدمه الأونروا تبقى في حدودها الدنيا بسبب السياسة الصحية التي تعتمد على الوقاية أكثر منه على العلاج. مما يضطر بعض المرضى الفلسطينيين للجوء للاستجداء من أجل الحصول على مساعدة. وحيث أن القوانين الدولية تنص على لزوم وجود طبيب لكل ألف شخص كحد أدنى، هناك أقل من طبيب لكل 10 آلاف لاجئ. ولفت التقرير إلى وفيات للفلسطينيين في المستشفيات الحكومية حيث احتفظت بعضها بالمرضى كرهائن حتى إتمام تسديد التكاليف. وحصل في حالات عدة حجز جثث الموتى منهم.

ج ـ قطاع الخدمات والإغاثة الاجتماعية:

يأتي هذا القطاع في الدرجة الثالثة بعد التعليم والصحة، ويشهد تراجعا كبيرا أيضا، حسب كليب، “بسبب تقليص نفقات الأونروا. فمن توفير المساعدة للعائلات التي لا تستطيع تأمين الغذاء والمسكن بما شمل جميع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان خفضت الأونروا منذ الثمانينات برنامجها هذا حتى إلغائه وحصره فقط بحالات العسر الشديد. هذه الحالات كانت عام 1996 نسبتها 10.5• مصنفة على أساس عدم وجود ذكر راشد ولائق طبيا لكسب العيش. لكن توجد مقاييس موضوعية تعكس حقيقة الواقع الاجتماعي بشكل أصح مما يرفع هذه النسبة بشكل كبير. من هذه المقاييس القيود المفروضة على عمل الفلسطينيين في لبنان بالدرجة الأولى، وارتفاع نسبة البطالة لحد كبير والتي تترافق بعدم الحصول على تقديمات صحية واجتماعية وتربوية. وهذا ما تثبته معلومات المؤسسات الاجتماعية العاملة في المخيمات، التي تؤكد على أن ثلاثة أرباع فلسطينيي لبنان يقعون تحت خط الفقر. فعائلات أسر الشهداء التي تقدر بحوالي 10 آلاف أسرة لا تستفيد مثلا من هذا البرنامج في الحين الذي تنطبق عليها المقاييس سابقة الذكر”.

من جملة ما قالته مسؤولة برنامج الإغاثة والشؤون الاجتماعية في الأونروا، السيدة زين صيقلي، ردا على سؤالنا بما يخص شكاوى الفلسطينيين المقدمة حول هذه المؤسسة وتعاملهم معها من منطلق الحذر والشك واليقظة:

“إن الإدارة السابقة كانت تخاف من ردود فعل على مشاريع مساعدة للاجئين تفهم وكأنها محاولات توطين. ذلك على غرار ما حصل مثلا عند إصدار البطاقة الجديدة للاجئين وسببها تفسير مسائل على غير محملها. لكن هذا الخوف غير موجود عند الإدارة الحالية خاصة وأن الدول المضيفة والمتبرعة قدرت أهمية استمرار عمل الوكالة حتى انتهاء المفاوضات. فهناك في لبنان ما يعادل 25• من العائلات مستفيدين من برنامج التوزيع الغذائي (أي ما يعادل 10 كيلو طحين، كيلو رز، كيلو سكر، زيت وعدس وحمص وحليب بالإضافة ل40 دولار). كما قد صرف 85 ألف دولار في لبنان منذ 1994 (في الحين الذي صرفت في مخيمات غزة 15 مليون دولار) من أجل إنشاء مشاريع في المخيمات. وهناك برامج قروض تمنح لإنشاء مصالح خاصة تؤمن مداخيلا للمستفيدين ليعتمدوا على أنفسهم. غير أن جزءا من المساعدات المالية المقدمة للاجئين قد توقفت فعلا منذ 1997.

أما بما يخص عدم إنشاء ثانويات للطلبة إلى وقت قريب فكان هناك مساعدات مالية تعطى للعائلات كي يذهب التلامذة للمدارس الثانوية وهذا أوفر من إنشاء مدارس. لكن الأونروا تغطي جزءا من المشكلة وكل اهتمامها ينصب على الفقراء من الفلسطينيين بينما يعتبر الفلسطيني أن كل فرد له الحق كغيره”.

بصدد تقديمات الأونروا، يطالب كليب “بضرورة عملية إصلاح في إدارات هذه الوكالة حيث من غير المعقول أن تبلغ موازنة رئاسة الأونروا التي يعمل فيها ما يقارب 150 موظفا 10.3• من الموازنة الإجمالية للأونروا، فيما موازنة لبنان لا تزيد نسبتها عن 12.6• ويعمل فيها حوالي 1500 موظف، إضافة إلى خدمات تقدم ل350 ألف لاجئ فلسطيني. فالقسم الأكبر من الموازنة يصرف على المخصصات والشؤون الإدارية وهناك هدر مالي واسع وسوء إدارة وتبذير نصف الموازنة في غير مكانها. ففي الحين الذي عجزت فيه هذه المنظمة عن سد العجز المتراكم في موازنتها، الأمر الذي دفعها لتقليص خدماتها بشكل هائل، ترصد أموال ضخمة لدعم مسيرة التسوية وبرنامج تطبيق السلام وبتركيز مباشر على الضفة الغربية وقطاع غزة. ذلك بالطبع إلى جانب الخلل في طريقة إدارة صندوق التوفير والعمليات الاستثمارية من قبل مدراء رئاسة الوكالة والذي تسبب بأزمة مالية هامة للأونروا”.

3 ـ منظمة التحرير الفلسطينية والمرجعية السياسية:

“تشكلت أول مرجعية رسمية للفلسطينيين، يقول صلاح صلاح في تقريره، بعد قرار جامعة الدول العربية بإعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964. في نفس العام فتحت لها مكتبا في بيروت للاهتمام بأوضاع الفلسطينيين ومتابعة قضاياهم مع الجهات المعنية في الدولة اللبنانية. لكن المكتب لم يستطع أن يقوم بمهماته كما يجب بسبب الأحكام العرفية التي كانت سائدة وسيطرة الشعبة الثانية (جهاز أمن عسكري تابع للجيش اللبناني) على المخيمات والتي تمنع أي صلة مع سكانها إلا من خلالها. وقد حرم هذا الجهاز بل طارد أي نشاط (سياسي، إعلامي، نقابي، جماهيري) في المخيمات. لذا اقتصر دور المكتب على مجرد هيئة دبلوماسية تمارس دورها حسب الأصول البروتوكولية للسفارات.

عام 1969، إثر صدامات مسلحة بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين الذين أقاموا في الجنوب قواعد عسكرية، قامت في لبنان انتفاضة شعبية بقيادة السيد الشهيد كمال جنبلاط، تطالب باحتضان المقاومة الفلسطينية ودعمها والسماح لها بممارسة القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي عبر الأراضي اللبنانية. كان من نتائج هذه الانتفاضة استقالة الحكومة آنذاك وشل الحركة السياسية وخلافات بين أطراف السلطة. مما أدى إلى تدخل عبد الناصر ومعالجة الوضع من خلال عقد ما سمي “اتفاق القاهرة” بين السلطة اللبنانية و م ت ف يقر للفلسطينيين تشكيل “اللجنة السياسية العليا” كمرجعية لشؤون الفلسطينيين في لبنان، يتبع لها لجنة شعبية ومقر “كفاح مسلح”، أي شرطة فلسطينية في كل مخيم. وبذلك تكون قد وضعت لأول مرة منذ عام 1948 إدارة لشؤون المخيمات من قبل جهة فلسطينية تعترف بها السلطة اللبنانية.

في عام 1982 قامت إسرائيل باجتياح الأراضي اللبنانية، أولى أهدافه ضرب كل البنية السياسية والتنظيمية والعسكرية ل م ت ف وإنهاء مؤسساتها في لبنان. كانت حرب إسرائيلية مدمرة اضطرت الفلسطينيين للقبول بما سمي اتفاق “فيليب حبيب” الوسيط الأمريكي لإيقاف العدوان الإسرائيلي مقابل تنظيم خروج م.ت.ف بقياداتها ومقاتليها وأجهزتها... استوجب الاتفاق في أحد بنوده تشكيل لجنة، قبلتها السلطات اللبنانية، لتكون المرجعية لبحث كل ما يتعلق بالوجود الفلسطيني المتبقي في لبنان. بدأت هذه الجهة اتصالاتها مع الجهة التي حددها لها المسؤولون (وكانت جهة أمنية). لكن هذه الاتصالات التي كان من المفترض أن تضع أسسا لتنظيم العلاقة الفلسطينية اللبنانية ما لبثت أن تعطلت من قبل الطرف اللبناني، وطوردت من نفس الجهاز الذي حددت الصلة معه، فاعتقل بعض أعضاء اللجنة واضطر البعض الآخر إلى المغادرة. فأصبح الفلسطينيون بلا مرجعية. قد يكون هذا أحد الأسباب الذي شجع البعض لشن حرب على المخيمات بقصد السيطرة عليها (لعدم وجود مرجعية).

بعد انتهاء الحرب على المخيمات عملت م ت ف على إعادة تفعيل دورها في لبنان فشكلت “قيادة العمل الوطني الفلسطيني” من الفصائل المنضوية في إطارها لتكون المرجعية الفلسطينية في لبنان على كل المستويات وفي جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها. ونشطت دوائر أساسية لتقديم خدمات ملحة للمخيمات...

في عام 1990 تم التوصل لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب في لبنان، وبدء مرحلة جديدة من التعايش السلمي والاستقرار الأمني. وكان لا بد أن يشمل ذلك الفلسطينيين المقيمين على الأراضي اللبنانية. فتشكلت لجنة وزارية للحوار مع الفلسطينيين تنطلق من قاعدة الاعتراف ـ لأول مرة منذ العام 1948 ـ بالحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان، باستثناء التجنيس والعمل في الوظائف العامة. شكل الفلسطينيون بالمقابل لجنتهم وبدأ الحوار بين الطرفين. قدمت اللجنة الفلسطينية ورقة عمل تحدد تصورها للحقوق المدنية والاجتماعية والمشكلات التي يجب حلها لتستقيم العلاقة الفلسطينية اللبنانية. وتم الاتفاق في هذا الاجتماع على موعد وجدولة الاجتماعات اللاحقة، لكن الطرف اللبناني ماطل في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه وما زال يماطل حتى الآن...”.

مثلت منظمة التحرير الفلسطينية حتى سنوات خلت بمؤسساتها المتعددة مصدر دخل لا بأس به لفلسطينيي لبنان إلى أن بدأت تتراجع ميزانيتها المقتطعة لبلدان اللجوء بتحويلها إلى الداخل عند إندلاع إنتفاضة 1987. تفاقم الوضع مع اندلاع حرب الخليج الثانية عندما قطعت الدول الخليجية القسم الأكبر من مساعداتها للمنظمة بسبب موقفها المناصر للعراق. هذا الإجراء كان قد ترافق بطرد عدد لا بأس به من العائلات الفلسطينية التي تقطن في الخليج، حيث أن قسما منها لم يترك له المجال حتى بتحويل مدخراته أو الحصول على مستحقاته المالية. تقلص إذن الدعم الذي كانت ترسله م ت ف للمخيمات مع بدء مفاوضات مدريد إلى أن توقف نهائيا بعد اتفاق أوسلو. استثني من ذلك رواتب الموظفين الذي تبقوا في بعض دوائرها ومساعدات لعوائل الشهداء. وعليه، يمكننا أن نتصور ما آل إليه وضع الفلسطينيين في المخيمات بعد أن كانت تهتم بمعالجة المسائل الحياتية والإنسانية من إعادة اعمار المخيمات التي دمرت إلى معالجة البنى التحتية وسد النقص في تقديمات الأونروا على صعيد الصحة والتعليم الخ.

حول تمثيلية منظمة التحرير الفلسطينية التقينا ممثل المنظمة في لبنان منذ نشأتها في 1964 حتى 1993، السيد شفيق الحوت (كان عضو لجنة تنفيذية وعضو مجلس وطني فلسطيني واستقال من اللجنة التنفيذية ومن تمثيله للمنظمة في لبنان في 93 احتجاجا على توقيع القيادة الفلسطينية على اتفاقية أوسلو). لم يعد بعد هذه الاستقالة من ممثل رسمي لمنظمة التحرير في لبنان، لكن القيادة الفلسطينية رفضت هذه الاستقالة ولم تعين بديلا والحكومة اللبنانية غضت الطرف عن الموضوع. فالسيد الحوت يمارس أحيانا بعض الصلاحيات لتصريف أمور الفلسطينيين في لبنان، حيث ما زال توقيعه معتمداً في الدوائر الرسمية.

يقول شفيق الحوت: “يعيش لبنان اليوم ظروفا استراتيجية واحدة مع سوريا، بالتالي من المفترض أن يكون خصوم أوسلو هم الفصائل المسموح لهم بالحركة في الساحة اللبنانية. لكن لأكثر من سبب، منها عجز هذه الفصائل وخلافاتهم فيما بينهم، ومن ناحية أخرى رواسب التجربة التاريخية بين الفلسطينيين واللبنانيين، ما ولّد عدم رغبة عند الحكومة اللبنانية بإعادة صلة رسمية بمنظمة التحرير بحيث بتنا بلا مرجعية. خاصة وأنه منذ 1982 لم يعد هناك من قيادة فلسطينية ومن مؤسسات فلسطينية لمنظمة التحرير في لبنان.

بعد أوسلو، انتهت منظمة التحرير حيث لا وجود مادي لها. فياسر عرفات تجاوز هذه المنظمة وغيّر في ميثاقها ثم أن أوسلو نفسها تحدّ من صلاحيات م ت ف إلا فيما يتعلق بالتوقيع معها. التمثيل السياسي الذي كان للمنظمة تقلص ليمثل فقط السلطة الفلسطينية وينفذ بنود أوسلو. فممثل الشعب الفلسطيني اليوم لم يعد ينادي بما كانت تنادي به م ت ف من شعارات التي هي: الحق بالعودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية”.

يضيف الناطور: “المرجعية في المخيمات كمرجعية عامة عن الشعب الفلسطيني كانت لمنظمة التحرير. الآن منذ 1982 وانسحاب قوات التحرير باتفاق فيليب حبيب لا يوجد مرجعية مكرّسة رسمية علنية. فالمرجعية يجب أن يكون لها اعتراف من الدولة اللبنانية وتتعامل معها بشكل رسمي. هناك اعتراف من الدولة اللبنانية بمنظمة التحرير وتتعاطى معها ضمن دائرة جامعة الدول العربية لكن لا تسمح بإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الذي أغلقه الإسرائيليون عام 82 في كورنيش المزرعة في بيروت. كذلك لا تسمح بإعادة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، الذي كان قد أعتمد على أنه مركز للقاءات القيادة الفلسطينية المحلية، كوسيط بين الدولة والتجمع الفلسطيني في لبنان. فقد نسف هذا المركز بسيارة ملغومة في شباط 1983 ولم يسمح بإحياء دوره منذ ذلك الحين. عوض التمثيل الرسمي للفلسطينيين في لبنان هناك مرجعية الأمر الواقع لتمثيل كل فصيل على أنه جزء من الشعب الفلسطيني تتعاطى معه الأطراف الرسمية اللبنانية والقوى السياسية والمؤسسات الدولية”.

تقول السيدة سميرة صلاح التي اشتغلت بدائرة شؤون اللاجئين (كان اسمها دائرة شؤون العائدين) منذ عام 1989 عندما تعينت مديرة لهذه الدائرة في لبنان:

“من ناحية الدولة اللبنانية، ليس من علاقة رسمية مع دائرة شؤون اللاجئين. لكن كنت قد قبلت في لجنة المتابعة وقدمت مذكرات من أجل الحقوق المدنية والإنسانية للشعب الفلسطيني. حصل اجتماعان بلجنة المتابعة لكن توقفت الاتصالات بسبب ذبذبات من أطراف عطلت هذه الفرصة. لقد كنا طلبنا لوزير الصحة السابق مروان حمادة بالسماح بغسل الكلى وإعطاء أدوية لمرضى السرطان، ولم نحصل على موافقة. كذلك أجرت الأونروا لقاءات مع ممثلين من الدولة اللبنانية للسماح بتعاقد مع مستشفيات حكومية فرفضت ذلك. والآن يضعون عراقيل إضافية. كان الضغط من الإمارات والسعودية كبيرا لأجل إعادة إعطاء فيزا بسبب تضرر هذه البلدان من الإجراء وكانت هي المسألة الوحيدة التي حصلنا عليها”.

حول الخدمات التي تقدمها هذه الدائرة التي تضم 20 موظفا ولها مكتب في مار الياس وآخر في عين الحلوة، تقول سميرة صلاح:

“كان قبلي أبو ماهر اليماني وصلاح صلاح ولكن يمكن القول أني انطلقت في 1989 من الصفر بعد أن توقفت أعمالها في 82. كان على جدول أعمال الدائرة كما أقرتها اللجنة التنفيذية عدد كبير من القضايا التي تهم الشعب الفلسطيني منها إعادة إعمار المخيمات وبناء بنيتها التحتية، الحقوق المدنية والاجتماعية للشعب الفلسطيني في لبنان، القضايا الأمنية الخاصة به. عندما بدأت بالعمل كان الوضع صعباً جدا بما يخص منظمة التحرير خاصة. لكن إيماني بضرورة خدمة المجتمع ساعدني للاستمرار ضمن ظروف انقسامات سياسية كبيرة بين الفلسطينيين. حاولت أن أتفهم الجميع حيث انتمائي لمنظمة التحرير لم يمنعني من أن أقف ضد الممارسات التي قامت بها. كان هناك من ضرورة لتغيير الصورة.

أول ما بادرت له هو جمع اللجان الشعبية المكونة من جبهة الإنقاذ وفصائل منظمة التحرير حيث لكل منها لجانه في منطقته. حاولنا الاتفاق على قضايا مشتركة تهم كل الناس. هيئة العمل الوطني اهتمت بقضايا الإعمار ودائرة شؤون اللاجئين بالبنى التحتية من ماء وكهرباء ومجارير. لم نفرق بين مخيم تساعده الأونروا وتجمّع (عددها حوالي 30 تجمع) منها الفقيرة جدا والتي لا يهتم بها أحد. بدأنا بالجنوب وبيروت الأكثر تعرضا لآثار الحرب اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي وحرب المخيمات. عملنا مشروع الكهرباء الأساسي لعام 89 في مخيم عين الحلوة ووزعنا على سكان مخيمات أخرى أموالا لإعادة بناء بيوتهم التي هي من التنك.

في الشمال أنجزنا مشروع محولي توزيع للتيار الكهربائي في البداوي والبارد وفي البقاع، في مخيم الجليل، مشروع كهرباء أيضا. الفترة بين 89 و93 كانت فترة ذهبية حيث نفذنا مشاريع مهمة بدعم من م ت ف. لكن بعد اتفاق أوسلو بدأت تتراجع الأمور حيث خف كثيرا اهتمام العالم بلبنان وبفلسطينييه. فهو لم يعد حالة طوارئ والمنظمات غير الحكومية الأوروبية والدولية اعتبرت أنه عليها توجيه دعمها للأراضي الفلسطينية المحررة إثر الاتفاق الذي تم. لقد نسوا 350 ألف فلسطيني في لبنان. كان نتيجة ذلك تقليص ميزانية لبنان من قبل م ت ف حيث تم تخفيض أو إنهاء الرواتب وتوقيف الدعم. فأصبح الشعب الفلسطيني في لبنان دون أي مورد خاصة وأن حرب الخليج الثانية كان لها انعكاساتها السلبية الكبرى على الوضع الاقتصادي. فأصبح هناك حالات اجتماعية مأساوية، مما حدا بالمنظمة أن تعيد بعد فترة من المطالبات والصراخ المساعدة بشكل تدريجي لكن فقط لجماعة فتح، وانحصر عمل المؤسسات بأفراد. كان هذا سببا لصراع مع م ت ف التي حصرت كل شئ بشخص على حساب العمل المؤسساتي ودون الأخذ بعين الاعتبار هذا التاريخ من النضال الطويل لها. مما جعلنا نشعر بالإحباط الشديد ومما انعكس سلبا على كل العمل حيث لم تعد هذه الدائرة تعتبر كمرجعية.

منذ سنتين فقط بدأت العلاقة بالانتظام بين اللاجئين هنا وبين المركز في غزة. وهذه السنة (1999) أنجزنا في نصفها الثاني عددا من المشاريع منها خزان ماء في عين الحلوة ومجارير لمنطقة البستان، التي هي في مخيم عين الحلوة ولكن لا يدخل ضمن نفوذ الأونروا، وفي تجمّع البركسات أيضا. بدأنا نركّز على التجمعات (صرفنا 35 ألف دولار خلال 3 أشهر). ونحن متفائلين بإمكانية إنجاز مشاريع أخرى وهي تجري عبر مناقصات مختومة بالشمع الأحمر كي لا يكون هناك من تمييز حيث العمل في الشأن العام غير سهل. هناك بالطبع رقابة على التنفيذ من قبل أشخاص معينين لذلك، كي لا تهدر الأموال خاصة وأنها قليلة والعاملون يهمهم أن يعملوا حتى ولو كان الأجر قليلاً”.

المؤسسات الاجتماعية الفلسطينية:

بقي لنا أن نشير لدور المؤسسات الاجتماعية والأهلية الفلسطينية التي تتواجد بكثرة في المخيمات وتسعى جاهدة لتعويض بعض من هذا النقص منذ خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982 وإغلاق القسم الأكبر من مؤسساتها. لقد استوعبت قسما من قوة اليد العاملة الفلسطينية ضمن المشاريع التي أقامتها في المخيمات. لكنها للأسف لم ولن تستطع بتقديماتها المحدودة أن تحل المشكلة الاقتصادية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين.

لنأخذ مثل النجدة الاجتماعية التي تتحدث عنها السيدتين هيفاء جمال، نائبة مدير الجمعية، وميسر طه، مسؤولة فرع النجدة في مخيم عين الحلوة، بالقول:

“أنها جمعية لبنانية ـ فلسطينية تأسست عام 1976 عندما هجّر سكان مخيم تل الزعتر إلى الدامور وكان منهم نسبة كبيرة من الأيتام والأرامل. كان هناك مجموعة من الأطباء والمهندسين وجدوا أن الطريقة الأفضل لمساعدة المهجرات هي بتشغيلهن. بدأ العمل بالمطرزات الفلسطينية وتطور المشروع لدورات خياطة، ثم توسع ليطال كل المخيمات الفلسطينية.

لقد شملت الدورات التدريبية الحلاقة والنجارة والطباعة والسكرتاريا والديكور والرسم المعماري والتصوير الفوتوغرافي وخاصة محو أمية. فهدف الجمعية تأهيل المرأة الفلسطينية عبر تعليمها كي تستطيع أن تتّكل على نفسها لتدبير أمورها وأمور عائلتها، مع التركيز على نوعية الإنتاج. كانت أعمار النساء الأرامل تتراوح بين 25 و40 سنة وحوالي نصف العاملين متطوعين.

لدينا الآن 14 مركز تأهيل مهني، و6 روضات تضم كل واحدة منها 100 ـ 120 طفل، وهذا لا يغطي الاحتياجات. وجدنا أن الروضة ضرورية كي يدخل الطفل إلى المدرسة دون إشكال كبير. طبعا الإنتاج لا يكفي وهناك دعم خارجي يساعدنا على الاستمرار. مشاريعنا تحاول أن تكون تنموية وننظم دوراتنا التي تمتد لعدة شهور على أساس الحاجات التي نلمسها على الأرض وحسب الطلب من سوق العمل. أقل من نصف الذين يتخرجون من دورات النجدة يجدون عملا.

في صيدا هناك هيئة تنسيق لبنانية فيها 40 مؤسسة وجمعية منها الفلسطينية، لكنها لا تنجح دائما في هذا التنسيق. عملنا البرنامج الوطني للطفل وبرنامج عن العنف المنزلي وهناك برامج للصحة الإنجابية منذ 4 سنوات وحلقات توعية للنساء”.

من جملة المؤسسات الاجتماعية الموجودة في المخيمات مراكز للمعاقين وجمعيات نسائية تقوم أيضا بنشاطات مختلفة. جزء من هذه النشاطات يكون على كاهل متطوعين من المخيمات. لنأخذ مثلا المؤسسة الوطنية للرعاية الاجتماعية التي تضم 1315 طفلا، 97• منهم أيتام والآخرين من أسر معاقين فكريا أو جسديا نتيجة الحرب. حول هذا الموضوع يقول السيد قاسم عينا الذي يشرف على هذه المؤسسة:

“أنشئت المؤسسة منذ سنة 1976 بعد حادثة مخيم تل الزعتر حيث توجهت للأطفال الذين فقدوا أهلهم وكانوا من عدة جنسيات، منهم لبنانيين. ركزت المؤسسة عملها على أطفال المخيمات الذين يعانون من اضطراب نفسي وعدم تكيف مدرسي ناتج عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأسر وعن سوء وضع المدارس وعدم وجود ترفيه.

بعد مجزرة صبرا وشاتيلا في 1982 تغير توجهها، حيث تكفل الولد على أن يبقى في عائلته وأن يكون الكادر العامل من نفس المخيم. وقد أصبحت مركز تنمية وليس خدمات فقط مفتوحا للآخرين وليس فقط للأيتام. هناك عاملة اجتماعية لكل 30 أسرة تتم متابعتها من قبل المؤسسة. فالمؤسسة لا تستفيد بأي شئ من الحكومة في الوقت الذي تستفيد فيه هي من وجود هكذا مؤسسات تقدم خدمات جزء منها لصالح لبنانيين”.

أما مركز أجيال، كما يستعرضه لنا شبان منتسبون له:

“فقد انطلقت تجربته منذ سنتين، من مبادرات فردية لبعض شباب من عدة اتجاهات حزبية ومن مستقلين يملكون قناعة بضرورة عمل شئ ما خاص بالشباب على خلفية أن لا وضوح في الرؤيا للمستقبل ولعدم وجود مرجعية سياسية. هدف المركز تنشيط مؤسسات في المخيمات والعمل على النفس لتطوير الإمكانيات والتعبير عن الهموم. كذلك الاتصال ببلدان أوروبة عبر توأمة مع مجموعة شباب في بلدان أخرى منها مجموعة أجيال في فرنسا وفي فلسطين. وهذا ذو أهمية بالغة بتحسيسهم بانتمائهم لفلسطين.

اليوم، هناك أنشطة كثيرة تجمع بيننا من دورات على التنشيط الاجتماعي أو على حقوق الإنسان إلى حلقات حوار وأنشطة فنية بما فيها ما له علاقة بتراثنا. هدف أعضاء أجيال إنشاء جسور مع كل المخيمات عبر فرقاء في كل مخيم، خاصة ممن لا ينتمون لتيارات سياسية، رغم أن المركز مفتوح لكل التجمعات الشبابية الفلسطينية. لكن ما يؤخر من استمرارية العمل هو بالطبع الوضع المادي بالرغم من الاشتراكات وبعض التبرعات ودعم منظمات دولية لورش عمل. فالأنشطة التطوعية في أوقات الفراغ الكثيرة تشغل بالتالي حيزا كبيرا. كان لا بد من إيجاد وسيلة للاستفادة من وقت فراغ الشباب بشكل إيجابي من خلال العمل بالشأن العام والتحضير للعودة لفلسطين. ذلك في الوقت الذي تبدو ظاهرة الانتحار والمخدرات في طور النمو وحيث أصبح التخوف يزداد من تفشي الأحزاب الدينية”.

يبقى أن نشير لوجود المنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان التي نشأت في أواخر 1997 والتي جاءت، كما يعرض ذلك السيدان بسام حبيشي وغسان عبدالله اللذان التقيناهما عن المنظمة، استجابة لحاجة ضرورية وملحة أملاه واقع الشعب الفلسطيني في لبنان، إضافة إلى الوضع القانوني الملتبس فيما يتعلق بعلاقته بالدولة المضيفة وضبابية التشريعات التي تنظم هذه العلاقة. ففي محاولة متواضعة لرفع الغبن وبعض المعاناة عن الإنسان الفلسطيني، التقت مجموعة من المثقفين الفلسطينيين بدعم من مجموعة مثقفين لبنانيين لتشكيلها. من أهدافها الدفاع عن حقوق المواطن الفلسطيني في المجالات الاجتماعية والثقافية والتربوية والصحية والبيئية والقانونية انطلاقا من التزامها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وبالأخص القرار 194 الذي يكفل حق اللاجئين في العودة. كذلك ترمي لتعميق معرفة الفلسطينيين بحقوقهم ونشر ثقافة حقوق الإنسان وتكريس منطق الممارسة الديمقراطية بالإضافة لرصد الانتهاكات التي يتعرضون لها ومعالجتها بالتعاون مع الدوائر الرسمية المختصة ومنظمات المجتمع المدني.

وتصدر المنظمة المشكّلة من متطوعين والذين يمولون بأنفسهم إصداراتهم ونشاطاتهم، نشرة غير دورية أسمتها “حقوق” وتنشر تقاريرا حول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

من هذه التقارير ما يتعلق بالتحديد بدور وأداء المؤسسات الوطنية الفلسطينية في لبنان، حيث يتوجه بالنقد للأداء السئ وغير الموضوعي لهذه المؤسسات في ظل انعدام الرقابة المطلقة وفقدان الشفافية والانقسام السياسي الذي انعكس سلبا عليها. وقد لفت التقرير هذا إلى أن “موازنة منظمة التحرير في لبنان تفوق المليون ونصف مليون دولار امريكي شهريا. لكن لا أحد يعرف كيف تصرف ولا من أجل ماذا ومن هو المستفيد من أبناء الشعب الفلسطيني منها (...) إن الشئ الوحيد المعروف أنها تصرف من ضمن معايير سياسية لا تأخذ في الاعتبار سوى الولاء السياسي”. كذلك كشف عن “أن المساعدات الشهرية المخصصة لعائلات الشهداء من مؤسسة أسر شهداء فلسطين قد تقلصت إلى حد مخجل يتفاوت بين 22و40 دولارا للشهداء العسكريين في حين أنها ألغيت للشهداء المدنيين، وهذا المبلغ الزهيد لا يصل إلى أصحابه أحياناً”. أما بما يخص اللجان الشعبية الموجودة في المخيمات، فهي قد أصبحت إطارا من دون مضمون يلفها الغموض. فهي “لا تمارس دورها ومهامها بسبب التناقضات الناتجة عن التجاذبات السياسية وواقع العجز التنفيذي والإداري الناتج عن هذه التناقضات فضلا عن الفساد المالي والإداري المستشري في ظل انعدام الرقابة وغياب المحاسبة. مما حفز اللجان على الجنوح نحو كبح الحريات السياسية وبالتالي الحيلولة دون إطلاق القدرات والإمكانات المختزنة داخل المجتمع الأهلي”. هذا الوضع ينسحب بشكل ما، حسب ما ورد في التقرير، على مؤسسة الهلال الأحمر الفلسطيني كما على دائرة شؤون اللاجئين، والذي لاحظ “أن السمة العامة للاتحادات والنقابات (الفلسطينية) هي الهامشية، مفرغة من أي مضمون نضالي أو مطلبي حتى غدت هياكل فارغة”. وهذا الوضع تتحمل مسؤوليته مجتمعة مؤسسات م ت ف والدولة اللبنانية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين.

الوضع الاقتصادي ـ الاستفادة من خبراتهم:

“عندما هجّر الفلسطينيون بالقوة من أرضهم في صيف 1948، يقول سهيل الناطور، وصل منهم في المرحلة الأولى حوالي مائة ألف فلسطيني إلى جنوب لبنان أتى معظمهم من القرى الشمالية لفلسطين. لقد جاءوا أما بالزوارق إما مشيا على الأقدام أو بالسيارات والحناطير وتجمعوا حينها في مخيمي الرشيدية والبرج الشمالي في صور. في البداية احتضن اللبنانيون الفلسطينيين بشفقة إنسانية رائعة، ونزل رئيس الدولة بشارة الخوري إلى أحد مخيمات الجنوب ليضطلع على أوضاع اللاجئين حين انتشرت الأوبئة بينهم وأتى برفقة أطباء وحمل معه أدوية.

لكن كان هناك حذر منهم منذ اللحظات الأولى من بعض الفئات الطائفية في السلطة جعلها ترسل شاحنات الجيش لنقل مجموعات كبيرة من هؤلاء اللاجئين وترحّلهم. الدفعة الأولى عبرت الحدود وأنزلت عند اللاذقية، لذلك هناك مخيم للاجئين في اللاذقية. عند الدفعة الثانية، أحس السوريون أن اللبنانيين يريدون جمع كل الفلسطينيين عندهم فأغلقوا الحدود واضطر الجيش اللبناني أن لا يعيد اللاجئين للجنوب فأنزلهم في الشمال ونشأت هكذا مخيمات الشمال.

كان قبلنا بفترة قليلة اللاجئون الأرمن. فهم أعطوا كل الحقوق المدنية ثم بعدها جنّسوا. الفلسطينيون لم يعطوا أي حق سوى حق الإقامة. وكان الموقف اللبناني الرسمي في ذلك الحين يقول إن على مفوضية الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين التي أنشئت بداية سنة 1950 أن توجد العمل للاجئين. وبالتالي، عليها أن تمول مشاريع تشغيلهم. وكان مندوبها كورفوازييه مكلّف بالاتصال بممثل رئيس الجمهورية حول هذا الموضوع. وفعلا، سمح اللبنانيون في ذلك الوقت ببعض المشاريع وأن يعمل بها الفلسطينيون.

إذا نظرنا ما هي هذه المشاريع نجد أهمها مشروعان رئيسيان: مشروع طلبته الحكومة اللبنانية وهو وصل منطقة البقاع بطرابلس. وكانت هذه الطريق تمر عبر الجبال وكلها ثلج وليس فيها من طرق، فبناها الفلسطينيون، ومات الكثيرون منهم أثناء العمل. الثانية: كانت أن الفلسطينيين لهم خبرة بالزراعة في فلسطين خاصة في مادة الحمضيات. وقد جاءوا بهذه الخبرة إلى لبنان بعد أن افتقدوا الأرض. في لبنان لم تكن الحمضيات ذات شهرة وذات دور، فأعطي مجال العمل في الأراضي على الساحل في السهول الممتدة بين صيدا وصور وبيروت إلى هؤلاء الفلسطينيين الذين حولوها إلى جنة من الحمضيات. واكتسب كثير من اللبنانيين الخبرة فيها. ولا زال معظم العاملين في قطاع الحمضيات في الجنوب من الفلسطينيين حتى الآن.

إذا، منذ البداية كان هناك رغبة أن لا يستقر الفلسطينيون في لبنان. فكيف استطاعوا أن يدبروا أمرهم بدون عمل خلال كل هذه الفترة؟

حصل في بداية الخمسينات عامل عربي جديد ساعد على امتصاص الطاقة المتعلمة الفلسطينية بشكل كبير، وهو اكتشاف النفط في دول الخليج. الذين اكتشفوا النفط هم البريطانيون بشكل أولي. بالتالي، كانوا بحاجة لوسيط مترجم بينهم وبين أهالي البدو في المناطق التي اكتشف فيها النفط، إن في العراق أو الكويت أو الجزيرة العربية. وكان الذين درسوا في عهد الانتداب البريطاني وتخرجوا باللغة الإنكليزية فلسطينيون. لم يجد اللبناني أو السوري مجالا للعمل في ذلك الوقت لأن الانتداب كان فرنسيا. من هنا فالطاقة التي ذهبت للعمل بالخليج والتي فيما بعد بنت الكويت كانت من لاجئي لبنان وسوريا ولحقهم فيما بعد لاجئو الأردن. لذلك كانت الأموال التي تأتي عبر هؤلاء هي التي حلّت مشكلة العائلات الفلسطينية نسبيا ولم يطرح حق العمل ويشكل ضغطا كبيرا في لبنان. خاصة أن الأموال التي أرسلت من هؤلاء بدأت تجلب معها أموال أمراء الخليج الجدد وتركزت في بناء الفنادق والسياحة والمستشفيات وغيرها. لذلك كان القطاع المصرفي والطبي في لبنان قد بني بأموال وعلى أكتاف الخبرات الفلسطينية التي جاءت من الخليج بزبائن كثيرين. نأخذ مستشفى البربير كنموذج، حيث كان الكثير من عائلات أمراء الخليج يأتون للمصيف في لبنان والبقاء في مستشفى البربير الذي كان صاحبه لبناني، لكن تمويله وأطباءه وخبراته كلها فلسطينية. تلك الأسر كانت تعيش فيه كأنه منتجع لها. هذا النمط من العلاقة لم يحدث مشكلة مع اللبنانيين. فشركات السياحة التي مولها الفلسطينيون شغّلت عدداً كبيراً من اللبنانيين، والبنوك كذلك. بنك انترا نموذج لها.

عندما بدأ اللبناني يتعلم اللغة الإنكليزية ويعمل في الخليج ويشكل مادة منافسة عاد ليستعيد دوره ويطرد من السوق غير اللبناني. تم هذا بعدد من الإجراءات التي حدّت من النفوذ الفلسطيني وأدت إلى انهيار بنك انترا وإفلاسه بشكل مفتعل. وعاد التمسك بالقانون سلبا على الفلسطينيين وعلى حساب حقوقهم المدنية.

أتت فيما بعد المرحلة الثانية التي خف فيها أثر المشكلات الاقتصادية الطاغي، مرحلة الثورة الفلسطينية إذ أنها أنفقت الأموال الطائلة على خدمات اجتماعية واستطاعت ليس فقط أن تحل مشكلات المخيمات بل أن تساهم في حلّ مشكلات عائلات لبنانية كثيرة أثناء الحرب”.

بروز الأزمة الاقتصادية:

“عندما ذهبت منظمة التحرير بعد 82، يكمل الناطور، برزت الأزمة الاقتصادية على حدتها خاصة وأنها ترافقت بعداء لبناني بعد مصرع بشير الجميل وإمساك قوات الكتائب بزمام السلطة. كانت عملية طرد اللاجئين الفلسطينيين عبر الخنق الاقتصادي منهجا واقعا ما زال مستمرا حتى الآن.

جاءت بعد اتفاق أوسلو عوامل سلبية إضافية. الأول: أدى الانشقاق الفلسطيني السياسي إلى صراعات ما زالت محتدمة فساعدت السلطة اللبنانية على عدم الاعتراف بأية سلطة تمثيلية شرعية للفلسطينيين. لذلك يحاولون إلقاء الكرة في ملعب الفلسطينيين. إذا قلنا نريد مرجعية رسمية. يقولون أية منظمة والخلافات ناشبة فيما بينكم ونخشى إذا فتحنا هذا المكتب أن تتصاعد. هذه تبقى حجة لأن الموقف الأساسي أنهم لا يريدون مرجعية.

ثانيا: إن عدم وجود المرجعية أدى إلى انفراط البنى التنظيمية السابقة. ولأن الخلافات السياسية قائمة فإنها تظلل عملية تقديم الخدمات لهذا المجتمع وقد يصل التنافس إلى شل توفير الخدمات المطلوبة. فإذا أراد تنظيم أن يقدّم خدمات لأسر الشهداء، فأسر شهداء تنظيم آخر حتماً يتأثرون سلبا أو إيجابا وفقا لعلاقات هذا التنظيم أو ذاك به. وهنا نجد المأساة، حيث أن الحصاد للمدنيين الفلسطينيين بسبب الخلافات التي نشبت عن اتفاق أوسلو زادت الأوضاع الاجتماعية مأسوية. فبعد أن كان سببها حرمان السلطة اللبنانية للفلسطينيين من الحقوق زاد عليها حرمان الفلسطينيين الاقتصادي خاصة وأن منظمة التحرير قد أوقفت المساعدات بحجة أنها قد أفلست بعد حرب الخليج الثانية. علماً أن استخدام أموال م ت ف بصرفها لبعض الموالين لرئيس المنظمة وخطه التفاوضي ازداد في الفترة ذاتها.

من ناحية أخرى، جاء اتفاق أوسلو أيضا ليقول أن الأونروا بدأت تعد العدة لخطة خمسية لتسليم كافة مهماتها وإنهاء دورها، لأن من المفترض أن تكون مشكلة اللاجئين قد حلّت خلال خمس سنوات. بهذا الإطار وضعت الأونروا مخطط ما يسمى بإعادة التأهيل، أي أن مدارسها يجب أن يعاد صياغة أوضاعها بما يتناسب مع المدارس الحكومية في لبنان لتكون مؤهلة بعد خمس سنوات وتصبح تابعة للدولة اللبنانية وتتحمل مسؤولياتها. مراكز العلاج ومستشفيات الأونروا أيضا تؤهل لتتبع وزارة الصحة في البلد المضيف. تبين في الواقع أن المفاوضات مع إسرائيل حبلها طويل جدا وأن مشروع الأونروا الذي كان قد بدأ بتقليص الخدمات لتنتهي بعد خمس سنوات وتكون في الحد الأدنى من القدرة على تسليمها بدون إرباكات للدولة المضيفة حصد ثمنها الفلسطينيون بنقص خدماتهم عما كان موجوداً سابقا. في حين زادت الاحتياجات سواء بزيادة العدد الناجم عن الولادات أو بزيادة تدهور الوضع الاقتصادي للفلسطينيين الناجم عن حرمانهم من خدمات الهلال ومنظمة التحرير أو أيضا عن توقف الدعم الذي كان يأتي خلال الحرب. كل هذا أدى لاختناق كبير، مع إصرار الدولة اللبنانية على عدم تقديم أية خدمات اجتماعية للاجئين. وهذا نتج عنه مآسي لا تطاق في وضع الفلسطينيين”.

إلى ذلك يضيف شفيق الحوت: “الوعي الوطني لدى الرأسمالية الفلسطينية لا بأس به. وهناك أكثر من مؤسسة مالية تحاول، بعد أن كانت عنايتها في الأراضي المحتلة وفي فلسطين لتساعد الشعب على الصمود، أن تتحول بعد أوسلو إلى حد ما للشتات. مجلس التعاون، أي نادي الأغنياء الفلسطينيين، الذي مقر إقامته في جنيف يحاول أن يساعد. لكن مهما كانت المساعدة فالمشاكل الموجودة لا تحلها القضايا الخيرية والإنسانية. ما يهم هو عودة الشعب لأرضه وممارسة حياته الإنتاجية. أما أن يبقى عالة يتلقى مساعدة دون إمكانيات تطور فهذا سيراكم المشاكل”.

الحقوق المدنية:

يتعامل قانون العمل اللبناني مع اللاجئ الفلسطيني كما لو أنه أجنبي، أي عليه الحصول على إجازة عمل، كما أنه يحصر قسما كبيرا من المهن باللبنانيين. وقد أصدر وزير العمل سنة 1993 قرارين يطوران قرارات سابقة صادرة منذ عام 1964. الأول يطلب تقديم مستندات للحصول على “إجازة عمل” هي أقرب ما تكون تعجيزية، أما الثاني فيحدد المهن المحصورة باللبنانيين. لهذا السبب يضطر الفلسطيني للعمل بشكل غير شرعي. بما يجعله عرضة لاستغلال رب العمل من حيث حصوله على نصف راتب زميله اللبناني وتعرضه للفصل في أي وقت دون حماية أو بدل خدمة، كما يحرم من الضمانات الاجتماعية والصحية ومن الحقوق النقابية بالترشيح والانتخاب.

“إن كافة الكفاءات الفلسطينية في لبنان غير مسموح لها بالعمل، كما يؤكد الناطور. وإذا سمح لها بالعمل فهذا يبقى داخل نطاق المخيمات التي لا يتوفر فيها توفيرات مالية مناسبة لعيش كريم، فحينها تضطر هذه الكفاءات للبحث عن عمل خارج لبنان. لذلك فإن الهجرة ونزيف الأدمغة واسع جدا. ومن يبقى في لبنان فهو إما بانتظار إيجاد فرص للسفر، إما لعدم قدرته على توفير بطاقة السفر. نجد مثلا مهندسا متخرجا بعد سنوات عديدة من الدراسة في الخارج بمنحة دراسية، يأتي إلى لبنان فيجد نفسه عالة على أبيه الذي عليه أن يؤمن له حتى ثمن سجائره، فيعيش مآسي قد تحطمه نفسيا. نجد مهندسين يعملون عمالا في الورش لأنهم لا يستطيعون أن يدخلوا في النقابة التي تشترط عليهم أن يكونوا لبنانيين منذ عشر سنوات.

الأجنبي في لبنان ممنوع من ممارسة 70 مهنة، بما فيها ناطور بناية. يجب السماح له بالعمل دون ربطه بالحصول على رخصة عمل لأن الفلسطيني في لبنان ليس له من وطن آخر يبحث فيه عن عمل، ولا بديل له عن لبنان. في حين أن السوري مثلا أو أي أجنبي آخر يمكنه أن يذهب لوطنه ويبحث عن عمل. كذلك، الأفضلية في هذا الموضوع يجب أن تعطى للفلسطيني لأنه ينفق أمواله في لبنان، بينما غير اللبناني الآخر يأخذ المال ليعيل عائلته في البلد الذي أتى منه. فالفلسطيني كاللبناني يقوم بدعم وتحريك الاقتصاد اللبناني.

كم هي الطاقة الفلسطينية القادرة على العمل في المخيم؟ الفلسطينيون الموجودون على الأرض الآن لا يتجاوزوا مائتي ألف فلسطيني بينما هم 365 ألف مسجلين في الأونروا، (85 ألف تجنسوا وحوالي مائة ألف يبحثون عن عمل في الخارج). الطاقة القادرة على العمل منهم لا تتجاوز المائة ألف. فإذا كان يوجد في لبنان نحو نصف مليون سوري يعملون، مائة ألف سريلنكي وهندي، ستين ألف مصري، وغيره من جنسيات أخرى، فالأحرى أن يعطى هذا الحق للفلسطيني وينظم دخول الأجانب إلى لبنان وتوزيع العمل عليهم. هذا يخفف مأساة الفلسطينيين ويخفف مشكلة على اللبنانيين. لكن يبرر اللبناني تشغيل السريلنكي أو غيره من زاوية أن اللبناني أو الفلسطيني لا يقبل العمل بمجالات يقبل بها السريلنكي. وهذا برأيي غير صحيح.

إن رخصة العمل هي أداة للتحكم المعاشي والأمني بحياة هذا الأجنبي، مما يجعل من السهولة طرده خارج لبنان ساعة يشاء ذلك رب العمل. بينما الفلسطيني لا يمكنه طرده عندما يشاء وهو مضطر لدفع تعويضات له. عندما تكون مصلحة رب العمل أن يتعاقد مع فلسطيني بدلا من لبناني لأنه يتسنى له أن يستغله أكثر فهو لا يتوانى عن ذلك في الحين الذي يعلم أن لا حق بالعمل له. لكن السوق السوداء توفر لأصحاب الرساميل أن يستغلوا العمال ولا يدفعوا لهم ما يترتب عليهم تجاه اللبناني وذلك بغض النظر من طرف الحكومة. فالبرجوازية اللبنانية تفضل عدم إعطاء الحق بالعمل للفلسطينيين لأنها تستفيد من هذا الوضع باستغلال الكفاءات بأقل الأجور ودون ضمانات.

المسألة هي أيضا سياسية بالدرجة الأولى. ذلك لأن التركيبة الطائفية والمذهبية في لبنان تعتبر أن ما تبقى من الفلسطينيين هم من السنّة وأن أي تجنيس أو توطين لهم سيجعل الطائفة السنية هي الأغلبية. لذلك تحاشيا للإرباكات الداخلية في التركيبة اللبنانية يدفع بتهجير أكبر عدد ممكن. نحن نريد أن ينظر لنا كفلسطينيين وليس على أساس أن من هم من القرى السبع يعاد لهم جنسيتهم اللبنانية لأنهم شيعة غالباً، ونظرا لاحتياجات لبنان الطائفية يجنّس ما يقرب من 50 ـ 60 ألف فلسطيني مسيحي. للأسف، لقد وصلنا لمرحلة من التفرقة العنصرية غير المقبولة بتاتا، حيث يعرض مثلا على أطباء ومهندسين فلسطينيين أن يغيروا دينهم من مسلم لمسيحي ليجنسوا وتحل مشاكلهم في العمل”.

حول هذا الموضوع يرى شفيق الحوت:

“إن هذا الحرمان من الحقوق المدنية وخاصة حق العمل هو حرمان من حق البقاء، الحق بالوجود. لبنان لم يع هذه الحقيقة اللاإنسانية واللاسياسية، وربما لهذا السبب دفع أكثر من غيره من الأقطار العربية. كان يظن أن ابتعاده عن القضية بانعزاله عن محيطه ينجو بنفسه. وهذا خطأ كبير لأن هناك حقائق موضوعية منها أولا: أن جنوب لبنان هو شمال فلسطين وإنه شاء أم أبى هو في تماس مع بلد كان يوما بلدا شقيقا وأصبح بلدا معاديا. ثانيا: كان لديه في 1948 150 ألف لاجئ من الطبيعي أن يتناسلوا ويكثروا ولا بد من وجود قانون يحكم هذه الإقامة. قانون أو بروتوكول يحدد هذه العلاقة بين هذا اللاجئ والدولة اللبنانية. فحتى الآن لا توجد أية ورقة تحدد هذه العلاقة. الحقوق المدنية للشعب الفلسطيني لم توجد منذ 1948 وهو كان يعيش بجهده وعرقه. كارثة خروج الفلسطينيين من الكويت كانت أكبر ضربة. مائة ألف منهم من لبنان يرسلون بأموالهم ويرفدون الاقتصاد اللبناني وأصبحوا الآن بحاجة لمساعدة.

الحل الإنساني؟ لبنان يقول أنه يفاوض وإسرائيل هي التي يجب أن تتحمل المسؤولية. رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء رفعوا أخيرا شعار رفض التوطين وعودة اللاجئين الفلسطينيين. هذا موقف جيد وكان يجب أن يكون منذ البداية. لكن معظم سياسيينا قصيري النظر ولا يحاولون تجنب الضربات قبل وقوعها. ثم هناك حقيقة موضوعية يقولونها وهي أن لبنان خارج من حرب وهو مفلس اقتصاديا. كذلك يقال هناك 17 طائفة في هذا البلد بما يعكس نظاماً سياسياً بالكاد يجد توازنه من خلاله. هذا يعني أن لبنان نسيجه طائفي وليس قائما على المواطنية. اللبناني يشعر بها عندما يهاجر إلى بلد آخر ويعصف به الحنين له. في هذا الظرف لا ضرورة بأن نكون حاديّن بمطالبنا من الحكومة اللبنانية وإن كنت في الوقت نفسه آخذ عليها أنه من أجل لبنان وحماية حقوقه هنالك حدّ أدنى من الحقوق يجب أن تعطى للمواطن الفلسطيني وتعود بالخير على لبنان وعلى صحته السياسية والاجتماعية والأمنية. أن يترك الفلسطينيون جائعين في المخيمات، فالنتيجة هي واحد من أمرين: إما سينضمون لمنظمات سياسية مسلحة وإما لعصابات مافيا كي يؤمنوا قوتهم. من هنا نستنتج غياب الفكر السياسي في لبنان بخصوص هذا الموضوع. أننا لا نطالب بسن قوانين الآن وإنما بغض الطرف. أليس عيباً مثلا إصدار ملاحقات قانونية بحق أطباء نزحوا من الكويت وفتحوا عيادة قرب مخيم في البقاع؟

هناك انعدام حس يستعمل سياسيا. حتى بعض الذين يتحمسون لعودة الفلسطينيين لا يفعلون ذلك سوى للتخلص منهم. لكن كيف يمكن الخلاص منهم من دون حق. الحرب الماضية ألم تكن حرب توطين؟ محصلة كل الذي شاهدناه هو أن بعض اللبنانيين لا يريدون فلسطينيين في لبنان. والنتيجة لم تسفر عن شئ، الكل خسر ودفع ثمنا غاليا. إذا يجب أن نجد طريقة علمية وعاقلة وإنسانية وأخوية تحل هذه المشاكل. الخيال اللبناني وحتى الفلسطيني مقصّر. هناك كلام لكن ما من شئ على الأرض. وهذا التشديد على الفلسطينيين يسئ للبنان، لحكومته وشعبه ومصلحته وليس العكس. وهذا ما يستفيد منه العدو.

يمكن فصل السياسي عن الإنساني وإيجاد حل. العامل الأجنبي لا يصرف أمواله في لبنان بينما الفلسطيني يستفيد منه لبنان وهو موجود في لبنان حتى إشعار آخر. عندما يشغّل لبنان أجانباً هذا يعني أنه بحاجة لهم، فلما لا يشغّل عوضا عنهم الفلسطيني؟ لكن ليس هناك من استراتيجيات بعيدة المدى لا في لبنان ولا في الدول العربية. كله أفعال وردود أفعال. والبلد صغير وتهزه الشائعات”.

الوضع السكني:

“الوجود المؤقت كان سمة اللاجئين الفلسطينيين، كما يقول صلاح صلاح، حيث أنه لغاية سنة 1969 كانت الدولة اللبنانية لا تسمح لهم أن يبنوا سقفا لبيوتهم. عندما تحررت المخيمات من سلطة الدولة ألغيت هذه القاعدة. مساحة المخيم ما زالت هي نفسها منذ البداية حتى اليوم رغم الاكتظاظ السكاني في المخيمات. لم يكن مسموحا بتطوير البنى التحتية، حتى التلفون لم يدخل المخيم، فهو يمد لأقرب نقطة لبنانية”.

لا تقدم الدولة اللبنانية، حسب تقرير الاتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين، أية مساعدات أو خدمات مجانية عبر البلديات أو الوزارات المختصة من أجل تنظيم وتطوير البنية التحتية للمخيمات. فتبقى التقديمات محصورة بالأونروا. بالإضافة لعدم وجود الأرصفة، يجري مد الأزقة وحفرها وتزفيتها في فترات متباعدة جدا لقلة تخصيص الأموال لذلك، بحيث بقي معظمها رملي حتى اليوم. إضافة لذلك، إن الدمار الذي طال بعض المخيمات من جراء الاعتداءات الإسرائيلية وخلال الحرب الأهلية اللبنانية نتج عنه تهجير لقسم من سكان المخيمات ومشاكل سكن حادة، خاصة عندما منعت الدولة إعادة إعمار المخيمات المدمرة أو أخرى بديلة عنها أو توسيع المخيمات القائمة.

لنأخذ مخيم شاتيلا المحاصر بتلال من الردم والركام كمثل عن انعدام البنى التحتية لبعض المخيمات. فقد أحجمت الأونروا منذ سنوات طويلة عن القيام ببنيان منشآت فيه بحجة أنها تلقت طلبا بذلك من مراجع رسمية لبنانية. ونظرا لوقوع مخيم شاتيلا في منطقة منخفضة جغرافيا قياسا بالمحيط المجاور، تورد مجلة “حقوق” للمنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان، أنه في شهر تشرين الأول الماضي وبسبب هطول الأمطار الغزيرة عجزت مسارب المياه عن استيعاب كميات الأمطار. فكان جراء ذلك أن تحول المخيم إلى بحيرة اقتحمت البيوت والمحال التجارية والمستودعات التي غرقت بالمياه وأتلفت محتوياتها. وارتفع منسوب المياه إلى درجة هددت كابلات نقل الطاقة والمحول الكهربائي الذي يغذي المخيم وكادت تودي إلى كارثة لولا تدافع شبان المخيم لحفر قنوات تحت الأمطار لتصريف المياه ومنع وصولها للكابلات.

لكن وإن اختلفت حدته من مخيم إلى آخر، يبقى الوضع البيئي للمخيمات عامة، كما تقول “حقوق” شديد القتامة. ذلك ابتداء “من البناء العشوائي الذي أملاه ضيق المساحة وكثافة السكان، إلى البنى التحتية التي هرمت وتآكلت مع فقدان الصيانة والتطوير، إلى الطرقات والأزقة التي تحولت إلى مجامع نفايات تفوح رائحتها إلى مسافات بعيدة، إلى مجاري المياه والصرف الصحي وشبكة مياه الشرب المنفذة عشوائيا حيث تتداخل في مواضع كثيرة مع شبكات الصرف الصحي، إلى النفايات التي يلتأم شملها على مداخل المخيمات، إلى الكهرباء الموزعة عشوائيا والمعرضة دائما للانقطاع. تبرز بسبب هذا الواقع مشكلات أخرى هي ضعف التهوئة بسبب ازدحام البيوت وضيق الأزقة وانعدام الإنارة وانتشار القوارض والحشرات التي تبقى بمنأى عن أي مكافحة مما يؤدي إلى غزارة توالدها وتكاثرها.. وهذا الواقع يؤدي حسب الدراسات الصحية والبيئية إلى انتشار الأمراض خاصة ما يتعلق منها بالجهاز التنفسي كالربو والحساسية والجهاز الهضمي كالتقيؤ والإسهال وعسر الهضم، بالإضافة إلى بعض حالات التسمم، وكذلك لأمراض جلدية كالتقرحات والالتهابات (...) ورغم أن الخدمات البيئية والنظافة هي مسؤولية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، إلا أن الوكالة تصم آذانها وتغلق عيناها عن هذا الواقع المرير، تاركة المبادرة لبعض سكان المخيمات ومتذرعة بشتى الذرائع التي لا تسمن ولا تغني عن جوع”.

بإشارة للحديث عن إزالة المخيمات من بيروت ونقلها إلى الأطراف، تقول من ناحيتها السيدة سميرة صلاح، إن الدول المانحة كانت قد دفعت أموالا للبنى التحتية في المخيمات (منها شاتيلا وبرج البراجنة) بقيت مجمدة لدى الأونروا. لكن أشيع أن شاتيلا وبرج البراجنة ليس لها من مخصصات.

حول هذا الموضوع تضيف السيدة ليلى زخريا في ورقتها المقدمة للمنتدى القومي العربي في 1996 إن القرار الرسمي لم يتوقف على عدم السماح باعمار المخيمات، بل تخطاه إلى التهديد والتخطيط بمسح مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة ومار الياس وضبية التي تضم حوالي 25.590 لاجئا مسجلا، وذلك في إطار إعادة اعمار وتجميل العاصمة اللبنانية. لكن متطلبات التنمية الاجتماعية، التي أقرت كحق من حقوق الإنسان، وبالتالي كحق من حقوق أي لاجئ، تستدعي ضمان الدعم لتجمعات اللاجئين لبلوغ الاكتفاء الذاتي في مرحلة الانتظار للعودة إلى الوطن. وهذه المتطلبات واجبة على الدولة اللبنانية المضيفة بالعودة إلى تعهداتها والتزاماتها الدولية، حيث المساحة شاسعة بين المعلن والمطبق.

مسؤولة جمعية النجدة الاجتماعية في مخيم شاتيلا تروي لنا ذكرياتها عن هذا المخيم فتقول:

“لقد تأسس عام 1948 عندما بدأ الفلسطينيون يتوافدون من فلسطين. أعطتهم الأونروا خيماً من القماش احتموا بها. وبعد أن طال الوقت بدأوا تدريجيا بوضع زنكو وتنك وبراميل مقصوصة داخل الخيمة على أساس أن العمار كان ممنوعا من قبل الدولة اللبنانية. كان هناك حمام للرجال وآخر للنساء، وكان يسكنه حوالي 8 آلاف فلسطيني. لكن بما أن الزنكو يسبب حرارة قوية في الصيف، كانوا يأخذوننا ونحن أطفال إلى “الحرج” ويعملون لنا مراجيح من الحبال والحرامات يجلسوننا فيها. في بيتنا، شيّد أبي داخل الزنكو حيطانا من الرمل. كان البيت شديد الحرارة في الصيف وشاتيلا كانت مكشوفة حيث لم يكن كما اليوم من أبنية عالية حواليها تحميها. فكنا نعيش في الحرج طوال النهار، حيث تصنع النساء الخبز ونأكل ونشرب هناك حتى الغروب ثم نعود للمخيم.

استمر الوضع على هذا المنوال حتى سنة 1970 عندما أتت منظمة التحرير إلى المخيمات وخرج الدرك منها. أصبحت منظمة التحرير مسؤولة عما يجري داخل المخيمات وفقا لاتفاقية القاهرة. فبدأ الناس بصب حيطان البيوت بالباطون أو بوضع حجارة ونزعوا الزنكو. كما انشأوا حمامات داخل البيوت حيث كان علينا قبل ذلك أن نسير مسافة طويلة للوصول لمكان نستطيع أن نقضي فيه حاجتنا. أنا كنت آتي بالماء على رأسي من حي فرحات، فأدخلت منظمة التحرير الماء وحسنّت وضع الكهرباء لكن بقي شكل العمار عشوائيا..

تحسن بعد 1970 وضع الناس بشكل كبير. لكن بعد 1982 بدأت الأوضاع تسوء تدريجيا حيث لم يعد هناك من مرجعية. بقيت المؤسسات. فنحن كنجدة ساهمنا بشكل كبير وقدمنا مواد إعمار إضافة للأونروا التي عمرت بعض الشيء بعد حرب المخيمات لكنها لم تستكمل عملها. كانت تعمر الحيطان، وعلى القاطنين هنا القيام بالباقي من تمديدات وغيره. إضافة إلى أنه لم يستفد من ذلك الجميع، حيث باتت الخدمات تقدم لمن لا يستطع أن يعمل. فخدمات الأونروا بدأت تسوء منذ خروج منظمة التحرير في 82 وكأن الأمر لم يعد يعنيها، بينما كانت الحاجة لها قد ازدادت. أتت حرب المخيمات لتزيد الطين بلة”.

تضيف إنعام، أم شابة استقبلتنا في بيتها في شاتيلا:

“نحن ثمانية أشخاص نعيش في هذا البيت الصغير، وزوجي يشتغل يوم ويبقى عشرة أيام بدون عمل. فهو جلاّ بلاط ويشتغل خارج المخيم حيث ما من عمل له في المخيم. نحن نعاني من المجارير التي تطوف، كذلك ليس لدينا ماء من أسبوع وعندنا مشكلة بالكهرباء. قدمنا من سنتين طلبا للاشتراك بساعة كهرباء خاصة ببيتنا وما زلنا لم نحصل عليها حيث الكهرباء مشتركة. بعد حرب المخيمات في 85 و87 لم تعد الشبكة موجودة. قدمت طلبات للدولة لأننا لا نريد سرقة الكهرباء من حي فرحات. الآن الكهرباء مقطوعة من أسبوع والناس تشترك بموتور بانتظار عودة الكهرباء. أنا أدفع 45 ألف ليرة كل شهر للكهرباء وأشتري ماء الشرب كل يوم، رغم أن الماء مالحة اليوم وكانت قد تلوثت سابقاً”.

الوضع الاجتماعي من خلال عينات:

عينة من الشباب والشابات والنساء الذين التقينا بهم في مخيمي شاتيلا وعين الحلوة وفي مركز أجيال أدلوا مشكورين بشهاداتهم حول أوضاعهم الشخصية ومواقفهم فيما يخص الوضع العام للفلسطينيين في لبنان:

عصام (من باب الحرص على عدم إبراز الهوية الشخصية لقسم من محدثينا تم تغيير بعض الأسماء) ولد في لبنان ودرس الثانوية في مدرسة خاصة حيث لم يكن هناك من ثانوية تابعة للأونروا، ثم حصل على منحة إلى بلد اشتراكي من منظمة التحرير الفلسطينية سنحت له دراسة الهندسة. منذ تخرجه كمهندس وعودته إلى لبنان منذ 3 سنوات، وهو البالغ اليوم من العمر 29 عاما، لم يستطع أن يحصل على عمل ثابت.

هو يقول إن جنسيته الفلسطينية تقف عائقا أمام قبول الشركات له رغم أنه وافق على أن يتدرب بدون مقابل مادي مقابل أن يحوز على خبرة في مجاله. وعندما عمل عاما مع شركة فلسطينية كمهندس (من هنا يعتبر أنه رغم سوء وضعه فهو محظوظ أكثر من أصحاب له لم يستطيعوا أن يشتغلوا كمهندسين منذ أن تخرجوا في السبعينات)، لم يستطع أن ينتقل معها حيث أن الدول العربية لا تمنح تأشيرة دخول لفلسطينيي لبنان بشكل خاص.

فبقي في بيته يمضي نهاره بقتل الوقت والاهتمام بطفله البالغ من العمر 4 سنوات برفقة زوجته الأجنبية التي هي أيضا لا تعمل رغم كونها مهندسة. هما لا يستطيعان التفكير بأخ أو أخت له حيث أن العائلة تعيش من مساعدة أهله لها ومما ادخره هو من عمل سنة. إنه يعيش وزوجته وطفله في غرفة محازية لغرفة أهله ويتقاسم الصالون أفراد العائلة الباقون، حيث المجموع يبلغ 11 شخصا في البيت. لولا التكافل الاجتماعي في هذه الأسر لكان الوضع أسوأ مما هو عليه.

إنه لا يعرف كيف يمكن أن يجد مخرجا لوضعه رغم أنه مستعد أن يشتغل بأي شئ مثله مثل أغلبية أعضاء اتحاد المهندسين الفلسطيني الذين لا يعملون بشهاداتهم ولا براتب يناسب كفاءاتهم. فمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية أقفلت بعد أوسلو وإن كان هناك من بعض مساعدات تقدمها، فهي محصورة ببعض الأشخاص الحزبيين. يضاف لذلك أن المتخرجين من الدول الاشتراكية يصعب عليهم العمل في مجال اختصاصهم. لقد كانت المنح تعطى حتى سنة 1991 حيث توقفت بعدها، وإن بقي شئ ما فهي تذهب لفتح لبلدان تونس والجزائر وباكستان. وبانتظار أن يجد حلا مناسبا لوضعه فهو يبحث عن أي عمل يمكن أن يؤمن له بعض مصاريف عائلته.

أشار عصام أيضا إلى حالة صاحبه الذي درس معه في نفس البلد وعاد مثله إلى المخيم مع زوجته الأجنبية المختصة بالهندسة واللذين لهما ولد ولا يعملا. يلاحظ أن الوضع قد تغير منذ عدة سنوات حيث كانت فرص العمل أفضل مما هي عليه الآن. كما أن من اتجه نحو عمل مهني توفق أكثر من الذي أكمل دراسته.

لقد حاول شتى الطرق للخروج بحل لوضعه ولم يجد. وهو يعيش الآن على أمل أن يجد عملا خارج لبنان حيث يسعى أن يقوي وضعه بدورة كمبيوتر وتعلم الإنجليزية من خلال الجمعيات الفلسطينية في المخيمات. أما ما عدا ذلك من تدريب متقدم فهو غير موجود. الشيء الوحيد الذي جعله يعود للبنان هو وجود أهله فيه، لكن لن تكن هذه المسألة عقبة أمام البحث عن حل لوضعه خارج هذا البلد.

أما علياء التي تحمل الجنسية اللبنانية والتي عاشت خارج المخيم ودرست بالجامعة الأمريكية وتزوجت من لبناني، فقد تحدثت بمرارة عن وضعها كفلسطينية في لبنان. قالت إنها تشعر بالاستفزاز والعنصرية والمعاناة من هذا الوضع. فهي رغم ارتباطها العاطفي بلبنان، لو خيرت بين العيش فيه وخارجه لما اختارت البقاء فيه. إنها تعمل ضمن إطار مؤسسة دولية تركز على تشغيل الفلسطينيين، مما يجعلها تشعر بتمييز تجاه مؤسستها وبنظرة دونية لها حتى ممن تعتبرهم مثقفين وتقدميين.

تعطي علياء مثل أخوها الذي، رغم شهادته العالية من الجامعة الأمريكية، كان يرفض في عمل لأنه فلسطيني. وعندما وجد عملا لا بد أن تدفع عنه الشركة للضمان 35• من معاشه. هذا في الوقت الذي لن يستفد من هذا المبلغ لتعويض نهاية الخدمة. إنه لا يشعر بالاستقرار في عمله بسبب هذه المبالغ العالية التي تدفعها الشركة عنه.

يقول عامر السماك، طبيب جراح في مركز النداء الإنساني التابع فعليا، لكن ليس قانونيا، لمخيم عين الحلوة:

“هناك توسع أفقي في الطب، لكن نوعيا هناك هبوط في المستوى وتناقص بوجود الأطباء. فالطبيب درس في الخارج بمؤهلات ضعيفة وعندما عاد لم يستطع أن يتطور أكاديميا. فحتى المشفى الفلسطيني يستغل الطبيب الفلسطيني بدفع رواتب زهيدة. لهذا هناك تسرب بالأطباء وبطالة مقنّعة وعمل في الليل وفي السوق السوداء وعدم متابعة للجديد وللاكتشافات الحديثة. إن ما يحصل هو قتل الطاقات الإبداعية عند الناس بدل التخطيط لتنمية ورؤيا متبلورة. فالناس فقدت الثقة بنفسها وبدأت تبحث عن حلول فردية لأنها تعرف أنه ما من يحميها. لقد تقزّمت الأحلام بوجود مشاكل جدية”.

يرى صلاح صلاح في تقريره عن أوضاع اللاجئين، إن الفلسطينيين في لبنان يعانون من مشكلات اجتماعية في غاية الخطورة أهمها:

“1 ـ المهجرين: تعرضت بعض المخيمات للدمار الكامل (النبطية، تل الزعتر، جسر الباشا) أو الدمار الجزئي (ضبية، شاتيلا وصبرا) فاضطر سكانها إلى مغادرتها، اضافة لمن غادروا مخيماتهم المحاصرة أو المعرضة للقصف. وجميعهم احتلوا ملاجئ، كراجات، عمارات غير مكتملة البناء أو مدمرة جزئيا وبظروف سكنية غير صحية. مما سبب انتشار العديد من الأمراض خاصة الجلدية والمعدية وفقر الدم إضافة للأمراض النفسية وتحديدا عند الأطفال.

2 ـ عوائل الشهداء: بسبب الحروب والمعارك وأعمال القصف التي تعرضت لها المخيمات سقط شهداء كثيرون خلفوا وراءهم عوائل، منهم في لبنان حوالي 30 ألف أسرة...

3 ـ الزواج المبكر: إحدى الظواهر السلبية التي تعود لتدني الوعي الاجتماعي من ناحية والرغبة بالتخلص من عبء البنت وتقليص عدد أفراد العائلة من ناحية ثانية.

4 ـ الشيخوخة: لا توجد أية عناية بالمسنين لا من الأونروا ولا من المنظمة والفصائل ولا من المنظمات غير الحكومية.

تقدم الأونروا مساعدات بسيطة جدا لما يسمى الحالات الاجتماعية التي تعاني من عسر شديد، وهي تشمل الأفراد والعائلات التي لا تستطيع أن تعيل نفسها وتوفر الحاجات الأساسية كالغذاء والسكن. عدد مثل هذه الحالات يتغير سنويا، مثلا عام 96 كان العدد 35382 حالة بينما قبلها كان 85949 حالة.

5 ـ مشكلة الشباب: نسبة الشباب في المخيمات من مجموع سكانها حوالي 35•، غالبيتهم يشكون من الفراغ بسبب البطالة وعدم القدرة على متابعة الدراسة. فنجدهم يدورون على أنفسهم في شوارع المخيم بلا هدف، لأن المخيمات ليس فيها أي أماكن للتسلية أو لقضاء وقت مفيد ولا مراكز ثقافية ولا أندية رياضية ناشطة ولا مسارح ولا سينما ولا حدائق عامة ولا مكتبات. فأين يذهب الشباب؟ وماذا يفعلون؟ وكيف يقضون فراغهم؟ عدم الإجابة على هذه التساؤلات يجعل الشباب عرضة لكل الأمراض الاجتماعية التي تولدها هذه الظروف”.

الهجرة كحل؟

وليد، ولد في لبنان، يبلغ من العمر 23 سنة، يعيش خارج المخيم، حائز على دبلوم مهني رسم معماري، أشتغل بعدة مجالات. يقول:

“هدفي الخروج بأي شكل من لبنان بسبب شعوري أني أعامل بشكل مختلف عندما يعرف صاحب العمل أني فلسطيني. أشعر بأني أعامل بعنصرية في لبنان وبأني سأعاني من مشكلة تأقلم في فلسطين، ما يجعلني أحلم بالسفر إلى أي مكان آخر يمكن أن يسهل لي وضعي ويعطيني جنسية. لكن من يحصل على إقامة في الخارج تسحب منه أوراقه في لبنان. إني أسعى لتأمين سفري عن طريق سمسار. فهناك بلدان تفتح باب الهجرة، والشاب ينتظر الزواج من فتاة فلسطينية تعيش في الخارج كي يستطع أن يهاجر.

لكن هناك تشديد في مصلحة شؤون اللاجئين على إعطاء الهوية منذ فترة زمنية قصيرة بسبب استعمال الهوية الفلسطينية من قبل لبنانيين للخروج من لبنان والحصول على أوراق لجوء. الشاب الفلسطيني يعاني معاناة إضافية بالنسبة للبناني من جيله. أفقه الأكل والشرب والنوم لا أكثر بانتظار إيجاد حل أفضل لوضعه على غرار 80• من الشباب الذين هاجروا مقابل 18• قدموا طلب فيزا ولم يوفقوا و2• راضين بالوضع”.

نبيل، شاب ولد في بيروت من أم لبنانية، أما جده فأتى إلى لبنان قبل سنة 48. ذهب إلى المدرسة حتى صف البريفيه ثم درس كوافور وعمل دورة كمبيوتر في النجدة الاجتماعية. يقول إنه وصل لمرحلة اليأس التام ويريد أن يهاجر بأي ثمن كان حيث لا مستقبل له في لبنان. بينما في الخارج يحصل على العلم والطبابة المجانية وعلى بيت وجنسية أو أوراق تسمح له بالعودة فيما بعد إلى أي مكان يريد.

إلى هذا يضيف فرحان:

“أنا وجودي هنا في لبنان لا يفيدني ولا يفيد أهلي. خاصة وأن من هم بالخارج يتابعون القضية أكثر منا هنا. الضغوط السياسية والاجتماعية تبعّدنا عن هذا البلد. عندما يعرفني الناس فلسطيني يتغير سلوكهم معي وأصبح كالمنبوذ. أنا فلسطيني وبدون واسطة فكيف يمكنني أن آمل بإيجاد عمل؟ حتى الذين تعلموا لا يجدون عملا. فإذا تعلمت مهنة يمكنني أن أعيل أهلي. أنا أعمل في المخيم حلاقة. علاقاتي مع فلسطينيين. السوريون يشتغلون كيفما يريدون وحتى دون الحاجة لإجازة عمل. خلال الحرب كان الوضع أفضل، كان لنا سلطة ولم نكن محتقرين. أهلي مولودين هنا وأنا أعتبر أجنبي. فكيف يمكن ذلك؟

أنا أعتبر أن الغالبية العظمى من الشباب يفكرون مثلي، أي السفر وتدبير أمورهم. العمر يمر وأنا لا أستفيد شيئا من عيشتي بهذا الشكل. أنا أسعى لما هو أفضل أينما كان. هذا لا يعني أني سأنسى قضيتي، فقضيتي أدافع عنها أينما كنت إذا كنت مقتنعا بها. علي أن أمكّن وضعي كي أدافع عن قضيتي، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. هم فرضوا علينا أن لا نكون ونحن علينا أن نفرض أنفسنا كما نريد وبالشكل الذي يناسبنا. ثم أن فلسطين ليست غزة، هي كل التراب الفلسطيني. أنا أتمنى أن أكون في فلسطين اليوم وأرمي الحجارة على الإسرائيلي لأخرجه من أرضي. ولا بد أن نصل لمبتغانا يوما. لكن السياسة هي التي تضيّع علينا بلدنا. أنا أخدم قضيتي أينما كنت. ليس الشرط أن أكون في لبنان كي أخدم قضيتي أكثر.

ذهب فلسطيني البارحة إلى المخفر كي يبلغ عن سرقة محفظته، أبقي بالمخفر للتحقيق ولم يخرج قبل أن يعملوا له “فيشة”. أية مشكلة تجعل الشرطة توجه أصابع الاتهام إلينا. خلال الحرب كان لنا وجود، لكن اليوم نحن أقل من الناس ومحتقرين من كل الناس”.

حصلت مناقشة حادة مع شاب آخر أكبر سنا من المجموعة حيث عارضهم على مشروع السفر للخارج قائلاً أن الخارج لا يؤمن لهم وضعا أفضل من لبنان. فهو الذي درس الطب في بلد أجنبي لا يشتغل به وإنما بالمقاولات. “السوري يقبل بما لا يقبل به الفلسطيني عندما تعرض عليه تسعيرة. لدينا 260 ألف فلسطيني مهاجر يدرّون أموالا على لبنان بإعالة أهلهم. تهجيرنا للخارج هو لتصفية القضية الفلسطينية وهو مشروع صهيوني. الأساس هو الإرادة. والمشروع يمكن أن يبدأ صغيرا ويكبر. رأسمالي أنا بنيته والبداية لم تكن سهلة”.

رفض التهميش والعمل على الواقع:

بدا لنا أن حلم الشباب للخلاص من هذا الواقع هو الهجرة، بينما من تغرّب وعاش تجربتها لا يجد فيها الحل المرجو. كان لقاؤنا بشباب آخرين في مركز أجيال ما عدّل بعض الشيء من الصورة التي تركها لدينا ما يمكن تسميتهم “بفئة اليائسين”. لقد حاولت “فئة الناشطين” أن تصلح الانطباع عن أن الشباب الفلسطيني في لبنان يسعى بكل الوسائل لتأمين مستقبله في بلد أجنبي بانتظار إمكانية العودة يوما لأرض فلسطين. أجابوا إن “هذا النموذج موجود ولكن لا يشكل الأغلبية ولبنان بلدنا. فعلى نوره فتحنا أعيننا وفيه تربينا وترعرعنا ومستقبلنا يجب أن يكون فيه بانتظار العودة إلى فلسطين. فحتى ذلك الوقت يجب أن نعمل للحصول على حقنا المشروع بالعودة إلى الوطن وأن نشتري فيه أرضا حتى ولو لم يبق من أرض في فلسطين. ففلسطين هي عنوان وجود الفلسطيني. والذي يقوم بإغناء الذاكرة هو المرأة المسنة والأم التي تحولت لخزان ذكريات والتي معها نجد لذة كبيرة بالحديث عن وطننا”.

أضاف سليم: “الطفل الفلسطيني، الذي لم يعش طفولته، كبر باكرا وعندما أصبح كبيرا حاول أن يعيش تعويضا لهذه الطفولة من خلال حبه للطفل الذي يسعى أن يؤمن له كل ما يستطيع كي لا يعيش كما عاش هو. يجب أن يقال عن الفلسطيني أنه شخص قادر على العطاء ومبدع وغير مهمّش. والسؤال هو: ما هي الآثار التي ستترتب عن هذا الوضع المزري وعن المطالبة بتنازلات بعد تنازلات؟ فحالة الضغط هذه لا بد أن توّلد انفجارا.

إن الفلسطيني في لبنان يشعر بالاستغلال المباشر له، بمعنى أنه يمكن أن يكون صفقة رابحة في ظل التسوية. فكم ستقبض الدولة عليه لتوطينه؟ إن نقل الفلسطيني إلى أي مكان آخر في العالم لن يغير شيئا بالنسبة له طالما أنه بقي لاجئا. أما الدول الأوروبية التي تنادي بحقوق الإنسان تريد أن تقطعنا من جذورنا، فكيف يمكن أن نثق بها؟”.

عقّب على ذلك إيمان بالقول: “هناك ضرورة لمرجعية فلسطينية متوازنة ومقبولة. لكن هناك عقلية أمنية وليست سياسية تقود العمل في لبنان. فالفساد في دولنا جزء من السلطة وهو بنيوي. المهم أن أختار مستقبلي لا أن يفرضه أحد علي. لا أريد أن أعيش كغريب في أي مكان. إن الطريق إلى الوطن أجمل من الوطن بواقع القمع والتخلف والقهر. وهو لن يبقى أسطورة مع حصولنا على حقنا بالعودة”.

معاناتهن اليومية:

تقول، إنعام، صبية متزوجة عمرها 26 سنة:

“عندي ولدان وأربي معهم ثلاثة أولاد لسلفي الذي توفي بحادث عمل (وطبعا لم تحصل عائلته على أي تعويض لأنه غير مضمون) حيث تزوجت أمهم التي يزورونها من وقت لآخر. (في فترة ما بين 1970و 82 أقامت منظمة التحرير مدرسة في سوق الغرب لأبناء الشهداء لكن بعد خروج م ت ف انتقلت هذه المدرسة إلى دمشق وأصبح من الصعب جدا إلحاق الأطفال بها فكل عائلة أصبحت تدبر أمورها بنفسها. بينما هناك شروط عند مؤسسة الأيتام الإسلامية التابعة للمقاصد حيث لا تأخذ من يفوق عمره عن السبع سنوات كما أنها تعطي أولوية للبنانيين). وما من يوم إلا وطفل مريض. عندنا دكان في البيت أبيع فيه، لكنه الآن مقفل حيث ما من حركة شراء وبيع. الأولاد يذهبون من السابعة صباحا حتى الواحدة بعد الظهر للمدرسة وأنا أستفيد من هذا الوقت لأعمل دورة كمبيوتر في النجدة، فربما أجد عملا بعد ذلك. أنا وصلت للبكالوريا وتعلمت إنكليزي وطباعة ولكني الآن في البيت بسبب الأولاد. كانت المواد الأساسية من سكر وطحين ورز وغيره توزع من وكالة الغوث وكانت مدارسها تهتم أكثر بالتلاميذ حيث يشرب الطفل الحليب ويحصل على وجبة طعام وكانت تحول للعيادات بشكل أفضل. كل هذا لم يعد موجودا، فمنذ 1982 تغير الوضع والمساعدة أصبحت بسيطة.

أنا خرجت بعد المجزرة إلى بعلبك ثم بعد سنوات ذهبت لصيدا وبعدها عدت لشاتيلا. تعيش المرأة ظروف تحد وتتحمل فوق طاقتها وهي التي تؤمن التموين للبيت وتتعرض للمضايقات. أنا أطمح لتكوين نفسي ولتعليم أبنائي. إني أقرأ لهم قصصا عن فلسطين. أمي لبنانية لم تكن تخبرني عن فلسطين وإنما جدتي هي التي فعلت ذلك... قبل أربع سنوات لم يكن هناك من ثانوية، (كان لمنظمة التحرير أرض في بئر حسن أعطتها للأونروا التي بنت عليها مدرستين واحدة للبنات وأخرى ثانوية مختلطة لكل فلسطينيي بيروت) فالطالب يصل للبريفيه ثم يكمل على حسابه. أنا كنت أدرّس بعد الظهر وأدرس قبل الظهر وأدفع لمدرسة خاصة، مما خفف عبئا عن أهلي. كنا 42 تلميذا في الصف. اليوم هم 52 في صف ابن سلفي. هذه هي السنة الثانية التي تطبق فيها المناهج الرسمية اللبنانية في مدارس الأونروا، وهناك مشاكل في تطبيق هذه المناهج. لم يخضع المدرّس لدورة كي يتعلم كيف يطبق المنهج الجديد ولم يزود بكتاب دليل المعلم في كل المواد. ثم إنه تعود على التلقين، فليس من السهولة أن يواكب المنهج الجديد ويغير الأسلوب في التعليم. في فترة الصيف هناك أطفال يشتغلون في السوق السوداء لمساعدة عائلاتهم”.

غربة عن البلد المضيف وتوق للبلد الأصل:

“أنا أبقى في لبنان أو أذهب إلى أي مكان، تتابع إنعام، حسب إمكانية تحسين وضعي وتأمين مستقبل أولادي. أنا أنتمي لهذا المخيم ولكن ليس لهذا البلد. أمي لبنانية لكنها لم تؤثر علي رغم محاولاتها، فبقينا مرتبطين بفلسطين. حلمي أن أرجع ليافا وقد قرأت عنها. وإن لم أعد، فأولادي سيرجعون ويحققون الحلم.

نحن نحاول أن نصبر رغم أن ما نعيشه غير محمول. لكن نعيش على أمل العودة، وهذا ما يجعلنا نصبر. نحن لا نندمج في هذا المجتمع لأننا نفكر بالعودة ولأننا نأمل بذلك. حتى الأولاد الصغار يقولون نفس الشئ، وكذلك الذين ذهبوا للخارج. ما من بيت إلا وعمّر عدة مرات، فإلى أين نذهب؟ الأرض ليست جغرافيا، هي أكثر من ذلك. ممكن أنه بعد أن نترك لبنان نشعر بالحنين ونعود إليه. بلدنا هناك، لكن هنا ليس لنا.

ربما إذا ذهبنا لفلسطين سيغير ذلك من نظرة اللبنانيين لنا، فلا يعودون يشعرون بأننا خطر عليهم. هناك بقية الأجانب في لبنان وما من أحد يخاف منهم، بينما نحن تقوم القيامة علينا إذا فعلنا أي شيء. ولهذا حلمنا أن نعود ولو أن لبنان قدم لنا كثيرا ولا ننسى شعبه وتعاطفه معنا. فهو أم بديلة ونحن نحب الأرض والشعب. لكن نحن نعيش تحت ضغط، ونحن ورقة يستعملها الجميع ولا نشارك بالقرار. إتفاق الحكم الذاتي رفضناه حيث وضعنا تراجع وحتى من بالداخل لم يقدموا لهم ما يجب. فالذين أتوا من هناك يعتبرون أن لهم جلادين بدل الجلاد رغم أن وضعهم أفضل من وضعنا في المخيمات هنا. هم يجدون أننا نعيش هنا حياة غير لائقة”.

شهادة لإمرأة عجوز استضافتنا في بيتها في شاتيلا تقول:

“كان عمري 25 سنة عندما تركت بلدي وأتيت مع ولدين. نزلنا في شحيم ثم انتقلنا إلى مخيم شاتيلا بهدف إيجاد عمل في بيروت. عندما وصلنا منذ نصف قرن كانت كل هذه المنطقة التي نسكن فيها الآن أشجار صبار. بالبداية كان هناك حوالي 50 شادراً، وكنا نعيش في الخيام. في الشتاء مع المطر والبرد كنا نعمر حول الشادر كي نستطيع الاستمرار. نحن عمّرنا عندما دمرت البيوت بالحرب وقدمت لنا الوكالة مواداً للإعمار. لقد ذهبت إلى بلدي في قضاء عكا أول مرة لمدة شهر. أخذنا تصريح لنزورهم ووجدت أنهم مبسوطين ببلدهم، ببيوتهم، برزقهم. نحن الذين تغلّبنا بالبهدلة والعذاب والحر والإهانة.

ماذا يشدني للبنان؟ لا شيء. أنا لا أحب الهجرة، لقد تعذبنا كثيرا وكنا نعيش على الأرض. لكن أنا أفضّل أن أبقى هنا على أن أذهب لبلد آخر. أفضّل أن أعود لفلسطين، وإلا أموت هنا. آمل أن نخرج بحل مشرّف وأن أعود لبلدي. وإذا لم استطع أن أرى بلدي، على الأقل أن أبقى هنا وأعيش وأولادي بشرفنا ومن عملنا. فليعطونا الحق بالعمل في هذا البلد الذي “حطينا فيه دم قلبنا”، ولا يهجّرونا لبلد آخر من جديد. أولادي لا يعرفون البلد (فلسطين)، لكن علاقتهم به رغم ذلك قوية. فهم أحيوا التراث الشعبي الفلسطيني ويريدون أن يعودوا للبلد. حنين تلك الأيام ينقلها الأهل للأولاد. أهل كل بلد تجمعوا في البداية مع بعضهم وحافظوا على تقاليدهم وعاداتهم. أنا ليس لدي معارف لبنانية رغم أن مخيم شاتيلا مفتوح أكثر من غيره. فالذين تهجروا كانوا لبنانيين وفلسطينيين وتداخلوا بين بعضهم، وحصل تزاوج بينهم. بينما مخيم البارد المعزول عن طرابلس بقي محافظا على التقاليد وعلى تراثه”.

الوضع مشابه عند الشابات اللواتي التقيناهن في مركز النجدة في شاتيلا واللواتي لفتن نظري بكثرة المحجبات بينهن. حول الحجاب توضح وفاء:

“الحجاب ظاهرة بدأت تكبر بشدة منذ 10 سنوات. أسبابها سياسية ـ اجتماعية. بعد هزيمة منظمة التحرير في 82 ومع التراجع الذي حصل، احتلت المكان تيارات إسلامية أثرت على العقليات بما فيها ظاهرة الحجاب وعمل المرأة وغيره. هناك تيارات كانت أيضا تشترط الحجاب لمساعدة الأهل، حتى أن الفتاة الواعية لا يمكنها مقاومة الحجاب. فالحجاب هو أيضا من تعابير الإحباط. لكن المشكلة أن الحجاب يمنع من قبولهن بعمل أحيانا. ولهذا هناك منهن من يفكر بالسفر إن توفر ذلك”.

أما حول الاختلاط مع المجتمع اللبناني فتقول سناء:

“نحن كشابات لا نشعر أن هناك اختلاطا بالمجتمع اللبناني. ربما كان ذلك قبل الحرب لكن ليس الآن. كان الاختلاط عائليا، لكن بعد 1976 ابتعدنا عن العائلات المسيحية. وبعد حرب المخيمات ابتعدنا عن السنّة أصحابنا بسبب الظروف. كانت في البداية السمة سياسية أكثر منها طائفية، لكن في 1985 أخذت طابع العنصرية. نحنا كفلسطينيين ليس عندنا تعصب ديني. كان عندنا علاقات مع عائلات مسيحية. منهم أصبحوا بالكتائب فيما بعد. بعد انتهاء الحرب حصل اتصال من جديد، لكن ما حدث فرّق بين الناس. منهم من يتعاطوا معنا بترفع ومنهم من يأخذوا موقفاً من الفلسطيني دون أن يعرفوه. منهم من يستغربوا لباسي إذا كان مرتبا لأن عندهم فكرة أن الفلسطيني مختلف عنهم. هذا يختلف بحسب نظرتنا لنفسنا أيضا، وهل نحن فاعلين أم نتلقى كضحية. أنا خرجت بعد الاجتياح ودرست في الخارج ثم عدت وتزوجت من فلسطيني رغم أن كثيراً ممن نعرفهم تزوجوا بلبنانيين، ومنهم ما زالوا محتفظين بجنسيتهم الفلسطينية.

على أيام فلسطين، قبل 48، كان هناك زيجات بين الفلسطينيين واللبنانيين الموجودين في فلسطين على الحدود. كانوا يعتبرون أنه لا فرق بينهم حيث للطرفين نفس العادات والتقاليد والحياة. ولما خرجوا من فلسطين التجأوا للبنانيين الذين بقسم منهم استقبلوهم بشكل لا بأس به. لكن فيما بعد، السياسة هي التي فرّقت، بينما الشعب كان متصالحا مع نفسه حيث العائلات اللبنانية والفلسطينية تتقاسم نفس المشاكل والهموم. ما الذي يفرّق بين المهجّر من الجنوب والمهجّر الفلسطيني؟

في الحالتين المعاناة نفسها بسبب الإسرائيليين الذين احتلوا دياره وطردوه من أرضه، حيث يجد نفس المشاكل من البحث عن مكان يأوي إليه وعمل يكسب منه قوت عائلته ومدرسة يعلم فيها أولاده. بماذا يؤثر الفلسطيني على اللبناني وهو الذي عندما يعمل يصرف نقوده في لبنان بينما العامل الأجنبي الآخر يرسل قسما منها لبلده؟ الفلسطيني الذي يعمل في الخارج وله أهل في لبنان يرسل لهذا البلد بمدخراته بما فيه لشراء عقارات وتعمير مساكن وتنشيط السوق. بينما العامل السوري أو السريلنكي أو غيره يرسل بمدخراته إلى أهله ويسعى لتحسين وضعه الاقتصادي في بلده. فالفلسطيني يشعر أنه ساهم بتعمير لبنان.

أختي تزوجت من لبناني. عائلته تتعامل معنا بدون أية إشكالية لأنهم تعرفوا علينا وليس عندهم من خلفيات تتحكم بصورتهم عن الفلسطيني. قبل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت كانت مسألة الحصول على تصاريح لزيارة فلسطين أكثر سهولة، وذلك بناء على طلب من العائلة هناك. حتى الاتصالات الهاتفية هي اليوم شبه معدومة، وليس من حرية حركة وتسهيلات لاستمرار التواصل.

نريد أن نحصل على حقوقنا الإنسانية. الكل طموحهم أن يعودوا إلى فلسطين. عندما تقام الدولة الفلسطينية وأصبح كفرد معترف بي أبحث وقتها عما يناسبني من حيث البقاء أو العودة. أنا أختار حياتي ولا تفرض علي. ولكن من يطالب بذلك؟ الكل يستخدم ورقة اللاجئين. نحن أصحاب قضية لنا حقوقنا والكل له مصلحة بإيجاد حل لنا. يقال بوجود أسلحة في المخيمات. ما من شيء يدخل للمخيم ولا أحد يعرف به. هناك مخابرات لكل الأطراف. ولكن هناك استخدام لبعض المسائل للتأثير على صورتنا في خدمة مصالح ضيقة”.

تضيف من ناحيتها هيفاء:

“بعد حرب الخليج والعودة القسرية للكثيرين إلى المخيمات زادت الحركة الاقتصادية بشكل جيد، لكن كان ذلك مؤقتا حيث أن الوضع تراجع منذ فترة. في السنوات الأخيرة، ومنذ أن نزّلت الدولة باصات وميكروباصات بعدد أكبر من حاجة البلد توقف عمل جزء من الفلسطينيين الذين كانوا سائقي تاكسي. فالمشكلة الاقتصادية العامة في البلد إضافة لوضع المخيمات لا تساهم باستيعاب الكفاءات. هناك حالة إحباط شديدة خاصة أنه في عمر العطاء يقبع الشباب في حالة بطالة. والمرأة من ناحيتها تصطدم بهذا الواقع، غير أنها تحاول أكثر منه في البلدان الأخرى أن تعمل وتتعلم مهنة. لكن يبقى أن السوق لا يستوعبها وإن قبلها أحيانا فهو يستغلها كثيرا.

الفلسطيني في لبنان لا يعطى إمكانية الصمود بالحصول على حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كل السيناريوهات المطروحة نتيجتها سلبية. فإذا لم يكن هناك من اتفاق حد أدنى، أي حل سيكون سلبيا. لا يوجد تنسيق مع الفلسطينيين في لبنان، وهذا يعطي فرصة إضافية لإسرائيل للخروج منتصرة من المفاوضات”.

الوضع الأمني والوجود المسلح للفصائل الفلسطينية في المخيمات:

ترى المنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان “أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يعيشون وضعا خاصا. فقد خضع وجودهم لقوانين الأجانب غير المقيمين. برز ذلك على شكل قرارات من وزارة الداخلية والمديرية العامة للأمن العام. وفي أوائل الستينات تم تنظيم العلاقة عبر مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين التابعة لوزارة الداخلية التي تعاملت مع هذا الوجود باعتباره مسألة أمنية أساسا. تركزت مهامها في إصدار بطاقات الهوية والأوراق الثبوتية ووثائق السفر وتحديد أماكن السكن. لكن لم تشمل هذه المهام تنظيم الشروط القانونية أو الاجتماعية ولا القضايا المتعلقة بعملهم أو صحتهم أو تعليمهم”.

حول الوضع الأمني للفلسطينيين يقول صلاح صلاح:

“هناك حالة أمنية تضع قيودا لضبط حركة الفلسطينيين:كان هناك قانون أحكام عرفية في 1959وطبق على الفلسطينيين حتى 1969. ترجم القانون بإجراءات مثل أن يحكم كل مخيم بمركز للمخابرات (الشعبة الثانية) وأن يمنع الانتقال من مخيم إلى آخر بدون إذن مسؤول الشعبة الثانية وموافقة خطية منه. وفي حال التأخر عن الوقت يمكن أن تتم إحالة المعني إلى مركز للتحقيق كما يمكن أن يصدر عليه حكم بالسجن. كذلك كان يمنع السهر في المخيمات لأكثر من العاشرة ليلا، وعقاب ذلك الاعتقال بشكل كيفي، أي دون قرار محكمة. يمكن إضافة منع السير معا لأكثر من ثلاثة أشخاص أو قراءة جريدة وغيره من إجراءات أخرى كانت تمارس دون أن تكون مكتوبة. ألغيت هذه الإجراءات في 1969 بسبب الانتفاضة الفلسطينية ـ اللبنانية التي حصلت في 29 نيسان وسميت “انتفاضة التحرير”. ذهب ضحيتها قتلى وجرحى عندما تم اقتحام مراكز المخابرات في المخيمات وطرد من فيها.

بما يخص السلاح، يضيف صلاح صلاح، انعكس اتفاق الطائف إيجابيا على أوضاع الفلسطينيين حيث لأول مرة تأخذ الدولة اللبنانية قرارا بالتعاطي مع الوجود العسكري. تشكلت لجنة أولى برئاسة الوزير محسن دلّول ومعه مدير عام أمن الدولة اللواء نبيل فرحات وبدأت الحوار مع الفلسطينيين لحل الإشكالية. فتم الاتفاق على تجميع السلاح المتوسط والثقيل من الفلسطينيين، الذين قدموا سلاحهم هدية للجيش اللبناني. كذلك انكفأ المقاتلون الموجودون في قواعد خارج المخيمات إلى داخلها، على أن يبقى الأمن الداخلي أمناً فلسطينياً. فالجزر الأمنية التي يتحدثون عنها لم يقررها الفلسطيني وإنما أعطي صلاحيات لذلك. أما اليوم فالمخيمات في الجنوب مطوقة بالجيش، في شاتيلا وبرج البراجنة بالسوريين. لكنهم لا يتدخلون ظاهريا وإنما عبر مخابراتهم الموجودين داخل المخيمات عبر التنظيمات”.

بما يخص الوجود التنظيمي في المخيمات يقول سهيل الناطور:

“وجود التنظيمات العلني مرتبط بموازين القوى فيما بينها وبتفاعلاتها الإقليمية. مثلا: حيث توجد قوى أمنية سورية قرب مخيمات بيروت والشمال والبقاع لا يوجد أي مكتب أو تنظيم علني لحركة فتح تابع لياسر عرفات. في حين أنه في مخيمات الجنوب حيث لا وجود لجيش سوري، هناك بشكل رئيسي قوى تابعة لمنظمة التحرير، بالذات فتح عرفات. بالمقابل، لا يوجد للمنشقين عن فتح مكاتب علنية. لذلك فالقوى التي لها وجود في صفوف شعبنا وبداخل منظمة التحرير الفلسطينية كالجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية موجودة في كل المخيمات لأنها ليست على خلاف أمني وعسكري مع السوريين واللبنانيين. وفي الوقت ذاته هي جزء من منظمة التحرير وهي موجودة في مخيمات الجنوب ومخيمات الشمال. كل مخيم تقريبا يوجد فيه عدد من المنظمات تتعايش فيما بينها ولا يوجد أي مخيم مجير لهذا التنظيم أو ذاك على حساب الآخرين. بالتأكيد هناك مخيمات يوجد فيها تنظيم أقوى من غيره. مثلا في الرشيدية توجد فتح ـ عرفات قوية وتوجد الجبهة الديمقراطية أيضا أقل من قوة فتح ـ عرفات. في مخيمات الشمال توجد القوى الفلسطينية الأقرب للخط السوري بكثافة. مع ذلك لا نفوذ جماهيري لها لأن هذه التنظيمات لا تعمل بتنظيم الجماهير في تجمعات الشباب والمرأة والعمال وغيرهم، بل هي ذات طابع مليشيوي ومراكز سياسية بشكل رئيسي. فالتعايش في المخيمات ظاهرة كانت قائمة تاريخيا سواء أيام هيمنة منظمة التحرير أو بعدها.

هناك خلافات بالطبع في الرؤى السياسية بين كل هذه الفصائل، هناك تمايزات تقوم على أساس المصالح والبنى الطبقية. لكن هناك أرضية مشتركة للجميع، حيث أن هذه المنظمات تعمل فقط علنا في إطار المخيمات وليس خارجها. كما أن عليها أن تتعايش فيما بينها لأن لبنان قد أوقف حربه باتفاق الطائف ونشر الجيش والأمن وإعاد بناء الاقتصاد”.

أما عن الوجود المسلح يضيف الناطور: “عندما تمددت وحدات من الجيش اللبناني لتفرض سيطرتها وتمارس سيادة الدولة عملياً بناء لاتفاق الطائف بين اللبنانيين، كان هناك مأزق التعامل مع المخيمات وسلاح الفلسطينيين. وقد وصل الطرفان اللبناني والفلسطيني عبر الحوار، في لجنة شكلتها الحكومة اللبنانية من وزيرين، إلى مبدأ التبادل: يقدم الفلسطينيون سلاحهم الثقيل والمتوسط إلى الجيش اللبناني كجزء من نزع سلاح كل القوى على الأرض اللبنانية، مقابل ذلك تبادر الدولة اللبنانية بإبداء حسن النية بإعلان منح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الحقوق المدنية. عملياً، تم الجزء الأول من الاتفاق ولم تنفذ الدولة اللبنانية وعدها.

من جهة أخرى، هناك ظاهرة تاريخية كأمر واقع في لبنان هي اقتناء السلاح الفردي. فاللبنانيون يحتفظون في منازلهم بسلاح فردي منذ أيام العثمانيين، وقد بقي لدى الأفراد بعد جمع السلاح، اتقاء لمنع أية محاولات تصفية حسابات ثأرية في بداية اتفاق الطائف. ذلك، تمكينا لتركيز جهود القوى الأمنية اللبنانية على الانتشار في كل أنحاء البلاد، إذ أن عددها لم يكن كافياً فيما لو أرادوا توزيعها لحراسة أفراد مهددين. فاكتفي بالتوافق على إخفاء المظاهر المسلحة، لكن إذا أحتاج أي شخص لحمل سلاحه، عليه الحصول على ترخيص من وزارة الدفاع. وهذا ما جرى التعامل فيه مع الفلسطينيين أيضا وما زال مطبقا حتى اليوم.

لكن استخدام الإعلام والتصريحات لسياسيين لمسألة وجود السلاح بأيدي الفلسطينيين يهدف إما إلى التشهير بهم، بأنهم يظهرون أمام الرأي العام اللبناني مدججون بالأسلحة وقد يستخدمونها لمآرب خاصة. وتنعت المخيمات بأنها جزر خارج الشرعية اللبنانية، تأوي الفارين من العدالة والمجرمين الخ. من ناحية أخرى، يشار إلى أن بقاء اللاجئين وعدم إيجاد حل لمشكلتهم يضمن حقهم بالعودة إلى وطنهم وأملاكهم، قد يحفزهم إلى القيام بعمليات عسكرية تؤثر على أمن الحدود وتعيد دوامة العنف باستخدام إسرائيل لها كمبرر لاعتداءات انتقامية. أي أن طرح مسألة السلاح تقدم بوجه سلبي داخلياً وبوجه إيجابي وطنياً. وفي كلتا الحالتين تظهر تميز وضع هؤلاء اللاجئين بأنهم مسلحين، باختلاف عن غيرهم من تجمعات اللاجئين اخوتهم في سوريا والأردن.

مع بدء المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية للحل النهائي، برز مجدداً الحديث عن السلاح الفلسطيني في حملة تعبئة كبيرة في وسائط الإعلام لم تخرج عن الخطين السابقين. فقد قامت حركة الجهاد الإسلامي بعملية عسكرية في الجنوب اللبناني ضد موقع لقوات الاحتلال الإسرائيلي. من جهة، هللت له بعض الأوساط مشيرة إلى أنه جاء دور السلاح الفلسطيني في مقارعة الاحتلال، مع قرار إسرائيل الانسحاب من الجنوب اللبناني وتطبيقه عملياً. لكن أصوات أخرى نادت فوراً بسحب هذا السلاح حتى لا يكون سبباً تستغله إسرائيل ضد الأمن المنشود للجنوب بعد مغادرة الاحتلال مدحوراً.

في هذا الخضم جاءت رسالة رئيس الجمهورية اللواء اميل لحود إلى أمين عام الأمم المتحدة يطلب منه استفسارياً ما إذا كانت قوات الأمم المتحدة المزمع تعزيزها بعد الانسحاب الإسرائيلي ستكون قادرة على نزع سلاح المخيمات. مما اعتبر مؤشراً يستهدف التركيز على مصير المخيمات واللاجئين وسلاحهم بعد الانتهاء من الاحتلال المعادي.

إن استخدام مسألة السلاح الفلسطيني هو استخدام سياسي واضح، إن صعوداً أو هبوطاً لمصلحة من يقود السياسة في لبنان وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. علماً أن العدو الإسرائيلي لم يتلق ضربات عسكرية فلسطينية في الجنوب اللبناني منذ فترة طويلة جداً. وذلك لعدم تناسب ظروف العمل العسكري فلسطينياً (أي استمرار المفاوضات بعد اتفاق أوسلو) أو لبنانياً (احتكار حزب الله بشكل أساسي للعمل العسكري ورفضه التنسيق الفعال مع الفلسطينيين).

إذا كانت بعض التنظيمات الفلسطينية، كالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، قد كررت دعوتها السلطة اللبنانية لنشر قواتها وممارسة سلطتها في المخيمات كاملة، فإن استجابة الأخيرة كانت سلبية. رغم أن وحدات الجيش قد انتشرت حول مخيمات الجنوب وأغلقت مداخله تاركة ممراً واحداً للدخول والخروج بإشرافها وتدقيقها، فإنها لا تمارس أي دور آخر في مساعدة اللاجئين على تنظيم أمنهم ورفع الغبن الاجتماعي الذي حوّل المخيمات إلى جزر مهمّشة معزولة عن إطارها السكاني اللبناني، لتصبح أشبه ب(غيتو) غامض برؤية سلبية عموماً من الجمهور اللبناني. مما يسهّل بين فترة وأخرى إرفاق حملات الإعلان عن رفض التوطين بتفسيرها رفض بقاء الفلسطينيين على الأرض اللبنانية. وهذا يعني المزيد من التهجير والتشتيت في أصقاع الأرض، لأنه مترافق بإصرار عنيد لدى إسرائيل على رفض تطبيق حق عودة اللاجئين. وهذا ما يتجلى حتى اليوم بالتعاطي اللبناني الرسمي مع الوجود الفلسطيني وسلاحه بعد أن تم الانسحاب الإسرائيلي. هناك إغلاق المخيمات ومنع إدخال مواد الإعمار لها، وهناك سماح بزيارة الحدود واللقاء عبر الأسلاك الشائكة مع الأهل للدلالة والتأكيد على التمسك بحق العودة.

إذا كان الفلسطينيون راضون كل الرضى عن حرية التحرك المذكورة إلى الحدود والتغطية الإعلامية، خاصة المتلفزة، التي أظهرت الأبعاد الإنسانية الأليمة للجوء خلال أكثر من نصف قرن، فإنهم يعبرون عن ضيقهم بالمطالبة الدائمة بفك الإغلاق عن المخيمات والسماح بإدخال مواد الاعمار ومنح الحقوق المدنية. فمعاملتهم بإنسانية بات مطلباً أمام صيغة التعامل الإستخدامية، بما تحمله من متناقضات وتضاربات”.

حول موضوع حصار المخيمات، اعتبرت المنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان في تقرير لها “أن سد مداخل المخيمات في الرشيدية والبص والبرج الشمالي في جنوب لبنان من خلال زرع الجيش اللبناني نقاط تفتيش على مداخلها جعلت هذه المخيمات شبيهة بالسجن الكبير”. وقد أشارت إلى “حالة الإرهاب النفسي التي يعيشها الفلسطيني نتيجة خضوعه للتفتيش أثناء دخوله المخيم أو خروجه منه والتي جعلته يعيش حالة انكماش نفسي. مما يؤسس لإنتاج حالة عدائية مع محيطه وتعميق هذا العداء حيال السلطة اللبنانية ويدفع إما إلى الاعتكاف قسرا داخل المخيم وعدم الخروج لتلافي هذه الإجراءات وإما الخروج منه تحت ضغط الضرورة ومحاولة تنفيس هذا الكبت الاجتماعي والنفسي عند أول فرصة تسنح له”. ويتساءل التقرير عن أسباب اتخاذ هذا الإجراء الزجري حيال المخيمات، مشيرا إلى أنه لا وجود لنص أو طلب معلن من قبل السلطات اللبنانية سواء القضائية أو العسكرية أو السياسية أو الإدارية للقيام به. كما أنه لم يبلّغ الشعب المتخذ بحقه هذا الإجراء. وقد قدم التقرير وصفا لمحيط مخيمات الجنوب “في ظل حواجز الجيش والمخالفات التي تضبط بسبب محاولات إدخال مواد البناء أو مصباح كهربائي أو بلاطة شاهد لقبر”، لافتا إلى أن “مذكرة الجلب التي تصدر في حق المخالفين للمثول أمام القاضي المنفرد الجزائي لا تستند إلى أي نص قانوني أو مخالفة قانونية يلحظها قانون العقوبات اللبناني” ( أنظر ملحق رقم 1).

الموقف من السلطة الفلسطينية واتفاقيات أوسلو:

يرى شفيق الحوت بما يخص هذا الموضوع:

“إن الشعب الفلسطيني انقسم بعد أوسلو على نفسه رغم المحاولات الآن لمد نوع من الجسور. ما بعد مدريد، دخل الفلسطينيون والعرب جميعهم في منعطف مختلف عن المسيرة كما بدأت بعد 48، وهي اللجوء للخيار السياسي في إيجاد الحلول. أي الدخول في مساومات وتوقيع اتفاقيات السلام التي تعكس لحد كبير موازين القوى على الساحة، كما تعكس قيمة القيادات العربية المختلفة.

برأيي ياسر عرفات لم يخطئ عندما ذهب إلى مدريد، ولكنه أخطأ عندما وقّع على اتفاقية أوسلو. بعد ضرب العراق شعر كل العرب بأنهم لا يستطيعون أن يقولوا لا للولايات المتحدة. لكن كنت أتصور أن نناضل خلال المفاوضات حيث أن النضال ليس فقط بالرشاش والمدفع، وإنما أيضا بالحجة القانونية والمرجعية الدولية. لو لم يوقع عرفات على اتفاقية أوسلو كان من الممكن الحصول على اتفاق أفضل. لا أقول مثالي وعادل لأن العدل يتطلب عودة كل الفلسطينيين إلى فلسطين، حيث حتى سنة 48 كان 96• من الأراضي الفلسطينية ملك للشعب الفلسطيني. وهو الشعب الذي توارث الحق في المواطنية في فلسطين من ألف وخمسمائة سنة مستمرة.

لكن العالم تعرض لانهيارات مختلفة ولغياب الاتحاد السوفياتي مع إحلال نظام أحادي القطبية، ثم انفراط الوحدة العربية بأبسط معانيها. كلها أشياء قادتنا إلى مدريد دون أن تقودنا بالضرورة لتوقيع اتفاقية أوسلو التي ما زلنا نحصد نتائجها إلى اليوم. أوسلو خدعت قسما كبيرا من شعبنا. ربما عرفات تعب أو يأس أو صدق قيادته وقراءتها لاتفاقية أوسلو. لكن هذه الاتفاقية مكتوبة بلغة لا يمكن أن تقرأ وتفهم إلا بالعبرية. الدليل أن الترجمة التي تمت على الأرض هي الترجمة الإسرائيلية للاتفاقية. لقد مر 6 سنوات عليها الآن ولم يحصد منها الشعب الفلسطيني أية نتيجة على الإطلاق. اللهم إلا إذا اعتبرنا انتقال ياسر عرفات من الشتات للداخل هو انتصار.

الوضع العام للقضية الفلسطينية فقد الكثير بعد توقيع الاتفاقية. فقد المقومات التي كانت تدعمه على مستوى قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي واتفاقية جنيف وغيرها من القوانين التي تلحظ العلاقة بين قوى الاحتلال والشعوب المحتلة. أصبحت الأرض قضية يتم التنازع عليها وليست قضية محتل وصاحب هذه الأرض. تأجيل قضية العودة وبقية القضايا المصيرية تركت آثارا على الشتات ربما أكثر على من هم في الداخل. من في الداخل ما زال مقيماً في أرضه وما من يعيب عليه لجوءه إليه. في الشتات كان الشعور أقسى وأكثر مرارة لأن الأمل انطفأ إلى حد كبير.

الشعب الفلسطيني الذي عاش آخر ثلاثين سنة من عمره في الحركة الوطنية يرى كيف انحدرت إلى المستوى الذي هي عليه اليوم. حتى وجوده في الشتات لم يعد من إمكانية استمرار له، لاسيما في الساحة اللبنانية. أصبح شعوره أن حتى هذا البؤس الذي يعيش فيه لن يدوم، فقد يجبر على ترحيله لمكان آخر أو يصبح مواطنا. والمواطنية تعني هنا باحتمالها الأكبر خلافاً فلسطينياً ـ لبنانياً أو لبنانياً ـ لبنانياً. مما قد يعيد المأساة مرة أخرى إلى الساحة اللبنانية، حيث أن هناك موقفاً واضحاً لبنانياً، رسمياً وشعبياً، برفض توطين الفلسطينيين. في نفس الوقت، الفلسطيني لم يعد قادرا أن يعيش في المستقبل كما عاش حتى اليوم في بؤر غير إنسانية وأوضاع غير معقولة، محروما من كل حقوقه الإنسانية بمعزل عن حقوقه الوطنية والسياسية.

السلطة الفلسطينية تشعر بخيانتها وخطأها الكبير لأنها عندما وقعت على إتفاق أوسلو أو ما يسمى بإتفاق المبادئ، لم تفرض نصا على أن قضية اللاجئين الفلسطينيين يجب أن تحل في إطار قوانين الشرعية الدولية. لذلك لم يعد من ثقة بهذه السلطة. وياسر عرفات لا يستطيع أكثر من ذلك. قضية اللاجئين تشترك بمسؤوليتها الدول العربية والأمم المتحدة. أين هي الأمم المتحدة؟ أليس وجود مشردين فلسطينيين هو نتيجة قرار اتخذ سنة 1947 بتقسيم فلسطين وتسبب بحرب نتج عنها تشريد مليون فلسطيني أصبحوا الآن 4 ملايين؟”.

إلى ذلك يضيف الناطور:

“هناك تاريخ من العلاقات العربية ـ العربية التي تتفاوت صعودا وهبوطا بين فترة وأخرى. عرفات اتخذ منحى منفصلا عن العرب الآخرين أو عن بعضهم باتجاه الحل مع إسرائيل. هو يرى أن عليه أن يرتب وضعا تفاوضيا مناسبا لما يراه وفقا لتحليله كمصلحة للفلسطينيين، منطلقا من أن الفلسطينيين قاتلوا كل هذا الزمن دون أن يحصلوا على أرض يقفون عليها. لذلك دخل في صفقة مشبوهة في أوسلو من وراء ظهر حتى الشعب الفلسطيني، ثم أقام سلطة. الخلاف بين فصائل م ت ف، خاصة الشعبية والديمقراطية مع حركة فتح فيما يتعلق باتفاق أوسلو، أنه تنازل عن حقوق أساسية كان يمكن أن نحصل عليها بالمفاوضات وليس بالتنازلات. الأطراف الأخرى أيدت الرأي السوري واللبناني بأن انفصال الفلسطيني في التفاوض أضعف موقع سوريا ولبنان وفك التضامن العربي. لذلك ترفض الاتفاق مضمونا وترفض التنازلات والانفصال في التفاوض”.

يرى عارف، الطالب الذي التقيناه في مركز أجيال:

“نحن نشكو من عدم وجود المرجعية. لو كان لدينا مرجعية كالأرمن لما عشنا هذا الوضع، فلماذا حصل الأرمن على كل شيء ونحن لا؟ أبو عمار لا يمثلنا وهو يستعملنا ورقة لا أكثر. مشكلتنا في لبنان تختلف عن مشاكل الفلسطينيين في غزة. ولهذا علينا أن نبحث عن أشخاص يمثلوننا هنا، كي نقوي وضعنا ثم حينها ندعم قضيتنا”.

تساءل صديقه رامي:

“هل نثق بياسر عرفات المنبطح أمام التسوية والذي يتفاوض من موقع ضعيف رغم أنه يجب أن يبقى رمز العصب الفلسطيني؟ إنه كابوس بالنسبة لي لأنه يفرض علي أن أتحمل أي اتفاق يمضي عليه. فالشعب صنع منه رمز ومن الصعب محو هذه الصورة، فالغريق يتعلق بقشة”.

على هذا علق سميح قائلا:

“لقد كسر ياسر عرفات الحلم الذي كنت عبره أبني شخصيتي. إنه طوطم القبيلة ويمكن أن يتخلى عنه الفلسطيني بوجود طوطم آخر غير موجود بعد. لقد خان القضية ولكن لن أرمي عليه بالسلاح. فهناك ظروف تصنع من يمثلني ولست أنا من أصنعه. فمنذ 1979 ومنطق عرفات الذهاب للمفاوضات. لقد عمل في غزة شركات اقتصادية للدولة الصهيونية مثل الكازينو والمطار. بالقوة يجب مواجهة الصهيوني الذي يستعمل منطق القوة لكي يتنازل عن جزء مما أخذه. وبما أن الخصم لن يرحم وسيطاردنا، فالسلاح هو جزء مما يجب اللجوء له لفرض قوة موازية. بالعنف والكفاح المسلح يمكن أن نعيد المعادلة لصالحنا. فعدم وجود تسوية يجعلنا نطرح كل الاحتمالات. لقد أخرجنا العدو من الجغرافيا ويريد أن يخرجنا من التاريخ. ولا أعتقد أنه من إتفاق نهائي قريب.”

مناشداتهم:

يقول قاسم عينا بألم ظاهر:

“هل قدّر للفلسطيني أن يعيش في هذه المخيمات التي لا تدخلها الشمس ولا يوجد فيها مجارير؟ أين الحضارة التي نتغنى بها. لا يمكن أن يشعر بأوضاع الفلسطيني إلا من يعيش وضعه ويتعرف على المعاملة التي يلقاها.. لنتساءل كم من نائب لبناني لديه جنسية أجنبية بينما نمنع الفلسطيني من السكن في شقة خارج المخيم مفسرين ذلك على أنه يريد أن يبقى في البلد؟ في كل الأحوال غزة والضفة لا يمكن أن تستوعبنا. مع ذلك نحن ضد التوطين ولا نعوّل على ياسر عرفات في المفاوضات. فإن هاجر الشباب والمتعلمون، من سيبقى؟ العجزة؟ فليكن هناك سعة نظر، ولتعطي الدولة اللبنانية بعض الحقوق لهؤلاء البشر.

يجب إعادة النظر في فهم الفلسطينيين ومعاناتهم في لبنان. فمن الخمسة ملايين لاجئ فلسطيني، هم الذين يدفعون الثمن الأغلى. يجب أن نتنبه إلى أن إسرائيل والأمم المتحدة هي المسؤولة عما وصلنا إليه. كنا نفضل أن لا يترك مجال لانتقاد اللبنانيين، فنحن شعب واحد. ليس كل اللبنانيين عنصريين. لكن في لبنان أصبح الفلسطيني قضية أمنية. يجب أن لا ينظر لنا كعامل مخيف ومدمّر. نحن نتحمل نتائج أخطائنا، لكن لماذا علينا أن ندفع أخطاء غيرنا؟ لماذا تسليط الأضواء على الفلسطيني بهذا الشكل وتشويه صورته لهذا الحد حيث لم نعد نرى فيه إلا الجانب السلبي؟”.

يضيف الناطور:

“لا يوجد سماح للفلسطيني بالعلاج في المؤسسات الحكومية اللبنانية. إذا كان ذلك ممكنا فليتم إصدار قانون علني أمام الجميع يقول بأنه يحق للفلسطيني أن يعامل كاللبناني في المسألة العلاجية. يقولون أيضا أنه عندما يكون هناك تطعيم وحالات اوبئة، فالعلاجات مفتوحة للجميع بمن فيه للفلسطينيين. أيضا هذا إدعاء كاذب. فاليونيسيف تقدم التطعيم مجانا للبنان وتأتي بحصة تقدمها للأونروا والهلال الأحمر الفلسطيني. الطعم لا نمنن به لأنه على حساب الأمم المتحدة. نحن نطالب بأن الرعاية الصحية، التي تقدم بالحدود الدنيا للفقراء اللبنانيين، تقدم أيضا للفقراء الفلسطينيين. المشكلة في لبنان تقع على مستوى قدرات لبنان الاقتصادية لتأمين التوفيرات المناسبة لشعبه. هو يؤمن توفير التعليم والصحة ولكن يحرم مطلقا الفلسطيني منها.

ما يطلبه الفلسطيني هو أن يشارك مثله مثل الفقير اللبناني. الادعاءات التي تقول بأن التوفيرات التي تقدمها الدولة اللبنانية لا تكفي الفقراء اللبنانيين غير صحيحة وإلا لكانت حصلت ثورة اجتماعية منذ زمن. الحقيقة أنه لو أردنا أن يتوفر للفلسطيني مثلما يتوفر للفقير اللبناني لما وقع مشكلة. ثم لماذا تفرض ضرائب على الفلسطيني ولا تقدم له خدمات مقابلها؟ نحن ندفع كاللبناني ولكن لا نستفيد مثله من أي شيء. نحن نطالب أن تقدم لنا التوفيرات التي تقدم لأي أجنبي في لبنان، السوري أو المصري أو السريلنكي، بحدودها الدنيا.

إذا كنا نطالب م.ت.ف أن تتحمل مسؤوليتها أمام اللاجئين وليس استخدامهم سياسيا، وأنه عليها أن تعيد صرف موازنات لمؤسساتها الاجتماعية التي توفر الكثير من مجالات العمل، فنحن بالدرجة الأولى نطالب الدولة اللبنانية بمنح الفلسطينيين الحقوق المدنية الكاملة (الحق في: العمل، الضمان الاجتماعي، التعليم، ممارسة المهن الحرة، السفر، الخ). بسبب الخصوصية اللبنانية، نحن لا نطالب بالحصول، على غرار الفلسطينيين في سوريا والأردن، على إمكانية العمل في القطاع العام، وإنما بإعطائنا الحق بالعمل في القطاع الخاص. نطالب بمنع إغلاق مجالات العمل أمام الفلسطينيين.

على لبنان أن يحترم تعهداته الدولية بما يخص شرعة حقوق الإنسان التي شارك بصياغتها ولا يشارك بتطبيقها. لبنان بلد تهجير بطبيعته، وعندما يهاجر اللبناني أو الفلسطيني منه للبحث عن حياة أفضل بإرادته فهذا أمر عادي. لكن أن تتم مخططات تهجير تشتيتية لإلغاء التجمع الوطني الفلسطيني بخصوصيته، فهذا ما لا نقبله. وهذا ما كان يحصل بعمليات إشعال نار، مثل الحرب على المخيمات. ضربة ثانية استعمل فيها القانون لتهجير كمية واسعة من الفلسطينيين وتوطينهم في الخارج كان قرار الفيزا للعودة الذي اتخذته حكومة الحريري في 1995. مما منع عمليا كل فلسطيني في الخارج من العودة. أمام استحالة العودة، قدم الكثيرون من الذين كانوا يعملون في الخارج لطلب الجنسية والإقامة الدائمة في تلك البلدان. ومنهم من طلب تجميع الشمل وأخذ عائلته فيما بعد. الذين خرجوا شطبت قيودهم من السجلات اللبنانية. وبالتالي فهم يستقبلون الآن في لبنان كأجانب آتين لزيارة، ولا يحق لهم أن يبقوا حيث لم يعد لهم من حق بالإقامة.

كانت هذه العملية مرتبة، ليس خوفا من دخول الفلسطينيين المطرودين من ليبيا إلى لبنان، وإنما لتهجير دفعة من الفلسطينيين وإبقائهم في الخارج تخفيفا لوجودهم في لبنان. لذلك هناك عدد من المخيمات نكاد لا نجد شبابا فيها، مثل مخيم البقاع الذي انتقل للدانمرك. هذه السياسة تصب في خدمة إسرائيل بأن تريحها من الفلسطينيين الموجودين في لبنان. إن الاستخدام بالحرمان من الحقوق كاملة كارثي النتائج. فإعطاء الحد الأدنى من الحقوق أو على الأقل إغماض العين ليس فيه ضير للبنان.

بما يخص الشق السياسي، نحن مع أن يكون هناك وفد فلسطيني مستقل للتفاوض كما هو الوفد اللبناني ممثلا للبنان والوفد السوري ممثلا لسوريا والأردني للأردن. لسنا مع ما يسمى بأن القضية قومية وبالتالي لا تمثيل للفلسطينيين. ذلك يصادر حق الفلسطيني في قول كلمته في مصيره. لكن نحن ضد أن يكون هذا التمثيل الفلسطيني والتفاوض مناقضا للمصلحة العربية العامة. يجب أن يكون هناك تنسيق كحد الأدنى. الأمر الذي في السياسة التطبيقية العملية وصل إلى صراعات. نحن أيضا ضد أن يكون المفاوض الفلسطيني مستخدما لمسألة اللاجئين والمخيمات في صراعه ضد الأنظمة التي تستضيف هؤلاء اللاجئين. عندما تختلف الرؤيا السياسية للمفاوض الفلسطيني مع الرؤيا اللبنانية، نحن مع التنسيق على المستوى السياسي لحلّ هذه الخلافات. لا أن يستخدم كلا منهما بطريقته الموضوع سلبا، بما يدفع اللاجئون الفلسطينيون في لبنان ثمنه.

اللبناني عندما يريد أن يحل خلافاته مع عرفات يضغط على المخيمات. وعندما يريد أن يضع على جدول الأعمال مع إسرائيل حلا لمشكلة اللاجئين يضغط على المخيمات. هذا غير مقبول. وعرفات عندما تكون الأمور جامدة معه في التفاوض مع الإسرائيلي يحاول أن يرسل بعض الأموال لشراء ضمائر ويستخدم الواقع السلبي السيئ في الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان كورقة ضاغطة. هذا نحن ضده أيضا. إن حق الفلسطيني في لبنان بالحصول على حقوقه المدنية يجب أن لا يكون موقع لعب سياسي ولا موقع ضغوطات سياسية استخدامية في العملية التفاوضية. لذلك فإن الجبهة الديمقراطية موقفها كان ضد الطرفين: الفلسطيني المستخدم للمخيمات لحسابات ضيقة، واللبناني المستخدم الضغوطات على الفلسطينيين سواء لحساباته الضيقة المحلية النابعة عن أسباب طائفية ومذهبية أو لحساباته في الضغط على إسرائيل بواسطة الصراخ المؤلم للفلسطينيين من انتهاك حقوقهم.

نحن مع أن يعيش الفلسطيني في لبنان بكرامته وأن يكون قادرا على الصمود ويتمتع بحقوقه المدنية. على أن يحافظ على هويته الوطنية الفلسطينية وأن يستمر بالكفاح بالشكل المناسب للبنان، أقصد بالذات على المستويات الثقافية والإعلامية. فلبنان منبر قلما كان مثله من منابر في العالم العربي. مما يستطيع أن يضخ الكثير من القضايا الفكرية والثقافية التي تقنع أكبر مواقع في العالم بحقوق لبنان وحقوق الفلسطينيين اللاجئين بالعودة إلى وطنهم.

التعاون يمكن أن يفيد، لا الصراخ الموجع فقط، ولا جعل اللاجئين في المخيمات يعيشون دون ماء ولا كهرباء ولا حقوق ولا بنية تحتية وفي حالة اختناق شديد ومنع من البناء وكل القضايا اللاإنسانية. هذه القضايا التي تمارس تحت حجة أن أي حل بتخفيف معاناة اللاجئين الفلسطينيين من قبل الدولة اللبنانية سوف يفسّر من قبل الإسرائيليين بقابلية لبنانية وقدرة على استيعاب اللاجئين، وبالتالي، يفرض الأمر الواقع بتوطينهم، هذا هراء يتلطى به الكثيرون. فالفلسطينيون في سوريا يتمتعون بكل الحقوق المدنية ويحافظون على هويتهم الفلسطينية. هم ليسوا مندمجين في المجتمع السوري كتوطين وإن كانوا مندمجين كاملا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية.

الأردن خطا خطوة أبعد، مرفوضة فلسطينيا، إذ جنّس الفلسطينيين لديه كأردنيين. ورغم كل الحقوق المدنية والسياسية التي يتمتع بها الفلسطينيون هناك، فما زالوا يعتبرون أنفسهم كلاجئين فلسطينيين يريدون العودة ويتمسكون بحق العودة. إذا، صيغة العلاقة العربية ـ العربية يجب أن تكون إنسانية ببعد كامل. الأمر الذي نفتقده للأسف في لبنان. أنا أعتقد أن الفرق يعود للسياسيين اللبنانيين. السوري ولو كان له وضعه المعروف في لبنان، هو ليس له علاقة بما يحصل على الفلسطيني اجتماعيا. أما في السياسة، فيهم المفاوض السوري أن يكون موضوع اللاجئين مطروحا في ورقة المفاوضات. وهو يدرك أن اللاجئين في سوريا لا يمكنهم أن يرفعوا صوتهم إلا لمطالبتهم بحق العودة. الفلسطينيون في لبنان يصرخون من ألمين: وطنيا، لم يستطيعوا حتى الآن فرض حق العودة، وإنسانيا، لم يستطيعوا أن يأخذوا حقوقهم بالحدود الدنيا اجتماعيا.

إن حل قضية اللاجئين وتطبيق الحل سيأخذ سنوات. لذلك عندما نطالب الدولة اللبنانية أن لا تتلطى وراء المفاوضات المقبلة، ذلك كي لا تخلق أوهاماً وتزيد من استمرار المعاناة. حق الإنسان بالحياة الكريمة يجب أن لا يكون فيه تلاعب أو عوائق أو ارتباطات بمفاوضات وسياسات. شرعة حقوق الإنسان عندما وضعت لم تخضع لاعتبارات معينة وإنما أرادت أن تتجاوز كل السياسات التي تتلاعب بحقوق الإنسان. يجب إيضاح المشكلات وإيضاح الاستخدام السياسي، ثم المطالبة بالحقوق الإنسانية التي يستطيع لبنان بالتأكيد أن يوفرها. حق التعليم، حق الطبابة، حق ممارسة العمل في القطاع الخاص”.

استشراف آفاق المستقبل:

بالنسبة لصلاح صلاح:

“يتم طرح موضوع اللاجئين بشكل لا إنساني ولا سياسي ويصار لحل مشكلتهم عبر مشاريع تمرر تحت الطاولة كالهجرة مثلا. يجب تناول مسألة كانت غائبة وهي “حق اللجوء”. فاللجوء كان قسريا وليس اختياريا. يقول البعض أن الموضوع أصبح في طريق الحل. لكن التقديرات السياسية تشير إلى أن المشكلة معقدة ومفاوضات المرحلة النهائية لن تتم بسهولة. المطلوب توفر ثلاثة شروط كي تحل المشكلة:

 ـ أن تجري المفاوضات على المسار الفلسطيني وأن يكون هناك اتفاق إسرائيلي ـ فلسطيني. لكن كل المؤشرات تدل على التعثر. فبغض النظر عن التطمينات سيدير الإسرائيلي ظهره للفلسطيني مع المفاوضات السورية ـ اللبنانية. حيث يمكن إرجاع الجنوب اللبناني والجولان السورية، بما يفتح أبواب التسويات مع الدول العربية الأخرى. المؤتمر الاقتصادي يستأنف عمله، كذلك لجنة المتعددة يضاف لها سوريا. البوابة الفلسطينية كانت مهمة لكسر الحاجز، لكنها لم تعد مهمة الآن حيث الأهم هو البوابة السورية.

 ـ موضوع اللاجئين: يجب أن تتمسك كل دولة عربية تستضيف اللاجئين بحقهم بالعودة، لكن التداخل بين أطراف عديدة يجعل المسألة هذه صعبة.

 ـ يجب أن يتوفر عنصر ثالث: موقف الفلسطيني اللاجئ الذي يتم تجاهله. تجنيس، تهجير، إسكان (توطين): هذه الشعارات كانت مرفوعة في الخمسينات وكانت الأنظمة العربية في سوريا، لبنان، الأردن، مصر موافقة على هذه المشاريع تحت ستار تحسين الظروف الاقتصادية والسكنية. لكن لو كل العالم وافق على حل غير حق العودة لن تحل المشكلة. إن الفلسطيني قادر على إفشال أي مشروع لا يؤخذ رأيه فيه. هناك من يقبل بالتوطين والهجرة وحل مشكلته الخاصة، لكن ستبرز المقاومة لمثل هذه المشاريع عندما تصبح ملموسة وليس فقط تكهنات.

لن يجرؤ المفاوض الفلسطيني على قبول التوطين، حيث أن الدول العربية المضيفة وفلسطينيي الداخل سيطالبون بحق العودة، فكيف سيتجاهلهم أبو عمار؟ هناك وضع اجتماعي اقتصادي ضاغط في الداخل على السلطة الفلسطينية، فهل يمكن لها أن تتجاهل هذه المعارضة حول الفساد والتردي الاقتصادي والبيروقراطية؟ إن “مذكرة العشرين” بداية منعطف تتعرض له السلطة في المرحلة القادمة. وهناك ردة فعل واسعة تتعاطف مع الموقّعين، وهذا مؤشّر. هناك مظاهرات كان في مقدمتها فتح، فكيف يمكن لهذه السلطة أن تحمي نفسها إن لم يكن بالتشدد حيال إسرائيل؟”.

من ناحيته، يرى سهيل الناطور:

“إن فكرة إعادة توزيع اللاجئين على بلدان أخرى هي فكرة صهيونية من الدرجة الأولى. على اللبناني والفلسطيني محاربتها بشتى الطرق. حملنا اللبناني كثيرا وتحمّل أعباء احتلال إسرائيل لأرضه. فلا يمكننا عندما نقارب مرحلة الحل أن نكافئ الإسرائيلي على خلق هذا المعاناة لشعبينا بإحداث مشكلات جديدة بينهما. ردة الفعل المباشرة هي الإيعاز للفلسطيني بترتيب أموره بشكل فردي وليس كشعب وكجماعة. عندما لا نستطيع أن نفرض الحل الذي يناسبنا على الإسرائيلي نبدأ بطرح مشاريع لنتخلص من الفلسطينيين، أو بالأحرى هلوسات عنصرية لا تنظر للأخوة العربية ولمشكلة اللاجئين كمأساة. مثلا ترحيل مليون فلسطيني سنّي من لبنان وسوريا والضفة وغزة إلى العراق ووضعهم على الحدود مع الكويت بما يحكم القبضة على جنوب العراق الذي طابعه شيعي ويفصله عن إيران. هذا غباء سياسي. وزير الخارجية السابق بويز تحدث عن لمّ شمل العائلات بترحيلهم إلى السويد وغيرها. لمّ شمل العائلات هو بعودتهم إلى أرضهم في الجليل وحيفا ويافا. وهذا جزء من مطالبنا وليس حلا لكل قضية اللاجئين.

لا يمكن وجود حل حقيقي لعلاقات سلمية كتسوية بدون حل مشكلتنا. تفاعل مشكلة اللاجئين وإيجاد حلول واقعية تستطيع أن ترسخ علاقات سلمية في المنطقة لا يمكن أن يمر إلا بحل مسألة اللاجئين. لذلك، كلما تماسك الموقف العربي مع حق العودة كلما اقتربنا من الحل. عندما يعطى علنا من قبل إسرائيل فكرة قبول حق اللاجئين بالعودة، أنا لا أعتقد أن كل اللاجئين سيمارسون حينها حقهم بالعودة، فتصبح مسألة اختيارية. لكن يجب أن يكرّس الحق أولا. قضايا الحل النهائي تشمل قضية اللاجئين، حيث لها تعقيدات كثيرة ويجب إيجاد صيغ لحلّها. بناء الدولة الفلسطينية يجب أن لا يكون على حساب اللاجئين. الفلسطيني يريد من الإسرائيلي إقراراً بحق العودة ولا يمكن أن يفرط بذلك مهما كان السبب، ولو أنه في البداية كان يفاوض حول كيان وترك بحث قضية اللاجئين لما بعد. هو سيبحث بحق العودة ويترك لما بعد تقدير القابليات وإمكانيات التطبيق التي ستكون ذات اتجاهين: مدى القدرات المتوفرة لاستيعاب من يريدون العودة ومدى إيجاد حلول للآخرين الذين لا يريدون العودة وقبول الدول المضيفة لهم.

من هنا، فإن ما عرف من معلومات عن مفاوضات كمب ديفيد الأخيرة يؤشر إلى خطر تنازلات فلسطينية بقبول اقتراح إسرائيل جمع شمل عائلات لا تزيد عن المائة ألف خلال عشرين عاماً وبشروط تفرغه من مضمونه. إذ يجب أن يكون المعني مولوداً في فلسطين الانتداب، وله أقارب في إسرائيل، وأن تقبل الأجهزة الأمنية عودته، وأن يتم ذلك في مدى خمسة عشر عاماً”.

بالنسبة لشفيق الحوت،

“مشكلة اللاجئين الفلسطينيين تطفو على السطح هذه الأيام، حيث مع مرور الزمن دخلت السلطة الفلسطينية في ما يسمى مفاوضات المرحلة النهائية. وما نقرأه على لسان باراك والمسؤولين الإسرائيليين وما نشاهده في الساحة من ممارسات على الأرض من مصادرة أراضي وضغط اقتصادي وتضييق خناق يبدي أن إسرائيل عازمة وواضحة في موقفها أن لا عودة للاجئين. ليس فقط إلى إسرائيل، وإنما حتى لمنطقة الحكم الذاتي التي هي بالكاد تستوعب من فيها. إضافة إلى أن في مناطق الحكم الذاتي يوجد ما لا يقل عن مليون لاجئ. ثم أن العبء عليهم كبير. فإحصاءات الأمم المتحدة تدل على أن منطقة غزة تكاد تكون الأفقر في العالم، وبدون مستقبل من حيث الموارد الطبيعية حتى من المياه، حيث أن إسرائيل سرقت المياه الجوفية وتمنع إقامة آبار إرتوازية.

الآن دخلنا مرحلة مفاوضات على آخر مسارين باقيين: السوري واللبناني. هناك احتمال كبير للتوصل لاتفاق. فإذا ما تم هذا الاتفاق تكون الحلقة قد اكتملت. لن يعود هنالك من صراع عربي ـ إسرائيلي وبقي الفلسطيني دون حلّ لمشكلته. وإذا وقّعت سوريا ولبنان قبل نهاية المفاوضات على المسار الفلسطيني قد يتوقف الطرف الإسرائيلي عن المفاوضات لأن ما من يضغط عليه لذلك. عرفات فتح الباب للعرب عندما وقّع في أوسلو، خاصة الأطراف المهرولة منها، للاعتراف بإسرائيل ولتطبيع علاقاتها معها من موريتانيا إلى قطر. ستسير الأمور بشكل سيجردنا من كل أسلحتنا. أنا متشائم جدا من إمكانية تحرير ولو جزء من الأراضي الفلسطينية وعودة اللاجئين إلى ديارهم أو على الأقل استرداد هويتهم الوطنية. أنا أشك أن تسمح إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة قادرة أن تمنح الشعب الفلسطيني في الشتات الهوية الفلسطينية.

إزاء ذلك قد يحصل ارتداد شعبي عربي في الداخل وستطالب الشعوب بحقوقها الإنسانية والاجتماعية. سيمتد النضال لمحاولة تنمية الموارد العربية والاقتصاد العربي والارتقاء بالمجتمع العربي الذي كان يبرر عدم وجوده بأن 40• من الميزانيات تذهب للدفاع. إحصاءات الأمم المتحدة تظهر أننا، باستثناء بعض الدول في أفريقيا، في آخر السلم كدول عربية رغم أن لدينا قدرات بشرية وموارد طبيعية. في اليمن مثلا، يصرف على المواطن صحيا أقل من دولار في السنة، فإلى متى سيسكت هذا اليمني. وصل حد الفقر في بعض الأقطار العربية إلى50•، نصفهم على شفير المجاعة. من ناحية الأمية، تأخرت الدول العربية 20 سنة عما كانت عليه بالسابق. أين نحن من التقدم العلمي والبحثي والتقني المطلوب ونحن مقدمين على قرن أهم سلعه الكمبيوتر. صراعنا مع إسرائيل سيكون على مسائل من هذا النوع.

نحن لسنا محكومين أن نبقى متخلفين. هناك نخب عربية ممتازة برزت في المجتمعات الديمقراطية. لكن هذه الطبقة الحاكمة الذي أوجدها الصراع مع إسرائيل هل يمكن لها أن تستمر إذا تم صلح مع إسرائيل؟

هل أحد يملك فعلا بيده تقرير مصيره؟ إذا أراد الغرب أن يوطّن الفلسطينيون هل سيقول لبنان لا؟ قرار منح الجنسية اللبنانية تملكه الحكومة اللبنانية. فلماذا اللبنانيون خائفون من التوطين؟ الفلسطيني خائف من قراراتهم عليه أكثر، إذا كان فعلا حريصا على العودة إلى فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية. نحن لا نريد الجنسية وإنما فقط الحق بالعمل الذي يمنع علينا بدون حق.

اللبناني، أي الذي يملك جنسية لبنانية، يهاجر عندما يجد فرصة أفضل له بالخارج، فلماذا نعتقد أن الفلسطيني سيتمسك بهذا البلد عندما يجد أن تأمين مستقبله لن يكون في هذا البلد الذي ولد وعاش فيه أكثر من نصف عمره؟ الشعب اللبناني هو من أكثر الشعوب العربية بعد الشعب الفلسطيني اغترابا وهجرة لتأمين عيشه. لكن الفلسطيني لم يأت إليه بإرادته ولا يرغب أن يبقى فيه بإرادته. فلماذا لا نعمل سويا للوصول لحل مشرّف للطرفين ولمكافحة مشاريع التوطين والتهجير؟ نحن نخوض في فترة تفاوضية وبغض النظر عما سيؤول إليه الاتفاق على المسار السوري واللبناني، فالقضية الفلسطينية ستبقى قائمة. مما يعني أن بؤرة توتر ستبقى قائمة وستنتظر إلى حين تنفجر. هل سيجدون لها حلا؟ من يدري. الضعيف يقوى على من هو أضعف منه ويستشرس بذلك مجنبا العدو المشترك تحمل تبعات ما اقترفت يداه بحقه”.

الجمعيات الأهلية اللبنانية:

إنطلاقا من هذا الواقع، يقول الناطور:

“هناك دور كبير لجمعيات المجتمع المدني ومؤسسات حقوق الإنسان كي تساعد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان للضغط على السلطة اللبنانية بالحدود المنطقية التي يجب أن تعطى إنسانياً. الصعوبة تبدأ أن هذه الجمعيات تحتاج إلى علم وخبر من السلطة اللبنانية. وهي عادة لا تعطيها. لذلك ليس لدينا سوى بضعة مؤسسات رسمية قانونياً، هي لبنانية، تعمل في المجال الفلسطيني. بدأ بعضها التحول من الخدمات الإغاثية إلى مشاريع تنموية بالتركيز على تأهيل المرأة والتوعية بالحقوق الإنسانية والوطنية. هي ما زالت عموماً محدودة التأثير في الوسط الفلسطيني. وقد دفعها ذلك لدراسة تجربة المنظمات الأهلية في الضفة والقطاع والتواصل معها والعمل للاستفادة وتنسيق الجهود مؤخراً”.

طرحنا السؤال على المحامي إبراهيم العبد الله، رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان، لمعرفة موقفهم وما يفعلونه من أجل هذا الموضوع. سيما وأن الانطباع الذي تعطيه الجمعيات الأهلية، أو بقسم كبير منها على الأقل، هو عدم إيلاء قضية اللاجئين الفلسطينيين حقها إن لم يكن تجاهلها. حتى أن بعض أعضائها أحياناً ما يفاجئون بعدائهم المفتوح والعلني للفلسطينيين. من هنا قد لا يعبر هذا النوع من الطرح والتعاطف مع قضيتهم عن اتجاه غالب.

يقول إبراهيم العبد الله:

“نحن لدينا موقف بالنسبة للاجئين بشكل عام. هناك في لبنان عدد كبير من غير الفلسطينيين: اللاجئون من الصومال، العراق، إيران، السودان. لقد نظمنا لقاء في الجمعية لهذا الموضوع وبحثنا بإشكالاتهم مع مكتب الأمم المتحدة الموجود في بيروت. كنا نجري ضغطا على هذا المكتب للتدخل من أجل حالات إنسانية، ولم يكن يتجاوب معنا.

موضوع اللاجئين الفلسطينيين في غاية الأهمية. هؤلاء هم أخوتنا في الإنسانية وفي القومية. وهم موجودون في لبنان بالرغم من إرادتهم. إنهم يطالبون بحق العودة ولا يطالبون بالإقامة أو التجنس لأنهم يعتبرون ذلك مؤامرة على قضيتهم. نحن كجمعية على علاقة جيدة بالناشطين الفلسطينيين: جمعية حقوق الإنسان التي نحاول أن نساعدها لتأخذ مكانها وجمعية الحقوقيين الفلسطينيين الذين التقينا معهم عدة مرات.

نشأت مشكلة منذ 3 ـ 4 سنوات وهي توقف الأونروا عن مساعدتهم. مما أثر كثيرا على الطبابة والتعليم وخلق أجواء لا إنسانية إضافة لوضعهم اللاإنساني. نحن أيضا تدخلنا بصدد القرار الذي صدر عن الأمن العام بمنع تأشيرة الدخول. لقد استطعنا رفع هذا المنع بعد تشكيل الوزارة الجديدة. اللاجئون يعانون من مشكلة أخرى من حوالي سنتين تتعلق بإدخال مواد إعمار إلى المخيمات، وهذا غير طبيعي. نحن وهم ضد التوطين، لكن هناك حقوقا مدنية غير متوفرة وهذا غير طبيعي أيضا. لقد أجرينا قبل سنتين اجتماعات مع عدة فصائل فلسطينية وحاولنا أن نخرج بنتائج ولم نوفق.

الآن موضوع اللاجئين يثير حساسية كبيرة في لبنان، وكأن من يطرحه يريد من ذلك توطينهم. لكن التوطين شيء والحقوق الأساسية للإنسان شيء آخر. فهؤلاء الناس لهم طاقة معينة للتحمل وإلا فنحن بصدد خلق مشكلة للبنان. من هنا نحاول أن نعمل ما نستطيع. نحن نشير دائما لهذه المشاكل ببياناتنا أو غيره ونعتبر إنه من واجبنا أن نقف معهم بالوسائل المتاحة. فالحالة الفلسطينية حساسة جداً”.

2 ـ مقاربة نفسية ـ اجتماعية للواقع المعاش:

حقوق مهدورة لشعب مشرّد:

الأحداث السياسية التي عرفتها فلسطين منذ عام النكبة وما بعد والتي أدت من جملة ما أدت إليه لتهجير ونزوح عدة ملايين من أبناء الشعب الفلسطيني كان لها كما نعرف نتائج سلبية جمة على هذا الشعب. من جملة هذه الإشكاليات ما له علاقة بالتجربة المعاشة للهجرة في البلد المضيف وبالإشكالات الاجتماعية والنفسية المتعلقة بهذه المسألة والتي يهمنا بالتحديد التطرق لها في هذا البحث.

يمكن القول بداية أنه ولأسباب مختلفة، زادت وتيرة الحركات السكانية في العقود الأخيرة من هذا القرن انطلاقا من بيئة طاردة باتجاه بيئة جاذبة يتوقع أن تتوفر فيها ظروف حياتية أفضل. وبغض النظر عن خصوصيات كل وضع، يمكن التأكيد على قاسم مشترك، يعيشه كل من يتعرف على هذه التجربة، من صدمات وتوترات وضغوط نفسية. ذلك إلى جانب التغييرات الاجتماعية والثقافية والبيولوجية والاقتصادية وغيرها التي تطرأ على الفرد والجماعة المعنية. هذه الإشكاليات تنسحب تأثيراتها على الأبناء والأحفاد حيث تؤثر على تكوين شخصيتهم وتشكيل الأنا لديهم وتحديد هويتهم.

من العوامل الأساسية التي لوحظ تأثيرها القوي على مواجهة هذه التجربة هو طبيعة هذا الاحتكاك، أي مفروضاً كان أو مختاراً. كذلك قابلية البلد المستقبل لاستيعاب مهاجريه وتوفير الظروف المعيشية التي تسمح بانخراطهم فيه، مع ما يحتم ذلك من قوانين وإجراءات تؤهل لذلك، أو العكس من رفض لهم وتهميش وتضييق فرص العمل عليهم الخ.

بالنظر لهاتين النقطتين في المثل الذي يهمنا، يبدو جلياً من خلال ردود الأفعال التي سجّلت تأثير الصدمة العنيفة التي نتجت عن طرد الفلسطينيين من أرضهم وعن الظروف التي رافقت اقتلاعهم من جذورهم وما تبع ذلك خلال نصف قرن ونيف من أوضاع سياسية فرضت بقاءهم في البلد المضيف. ظواهر المعاناة هذه لم تقتصر على الجيل الأول منهم، أي الذين عاشوا النكبة فحسب، بل طالت أجيال أبنائهم وأحفادهم. ففي الوقت الذي ينتفي فيه وجود عوامل مشجعة للتباعد بين الشعبين اللبناني والفلسطيني مثل الاختلاف العرقي والثقافي واختلاف اللغة وغيره بما يؤثر على فعالية الاختلاط والتفاعل، يأتي عامل أساسي ليضيف للأول ما يضفي على هذه التجربة من طابع مؤلم بنوع خاص. هذا العامل هو طريقة تعامل البيئة المستقبلة وبالأخص السلطات السياسية مع هؤلاء الضيوف.

يمكن القول باختصار شديد أنه خلال أكثر من نصف قرن لم يكن هناك من تنظيم للعلاقات مع اللاجئين الفلسطينيين انطلاقا من مواقف عقلانية تحدد ما لهم وما عليهم. فهم ليس عليهم فقط واجبات تجاه البلد المستقبل وإنما أيضا حقوق بالنظر للقوانين الدولية والأعراف المرعية في هذا الشأن. فبغض النظر عن المراحل المختلفة التي طبعت هذه العلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين وعن النسبة المتزايدة صعودا أو هبوطا بين صفوف اللبنانيين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، كانت السمة الطاغية لتعاطي غالبية المجتمع اللبناني وبالأخص الطبقة السياسية خلال هذه السنوات الطوال العدائية وتحميل الذنب للآخر. خلال فترة الحروب اللبنانية، وخاصة بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت وإخراج القوى الفلسطينية المسلحة من لبنان، اتخذت هذه العلاقة تعبيرات أشد عدوانية عبر ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا وما تبعها من حرب على المخيمات. وعندما توقفت المعارك، أخذت الحرب منحا كلاميا في أكثر الأحيان. فتراوحت بين مزاودات المسؤولين السياسيين الكلامية وإدانة الاستسلام والسياسات التخاذلية للسلطة الفلسطينية إلى الاتهامات الموجهة للفلسطينيين بارتكاب الجرائم واستعمال السلاح وتحويل المخيمات “لبؤر أمنية فالتة”.

ومنذ عدة سنوات تمت محاصرة مخيمات صور ومنع دخول مواد الترميم إليها مع ما رافق ذلك من إجراءات أمنية وتشديدات على قاطنيها. فتركت هذه المخيمات للتلف والإهتراء التدريجي حتى لا يعود ممكنا سكنها، مما أقنع سكان هذه المخيمات بمشاريع اقتلاعها. مما يخلّف آثاره على تدمير البوتقة الاجتماعية للفلسطينيين ويترك انعكاساته النفسية الوخيمة عليهم، خاصة عندما لا توفر الدولة البدائل، إلى أن تأتي ظروف موآتية تسمح لهذا الاحتقان أن ينفجر في ردة فعل طبيعية على هذا العسف.

كل ذلك يضاف طبعا للتشديد المستمر بمنع الفلسطينيين من العمل ومن الحصول على التعليم والتطبيب أسوة باللبنانيين. وفي الحالات القليلة التي يعمل فيها الفلسطينيون، يتم ذلك غالبا دون الحصول على إجازة عمل وما تشمله من حقوق وضمانات، وفي ظروف استغلال شديد من قبل أرباب العمل. تطالعنا دراسة عن أزمة البطالة عند القوى العاملة الفلسطينية في لبنان للسيد حسين شعبان (نشرتها جريدة السفير في 24/6/ 1997) أن 5• منهم فقط يعملون بشكل مستقر، والباقون إما عاطلون عن العمل وإما مياومون. هذا في الحين الذي تشكل فيه القوة العاملة بينهم، أي الفئات العمرية ما بين 16 و65 سنة، ما نسبته 66 • وتشكل القوة الشابة بين 21و30 سنة الفئة الغالبة. ففي الوقت الذي يعتبر فيه الفلسطيني أجنبيا في لبنان ويطلب منه الحصول على إجازة عمل ليتمكن من ممارسة العمل، نستنتج أنه لا يحصل على هذه الإجازة إلا نادرا. بالمقابل نجد أبناء الجنسيات الأخرى المقيمين في لبنان والذين هم أقل عددا مقارنة بالفلسطينيين، يحصلون على قدر أكبر من إجازات العمل. على سبيل المثال منحت وزارة العمل اللبنانية سنة 1994 نحو 350 رخصة عمل للفلسطينيين مقابل أكثر من 10 آلاف لسيرلنكيين وحوالي 8 آلاف لمصريين وأكثر من 5 آلاف لسوريين و3292 لأبناء الجالية الهندية و3009 للجالية الفلبينية.

كل ذلك يخالف بالدرجة الأولى شرعة حقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعاهدات التي وقع عليها لبنان، حيث تقر بحق كل فرد في أن تكون أمامه فرصة كسب معيشية عن طريق العمل الذي يختاره أو يقبله بحرية. كذلك يتناقض مع تصريحات بعض كبار المسؤولين اللبنانيين الذين يزاودون في مواقفهم المؤيدة لما سمي بحقوق الفلسطينيين المدنية والاجتماعية ولمساواة الفلسطيني باللبناني ـ طبعا باستثناء الجنسية والوظائف العامة انطلاقا من التمسك بحق العودة للفلسطيني إلى دياره وبسبب معضلات التركيبة الطائفية للبنان.

فحتى اليوم لم يحصل الفلسطينيون في لبنان على ما فتئوا يطالبون به منذ سنوات طوال، إثر مفاوضات عديدة وتقديم مذكرات ومقترحات للسلطات اللبنانية من أجل تحسين أوضاعهم. واحدة من هذه المذكرات ما تقدموا به السنة الفائتة، في مطلع عهد جديد وعقب شعور بجو من الأمل بإمكانية فتح حوار مع السلطات اللبنانية. لقد طالبوا باتخاذ “إجراءات لمعالجة عدد من القضايا التي تمس كرامة الفلسطيني وحقوقه الإنسانية و(التي) ليس لها مسوّغ لا قانوني ولا سياسي وتخلق احتقانا وتوترا في المخيمات الفلسطينية تتحول إلى نزعة “غيتو” ضارة على مستقبل العلاقات الأخوية بين الشعبين الفلسطيني واللبناني”. (أنظر نص المذكرة بكامله في ملحق هذا الفصل رقم 2).

تقدّر دراسة بدأت تظهر نتائجها أجرتها مؤسسة الفافو على اللاجئين الفلسطينيين أنه، بما يخص الوضع الصحي، هناك فردا على كل خمسة أفراد من العينة يعاني من بعض عوارض الأمراض المزمنة، لكن فقط 7 من بين كل 10 يعانون من أمراض حادة يعرضون أنفسهم على طبيب. كما أن الأوضاع الصحية للأفراد تحت سن الخمس سنوات هي أكثر سوءا مقارنة بالمخيمات في الأردن، وأن واحدا من خمسة أشخاص يستخدم أدوية بسبب الضغوط النفسية.

أما بما يتعلق بالتعليم، فتدل النتائج الرئيسية على مستوى تعليم منخفض ومستويات أمية عالية وعدم التحاق بالتعليم بشكل مرتفع بين صغار السن وخصوصا الذكور، كما وأن الكثير من الطلاب يتوقفون عن الدراسة لأسباب اقتصادية أو لعدم الحث أو التحفيز. هذا في الحين الذي كان يعرف في الفلسطينيين قبل انهيار الوضع الاقتصادي توجههم الشديد للعلم وحمل الشهادات بحيث يكاد أن ينعدم وجود الأميين بين الأجيال الشابة.

نتائج كهذه لا تفاجئ المختصين بمشاكل الطفولة الذين يعرفون أن الطفل يمكن أن يعبر عن أزماته النفسية، التي هي بعلاقة شديدة مع معاناة أسرته المادية والمعنوية، عبر تسربه الدراسي أو رسوبه الناتجين عن عدم قدرته على التركيز الذهني واستيعاب البرامج الدراسية. وهو إضافة لذلك قد يقع ضحية سلبيات النظام الدراسي الذي لا يهتم كفاية بمعاناة الأطفال النفسية ويطالبهم بالوقت نفسه بالإنتاج الفكري والتحصيل العلمي في جو يفتقد شروط التحفيز النفسي. هذا في الحين الذي قد يمتلك من يقع ضحية هذا النظام من رسوب وتسرب على طاقات عقلية ومعدلات ذكاء عالية تؤهله لتحصيل علمي رفيع في وضع مختلف. فما يبدو كسلا أو عدم اهتمام كاف بالدراسة قد يكون منبعه إشكالات عصابية ناتجة عن التأثيرات السلبية للبيئة الحاضنة والتي بدورها تتأثر بالمحيط المباشر. وقد يكون الرسوب ترجمة لعدم قدرة الطفل على التوفيق بين متناقضات متطلبات الأهل، كما يمكن أن يكون دليلا على صعوباته في تحديد “من هو” و”لمن ينتمي”.

يشعر الفلسطيني في لبنان اليوم وفي أكثر من أي وقت مضى أنه، إضافة لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية والصحية، هو عبارة عن ورقة في صفقة، بجزء منها مالية، تلعبها الحكومة اللبنانية من وراء ظهره ثمنا لتمرير التوطين كاحتمال مطروح. مما يعزز في ذهنه فكرة المؤامرة الدولية التي تحاك حوله في الخفاء. في الوقت نفسه يسمع الطبقة السياسية اللبنانية تكرر الحديث عن موقفها الحازم من حقه بالعودة إلى فلسطين ورفضها المطلق للتوطين. فيتمنى لو أن هذا الحرص على تثبيت حقه بالعودة إلى دياره يترافق بترتيب أوضاعه الحياتية ويلتفت لمعاناته اليومية التي لا تحتمل. فالعودة المرجوة إلى الوطن تبدو حتى الآن بعيدة المنال بسبب مباحثات السلام المتعثرة، وخاصة مع ما يجري منذ شهرين من مستجدات على الساحة الفلسطينية مع انتفاضة الأقصى واستمرار مقاومة الاحتلال حتى النصر والاستقلال رغم القمع الدموي للانتفاضة وتصعيد المواقف لاجهاضها وفرض حالة حصار على الأراضي الفلسطينية المحتلة. كل ذلك يترتب عنه بالطبع مضاعفات بالغة الأثر على وضع فلسطينيي الشتات، في الحين الذي يبقى حق العودة إلى فلسطين المطلب الأساسي الذي يتمسك به هؤلاء والذي ظهر جليا في أحاديث كل الفلسطينيين الذين قابلناهم في لبنان.

الانخراط في المجتمع المستقبل:

لقد بدا واضحاً إذن التأثير القوي لنوعية استقبال لبنان لهم على إضعاف قدرة اللاجئين الفلسطينيين لتحمل ظروفهم الحياتية والانفتاح على المجتمع المحيط بهم والتفاعل معه. فكان أن تصاعدت، في فترات الأزمات بشكل خاص، ظاهرة الانغلاق على النفس والتقوقع في ما يشبه الغيتو وتفعيل المشاعر العدوانية تجاه رفض الآخر لهم، والتي منها اللجوء للعنف لتنفيس الاحتقان.

إن معاناة اللاجئ الفلسطيني النفسية كما رأينا مؤلمة جداً في مجتمع يرفضه وينظر له نظرة دونية، في الوقت الذي يشده انتماءه للبلد الأصل وتبعده عنه السياسات الاستيطانية لإسرائيل. فهو كمن يعيش حياته بين مزدوجتين بانتظار ما تسفر عنه المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية كحل لهذا الوضع. لكن تمر السنوات تلو الأخرى والأمور تجري نحو الأسوأ في حالة من عدم الاستقرار والانتظار. فهل له في جو كهذا أن يندمج في المجتمع المحيط ويتفاعل معه؟ وكيف له أن يفعل ذلك ويتجنب الصراعات النفسية المفككة للهوية دون أن يشعر أنه يخون قضيته؟ في جو من العزل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي، يبقى غريباً حتى ولو حمل الجنسية التي لا تصلح أحيانا إلا لتسهيل بعض الإشكاليات الإدارية. فيغدو تحقيق الذات سراباً في جو فرض شروطه وافتقر للمقومات الدنيا للتصرف بالحياة بحرية.

شعوره بالغربة في البلد المستقبل وانقطاعه عن التواصل مع مجتمعه الأصل يجعل ملجأه الأساسي العائلة التي هي قارب الأمان وملاذه الوحيد. فهي، رغم خطر الانفجار في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية التي تجتازها والتي تؤثر على تماسكها، مطالبة، وخاصة الأم، بالاستمرار وامتصاص التوتر واستيعاب كل فرد من أفرادها. داخل التجمعات السكنية حافظت الجماعة على روابط متينة بينها وواجهت الضربات الخارجية عبر التكافل الاجتماعي. وفي المخيم، الذي هو تجسيد للبلد الأصل أو بلد الآباء والأجداد، يشعر اللاجئ بانتمائه للجماعة بقيمها وعاداتها. ذلك رغم أنها تلعب أحياناً دور الرقيب والحسيب وتنحو لفرض الأشكال التقليدية التي تدعم نفوذها وتمكنها من السيطرة على الفرد على حساب الحرية الشخصية والحق بالاختلاف. من هنا نفهم بطء التغييرات الاجتماعية أحياناً، خاصة في المخيمات المعزولة عن محيطها وفي فترات الانحسار والاختناق السياسي الإقليمي.

لقد غادر الجيل الأول أرضه مرغماً وبشكل طارئ دون التحضير لذلك مخلفاً وراءه ممتلكات وأهل وأصدقاء وذكريات وأمل كبير بالعودة ربما القريبة. إن ظروف الاقتلاع من الجذور هذه أحدثت صدمة لمن عاشها وفتحت جرحا لا يلتئم توقد نيرانه الأحداث السياسية المتلاحقة. عند غالبيتهم العظمى بقيت فكرة العودة الهاجس الأول بانتظار تغيير الظروف السياسية التي تسمح بها فعلاً. لقد عاشوا فكريا وعاطفيا بعلاقة أقرب لمجتمعهم الأصل الذي فقدوه، وفي الوقت عينه ما يشبه الانقطاع عن البيئة الجديدة التي استقبلتهم بالترحاب ثم ما لبثت أن أظهرت سريعا عدم قابليتها لاستيعابهم. كان زادهم في هذه الرحلة الشاقة ذكريات الطفولة المشبعة بالألوان والأصوات والروائح التي تعود لمرحلة ولّت، لكن أساسية في عمر الإنسان. منها تشكلت مداميك بنيان تحاول أن تقاوم أعاصير الزمن.

إن ما هو مادي وفيزيائي في المكان الجغرافي المفقود مرتبط بشكل قوي ببعد نفسي. فالأشياء هي امتداد للذات التي تعكس عليها ما تحتويه من عناصر سلبية أو إيجابية، بحيث تغدو العلاقة بالمكان الجغرافي علاقة وجدانية أكثر منها موضوعية. وبقدر ما يبتعد المرء عن محيطه الأصل الذي حضنه وهو طفل ويخسر إمكانية التواصل معه بزيارته من حين لآخر، بقدر ما يفقد القدرة على مطابقة الواقع مع الصورة المنسوجة عنه. فتصبح صورة البلد أجمل من البلد بواقعه، وتأخذ الأشياء التي تتعلق به طابعا مثاليا، تعززه مشاعر النفور من الواقع المعاش في البلد المضيف.

هناك أيضا إضافة للبعد الجغرافي، البعد الجسدي الذي هو بعلاقة مع الصورة التي يكونها الإنسان عن نفسه وعن جسده. هذا الجسد الذي احتفظ في ذاكرته بعناصر تعود بجزء منها لفترة ولّت، والذي يجمع بين تجارب اللذة والألم، يعبر بلغته الخاصة به عن معاناة النفس وما يخالجها من مشاعر ويعصف بها من صراعات واضطرابات عندما تفتقد مسربا لها عبر اللغة المحكية. وهذا ما يعرف استعماله بشكل خاص الأطفال والمسنون وأولئك الذين يشعرون بعدم إمكانيتهم على التأثير في المكان الجغرافي الذي يعيشون فيه.

هذه المعاناة الأليمة غالباً ما يلتقطها الأبناء من أهلهم ويتشربوها مع حليب أمهاتهم اللواتي عهدن بتربيتهم. فهم ينقلوا لهم شاءوا أم أبوا وبوعي أو بلاوعي كل الرفض لوضعهم المهمّش والبائس وكل معاناتهم النفسية اليومية وشعورهم بالعجز وفقدان الثقة بالنفس والأمل بالمستقبل. في ظروف كهذه، قد لا تجد آليات الدفاع عن النفس ما يكفيها من مقومات لتقوم بدورها بشكل فعّال، بحيث يتربص بها خطر الكآبة الدائمة، عندما لا يكون الانهيار النفسي حتمية منتظرة لشريحة هامة.

يترعرع الطفل في مناخ كهذا وعلى أكتافه حمل ثقيل من الشعور بالمسؤولية تجاه أهل ظلموا ومدين لهم بدَين. إنه لم يعش ظروف التهجير مثلهم ولم يتعرف على بلدهم وإنما نسج له في مخيلته صورة من خلال ما نقلوه له. وهذه الصورة لا تتطابق مع الواقع من حيث افتقادها فعليا للعناصر التي تكونها. في الوقت نفسه، يدرك هذا الطفل شيئا فشيئا أنه لا يستطيع أن يندمج كما يفترض في المجتمع الذي فتح أعينه عليه وكبر فيه. هذا المجتمع الذي يرفضه ويحتقره، جعله ينظر لنفسه بأنه غير ذات قيمة ويفقد ثقته بنفسه. وهو الذي يمثل لأهله تجسيد أحلام لم يستطيعوا تحقيقها، عليه ترتيب تناقضات وجوده والاتكال على ذاته في الحين الذي لم يعش ظروفاً تساعده على تثبيت دعائم هذه الذات وتعزيز صورته عن نفسه.

من المعروف أن الشبيبة تبحث عن نفسها من خلال ما تعكسه نظرة الآخر لها، خاصة عندما يكون هناك صعوبة بتأكيد هويتها من خلال عمل يحقق لها ذاتها. مما يزيد من معاناتها وغموض مستقبلها ويجعلها تعيش اغترابا فكريا ونفسيا قد يفضي بها للانغلاق على النفس أو للبحث عن هوية خاصة من خلال الجنوح أو الانزلاق لإيديولوجيات أصولية واللجوء للسلاح أو للتفتيش عن آفاق جديدة تعتقد أنها تؤمن لها تعويض كل ما عاشت من حرمان. لحسن الحظ، من ضمن الاحتمالات كثيرة الظهور هناك بالطبع تحويل التجربة المرة إلى فرص خلق وإبداع بفضل قدرة قوية على تسامي الميول في جو من التحدي وتأكيد الذات. ودينامية المهاجر مشهود لها شرط أن لا تنزع منه الفرص التي تسمح له بالارتقاء الاجتماعي وتحويل ما هو سلبي لإيجابي.

جزء من هذا الحلم الحصول على حق العودة وتحقيق الهاجس الذي لم يعشه الأهل. فرد الدين لهم وتأكيد الهوية يفترض التشبث بهذا الحق والعمل له بدون كلل. ذلك بالرغم من أن الشبيبة تختلف فيما بينها بكيفية التعاطي مع إشكالياتها التي هي بجزء منها حصيلة موروثات. من هنا لا يمكن التكهن مسبقاً بما قد يفعله فرد بغده، حيث كل حالة تبقى حالة فردية. وبهذا ما يمنع تعميم الجزء على الكل وعدم اختصار الكل المعقد إلى بعض أجزاء منه بهدف تسهيل فهم الإشكالية. لكن، إلى أن تتحول البيئة الطاردة لبيئة جاذبة محدثة حركة معاكسة لحركة الهجرة، تضيع طاقات بشرية وفكرية كبيرة لم يحاول المجتمع اللبناني ـ وكما فعل مع شريحة كبيرة من أبنائه ـ أن يستفيد منها يوم أصبحت قوة منتجة.

إن الاندماج بالمجتمع المستقبل يؤهل له منذ سنوات الطفولة الأولى انطلاقاً من جو المنزل المنفتح على بيئته، مروراً بمقاعد الدراسة عبر الاحتكاك برفاق الصف، إلى الانخراط في سوق العمل والزواج المختلط. هذه العوامل لمسنا ضعفها بما يخص اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الذين يعيشون في أغلبيتهم في مخيمات أو تجمعات معزولة إلى حد ما عن محيطها، ملتجئين لمؤسسات اجتماعية ومدارس خاصة بهم، إضافة إلى ضعف انخراطهم في سوق العمل نتيجة حرمانهم من حق العمل. هذا الكل لا بد أن يؤثر على الزواج المختلط الذي يعزز عدم انتشاره صورتهم السلبية في الوعي الجماعي اللبناني. يضاف لذلك أن فكرة الذوبان في المجتمع اللبناني غير مطروحة، كما رأينا، بسبب حلم العودة إلى فلسطين.

هذا الوضع الآنف الذكر يطال الشرائح التي عاشرت اللبنانيين بحكم سكنها خارج المخيمات ودراستها في مدارس لبنانية وزواجها المختلط من لبنانيين، حيث الشعور القوي بالتمييز ضدها واضح جداً. والجيل المولود في لبنان أو الذي كبر فيه مطالبه تجاه المجتمع اللبناني تتجاوز ما يمكن أن يطالب به أهله الذين عاشوا طفولتهم في بلدهم الأم. فهو يبحث عن أرضية صلبة يمكن أن يقف عليها لينطلق منها ويبني هويته بالاعتماد عليها. هذه الأرضية يفتقدها كما استنتجنا، بما يجعل الحاضر يبدو وكأنه معلقاً بانتظار مستقبل أفضل في مكان ما يسمح برد الاعتبار للنفس وتحقيق الذات، حتى ولو أن هناك من يعطي الانطباع فعلا بعدم رفضه كلية للوضع وبالرغبة للعمل عليه من أجل تحسينه.

استراتيجيات التعامل مع الآخر:

يمكن الحديث عن وجود استراتيجيات عدة تختلف باختلاف الأشخاص يلجأ لها من هم في وضع كهذا. هذه الأنماط السلوكية تحدد طبيعتها عوامل مختلفة مثل العمر والجنس والقدرات النفسية والمستوى الثقافي والمكانة الاجتماعية والتربية العائلية ومكان المنشأ وتجربة الهجرة وغيره من معايير. كما أن الفرد الواحد يمكن أن يلجأ لأكثر من استراتيجية مع مرور الزمن وحدوث تغييرات سلوكية لديه.

من هذه الاستراتيجيات كأن يعمل مثلاً على تجنب ما يمكن أن ينتقص من قيمته: مثل الذوبان في المجتمع المحيط وإلغاء الصفات التي تميزه، أو كأن يحول نظر الآخر من عناصر المقارنة التي استوجبت الحكم السلبي إلى ما هو قيّم لديه. في حالات أخرى، يمكن أن تكون الاستراتيجيات المتبعة مغايرة لذلك بأن يعزل نفسه عن مصدر الإهانة بتجاهله تماماً أو بعدم ايلائه أهمية تذكر والهرب إلى عالم حقيقي أو وهمي يجد فيه راحته النفسية. يمكن أيضاً أن يكون التهميش طريقة أخرى للخروج من ضرورة الخيار. يكون ذلك بمعناه السلبي، أي الجنوح، أو الإيجابي، أي عدم التوقف عند الجنسية، حيث الانتماء في هذه الحالة يتعدى البلدان المعنية لعالم دون حدود وحواجز.

على عكس ذلك يمكن اتباع استراتيجية مغايرة كالمواجهة الناشطة لكل ما ومن يخفض من قيمته. يعتمد ذلك على مقارعة اطروحات الغالب بحجج تدحضها وعدم اعتبار أهميتها أو بالتأكيد على الطابع الإيجابي وعلى تفوق ما يستعمل ضده كعنصر سلبي. لكن، بين استراتيجية تحاشي الصراع بالتلون حسب متطلبات الآخر والقطيعة مع مصدر هذا الصراع، يمكن اختيار حل وسط يقتضي معالجة متوازنة لما يسبب الإشكالية والتعاطي معها بهدوء وموضوعية من تقبل بعض الأحكام السلبية ورفض بعضها الآخر. يبدو أن هذه الاستراتيجية الثالثة تضعف إجمالاً لصالح السلوكات الأكثر تصلباً عندما يكون استقبال البلد المضيف لمهاجريه غير لائق بهم.

علاقة الأنا بالآخر:

عندما يعيش مجتمع ما حقبة تراجع وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، تكثر ظواهر النبذ الاجتماعي وتترعرع الإيديولوجيات العنصرية. فعدم الاطمئنان للغد والقلق النفسي مما سيؤول إليه الفرد يساعد على بروز الغرائز البشرية المكبوتة بشكل أكثر همجية. هذه المكبوتات اللاواعية تتمحور غالباً حول الآخر. هذا الآخر الذي هو مرآة الأنا، يجسد ما تعكسه هذه الأنا عليه من مشاعر سلبية تحمل الخوف والكره والنبذ وغيره. إن وجود كبش محرقة يسهّل تجنيب النفس نتائج ما تحمله من رواسب دفينة غير مقبولة اجتماعيا. حينها يمكن أن تصبح الجنسية والانتماء للوطن من مبررات التمايز الاجتماعي والتفرقة العنصرية. وهذا المناخ يطال بالطبع جزءا من القيمين على مقاليد الحكم، إن لم نقل جميعهم تفاديا للتعميم وحرصا على الموضوعية.

إن عملية إسقاط المشاعر الشخصية على الآخر والاقتناع بأن هذا فعلاً ما يضمره الآخر تجاهها آلية طبيعية في النفس البشرية. لكن تختلف فاعليتها وتواترها وإمكانية إدراكها وتقبلها باختلاف الأشخاص، بحيث تبقى الحجج المضادة المدعمة ببراهين دون جدوى عند الأكثر تصلباً. إنه لمن المعروف أن المرء عندما يبصر شيئا ما فهو إنما يراه من منظاره الذاتي وليس كما هو حقيقة. بمعنى أنه لا يتلقى بشكل سلبي ما يرى وإنما يرى ما يريد رؤيته في الشيء أو الآخر ويلبسه صفاتاً معينة. هذه الصفات يضفيها عليه انطلاقاً من معاييره الخاصة التي هي حصيلة بنيان نفسي معين وتموضع ثقافي محدد. أي بعلاقة مع مقاييس المنظومة الاجتماعية التي ينتمي لها أو بالأحرى ما اقتبسه واعتمد عليه من هذه المنظومة. من هنا يدخل هذا الآخر ضمن التصنيف الذي يناسبه والذي يسمح بإدراج الآخرين أمثاله فيه. بهذه الآلية ما يسهل التعاطي مع الإشكالية والسيطرة على الأحداث والمستجدات المتأتية منها ويوحي بالشعور بالطمأنينة.

هكذا يمكن أن نبصر كيف تتكون الأحكام المسبقة وآليات تعميم الجزء على الكل واختزال الكل المعقد إلى بعض عناصره ونفهم التصلب في قبول ما هو مختلف وعدم القدرة على محاكمة الأشياء بموضوعية. فيصبح الآخر مسؤولاً عن الإشكالية المطروحة التي تشكل خطراً على طمأنينة الأنا والنحن. هذه الصفات التي تعزى لهذا الآخر، والتي ليست بالضرورة تعنيه، تستلزم التقليل من قدره وتبرر اضطهاده. بالوقت نفسه يتم في حركة معاكسة إضفاء قيمة إضافية وغير مبررة على من ينتمون للنحن.

بهذه الآليات يسعى من يملك موازين القوى لأخذ مسافة كافية ممن هم في وضع أقل شأنا منه كي لا يتمكنوا من اللحاق به والتأثير على وضعه المتميز وتهديد شعوره بالطمأنينة. وهو عندما يسبغ على النحن خصائل تميزهم عن الآخرين، يضفي قيمة على هويته الشخصية التي تشكل جزءا من هذه الجماعة المتفوقة. مما يبرر له أن يصبح الآخر متنفساً لمكبوتاته، يستعمله ككبش محرقة كلما دعت الحاجة لذلك. وعندما تفتقد معايير الضبط وتنعطل القوانين التي وظيفتها حماية المغلوب من جور الغالب، يصبح التطرف مسألة مباحة.

نشهد تصعيداً لهذه الآليات في فترة الأزمات وعند الأشخاص الذين يفتقدون لبنيان نفسي متين ويكونوا عرضة أكثر من غيرهم للاهتزاز وسرعة التأثر وشدة القلق. وللإعلام مسؤولية كبيرة في هذا الصدد لأنه يلعب دوراً موجهاً. لكن ما هو مدعاة للقلق أن هذا المناخ يترعرع في مجتمع عرف هجرات متعددة ومتواترة وصل فيها اللبناني إلى شتى أصقاع الدنيا. مما يفترض السؤال عما كان حل بلبنان لو عرف أبناؤه ظروفاً مشابهة لهؤلاء اللاجئين في بلدان المهجر التي رحلوا لها؟

إضافة لذلك، ننتمي اليوم لعصر تتزايد فيه أكثر من أي وقت مضى احتمالات الإنقلاع من الجذور والتغرب عن الديار. إن الانقلابات التكنولوجية السريعة والتغييرات البيئية الكثيرة وعالمية اقتصاد السوق والتواصل الثقافي عبر الفضائيات وغيره تفرض تأقلماً سريعاً مع مستجدات العصر. إنها تتطلب انفتاحاً على الآخر وتغييراً في الأنماط السلوكية بعيداً عن السياسات القصيرة النظر وعن مناخ الأنانية والعنصرية والتقوقع على النفس وغيره من آفات فتّاكة بالإنسانية.

لكن، للأسف، ما زال الوعي الجماعي دون مستوى التقدم التكنولوجي، حيث يبقى رد الفعل الأقوى النبذ الاجتماعي وتحريك الرأي العام باتجاه سلبي وتصعيد التوتر. مما ينتهك الحقوق الأساسية للجماعات المستضعفة عبر أشكال متعددة. إن الطابع الهامشي لأوضاعهم من حيث مستوى العمل والأجر، وعدم الحماية الصحية والقانونية في حال توفر العمل لأقلية منهم، إلى جانب تفشي البطالة والبؤس في ظروف أزمة مستفحلة، ما يجعل اللاجئين الفلسطينيين في وضع لا يطاق. وهذا لا يؤدي لنتائج وخيمة عليهم فقط وإنما على المجتمع اللبناني بشكل عام، حيث أنهم منذ نصف قرن ونيف جزء منه شاء أم أبى. إن المواثيق والاتفاقات الدولية التي صادق عليها لبنان والتي تعتبر ملزمة له تقضي إلغاء إجراءات التمييز المعمول بها منذ عقود. كذلك الأمر بالنسبة للاتفاقيات العربية المبرمة والتي منها اتفاقية الدار البيضاء لعام 1965 التي تنص على ضرورة معاملة الفلسطينيين في الدول العربية التي يقيمون فيها مثل معاملة رعايا هذه الدول في إقامتهم وسفرهم وتيسير فرص العمل لهم مع احتفاظهم بجنسيتهم الفلسطينية.

عندما كانت المقاومة في فترة صعودها واستطاعت أن تغير صورة الفلسطيني في ذهن اللبناني كان التعاطي مع هذا الفلسطيني، عند جزء كبير من الناس على الأقل، أكثر إيجابية عما هو عليه اليوم. فالفلسطيني بالنسبة للبناني هو الوجه الآخر لعملة واحدة، حيث أن ما يخيف فيه هو قربه وليس اختلافه. ولهذا أيضاً هو يدفع مضاعفة ثمن ما آل إليه وضعه. ففي ضعف الآخر ما يسهّل الانقضاض عليه وتحميلّه وزر تداعي حالته. وفي حالات كهذه قد لا ينفع الصراخ من الألم بقدر ما يتوجب العمل على تغيير الصورة والإعلاء من شأنها.

من منطلق المصلحة المجردة، إن لم نتحدث عن الالتزامات الأخلاقية وضرورة احترام حقوق الإنسان كحد أدنى يجب التمسك به والانطلاق منه، هناك ضرورة لإعادة النظر بما مورس بحق اللاجئين الفلسطينيين حتى الآن. إنهم لا يمكن أن يشكلوا بعددهم المحدود عنصر منافسة للبناني الذي لا يقبل القيام بالأعمال التي تسند لهم، إضافة إلى أنهم يصرفون مداخيلهم في لبنان ولا يرسلوها لبلدهم كما هو حال العمال الأجانب الآخرين. من المؤسف أنه في ظل أوضاع اقتصادية بالغة السوء وجو من اللاإستقرار الدائم والتهميش المتعاظم للفئات المستضعفة والشرائح الفقيرة، ما فتئت السلطات اللبنانية تتخذ تدابيراً إضافية للتشديد على إقامة الفلسطينيين وتصعيب ظروفهم المعيشية من أجل ترحيل ما أمكن منهم. إن في هذا ما يخدم السياسة الاستيطانية لإسرائيل ويقدم لها هدية ثمينة على طبق من فضة.

للأسف، يهوى المغلوب أحيانا التشبه بالغالب وتقليد ممارساته المهينة له، فيبحث عمن هو أضعف منه ليوهم نفسه بانتصاراته. لكن إذا ما كانت الطبقة السياسية، التي تعيد إنتاج نفسها بشكل يؤمن الحفاظ على مصالحها، عاجزة عن تجاوز سلوكيات سلبية كهذه، فالمطلوب من الديمقراطيين ومنظمات حقوق الإنسان وجمعيات المجتمع المدني مناهضة النزعات العدوانية والعنصرية عند مراكز القرار والضغط على السلطات اللبنانية من أجل منح الفلسطينيين حقوقهم في العمل والصحة والتعليم. إن في ذلك ما يحفظ للفلسطينيين كرامتهم وتماسكهم الوطني في مواجهة مؤامرة التوطين. كما يساعدهم على العمل ضمن وضع أكثر صلابة للحصول على حقهم بالعودة وبدولة معترف بها عالميا، بدلا من الانشغال بهموم الحياة اليومية والبحث عن حلول فردية لمعاناتهم تبعثر طاقاتهم وتسهّل تشتتهم وتفتيتهم.

ولعل ما يجري اليوم من أحداث على الساحة الفلسطينية مع انتفاضة الأقصى من أجل استعادة الفلسطيني لحقوقه المهدورة بقوة الإرادة ورمزية الحجارة وبتضامن الشارع العربي معه ما يمكن أن يغير في وضع فلسطينيي الشتات ويحفز الحكومات العربية وخاصة اللبنانية على التعاطي مع لاجئيها الفلسطينيين بشكل أكثر حضاري وأخوي. لقد بدأت أصوات الشارع تصل لآذان كانت تغلّب القمع أو الهرب من مسؤولياتها على النوايا الجادة بالإصلاح. فهل سيقدّر للحكمة السياسية ولبعد النظر أن تعلو فوق الحسابات الضيقة وردود الأفعال البدائية محدثة نقلة نوعية طال انتظارها في التعاطي مع حقوق أساسية منتهكة لشعب كان قدره في هذا الزمن الغادر أن يكون الضحية بامتياز أينما حلّ؟

محمد حافظ يعقوب

ثمن البؤس: فلسطينيو لبنان: الهوية المحاصرة

 

أولاً ـ في البؤس الفلسطيني في لبنان:

1 ـ في صيف العام 1995، توّج الزعيم الليبي العقيد معمّر القذافي اعتراضه على الخيارات السياسية للقيادة الفلسطينية بعد توقيعها على اتفاقية إعلان المبادئ مع إسرائيل (اتفاقية أوسلو) بالإعلان عن قرار إنهاء إقامة الفلسطينيين في أراضي الجماهيرية الليبية، ودعا هؤلاء الأخيرين إلى العودة الفورية إلى بلادهم. كان هدف السيد العقيد من ذلك هو عقاب الزعامة الفلسطينية على ما اعتبره تفريطاً بالحقوق الفلسطينية أولاً، والكشف المبين للعالم عن هذا التفريط، ثانيا. فقد قال الزعيم الليبي في خطاب ألقاه في سرت في الأول من أيلول (سبتمبر) 1995 إنه “فليذهب ال 30 ألف فلسطيني الموجودون في ليبيا إلى بلدهم إذا سُمح لهم بذلك وإلا فسيرى العالم إن السلام الذي رُوّج له مؤامرة وخيانة”. وحض السيد العقيد الدول العربية الأخرى أن تحذو حذو بلاده على اعتبار أنه “يتوجب على الدول العربية ترحيل كل الفلسطينيين الموجودين فيها إلى الضفة الغربية لتفضح هذا المخطط الإجرامي”(1).

وبالفعل، باشرت سلطات الأمن الليبية، معززة في غالب الأحيان بميليشيات اللجان الشعبية الثورية وقوات الأمن السرية، إجراءات التنفيذ السريع لقرار القيادة. هكذا طُلب من آلاف العاملين الفلسطينيين وعائلاتهم مغادرة تراب الجماهيرية الليبية من غير تلكؤ. وجرى “تجميع الفلسطينيين العاملين في ليبيا في معسكرات قرب الحدود مع مصر استعداداً لطردهم”(2)، “في ظروف إنسانية بالغة الصعوبة”(3). ولما كان جميع الفلسطينيين المقيمين في ليبيا من اللاجئين، وكانت عودتهم إلى فلسطين غير ممكنة عملياً، فقد توجه المطرودون جميعهم نحو بلاد اللجوء الأول، أي إلى سوريا ولبنان والأردن ومصر.

وإذ تعذر على عدد كبير من لاجئي قطاع غزة بالذات التوجه إلى هناك، وفشلوا في الحصول على تصريح بالإقامة في أي من البلدان العربية التي طرقوا أبوابها4، فقد أقام مئات منهم في منطقة هضبة الفيوم على الحدود المصرية الليبية مخيماً زودتهم السلطات الليبية نفسها بالخيم أطلقوا عليه اسم “مخيم العودة”، قضوا فيه، أطفالاً ونساء ورجالاً، أشهراً طويلة في ظروف “مناخية وإنسانية قاسية”، على حد تعبير (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان). وقد بينت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان التي أوفدت إلى المنطقة لجنة لتقصي الحقائق عاينت المخيم وتعرفت على أحواله عن كثب “أن الوضع في المخيم ينذر بكارثة إنسانية..... وأن هؤلاء الأبرياء يدفعون ثمن خلافات ليسوا طرفاً فيها وقرارات لم يتشاور في شأنها معهم أحد”(4). ووقع عديد من لاجئي (مخيم العودة) فريسة أمراض مازالت عقابيلها بينة على عدد منهم.

ليس قرار السيد العقيد معمر القذافي هو الغرض مما سبق ذكره في الفقرة السابقة، فهذا يستوجب حديثاً آخر لا محل له هنا، باعتبار أنه يتصل بالسياسة العربية ومكانة الإنسان فيها، في حين أن موضوعنا هي أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان(5). والحال إن علاقة طرد الفلسطينيين من الجماهيرية الليبية وهذه الأوضاع كما سنرى وثيقة وبينة. فما إن شرعت السلطات الليبية في إجراءات الطرد، وأخذت طلائع المطرودين تظهر في المخافر الحدودية، حتى تصاعدت ردود الفعل اللبنانية على هذه القضية ذات البعد الإنساني البيّن. وتراوحت تصريحات المسؤولين اللبنانيين بين من يلقي اللوم على الزعيم الليبي السيد معمر القذافي، ومن يضعه على كاهل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات “لقبوله بدولة كرتونية”(6)؛ ومن يربط ذلك كله بالمؤامرة الصهيونية التي تعمل على تشتيت الشعب الفلسطيني وتبديد هويته. غير أن أبرز التصريحات وأخطرها من ناحية إجرائية هي تلك التي دعت إلى إقفال الحدود اللبنانية في وجه المطرودين الفلسطينيين، ومنعهم من الدخول إلى التراب اللبناني. بل إن بعض هذه الأصوات وصلت إلى حدود العنصرية الفصيحة إزاء الفلسطينيين كبشر وكشعب. ففي معرض حديثه بشأن الدواعي التي تدفع السلطات اللبنانية إلى منع دخول الفلسطينيين إلى لبنان، وإلى التضييق عليهم ووضع العراقيل في وجههم، قال السيد نقولا فتّوش، الوزير اللبناني للسياحة، أن لبنان لا يمكن له أن يقبل “نفايات بشرية”(7) على أراضيه. وسوف نعود إلى دلالات “زلة اللسان” هذه في الفقرات اللاحقة.

2 ـ والحقيقة أن أقوال الوزير اللبناني للسياحة جاءت بعد يومين فقط من اتخاذ السلطات اللبنانية جملة من الإجراءات الإدارية والأمنية لمواجهة دخول فلسطينيين مبعدين من ليبيا إلى الأراضي اللبنانية، وفي معرض دفاعه عن هذه الإجراءات المجحفة بحق الفلسطينيين في لبنان وخصوصاً من حيث حرية التنقل والإقامة. فبعد أيام قليلة من خطاب الزعيم الليبي بخصوص طرد الفلسطينيين، سارعت السلطات اللبنانية إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الأمنية المشددة على نقاط الحدود البرية والبحرية والجوية لمنع دخول المطرودين إلى لبنان، حتى لو كانت وثائق السفر التي يحملونها سارية المفعول وصادرة عن السلطات اللبنانية نفسها. ونظراً للطابع المستعجل لهذه الإجراءات، فقد جرى اتخاذها قبل اجتماع مجلس الوزراء، وبعد تشاور بين رئيس الجمهورية السيد الياس الهراوي، ووزير الخارجية السيد فارس بويز ووزير الداخلية السيد ميشال المر، وموافقة رئيس الوزراء السيد رفيق الحريري الذي كان متغيباً في باريس.

أعلن وزير الداخلية اعتماد تدبير غير مسوق بيانه أنه يتوجب على كل الفلسطينيين الموجودين خارج لبنان الحصول على تأشيرة دخول إلى لبنان. وأوضح السيد الوزير أن “من يريد الدخول عليه أن يطلب تأشيرة دخول مسبقة على وثيقة السفر اللبنانية التي يحملها. يأتي الطلب إلى لبنان وفي ضوء درس الطلب يتقرر”. وأضاف السيد الوزير “طلبنا أيضاً من وزارة الخارجية التعميم على السفارات، وقد عممت بالفعل، عدم إصدار وثائق سفر إلا بعد تحويل هذه الوثائق إلى الأمن العام الذي يقرر منحها أو عدم منحها. وكذلك الأمر بالنسبة للتأشيرة”(8). وبتاريخ 22/9/1995 صادق مجلس الوزراء على القرار الإداري 478 الصادر عن وزارة الداخلية بهذا الخصوص. ومن الجدير بالذكر أن نص القرار المذكور يتضمن، بالإضافة إلى منع أي فلسطيني يحمل الوثيقة اللبنانية من مغادرة الأراضي اللبنانية أو الدخول إليها إلا بعد الحصول على تأشيرة مسبقة، أن مدة صلاحية التأشيرة لا تزيد عن ستة أشهر وبرسم مالي قدره مئة ألف ليرة لبنانية.

يشكل القرار الإداري 478 مخالفة للمرسوم اللبناني رقم 1188 الصادر في 28/7/1962 الذي نص في المادة 22 منه على حرية تنقل الفلسطيني بين لبنان وخارجه بعد الحصول على وثيقة سفر من الجهات المختصة، كما يحق له تجديد هذه الوثيقة من البعثات اللبنانية في الخارج. غير أنه يشكل فوق ذلك مخالفة صريحة للأعراف والمواثيق الدولية وقرارات مجلس جامعة الدول العربية التي يلتزم بها لبنان وصادق عليها بحسب الأصول المرعية. إنه يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والمعاهدة الخاصة بوضع الأشخاص عديمي الجنسية Stateless Persons ˜1954)، والعهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، فضلاً عن اتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين (28/7/1951). فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعطت المادة 24 من هذه الاتفاقية الأخيرة اللاجئين المقيمين أصولاً حق الاستفادة من الامتيازات التي يستفيد منها الرعايا الوطنيون، أي الحقوق المدنية(9). وتتعارض هذه التدابير مع التعهدات والبروتوكولات والقرارات الخاصة باللاجئين الفلسطينيين التي يلتزم بها لبنان بوصفه عضواً في الجامعة العربية. فهي تتعارض مثلاً وأحكام بروتوكول الدار البيضاء (10/9/1965) بخصوص معاملة الفلسطينيين في الدول العربية. فقد نصت المادة الأولى منه على أن للاجئين الفلسطينيين “الحق في العمل والاستخدام أسوة بالمواطنين”، “مع الاحتفاظ بجنسيتهم الفلسطينية”. ونصت المواد الثانية والثالثة والرابعة على الحق في الخروج من البلد الذي يقيمون فيه أصولاً والدخول إليه “متى اقتضت مصلحتهم ذلك” (المادة الثانية)، وعلى حقهم “متى رغبوا في ذلك” في الحصول على “وثائق صالحة لسفرهم، وعلى السلطات المختصة أينما وجدت صرف هذه الوثائق وتجديدها بغير تأخير” (المادة الرابعة)(10).

3 ـ يتصل بما سبق ذكره استنتاجان:

أولاهما أنه لو اقتصرت محنة الفلسطينيين في لبنان على القضايا المتصلة بوثائق سفرهم وبحرية حركتهم من لبنان وإليه لكان ممكناً حل القضية بقرار آخر يلغي قرار وزارة الداخلية 478 في 22/9/1995 و/أو يعترف بعدم قانونيته، ولكان قرار (المديرية العامة للأمن العام اللبناني في 12/1/1999 ب ـ “اعتبار وثائق السفر اللبنانية المعطاة للفلسطينيين المقيمين في لبنان بمثابة جوازات سفر لبنانية والتعامل معها على هذا الأساس”(11) كافياً لـ “تنفيس الاحتقان في المخيمات الفلسطينية” بحسب التعبير الرائج لدى الأوساط السياسية والإعلامية في لبنان.

وثانيهما أن المقصود من هذه التدابير الإجرائية تخفيض عدد الفلسطينيين المقيمين في لبنان منذ العام 1948، وإشعارهم بأن وجودهم في هذا البلد غير مرغوب فيه. وقد لمح السيد وزير الداخلية اللبناني إلى ذلك في أمرين. الأول قوله هو نفسه إنه “في عهد الرئيس (الياس) الهراوي لم تُعط أي جوازات سفر للفلسطينيين”. والثاني هو “أن التوطين مرفوض من جميع اللبنانيين.. هذا قرار بُتّ على صعيد الحكم والحكومة وكل الشعب اللبناني”(12). وسنعود إلى هذه النقطة الأخيرة المتصلة برفض التوطين فيما بعد.

وبهذا الخصوص، يعرف المسؤولون اللبنانيون أن التدابير المتخذة بحق حرية سفر الفلسطينيين المقيمين أصولاً في لبنان تجافي أبسط المبادئ الحقوقية والإنسانية المتعارف عليها والمعمول بها في العالم، بل وتخالف القانون اللبناني نفسه. فالقانون اللبناني يعطي المعاهدة الدولية التي يصادق عليها قوة تفوق قوة القانون بدليل أن نص المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية يؤكد على أنه “عند تعارض أحكام المعاهدات الدولية مع أحكام القانون العادي تنطبق الأولى على الثانية في مجال التطبيق”. هكذا لا يجوز أن تتضمن المراسيم والقرارات الوزارية والإدارية اللبنانية أحكاماً تتعارض مع أحكام المعاهدات وإلا يكون هناك خرق لمبدأ تسلسل الأحكام القانونية، ويتوجب على مجلس شورى الدولة اللبنانية في هذه الحالة الحكم ببطلان العديد من القرارات غير القانونية بخصوص اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، كمثل القرارات الخاصة بالعمل والضمان الاجتماعي والتقديمات العائلية وغيرها(13).

4 ـ لا يستند الاستنتاج بوعي السلطات اللبنانية بلا قانونية الإجراءات المتخذة بحق الفلسطينيين على آراء الحقوقيين أو حتى على تصريحات السياسيين فقط؛ فقد اعترفت السلطات الشرعية اللبنانية في التقرير الرسمي المقدم إلى “قمة الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية” (كوبنهاغن 1995) بأن اللاجئين الفلسطينيين المقيمين على أراضيه يعانون من تدهور في الظروف الاجتماعية والسكنية والصحية. وفي 21/2/ 1994، اعترف رئيس الوزراء اللبناني السيد رفيق الحريري خلال اجتماعه ممثلي الفصائل الفلسطينية في لبنان، اعترف بضرورة “إعطاء الحقوق المدنية والاجتماعية” للفلسطينيين في لبنان، إلا أنه “لا إمكانية الآن لإقرار هذه الحقوق لأسباب سياسية ومالية”(14). وسوف نفصل في الأسباب السياسية فيما بعد.

تشير نتائج المسح الذي قامت به وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) للعام 1992 إلى أن حوالي 60 بالمائة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يعيشون تحت خط الفقر، وإلى أن أكثر من 36 بالمائة منهم غير قادرين على تأمين أي نوع من العمل. وقد ارتفعت هذه النسبة الأخيرة إلى 40 بالمائة في التقرير السنوي للعام 1995(15). ولا تفيد المعطيات المتوفرة لدينا اليوم عن تحسن يمكن الإشارة إليه.

ورد في تقرير المفوض العام للأونروا السيد بيتر هانسن في شهر آذار (مارس) 1998 “أن اللاجئين (الفلسطينيين في لبنان) مازالوا يعانون أوضاعاً بالغة الصعوبة ونسبة بطالة بلغت 40 بالمائة وقدرة شرائية متدنية وقيوداً في عدد من قطاعات النشاط الاقتصادي، وقيوداً على التنقل. وبقيت الأونروا عملياً المصدر الرئيسي للتعليم والصحة والإغاثة والخدمات الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، الذين لا يمكنهم الإفادة من الخدمات الصحية الحكومية بما فيها المعالجة في المستشفيات، كما لا يمكنهم الإفادة إلا في شكل محدود نوعاً ما من التعليم الرسمي”(16). غير أن الأونروا “لا تتوفر لا على المصادر المالية ولا على التفويض الضروري لتلبية احتياجات 352 لاجئ بشكل لائق”(17). وتواجه الأونروا عجزاً متنامياً في موازنتها يدفع بها نحو التقليص المستمر للخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية التي توفرها للاجئين الفلسطينيين في لبنان.

5 ـ وبخصوص العمل الفلسطيني في لبنان، تبدو اللوحة، هنا كذلك، قاتمة ومزرية. فأكثر من 96 بالمائة من الفلسطينيين في لبنان لا يتوفرون على إجازة عمل، ولا يتمتعون بالتالي بحق العمل. فبحسب البيانات الحكومية الرسمية في لبنان، بلغ عدد الفلسطينيين المجازين للعمل 460 شخصاً للعام 1997 (مقابل 271 شخصاً في العام 1996)(18). هكذا لا يتبقى أمام الفلسطينيين إلا سوق العمل الأسود، غير الشرعي، من ناحية، وغير العمل الموسمي، اليدوي والشاق، الذي لا يقتضي العمل فيه ترخيصاً حكومياً مسبقاً، من ناحية ثانية. “والخدم (في المنازل) لا يشملهم قانون العمل اللبناني، ما يعني أنهم محرومون من أية مرجعية قانونية، ويتعرضون لمزاجية الذين يستخدمونهم. كذلك عمال الزراعة لا يشترط القانون حيازة إجازة عمل. لكن ظروف هذا القطاع تتسم بتدني الأجور وساعات العمل الطويلة (لا تقل عن 12 ساعة يومياً)، وعدم توفر أية ضمانات أو تعويضات أو إجازات”(19). ثم أن قانون العمل اللبناني يغلق في وجه الفلسطينيين سلسلة كاملة من المهن والأعمال، التي تبدأ بالمدير حتى السكرتير الموثق، ومن المدرس حتى الحلاق والسائق مروراً بصناعة الأحذية والملبوسات والمفروشات المنزلية والميكانيك وغيرها في قطاعات المصارف والتعليم والحرف والصناعة والتجارة وغيرها. فعلى سبيل المثال، أحالت السلطات اللبنانية مجموعة من الأطباء الفلسطينيين في منطقة البقاع إلى المحاكمة بتهمة ممارسة المهنة من غير ترخيص. علماً بأن الترخيص المذكور لا يمنح للطبيب (والمحامي والمهندس) إلا إذا كان منتسباً لنقابة الأطباء (أو المحامين والمهندسين)، في حين أن النظام القانوني للنقابة يشترط في العضو أن يكون لبنانياً منذ عشر سنوات(20). وقضى الجدول رقم 9 الملحق بقانون موازنة الدولة للعام 1999 برفع رسم الموافقة المسبقة على عمل كل شخص من الفلسطينيين المسجلين بالمديرية العامة لشؤون اللاجئين إلى 25 بالمائة من الرسم على الأجنبي بعد أن كان 20 بالمائة في السابق (أي منذ العام 1996)، وبرفع رسم بطاقة الإقامة للأجانب في لبنان(21).

6 ـ “ويشكل المسكن مشكلة أخرى عويصة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، في داخل المخيمات وخصوصاً بين اللاجئين المهجرين الذين يعيشون خارج المخيمات. يعيش بعض الأشخاص المهجرين بشروط فظيعة: تعيش أسر يبلغ عددها 14 شخصاً في غرفة واحدة تعوزها الخدمات بشكل كلي أو شبه كلي مثل بالمياه، ومجاري التصريف أو الكهرباء”(22). وهنا كذلك، يبدو العامل السياسي، أنه يقف في أساس سياسة التقييد الثقيلة بخصوص سكن الفلسطينيين إنْ في المخيمات أو في خارجها. فما زالت الرقعة الجغرافية للمخيمات القائمة (وفي الأصح التي بقيت قائمة) في لبنان على حالها التي كانت عليه منذ أكثر من خمسين سنة، في حين أن عدد السكان زاد أكثر من ثلاثة أضعاف. ومع الدمار الذي لحق معظم المخيمات خلال الحرب الأهلية اللبنانية وحرب المخيمات وأثناء الإعتداءات الإسرائيلية المستمرة على لبنان والمخيمات فيه، تفاقمت مشكلة السكن في المخيمات تفاقماً حاداً. وهي مشكلة تصطدم بموقف السلطات الرسمية المتعاقبة الذي يمنع إعادة إعمار المخيمات المدمرة، أو إعمار مخيمات بديلة عنها، أو حتى توسيع المخيمات القائمة. و”منع قرار إداري غير معلن صادر من الأمن العام اللبناني زيادة مساحة أي مخيم، كما منع بناء طوابق فوق المسكن الأرضي، بل اشترط أن يكون البناء من حجر وسقف من الصفيح”(23). هذا يشرح “قرار منع أي مواد تستعمل للبناء في المخيمات كحجارة الباطون (الطوب) والإسمنت، ألواح الخشب، المسامير، حنفيات المياه، أو المصابيح والتمديدات الكهربائية.. هذا يعني ليس منع البناء فقط وإنما ترميم البيوت القائمة من الداخل والخارج. تضمن الدولة تنفيذ هذا القرار من خلال مراكز تفتيش عسكرية تسيطر على جميع المداخل والمخارج المحددة لكل مخيم(24).

7 ـ ليس في الأفق ما يشير إلى تغيير في موقف السلطات اللبنانية بهذا الصدد. فما زالت المخيمات الفلسطينية، وخصوصاً في الجنوب، مطوقة بوحدات الجيش اللبناني التي تضبط الدخول والخروج من المخيمات وإليها لمقتضيات “الأمن”. الأمر الذي دعا السيد فاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية المنظمة التحرير الفلسطينية، عشية زيارته الرسمية التي وافقت عليها السلطات الرسمية بعد سنوات من التمنع إلى أن يطرح المساءلة التالية: “هل ترون أن هناك بالفعل ضرورة لوجود الجيش حول المخيمات؟”(25). وكانت الصحافة اللبنانية نشرت قبل وصول السيد القدومي إلى العاصمة اللبنانية بيوم واحد فقط الخبر التالي الذي نسبته إلى “الأوساط السياسية اللبنانية”: “أقدم الجيش اللبناني أمس الأول على فتح الطريق المؤدي إلى مخيم عين الحلوة من المدخل الغربي بالقرب من “حسبة صيدا”، وهو الممر الرابع الذي يؤدي إلى عين الحلوة، ولم يبق سوى مدخل واحد مقفل من جهة محلة السيروبيه ـ التعمير”(26).

ثم إن مشروع إنماء الضاحية الجنوبية لبيروت يتضمن شق طرقات واسعة يمر بعضها في مخيمي شاتيلا وبرج البراجنة. فهناك “قرار رسمي لبناني بجرف حوالي ثلاثمائة منزل في العمق الشمالي لمخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين.. مما يؤدي إلى تضرر حوالي ثلاثة آلاف نسمة من أبناء المخيم (..) ويتردد في هذا السياق أن هناك مشروعاً ثانياً لطريق عرضي يشق المخيم من الجنوب إلى الشمال لكن لم تؤكد أي جهة رسمية مثل هذا المشروع”(27). كما أن مشروع إعادة بناء المدينة الرياضية يتضمن بناء مرافق الخدمات الحيوية في الحي الغربي لمخيم شاتيلا(28)، الأمر الذي يعني عملياً تحويل المخيم إلى مجمع سكني صغير مهدد بالاقتلاع.

تقيم السلطات السياسية والإدارية في لبنان رابطاً وثيقاً بين تحسين شروط العمل والسكن للاجئين الفلسطينيين المقيمين أصولاً على الأراضي اللبنانية، أي اندماج هؤلاء في حياة البلاد وخروجهم من شروط التهميش المزرية التي يعانون منها، وبين ما صار يعرف بسياسة رفض التوطين. ففي كل مرة أثيرت قضية التضييقات المتعمدة بحق الفلسطينيين من دون غيرهم من الناس في لبنان، تؤكد هذه السلطات على أن الغرض من القيود المفروضة هو حماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في عودتهم إلى فلسطين وصوناً لها من التآكل، من جهة، وأن إبراز البعد الإنساني، أي البعد المتصل بالبؤس الفلسطيني، هو بالضبط البعد الذي ينبغي عدم الخوض فيه لصالح البعد السياسي، من جهة ثانية. يتضح ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في كلمة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود في افتتاح القمة الفرانكوفونية الثامنة في مونكتون بكندا، وأورد فيها أن “أي خطوة لمعالجة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من زاوية إنسانية، من دون الأخذ بالاعتبار الحجم السياسي للمشكلة، هي خطوة خطيرة ووهمية”(29). يتضح ذلك أيضاً في كلمة الدكتور سليم الحص، رئيس الحكومة، في كلمة لبنان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء 23/9/1999 وجاء فيها أن لبنان “يؤكد على الرفض المطلق لتوطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه... وأن يلفت الانتباه إلى مخاطر التعامل مع هذه القضية من منظار اقتصادي واجتماعي بحت، والتغاضي عن بعدها السياسي الذي هو جوهر الظلم الناتج عن تشريد الفلسطينيين من ديارهم”(30).

ثانياً ـ في إنتاج البؤس الفلسطيني في لبنان:

8 ـ لو توقف البؤس الفلسطيني في لبنان على جملة التضييقات الإدارية المتصلة بحرية الحركة والقيود المفروضة على السكن والعمل وجملة الحرمانات الأخرى المتصلة بها، لكان أمكن لكل فلسطيني،كما يقول الحقوقي د. عدنان الضناوي(31)، مراجعة القضاء الإداري لإبطال كل قرار أو مرسوم صادر عن السلطة اللبنانية يحرمه حق ممارسة العمل في إحدى المؤسسات الخاصة، كمثل القرار 289/1 الصادر بتاريخ 18/12/1982 عن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الذي أغلق باب العمل في لبنان أمام الفلسطينيين في مجالات ومهن يتزايد عددها كل سنة. وكذا الأمر بخصوص غيره من القرارات التي تطال أوليات الحقوق الإنسانية المعتمدة دولياً ولبنانياً.

غير أن البؤس الفلسطيني في لبنان هو، في أُسّه، بؤس سياسي أي فوق حقوقي. إنه حالة سياسية مستثناة من الحقوق أو في الأصح تستوجب حقوقها المخصوصة التي هي لها، ويعني ذلك عملياً غياب الحقوق. إن البؤس الفلسطيني في لبنان هو أولاً بؤس السياسة في لبنان كيلا نقول بؤس لبنان في سياساته. فالسياسة تبدو هنا كما لو كانت خلواً من أي مضمون غير مضمونها الذي تحدده هي ذاتها، أو كما لو كانت محكومة فقط بغاياتها التي يرادُ إنجازها، وأن معاييرها التي لها تجبّ ماعداها، كل ماعداها، من معايير وتلحقها بها. هكذا توضع المعايير الإنسانية والمواثيق والمعاهدات والبروتوكولات الدولية المصدّق عليها من قبل لبنان، وهي بالتعريف سياسية أي حقوقية وإجرائية إذن، بين قوسين حين يتصل الأمر باللاجئين الفلسطينيين، ويدفع بها إلى الخلف في سلم الأوليات. يلاحظ الدكتور فريد الخازن، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت، بهذا الخصوص ما يأتي: “تتجاوز قضية اللاجئين الفلسطينيين الجانب الاجتماعي والقانوني لتصل السياسة والقومية، لذلك فإنها تتخطى البعد الإنساني الحصري”(32).

هكذا تبدو السياسة في لبنان ديناً مكتفياً بذاته وبمعاييره ويغلق كل أفق عداه. وإذ كانت المعايير الخلقية والإنسانية ذات بنية تستعصي على الاستيعاب في السياسة، بالمعنى الضيق السلطوي للسياسة، يغدو الدين السياسي للدولة اللبنانية هو الدين الوحيد الذي يتحكم بفعلها ويوجه بوصلة حركتها في التاريخ. هكذا يبدو تهميش المعايير الخلقية والإنسانية والخروج حتى عن المعايير الدستورية والقانونية للدولة اللبنانية نفسها، كما لو كان هو وحده الذي يندرج في إطار الفعل السياسي بل والسياسة بما هي كذلك. وتكفي جولة سريعة على جملة التعليلات التي رافقت وما تزال ترافق إجراءات التضييق بحق الفلسطينيين في لبنان لإدراك ذلك. فحالما تستدعى قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وتطرح فكرة ضرورة تنظيم الوجود الفلسطيني في هذا البلد والشكل القانوني لهذا الوجود، حتى يرتفع اللغط ويتجه الحديث مباشرة إلى “المشكلة التي يطرحها التوطين على توازنات التركيبة الطائفية في لبنان”. هكذا يُصار إلى التأكيد على “عزم الحكومة اللبنانية على الحؤول دون استيعاب الفلسطينيين في لبنان على نحو يؤثر سلباً على صيغة حياته الدستورية والسياسية والاجتماعية والديمغرافية وتوازنها”(33)، وإلى القول ب ـ “خطأ الاعتقاد أن منح الحقوق الإنسانية والاجتماعية يسهم في دعم حق الفلسطينيين في العودة إلى بلادهم”(34).

9 ـ ثمة علاقة وثيقة إذن بين بؤس الفلسطينيين في لبنان وما تسميه اللغة السياسية اللبنانية بسياسة “رفض التوطين”. وهي تعني، بحسب هذه اللغة نفسها، مقاومة توطين الفلسطينيين في لبنان ورفض منحهم الجنسية اللبنانية. أما هذه الإرادة في المقاومة فمصدرها الفكرة التي تقول إن “التوطين أخطر مشروعة يطرح اليوم على الساحة اللبنانية(35) و”شر مطلق بالنسبة للبنان”(36)، باعتبار “أن أي أخذ بالتجنيس والتوطين من شأنه أن يقضي على المعالم اللبنانية، التي يدافع عنها اللبنانيون (... و) يبدد معالم لبنان التاريخية والراهنة”(37).

إنه الحرص على “الصيغة اللبنانية” (أي التوازنات الديمغرافية بين أطراف الاجتماع اللبناني التي تقف وراء توزيع حصص سلطة الدولة اللبنانية بين ممثلي المكونات البشرية/ الطائفية) إذن من الانهيار هو الذي يقف وراء سياسة “رفض التوطين”. وهو الخوف من احتمالات هذا الانهيار الذي يحض السلطات اللبنانية على التأكيد المستمر على أن رفع التضييقات الكبيرة التي تحيط بحياة الفلسطينيين في لبنان وتحسين شروط إقامتهم وتنظيم وجودهم دلالة، كما بينا فيما سبق، توطينهم في لبنان. هكذا أصبح موضوع التوطين الفلسطيني وفي الأصح رفضه ووضع العراقيل في طريقه أولوية سياسية في لبنان(38)، من ناحية، وقضية “لا يمكن تجاهلها ولا يمكن للبنان أن يتحملها”(39)، من ناحية ثانية. وقد نصت الفقرة (ط) من مقدمة الدستور اللبناني الجديد (صدر في العام 1990) على أنه “لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين”(**)، مما يعني، كما يقول نائب رئيس حزب الكتائب المحامي الأستاذ كريم بقرادوني، أن التوطين غدا “موضوعاً كيانياً يتعلق بمصير لبنان”. ويضيف الأستاذ بقرادوني أن “إجماع اللبنانيين على رفض التوطين وإدخال هذا المفهوم في صلب الدستور اللبناني يدل على مدى خوف اللبنانيين من هذا الاحتمال وقناعة كل اللبنانيين بأن التوطين مشكلة حقيقية لا يمكن للبنان أن يتحملها”(40). ويضيف الحقوقي الدكتور محمد المجذوب في مداخلته أمام المؤتمر الذي نظمه مركز الدراسات القانونية للعالم العربي في كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة القديس يوسف (بيروت في 26 ـ 27/11/1999)، أن “أهم نتائج الفقرة (ط) يتمثل في صفتها الإلزامية لجميع السلطات والهيئات والأفراد في لبنان وخارج لبنان”(41). هكذا يمكن القول إن رفض التوطين غدا في لبنان نقطة الإجماع الوحيدة في وقت تعز في لبنان عوامل الإجماع بكل جلاء.

ينبغي القول إن حرص اللبنانيين على “منع التوطين” لا يعني أن هناك مشروعات محددة وبرامج مطروحة لتوطين الفلسطينيين في لبنان، وأن سياسيي هذا البلد وأصحاب الرأي فيه تدارسوا الأمر وبحثوا نتائجه واستخلصوا بعد ذلك أخطاره على “الصيغة اللبنانية”. فقضية التوطين “ليست أمراً واقعاً، كما يشاع في بعض الأوساط”(42)، أي ليست أمراً مطروحاً لا على جدول الأعمال وليس ثمة من يطلب من لبنان أن يفعل ذلك. فلا أصحاب العلاقة المباشرة، وهم الفلسطينيون وخصوصاً في لبنان، بالقائلين بالتوطين، ولا يطرح غيرهم من القوى النافذة في العالم ما يفيد بذلك. ويعترف السيد فارس بويز، وزير الخارجية وأحد أبرز معارضي التوطين ومهندسي سياساتها، أن موضوع التوطين ليس على جدول الأعمال: “لم أسمع يوماً من أي طرف دولي بمشروع لتوطين الفلسطينيين في لبنان، ولكن الخطر ليس بأن يكون هناك من مشروع، بل إن عدم وجود حل لمشكلتهم (= رحيلهم عن لبنان) يوازي خطر التوطين”(43). إن سياسة رفض التوطين هي إذن سياسة الخوف من حدوثه، و/ أو سياسة تبديد هذا الخوف. وإن حصار المخيمات ومنع ترميم البيوت والسكن وإغلاق فرص العمل وفرض القيود على الاستشفاء وتقييد الحركة هي إذن سياسة وقائية من احتمال التوطين أو في الأصح من تعذر عودة الفلسطينيين إلى فلسطين في الأفق القريب. وأن دفع الفلسطينيين إلى الرحيل عن لبنان هو الهدف المباشر، العاجل، من وراء سياسة “منع التوطين” هذه. “إن المقصود بالحديث عن التوطين في لبنان”، كما يقول الدكتور نبيل شعث، وزير التعاون الدولي في السلطة الوطنية الفلسطينية، “هو التهجير، وللأسف هناك مؤامرة لتهجير الفلسطينيين”(44). والواقع أن النتيجة المباشرة لسياسة منع التوطين هذه، أي تعميق البؤس الفلسطيني وتجديد عناصره، كانت بالضبط، كما يؤكد المسؤول الفلسطيني، تخفيض عدد الفلسطينيين في لبنان بشكل كبير: “نصف (عدد) اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، حوالي 150 ألفاً، هُجّروا.. هجرتهم السياسة اللبنانية التي عملت على حرمانهم من العمل والحياة”(45). هكذا لم يكن إنتاج البؤس الفلسطيني من غير طائل في الحسابات السياسية لسلطة في لبنان، فقد نجم عن سياسة توليد البؤس أن رحل عن لبنان، كما أشرنا قبل قليل، عدد كبير يصعب حصره من الفلسطينيين المقيمين فيه إلى المهاجر الأوروبية (ألمانيا ودول الشمال الاسكندنافية على وجه الخصوص) والأمريكية وغيرها(46). وتتناقل الأخبار عن موافقة عدد من الدول على أفكار لبنانية المصدر لاستيعاب عدد من الفلسطينيين لدى هذه الدول.

10 ـ يمكن القول إنه، منذ انعقاد مؤتمر مدريد في خريف العام 1991، راج ظن بأن حلاً سلمياً للقضية الفلسطينية هو في الطريق، وأن نهاية ما لقضية اللاجئين الفلسطينيين يجري تدبير أمرها، وأن هذه النهاية لن تكون عودتهم إلى بلادهم، بل التعويض عليهم على الأرجح وتوطينهم في بلاد اللجوء. وقد تعامل لبنان الرسمي مع ذلك الظن باعتباره احتمالاً كبيراً ومشروعاً قيد الإنجاز. وجاء اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في خريف 1993 (اتفاقية أوسلو) لتعزز الظنون اللبنانية في أن اللاجئين لفلسطينيين لديه سيبقون فيه، وسيكونون بالتالي العبء الذي يُرادُ له أن يحتمله منهم. هذا يفسر لماذا أن السيد فارس بويز، وزير الخارجية اللبناني طيلة التسعينات، يؤكد على أن عدم وجود مشروع للتوطين يعني التوطين، من جهة، وعلى ضرورة ترحيل الفلسطينيين عن لبنان، كلهم إن أمكن أو معظمهم على الأقل، من جهة ثانية. يقول السيد فارس بويز في مقابلة صحفية مطولة: “لم أسمع يوماً من أي طرف دولي بمشروع لتوطين الفلسطينيين في لبنان، ولكن الخطر ليس بأن يكون هناك من مشروع، بل إن عدم وجود حل لمشكلتهم يوازي خطر التوطين”(47).

في تصريحين تفصل بينهما خمس سنوات كان فيهما وزيراً لخارجية لبنان، يقدم السيد فارس بويز تصوراً يكاد يلخص، في أسّه، قصة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان على وجه العموم وفي العقدين الأخيرين على وجه الخصوص. تجتمع في هذا التصور عناصر المحاجة المنطقية التي تسوغ فيها سلطات الدولة اللبنانية السياسات الرسمية بخصوص اللاجئين الفلسطينيين، أولاً؛ وفيه تتضح الغايات التي يؤمل التوصل إليها عبر هذه السياسات، ثانياً، ويتكشف البرنامج العملي لمعالجة قضية الوجود الفلسطيني في لبنان بصورة جذرية، ثالثاً؛ وفيه تبدو صورة العمل السياسي كما لو كانت صناعة الاستثناء، رابعاً. ف ـ “توطين اللاجئين في لبنان يشكل مشكلة ديمغرافية وجغرافية وسياسية وطائفية واقتصادية واجتماعية. وهذا الأمر ليس باستطاعة لبنان تحمله”. وبحسب السيد بويز، هناك شرطان ضروريان لنجاح لبنان في تنفيذ برنامجه المتكامل لحل هذا الأمر الذي “ليس باستطاعة لبنان تحمله”، أي الوجود الفلسطيني في لبنان، أولهما، أن لبنان “يطالب أشقاءه العرب التضامن معه لجهة إيجاد حل عربي لهذه المشكلة”؛ وثانيهما أن “يجند لبنان طاقاته الدولية” لتحقيق هذا البرنامج العتيد. ويقوم البرنامج على مبدأي جمع شمل العائلات “أي أن يحق للأقلية المقيمة في لبنان أن تلتحق بأكثرية عائلتها في الأجزاء المحررة من فلسطين”، و”عودة من هم أصلاً من غزة وأريحا وما سيتبعها من مناطق في الضفة” كخطوة أولى؛ ولما كان السيد بويز يعرف أن أكثرية الفلسطينيين المقيمين في لبنان (وفي الأصح ما تبقى منهم) هاجروا من منطقة الجليل في العام 1948، فهو يتبع (الحق الأول) بشرط ثاني هو شرط “بلورة حق الاختيار للفلسطينيين الذين يريدون اختيار بلد الإقامة (= خارج لبنان) بمساعدة دولية”(48). غير أن ما لم يقله السيد بويز يوضحه السيد إلياس الهراوي، رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، بخصوص مطالبته “بتوزيع الفلسطينيين على هذه الدول الكبيرة (أي أوستراليا وكندا والبرازيل وأمريكا اللاتينية) وبعض الدول العربية لأن مساحة لبنان ضيقة جداً”(49).

هكذا نفهم الترداد الكثير لعبارات مثل نصيب لبنان وحصة لبنان من اللاجئين في نقاشات اللبنانيين من ساسة وصحفيين بهذا الخصوص. يكتب السيد بو حبيب بو عبد الله، سفير لبنان السابق لدى الولايات المتحدة الأمريكية، أن “على دول القارات الأمريكية والأوروبية والأسترالية أن تفتح أبواب الهجرة لهؤلاء اللاجئين (= الفلسطينيين في لبنان) فيأخذ كل من هذه الدول حصته من الفلسطينيين وهم أهل جد وهمة ونشاط ومنهم من ساهم في تنمية بلدان عربية وأفريقية عديدة”(50).

11 ـ تبدو الأمور، هنا كذلك، عصية على التصديق. فمع أن المسؤولين اللبنانيين يعرفون أن أصحاب العلاقة المباشرين، وهم اللاجئون الفلسطينيون، يصرّحون من غير توقف برفض التوطن في لبنان، ويؤكدون بفصيح العبارة على تمسكهم بحق العودة إلى ديارهم، وأنه ليس ثمة من يطرح على لبنان، باستثناء إسرائيل، توطين الفلسطينيين لديه، غير أنهم لا يكفون مع ذلك عن الإعلان بأن التوطين “بداية جهد دولي وإقليمي يبدد معالم لبنان التاريخية والراهنة.. بحيث يصبح بعدها لبنان ـ إذا ما حصل التجنيس والتوطين ـ مجرد دولة كباقي الدول”(51).

ثمة مؤامرة على لبنان إذن لإرغامه على توطين الفلسطينيين لديه. وتضع صحيفة الأنوار البيروتية في عددها الصادر في 30/8/1999 بين أيدي القراء معلومات إضافية تتصل بالمؤامرة: إن “أصحاب أنشطة اتجاه الرفض عمدوا إلى إبلاغ قوى دولية وإقليمية أنهم يرفضون أية “صفقة مقايضة” تجعل اللبنانيين يتخلون عن رفضهم للتوطين والتجنيس”. ويضيف رئيس الرابطة المارونية السيد بيار حلو على ذلك بالقول إن “لبنان وطن ليس للبيع”(52).

ثمة صفقة مشبوهة إذن طرفاها “الجهات الدولية التي طرحت على لبنان 20 مليار دولار ثمناً لتوطين الفلسطينيين في لبنان” و”بعض السياسيين اللبنانيين المستعدين للمضي في مشروع التوطين، وإن كانوا يعلنون غير ذلك”. وثمة أولئك الذين يريدون حماية لبنان من فقدان هويته، ويرفضون التوطين والتجنيس، على الرغم من إغراء الصفقة. ويحرص الرئيس الحالي لجمهورية لبنان العماد إميل لحود، الذي كشف مؤخراً عن سر الصفقة في مقابلة صحفية مطولة “على التأكيد أن مشروع التوطين للفلسطينيين لن يمر في عهده مهما كانت الأثمان”، وعلى أن بحثاً “في العمق في إيجاد حلول لمشكلة اللاجئين عبر صيغة (جمع الشمل). وفلسطينيو لبنان هم المستفيدون من ذلك. والأمر يناقش في الكواليس كما نوقش في قمة كامب ديفيد”(53). ومن الواضح أن السيد الرئيس يشير هنا إلى ما تردد في الآونة الأخيرة عن موافقة إسرائيل على طلب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على البدء بفلسطينيي لبنان في استيعاب بعض الفلسطينيين في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية. ومن الجدير ذكره بهذا الصدد أن الصحافة اللبنانية نقلت ما يقوله “دبلوماسيون لبنانيون شاركوا في محادثات مع دبلوماسيين أمريكيين” عن أن هؤلاء الأخيرين أبدوا موافقتهم على “أن يُصار إلى فتح باب الهجرة أمام عدد محدد من هؤلاء (= اللاجئين الفلسطينيين في لبنان) باتجاه دول كبرى، وأن يُصار إلى نقل مجموعة أخرى إلى دول عربية لن تجد صعوبة في استيعاب بضع عشرات الآلاف من هؤلاء”(54).

ثالثاً ـ سيرورة التهميش، ثمن البؤس:

12 ـ منذ أن صادق رئيس الجمهورية اللبنانية السيد أمين الجميل ورئيس الحكومة الدكتور سليم الحص في 21/5/1987 على القانون الرقم 25/87 الذي يقضي بإلغاء “اتفاق القاهرة” من طرف واحد، ويعتبره “لاغياً وكأنه لم يكن وساقطاً. كما تعتبر جميع الاتفاقات والملاحق المرتبطة باتفاق القاهرة والإجراءات المتعلقة فيه لاغية وكأنها لم تكن وساقطة”(55)، لم تبد سلطات الدولة اللبنانية ما يدل على أنها في وارد إصدار قوانين جديدة لتنظيم الوجود المدني الفلسطيني في لبنان. هكذا عاد الوضع القانوني للفلسطينيين في لبنان إلى ما قبل “اتفاق القاهرة”، وعادت سلطات الدولة اللبنانية إلى سياساتها السابقة على هذا الاتفاق في معاملة الفلسطينيين المقيمين على أراضيها، نظرياً، في حين أنها من ناحية عملية قامت بمراكمة الصعوبات وبافتعال القيود إن من حيث الكم أو من حيث الكيف.

ومن المعروف أن “اتفاق القاهرة” الموقع في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 1969 بين السلطات اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية لم تنحصر بنوده في القضايا العسكرية وحدها؛ وهو لم ينظم الوجود المسلح الفلسطيني في لبنان فحسب، بل والوجود المدني أيضاً. وغني عن القول إن الشق الثاني المتعلق بالوجود المدني لا يقل أهمية عن الشق الأول. فقد اتفق الطرفان، بحسب نص الاتفاق، كما نشره الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية السيد شارل حلو، “على إعادة تنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان على أساس:

1 ـ حق العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين في لبنان على أساس:

2 ـ إنشاء لجان محلية من الفلسطينيين لرعاية مصالح الفلسطينيين المقيمين فيها وذلك بالتعاون مع السلطات اللبنانية وضمن نطاق السيادة اللبنانية”(56).

ظل “اتفاق القاهرة” سرياً جداً؛ الأمر الذي أتاح عدم ترجمة الشق المدني منه إلى تشريعات قانونية تنظم العلاقة بين الدولة اللبنانية والفلسطينيين في لبنان، من ناحية، وحرّر السلطات اللبنانية بإلغائه في العام 1987 من أي التزام يقيدها، وأطلق يد عسفها من غير ردع، من ناحية ثانية. ولم يبق أمام الفلسطينيين بعد إلغاء الاتفاق غير تلك التصورات التي تنظر كما بينا إلى الوجود الفلسطيني في لبنان باعتباره واحداً من أعظم الأخطار التي تهدد الكيان اللبناني، إن لم يكن الخطر الوحيد. هكذا خضع الفلسطينيون في لبنان، مند خروج منظمة التحرير الفلسطينية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت صيف العام 1982 إلى مسلسل من العنف المفتوح امتد حتى العام 1987، ومنذ نهاية الحرب الأهلية وما سمي باسم حرب المخيمات خلال سنتي 1986 و 1987، إلى عنف مقنّع يستهدف ترحيلهم من لبنان.

ولم تؤد المحاولة الوحيدة لتقنين الوجود الفلسطيني في لبنان لأي نتيجة على الإطلاق. فبعد ضغوط ومطالبات ملحة من أجل تنظيم هذا الوجود، دعت الحكومة اللبنانية في 3/7/1991 الجانب الفلسطيني إلى تحديد رؤيته لماهية الحقوق المدنية التي يعتبرها ضرورية ويطالب بها. وشكلت لهذا الغرض لجنة وزارية للحوار مع ممثلي الفلسطينيين في لبنان تكونت في البداية من الوزير السيد محسن دلول واللواء فرحات، ثم أعيد تشكيلها بحيث غدت مكونة من السيدين الوزيرين عبد الله الأمين وشوقي الفاخوري. وقدم الوفد الفلسطيني مذكرة موحدة يحدد فيها تصوره للحقوق المدنية والاجتماعية والمشكلات التي يجب حلها لتستقيم العلاقة بين الطرفين. وتم الاتفاق في الاجتماع، كما يقول السيد صلاح صلاح عضو الوفد الفلسطيني، على مواعيد وجدولة الاجتماعات القادمة. لكن الوفد اللبناني ماطل وسوّف. فكان ذلك الاجتماع هو الأول والأخير(57). والحقيقة أن الطرف اللبناني، عشية انعقاد مؤتمر مدريد (خريف 1991) سارع إلى تجميد الحوار “بدعوى تجنب أي عمل قد يؤثر في نتائج عملية السلام”(58).

13 ـ ليس موضوع هذا البحث تقويم ماضي العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية أو حتى حاضرها. فهذه سيرورة تاريخية، معقدة بالضرورة، تختلط فيها العواطف والأوهام والأساطير والنوايا والوقائع. وهي صارت، منذ حصار بيروت من قبل القوات الإسرائيلية في صيف العام 1982 وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية منها، موضوعاً لكل لبس. ومنذ منتصف التسعينات بشكل خاص، غدا الوجود الفلسطيني في لبنان حقلاً خصباً لكل حساسية ممكنة، ودخلت العلاقة الفلسطينية/ اللبنانية في عسر شديد. ويقول مهندسو السياسات اللبنانية الرافضة ل ـ “التوطين” إنهم يريدون حماية هوية لبنان من خطر الذوبان والتلاشي، وحماية لبنان نفسه من الانشطار. ويضيف بعضهم إلى ذلك إنه لو احترم الفلسطينيون القوانين والأنظمة اللبنانية لما قسا عليهم لبنان. ولولا أنهم تدخلوا في الشؤون الداخلية اللبنانية لما كانت الرغبة في الخلاص منهم قوية كما هي اليوم(59). والدليل على ذلك، كما يقولون، هو أن لبنان احتضن الفلسطينيين وعاملهم بكل الحسنى الممكنة منذ هجرتهم القسرية في العام 1948، وظل يعاملهم كذلك إلى أن غدوا عنصر خطر على كيان لبنان نفسه، وعلى توازناته بل واستقلاله ووجوده.

غير أنه حالما نتجاوز تخوم البعد السياسي المتصل بمواقف الوقت الحاضر من “التوطين”، ونتوغل قليلاً في الأشياء، حتى تتكشف الأمور عن أنها أكثر تعقيداً من هذه اللوحة البسيطة والمبسطة، وأنها تنفتح على حقل واسع من المفارقات التي تمس الاجتماع اللبناني نفسه بإجماعاته وأساطيره وتناقضاته، من ناحية، والطاقة التدميرية الهائلة التي يحتضنها ويزرقها بأسباب البقاء والديمومة، من ناحية ثانية. وتصعب الموافقة على الرأي الذي يقول إن سياسة تهميش الفلسطينيين ورفض منحهم أبسط الحقوق الإنسانية والاجتماعية المتعارف عليها في العالم تعود إلى ذاكرة الحرب الأهلية ودور الفصائل الفلسطينية في هذه الحرب(60). فبخلاف الصورة التي يروّجها بعضهم، لم تكن سلطات الدولة اللبنانية قبل اتفاق القاهرة تتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين إلا من منظار الأمن، بكل ما تحمله النظرة الأمنية من هواجس وتعسف وضيقِ أفقٍ نزِق، ولم تستطع أن ترى فيهم غير خطر يستوجب القمع. وتستند هذه المعاملة إلى دراسة، ذات اعتبارات أمنية كذلك، ترى في البؤس الفلسطيني أرضاً خصبة للثورة والتمرد، ومناخاً صالحاً لانزراع الأفكار التي تعتبرها كل جهة أمنية هدامة، أي مصدر تهديد للاستقرار.

وإذ لم تكن الذاكرة الجمعية لسكان مناطق الدولة اللبنانية تعكس في مرآتها هوية مشتركة، فقد مثل ميثاق 1943 عقد شراكة تغلب عليه الضرورة بين نبلاء الجماعات المحلية جميعها. ولما كان اللبنانيون مازالوا جماعات أهلية تُغلّب تعاضدات الأسرة والحي والعشيرة والضيعة والجهة والطائفة على كل تعاضد آخر، فقد كانت صيغة الميثاق ناجحة لإدارة الاختلافات وتخفيف حدة التوتر التي تقتضيها الوطنية الجديدة التي أسس لها الميثاق. إذ كيف يمكن الجمع بين كل هذه الانتماءات المتقاطعة وتجاوز انقساماتها من غير البدء بصياغة تاريخ مشترك، جديد بالتعريف؟

ثم إن الفلسطينيين عندما وصلوا إلى لبنان، بدءاً من نيسان (أبريل) 1948، بالآلاف كلاجئين، وصلوا إلى بلاد لم يكن سكانها قد استقروا لا على مشروع يجمع بينهم ويعيد تشكيلهم في الهوية الجديدة التي أرادها الميثاق لهم، ولا كانت دولتهم قد تعرفت على استراتيجيتها الخاصة بها كدولة إزاء دول الجوار. وإذ لم يكن لبنان، عشية النكبة الفلسطينية في العام 1948، قد شكل نخبته الوطنية بالمعنى المألوف للمصطلح، ومن غير سياسة بالمعنى الإنمائي، فقد كان للنكبة الفلسطينية عليه وقع الزلزال ذي الرجع القريب. وليس من غير دلالة بهذا المعنى أن يكون أول ضحايا الزلزال الفلسطيني في لبنان هما الشخصيتان الأبرز في تأسيس لبنان الجديد، لبنان الميثاق، وهما رئيس الجمهورية المرحوم الشيخ بشارة الخوري الذي أطاح به عجزه عن حكم البلاد بعد النكبة، ورئيس الوزارة المرحوم رياض الصلح، الذي نحاه الشيخ بشارة الخوري، شريكه الأول في الميثاق، عن الحكم. يُروى على لسان المرحوم رياض الصلح قوله “إن نكبة فلسطين قصمت ظهري، وإن هزيمة العرب هي قبل كل شئ هزيمتي في لبنان”(61).

لم يكن الميثاق بالصيغة التي تحتمل التغيير، أي تغيير مهما كان. فقد أراد له صانعوه أن يكون صيغة لا تُمَس مهما حدث؛ في حين أن التوازنات الدقيقة التي نجمت عنه وعبّر عنها في آن كانت في أساس بنيانها أشد هشاشة من احتمال أي اختلال. يقول رئيس الجمهورية الأسبق السيد شارل حلو بهذا الخصوص، “صيغ ميثاق 1943 لصالح لبنان مستقر على الصعيد الديمغرافي، أو ذي نمو متسق، في شرق مزدهر وساكن وأخوي، وبحضور غربٍ قريب وصديق”(62). هكذا يمكن القول إنه من سوء حظ لبنان أن ميثاقه الوطني الذي أسس له لم يحتسب و/ أو لا يستطيع أن يحتسب، لأي تغيير لا على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الإقليمي، ولا حتى على صعيد إمكانية إعادة صياغة الميثاق نفسه. وإنه من سوء طالع الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى لبنان وعثار حظهم أنهم وجدوا أنفسهم في هذا البلد الملتبس، وخضعوا لشروط اجتماعه الذي لا يحتمل أية عواصف وخصوصاً من وزن النكبة الفلسطينية.

لا غرابة في أن يصبح الوجود الفلسطيني في لبنان شأناً داخلياً في الصراع المحتدم على السلطة بين الرجالات اللبنانيين. بل كيف يمكن له أن ينجو من الاستخدام السياسي المباشر مادامت الصراعات على السلطة تقتضي بالضرورة مراكمة القوى ورص الصفوف في عالم ديدنه بالتعريف القوة، أي السلطة؟ وكيف يمكن له أن ينجو من ذلك إن كانت القضية الفلسطينية نفسها تلونت في لبنان ومنذ البدايات بألوان الانقسامات اللبنانية التي أراد الميثاق إدارتها وامتصاص توتراتها؟ ولا غرابة إن عرفنا أن أطراف الميثاق اللبناني هي نفسها التي أولجت اللجوء الفلسطيني في القضايا الداخلية المتصلة بتوازنات “الصيغة اللبنانية” ذاتها؟ وليس من غير دلالة بهذا الخصوص أن التوزيع الجغرافي للنزوح الفلسطيني إلى لبنان خضع لاعتبارات سياسية إن لم نقل سياسية/ طائفية. فاللاجئون الفلسطينيون المسيحيون وزعوا في مناطق مسيحية، واللاجئون المسلمون استقروا في مناطق إسلامية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ضمت مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة ونهر البارد الواقعة في مناطق إسلامية فلسطينيين مسلمين، في حين ضم مخيما جسر الباشا وضبية الموجودان في مناطق مسيحية فلسطينيين مسيحيين. ننقل فيما يأتي ما نشرته صحيفة النهار البيروتية في عددها الصادر في 12/5/1949: “أكثر الفلسطينيين المسيحيين الذين لم يعودوا إلى فلسطين منحوا الجنسية اللبنانية على مراحل (..) بينما لم يمنح الجنسية من الفلسطينيين المسلمين سوى قلة منهم، كما أن هؤلاء أوقفت معاملاتهم التي تقدموا بها للحصول على الجنسية”(63).

14 ـ ليس الميثاق اللبناني هو الغرض مما سبق ذكره، بل علاقة لبنان باللاجئين الفلسطينيين إليه في تلك الفترة المبكرة من عمر اللجوء، واللّبس الشديد الذي يحيط وما زال يحيط بهذه العلاقة. وإذ كان غرض هذا البحث هو سبر البؤس الفلسطيني في لبنان والسعي لوضع عناصره تحت دائرة الضوء، وليس كتابة تاريخ العلاقة الفلسطينية/ اللبنانية وتشعباتها، فإننا سنقتصر على الموقف الرسمي للسلطات اللبنانية من قضيتين مترابطتين هما الوضع القانوني للفلسطينيين في لبنان وانعكاساته على العمالة الفلسطينية فيه.

ينبغي البدء بالتصحيح الفوري للصورة التي سبق وصفها في الفقرات السابقة بخصوص وحدانية النظرة الأمنية للسلطات اللبنانية إزاء الفلسطينيين. فالمسؤولون اللبنانيون يعرفون أن تحسين الأوضاع الصحية والمعاشية للاجئين هي الوسيلة الأفضل لضمان الأمن في المخيمات الفلسطينية في لبنان، غير أنهم كما يبدو عجزوا لأسباب تخرج عن نطاق بحثنا الحالي عن تبني سياسة تصب في هذا الاتجاه. فمنذ البدايات، ظلت التقارير توصي بضرورة تحسين أوضاع الفلسطينيين لتحاشي الفوضى وضمان الأمن، لكن السياسات الرسمية ظلت مع ذلك على حالها من حيث الاعتماد على أجهزة الأمن. يكفي مثالان لتوضيح ذلك. في تقرير رسمي قدم إلى رئيس الوزراء السيد رياض الصلح في حزيران (يونيو) 1948 بخصوص الأوضاع “في بعض الثكنات” التي يقيم فيها اللاجئون، طلب واضع التقرير السيد عاطف نور الله “من رجال الحكومة والمسؤولين تلافي ما يعاني منه اللاجئون من جوع وإهمال، وإلا فإن الفوضى والتظاهرات واضطراب حبل الأمن سيعم في لبنان”(64). وبعد أكثر من عشرين سنة من التقرير الأول، وفي تقرير “سري للغاية” موجه من قبل المدير العام للأمن العام السيد جوزيف سلامة إلى القيادة العامة للجيش (المكتب الثاني) بتاريخ 8/9/1969، يوصي السيد سلامة بضرورة “تحسين وضع المخيمات على الصعيد الاجتماعي والتربوي وعلى الصعيد الصحي”، وبضرورة توطيد العلاقة مع الفلسطينيين في داخل المخيمات وإشراكهم في تحسين شروط حياتهم “على الصعيد الإنساني البحت”(65)، وذلك بالضبط لمقتضيات الأمن في لبنان.

غير أن لبنان الرسمي لجأ أو لم يستطع غير أن يلجأ إلى المعالجة الأمنية من دون غيرها من المعالجات الممكنة. وسواء أكانت الأسباب التي أفضت إلى هذه النتيجة المؤسفة ترجع إلى صيغة الميثاق أو إلى تضارب الآراء بين المسؤولين بهذا الخصوص، أو إلى محدودية الموارد المالية، أو حتى إلى عجز النخبة الحاكمة عن استيعاب معاني النكبة الفلسطينية، و/ أو إلى كل هذا، فقد كانت النتيجة ثقيلة الوطأة على تاريخ العلاقات بين شعبين تجمع بينهما روابط التاريخ والجغرافيا والثقافة واللغة والمستقبل.

ومن غير المشكوك فيه أن مواقف بعض الفئات اللبنانية التي لا تستسيغ عروبة لبنان كانت تلعب دوراً كابحاً لتبني السلطات الرسمية سياسة متزنة تجاه الوجود الفلسطيني في لبنان. إذ سرعان ما كانت توجّه الاتهامات للحكومة بتهديد الكيان اللبناني وبالتضحية به. غير أن أساس هذه السياسة الأمنية يعود في المقام الأول إلى محدودية الإمكانات اللبنانية على الصعيدين الإداري والاقتصادي، أكثر منه إلى الاعتراضات التي كانت ترتفع هنا وهناك. فاللجنة المركزية لغوث اللاجئين، المشكلة في أواخر 1948 برئاسة السيد جورج حميري مدير غرفة رئاسة الجمهورية، لم تكن تتوفر على أية إمكانات تؤهلها للقيام بأعباء المهمة الخطيرة المنوطة بها. في حين أن المديرية العامة لشؤون اللاجئين، التي استحدثت في العام 1959، وأوكلت لها مهمة الاهتمام بالوجود الفلسطيني في لبنان، كانت مكونة من مدير وعشرة موظفين فقط(66) من أجل النظر في قضايا حوالي 130 ألفاً هو عدد الفلسطينيين في لبنان وقتئذ(67). هكذا لم يكن أمام الدولة اللبنانية من خيارات عملية سوى الاعتماد المتزايد على أجهزة الأمن بغرض ضبط الفلسطينيين في لبنان.

يمكن القول إن شعور السلطات اللبنانية بهشاشة “الصيغة اللبنانية”، وبضعف الإمكانات، هو الذي رجح لها الانزلاق في الخيار الأمني ذي الأفق المغلق، وتنامي الاعتماد عليه. ومع تزايد أعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يتدفقون بدءاً من أواخر نيسان(68) نحو جنوب لبنان، وتوضح حجم الهزيمة العربية في فلسطين، وتنامي المشاعر الغاضبة في كل مكان في بلاد العرب، وليس في لبنان فحسب، بدأ زلزال النكبة يمس لبنان كذلك، وأخذت هشاشة “الصيغة اللبنانية” تتضح بجلاء كذلك(69). وإذ صار القول بالتغيير والثورة يملأ المشاعر والحناجر، لم يكن ممكناً للحلبة السياسية في لبنان أن تنجو من رجع النكبة الفلسطينية الملتهب.

15 ـ ومهما يكن الأمر، فإن السلطات اللبنانية لم تتأخر كثيراً كي تظهر تبرمها من وجود عشرات الآلاف من الفلسطينيين فوق الأراضي اللبنانية، وكان العامل الأمني وفي الأصح تكشف هشاشة “الصيغة اللبنانية” هو المسوّغ القوي الذي يقف وراء التغير السريع الذي شهدته العلاقة باللاجئين من الترحاب الكثيف إلى إظهار الضيق.

منذ بدأت الأفواج الأولى للنازحين تتدفق على لبنان، وجّه الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية في 25 أبريل (نيسان) 1948 (أي قبل دخول الجيوش العربية إلى الميدان) رسالة إلى اللبنانيين يحضهم فيها على الهدوء وتحاشي اضطراب الأمن والفوضى كي “تمكنوا حكومتكم من التصرف بحكمة ورويّة من أجل الدفاع عن فلسطين وعضد الأقطار الشقيقة في مواجهة الطمع الصهيوني... ) وساعدوا حكومتكم على استقبال أخوتكم اللاجئين الفلسطينيين”(70). وعبّر كل من رئيس الوزراء السيد رياض الصلح ووزير الخارجية السيد حميد فرنجية في تصريحاتهما عن تضامن قوي مع اللاجئين الفلسطينيين “مهما كان عددهم ومهما طالت إقامتهم (..) وما يصيبنا يصيبهم وسنتقاسم فيما بيننا وبينهم آخر لقمة من الخبز”(71). وقام مكتب فلسطين الدائم في لبنان ومنظمات الصليب الأحمر اللبناني والنجادة والهيئة الوطنية وغيرها في جمع المساعدات وتوزيعها وتقديم الإسعافات الأولية وغير ذلك من أعمال الغوث والدعم.

وسرعان ما بدأ التذمر يطغى على التضامن المرحّب؛ فقد بدأ لبنان، بحسب تصريح وزير الخارجية أمام مجلس النواب في 12/5/1948 “يرسل إلى سوريا يومياً بعض الفلسطينيين في القطار”. وفي الجلسة نفسها، ألح عدد من النواب على أن “من واجب الدول العربية أن تشاطر لبنان هذه المهمة الشاقة وأن تمد له يد المعونة فتعمل على إيواء بعض اللاجئين” وأن “تأخذ من هؤلاء اللاجئين قسماً”(72). وأخذ لبنان الرسمي يتجه منذئذ نحو إظهار التبرم بهذا العبء الذي وقع عليه من حيث لا يحتسب. وما إن مرت سنة ونصف السنة على النكبة الفلسطينية، حتى تبلورت المواقف اللبنانية الرسمية والحزبية السياسية بل والسيكولوجية من الفلسطينيين التي نجد تعبيراتها القصوى اليوم.

16 ــ ولا يسع المتابع لسجال اليوم بخصوص اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ألا يلحظ الثبات الجلي في منطق المقاربة عما كان عليه قبل خمسين سنة، أي منذ بدايات اللجوء. فمع أن الزمن تغير، والعلاقات الدولية تغيرت، ولبنان تغير، والفلسطينيون تغيروا هم كذلك، فإن محتوى العلاقة مع الفلسطينيين، المحتوى السياسي والقانوني أي الإجرائي، يبدو كما لو كان عصياً على أي تغيير. فكما يبدو شعار رفض “التوطين” كما لو كان الكلمة السحرية التي تجتمع حولها كل التباسات سياسات اليوم والمواقف اللبنانية المختلفة بخصوص الوجود الفلسطيني في لبنان، لعب شعار “رفض التوطين” قبل خمسين سنة كما سنرى الدور نفسه الذي له اليوم.

في 19/10/1949 أصدرت الخارجية اللبنانية بياناً جاء فيه إنه “لا يسع لبنان قبول اللاجئين في أراضيه للإقامة الدائمة..(واشترط) ألا يلحق عمل اللاجئين في لبنان ضرراً باليد العاملة اللبنانية”(73). وفي اليوم نفسه، عزا ناطق رسمي حكومي هذا الرفض إلى “أن الكيان اللبناني يقوم على أسس دقيقة أهمها التوازن الطائفي، فإذا أضيف إليه عدد من اللاجئين مهما كان ضئيلاً، اختل ذلك التوازن اختلالاً قد يثير مشاكل لاحد لها (..وإن) لبنان بلد صغير يضيق بأبنائه..فكيف يستطيع إذن أن يستوعب إخواننا اللاجئين وهو يضيق بأبنائه؟ (ثم) إن أقطاراً عربية أخرى تستطيع أن تستوعبهم بسهولة”(74).

صحيح أن تصريح الخارجية اللبنانية المذكور كان موجهاً في الأساس لتوضيح الموقف الرسمي اللبناني والعربي في المفاوضات العلنية والسرية بخصوص اللاجئين الفلسطينيين، ولتبيان رفض لبنان قبول أي من المشروعات العديدة لتوطين الفلسطينيين واستيعابهم، غير أنه يعكس أساس النظرة الرسمية اللبنانية التي مازالت بينة حتى اليوم: إنه التوازن السياسي في داخل “التركيبة” اللبنانية، أي في حصص السلطة التي وزعها ميثاق 1943 في قسطاس معلوم على نبلاء الجماعات اللبنانية وطوائفه مرة واحدة وإلى الأبد. وإنها الرغبة القوية في الاحتفاظ بميزان القوى داخل سلطة الدولة اللبنانية من غير أي تعديل هي ما يقف وراء كل هذه السياسات وفي الحقيقة اللغط الذي يرافقها.

لا يحيل القول بالأسس الدقيقة التي يقوم عليها الكيان اللبناني إلى القول بهشاشة التوازن الذي قامت عليه الصيغة اللبنانية، وبالوعي بهذه الهشاشة، فحسب، بل وكذلك إلى انغراز الذعر لدى بعضهم من احتمال أي تعديل في موازين القوى التي أدّت إليها. وهو يشرح، فيما يخصنا هنا، لماذا سرعان ما تحول الوجود الفلسطيني في لبنان إلى عنصر توظيف داخل الصيغة اللبنانية نفسها، من جهة، ويسهم، من جهة ثانية، في فهم الظاهرة التي أشرنا إليها بخصوص عجز لبنان الرسمي عن التعامل مع الفلسطينيين لديه إلا من منظار الأمن.

هناك عوامل أخرى بالتأكيد. منها أن النكبة الفلسطينية كانت كذلك بداية تغيير عاصف ستشهده بلدان العرب، بَدْأً من سوريا كما هو معروف. وما كان بمقدور لبنان أن ينجو بطبيعة الحال من تفاعلات النكبة. فقد كانت الرغبة في التغيير والثورة تملأ النفوس التي هزتها النكبة في كل مكان من لبنان كما في غير لبنان. من بين هذه العوامل أيضاً أن الوجود الفلسطيني الكثيف في لبنان شكّل بالضرورة مادة صالحة للتوظيف في إطار “الصيغة اللبنانية” من قبل أطراف هذه الصيغة نفسها. فهشاشة الصيغة تغري أطرافها بتعديلها من أجل ترجيح وضعها الخاص داخلها، كما لاحظنا بخصوص تفضيل منح الجنسية اللبنانية للمسيحيين من الفلسطينيين من دون غيرهم من اللاجئين. أما بالنسبة إلى الحركات “الثورية” التي تبشر بضرورة التغيير، فقد شكل البؤس الفلسطيني المناخ الصالح لضم ما تيسر من اللاجئين إلى صفوفها كرفاق مناضلين. هكذا سرعان ما أعيد تصنيف الفلسطينيين بحسب اعتبارات الصيغة اللبنانية ومنطق توازناتها. صاروا هم كذلك مسيحيين ومسلمين، ينتمون أو ينبغي أن ينتموا إلى هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصيغة اللبنانية.

أما لبنان الرسمي، لبنان الذي كانت النكبة تميد به كما تميد بغيره من بلدان العرب، فقد قاده تعثره وارتباكه إلى الاحتماء بمعايير الأمن والأجهزة الأمنية في التعامل مع الفلسطينيين. مثال واحد يكفي للدلالة على ذلك. في 9/3/1950 أحبطت محاولة لاغتيال رئيس الحكومة السيد رياض الصلح في رأس بيروت من قبل سوري قومي لبناني الجنسية انتقاماً لإعدام أنطون سعادة. غير أن أوساطاً سياسية وصحافية أقامت ربطاً وثيقاً بين محاولة الاغتيال الفاشلة والوجود الفلسطيني في لبنان، باعتبار أن الحزب السوري القومي كان يضم في صفوفه عدداً من الفلسطينيين اعتقلوا مع غيرهم من أعضاء الحزب بعد العملية. وبدلاً من أن يجري الربط بين المناخ المحبذ للتغيير الذي تولد عن النكبة العربية في فلسطين، أخذت الأحاديث تدور حول مسؤولية الفلسطينيين أنفسهم في توليد هذا المناخ. ففي جلسة مجلس النواب اللبناني التي عقدت في 13/3/1950 وخصصت لمناقشة محاولة الاغتيال، طالب النائب السيد إبراهيم عازار بضرورة تشديد الإجراءات الأمنية بحق الفلسطينيين: “إن في البلاد عرباً أتوا من الخارج، وقد نكبوا في أموالهم وبلادهم، فضعفت نفوسهم ووجد دعاة السوء طريقهم إليهم(..) أحصوا اللاجئين ودققوا في هوية كل فرد وأبعدوا عن لبنان غير المرغوب فيهم منهم، فإن فلم تقوموا بعمل حازم عرضتم البلاد للتهلكة”(75).

17 ـ لم يكن اللاجئون الفلسطينيون في لبنان طائفة لبنانية بطبيعة الحال. غير أنهم شكلوا في معايير الاجتماع اللبناني موضوع تعامل مزدوج. فمن جهة، من الممكن لهم أن يصبحوا مادة تنضاف إلى الاصطفافات اللبنانية، الطائفية بالضرورة، فتعززها وتسهم في إنجاح التجربة اللبنانية التي كانت وليدة. ومن الممكن أن يشكلوا، من جهة ثانية وعلى العكس من ذلك، عنصر شغب وفوضى تهدد “التجربة اللبنانية” نفسها. وإذ كان الفلسطينيون في لبنان بالتعريف مجموعة بشرية مركبة تحمل الممكنين كليهما وغيرهما في آن، كان من المتعذر اختزالهم إلى مجموعة متجانسة في صيغة واحدة. الأمر الذي كان يحث على ترجيح المعالجة الأمنية على كل معالجة أخرى. فبعد أربعة أيام على اغتيال الرئيس رياض الصلح في عمان على يد بعض السوريين القوميين، اغتيل في 20 تموز (يوليو) 1951 في القدس الملك عبد الله على يد الفلسطيني مصطفى شكري عشو الذي ينتمي إلى جيش الجهاد المقدس. في 23 تموز (يوليو)، أرسل الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية رسالة إلى الملك عبد العزيز آل سعود أشار فيها إلى “تجرؤ الإرهاب الفلسطيني على اغتيال الملك عبد الله”(76).

لا يترك رئيس الجمهورية السابق السيد شارل حلو أي خيار أمام قارئ مذكراته غير خيار المقاربة الأمنية لقضية الوجود الفلسطيني في لبنان. فالمخيمات الفلسطينية “التي تحاصر مدننا” و”تسيطر على مدننا”(77)، “أصبحت بسرعة معاقل فلسطينية لا يمكن مسها أو تحريكها”(78). ويضيف أنه في تقريره الذي أعده لرئيس المكتب الثاني في العام 1957 (أي قبل أحداث 1958) “وجهت الانتباه إلى أن المخيمات حول بيروت تحيط بالعاصمة، وفي صيدا تسيطر على معسكرات الجيش، ويتحكم (مخيم) نهر البارد يكل تنقل من طرابلس نحو الشمال”(79). يغدو منطقياً والحال كذلك أن يكون الاستنتاج الذي يتوصل إليه السيد شارل حلو هو الاستنتاج الوحيد الآتي: “ظل اللاجئون في لبنان إذن بالقرب من مدننا الرئيسة، ولم يتوقف عددهم عن التزايد(..) وبتفاقم خيبتهم، غدوا طوراً ضحايا، وأطواراً أخرى مدبري كل حركات التمرد أو الثورة”(80).

قد يشرح ما سبق ذكره لماذا بقي الوجود الفلسطيني في لبنان حتى العام 1960 يعتبر من منظار الدولة اللبنانية “وجوداً طارئاً، يخضع لقوانين الأجانب تارة، وتارة لقرارات إدارية متضاربة، بعضها صادر عن مديرية الأمن العام، وأخرى من وزارة الداخلية، وثالثة من الشعبة الثانية في الجيش اللبناني، والتي تضمن مراقبة تحركات وانتقال الفلسطينيين، ورصد كل نشاط سياسي لهم، بينما ازداد إهمال وجودهم الحياتي شيئاً فشيئاً”(81). غير أنه يشرح على الأرجح “استراتيجية” عزل تجمعات الفلسطينيين عن بعضها، “وإخضاع التنقل بين مخيم وآخر لشرط الإذن العسكري المسبق، ولجملة من التحقيقات التعسفية، كما هدفت لمنع الاتصال بين فلسطينيي لبنان وغيرهم في الأقطار العربية الأخرى، إضافة لقانون العزل السياسي، الذي تضمن منع دخول الصحف والمجلات والكتب السياسية إلى المخيمات، تحت طائلة الاعتقال والتعذيب”(82).

وضعية الهامش:

18 ـ كنا تحدثنا عن القيود المفروضة حالياً على العمل الفلسطيني كواحد من عناصر البؤس الكلي للفلسطينيين غي لبنان. لكننا سنحاول هنا أن نسبر دلالات هذه القيود، ودورها الكلي أو الوظيفي في ترسيخ هذا البؤس من ناحية، وعلاقتها بسيرورات الاجتماع اللبناني نفسه، من ناحية ثانية. فهنا كذلك، تبدو الأمور كما لو كانت عصية على التصديق. ولا يسع المراقب المدقق بخصوص عمل الفلسطينيين في لبنان ألاّ يلحظ الثبات القوي في منطق المقاربة عما كان عليه قبل خمسين سنة، أي مند بدايات اللجوء. فمنذ العام 1951 أي بعد أقل من ثلاث سنوات على النكبة واللجوء، غدت قضية العمل الفلسطيني انشغالاً سياسياً لبنانياً، وأحد الموضوعات الساخنة التي تحتل حيزاً واسعاً في صحافتها. صارت موضوع مساجلات في البرلمان، ومصدر توتر يكشف عن حدة الانقسام اللبناني بخصوص الصيغة اللبنانية، ويفسح المجال بالضرورة لكل أنواع المناورات التي تستهدف استخدامها في الصراعات على السلطة في لبنان.

ففي أواخر العام 1951، أصدر وزير الشؤون الاجتماعية السيد إميل لحود قراراً اشترط فيه على كل أجنبي يود العمل في لبنان أن يحصل على إجازة من وزارة الشؤون الاجتماعية، لأن الوزارة المذكورة تطبّق القوانين على أي “أجنبي دون تمييز سواء كان فلسطينياً أم غير فلسطيني”.

أثار قرار الوزير اعتراض الهيئة العربية العليا لفلسطين في لبنان التي بينت في كراس نشرته بهذا الخصوص أن عدد العاملين الفلسطينيين في لبنان لا يتجاوز ألفي شخص، وأن “لبنان استفاد من اللاجئين الفلسطينيين ولم يتضرر من وجودهم”. وأن حملة التضييق الأخيرة التي يتعرض لها الفلسطينيون في لبنان صادفت “قبولاً عند بعض النواب المحترمين، ووجدت هوى في نفوس نفر من الصحافيين ورحب بها ذوو المصالح الخاصة والاستغلاليون، وابتهج لها المستعمرون”(83). وأثار النائب المعارض السيد إميل البستاني في جلسة مجلس النواب المنعقدة بتاريخ 13/12/1951 مجدداً موضوع تشغيل الفلسطينيين في لبنان، مستنكراً اعتبارهم أجانب، ومنعهم من العمل لهذا السبب. فقلب النائب السيد جوزيف شادر القضية على الصورة التالية: “نريد أن يعامل اللبناني معاملة اللاجئ. فاللاجئ الفلسطيني يأخذ إعانته من لجنة الإغاثة الدولية. نحن نريد أن يتساوى اللاجئ الفلسطيني مع اللبناني العاطل عن العمل. وأعتقد أن هذه هي أحسن وسيلة يمكن أن نؤديها للاجئين”. وفي حين أن النائب السيد الياس الخوري ألح على أن “اللبناني له الحق قبل أي شخص آخر في وطنه”، أضاف النائب حبيب المطران أنه يعتبر أن كل تجاوز لقانون العمل بمثابة تجنيس للفلسطينيين. وختم وزير الشؤون الاجتماعية النقاش مؤكداً أن الحكومة لا ترفض لهم (الفلسطينيون) عملاً إلا إذا تعارضت مصلحتهم ومصلحة اللبناني فاللبناني أولى وأحق”(84).

في خاتمة هذا النص الذي مازال مفتوحاً، لابد من قول كلمة والتحفظ عليها في الوقت نفسه. فلا يمكن الاستنتاج مما سبق استعراضه في هذا النص بحضور عنصرية لبنانية حيال الفلسطينيين في لبنان. ولا يمكن عزو رغبة بعضهم الفصيحة برحيل الفلسطينيين كلهم أو جلهم عن لبنان إلى عنصرية بالمعنى الذي عرفته حضارة أوروبا البيضاء و/ أو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو إسرائيل.

فمنذ البدايات، لم تكن السياسات المتشددة إزاء الفلسطينيين والتي أسست لسيرورة من التهميش القسري الاجتماعي والسياسي، ذات طابع عنصري تجاه الفلسطينيين بما هم كذلك. إنها في الأساس سياسة ذعر غرضها الحفاظ على الصيغة اللبنانية” التي نتجت عن ميثاق 1943، وعن جملة الامتيازات التي توفرها هذه الصيغة لنفر مخصوص من اللبنانيين. ولقد دفع الفلسطينيون ثمن هشاشة هذه الصيغة وفي الأصح ثمن سياسة الدفاع الوقائي الذي استهدف صون صيغة لا تصمد أمام أي امتحان. بدليل بسيط هو أنها بالضبط صيغة قائمة على التوازن الهش، أي المعطوب. ثم ألا تلخص القولة اللبنانية الشهيرة بأن (قوة لبنان في ضعفه) هشاشة الصيغة والوعي بهذه الهشاشة في آن؟

ربما كان الفلسطينيون في لبنان ضحية الصيغة اللبنانية التي لم تترك مكاناً في العام 1943 لأية مجموعة بشرية و/ أو طائفة جديدة في داخل التركيبة. غير أن لبنان قبل الفلسطينيين هو أيضاً أسير الصيغة الهشة التي لا يمكن لها أن تصمد أمام أي تغيير محتمل دائماً إن على المستوى الداخلي أو على المستوي الإقليمي القريب.

وبهذا الخصوص، لم يخطئ الأستاذ كريم بقرادوني بقوله إن “واثق بأنه ليس هناك سياسة من التمييز العنصري بين اللبنانيين والفلسطينيين بحيث يتم إفقار الفلسطينيين وإثراء اللبنانيين على حسابهم”(85). غير أن البؤس الفلسطيني يحتاج مع ذلك إلى تفسير أو فهم واستيعاب. ولا يكفي تأكيد الأستاذ بقرادوني وغيره بخصوص أن أوضاع الفلسطينيين في لبنان هي أقل سوءاً من أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في بلدان عربية أخرى لإعلان البراءة. إذ كيف نفهم القيود بخصوص العمل؟ كيف يمكن فهم الوظيفة الاجتماعية، والسياسية/ الاقتصادية بالتالي وبالتعريف، لوضع أكثر من 1010• من مجموع السكان في لبنان في هامش؟ إن سوق العمل اللبناني مغلق عملياً أمام الفلسطينيين باستثناء سوق العمل الوحيد الذي يحفظ الفلسطينيين بالضبط في الهامش الوحيد المتاح أمامهم، وهو هامش العمل الأسود، المفتوح. فحتى أفراد النسبة الضئيلة (3،5•) من الفلسطينيين المجازين من قبل السلطات الرسمية فإن شروط العمل الأسود قريبة منهم: إنهم مستثنون من الضمانات الاجتماعية والتقديمات العائلية وغيرها من “الامتيازات” التي تقتطع من أجورهم ويحرمون منها في الوقت نفسه.

صحيح إنه لا توجد عنصرية رسمية غرضها إفقار الفلسطينيين وإثراء اللبنانيين. غير أن هذا لا يمثل غير نصف القصة والجزء الطافي على السطح منها. إذ كيف نتناسى العلاقة القوية بين قطاعات عديدة من قطاعات الاقتصاد اللبناني والسوق الموازية والسوداء التي يحتل فيها العمل الأسود بالضرورة دوراً مركزياً في حيويته؟ وكيف نتناسى واقعة أن الفلسطينيين في لبنان يشكلون بالضبط المادة البشرية في العمالة السوداء؟

وبهذا لخصوص، يحاول حقوقيون ومثقفون ذو نوايا طيبة إثبات لا قانونية ولا إنسانية هذا الحرمان المجحف بحق العمالة الفلسطينية في لبنان. غير أن الأمور تتجاوز كما يظهر النوايا الطيبة بالتأكيد. بدليل وحيد أن هذا الترتيب الإداري جار ونافذ منذ خمسين سنة بالرغم من كل الاعتراضات والاحتجاجات عليه والبراهين بعدم قانونيته والالتماسات لإلغائه منذ حوالي خمسين سنة كذلك. ولا يمكن القول في هذه الحالة لا بسهو المشرّع أو جهله ولا بالتباس الأمور عليه.

يبقى أن نقول إن البؤس الفلسطيني في لبنان يظل عصياً على الاستيعاب إن لم توضع الوظيفة التي تحققها العمالة الفلسطينية في الاجتماع اللبناني نفسه في دائرة الضوء. ويمكن المجازفة بتقديم الفرضية التالي بيانها: عديدة هي القرائن التي ترجح القول إن لبنان، الذي كان تشكل حديثاً حين لجأ الفلسطينيون إليه، ما كان يمكن له غير أن يضع الفلسطينيين على هوامشه وأن يكيّف نفسه، وإذن سياساته واقتصاده، ومنظومة قيمه الاجتماعية، على وجود الفلسطينيين في هذا الهامش، من ناحية، وفي الوقت نفسه توظيف هذا الهامش لصالحه، من ناحية ثانية. ويتصل ذلك بطبيعة الحال تلك “العنصرية” العادية بحسب تعبير الأستاذ سمير قصير في النهار التي أفصح عنها الوزير السابق السيد نقولا فتّوش ناعتاً الفلسطينيين بـ “النفايات البشرية”، وبتلك الطاقة التدميرية الهائلة التي تكشف عنها القتلة الصغار في مجزرة صبرا وشاتيلا، وتفصح عنها بآلاف الصيغ التي لا تبدأ بالنكتة و لا تنتهي بالشفقة. غير أن هذا يستوجب بحثاً لا مجال له هنا ولا محل.

محمد حافظ يعقوب / هيثم مناع

ملحق

في ألف باء حقوق الإنسان الفلسطيني

 

 

خلال سنوات قيامها الأولى، فوظفّت إسرائيل والحركة الصهيونية بشكل ممتاز صورة الضحية في الوعي الجماعي الغربي، وقد نجحت إلى حد كبير في القيام بعملية نقل للشعور بالذنب عند الأوربيين للمجازر التي قامت بها النازية إلى نوع من الحصانة الواقية لدولة إسرائيل. التي طالما تم تقديمها باعتبارها دولة الناجين من الهولوكوست والاضطهاد التاريخي الأوربي الشرقي. ولعل من أهم عناصر القوة الإعلامية للحركة الصهيونية أنها نجحت في تحويل الجريمة العنصرية بحق اليهود إلى عبء خلقي على كاهل البشرية كلها. هكذا تمكنت من إجراء ربط تلقائي بين صورة الضحية اليهودية والإسرائيلي جنديا كان أو ديبلوماسيا أو مافيا أو تاجر سلاح. بحيث أصبح الهجوم على الجندي الجلاد يعادل الهجوم على الضحية المجلودة. وليس من قبيل الصدفة أن السينمائي الفرنسي كلود لانزمان صاحب أحد أهم الأفلام الوثائقية حول الهولوكوست (شوا) هو نفسه صاحب أحد أكثر الأفلام دفاعا عن الجيش الإسرائيلي (فيلم تساحل). فكيف يمكن تسويغ عن مجزرة دير ياسين من غير إبقاء ملف أوشفيتز مفتوحاً باستمرار؟ وكيف يمكن تحويل الشر الصهيوني الذي أنتج النكبة الفلسطينية إلى عنصر إجماع إسرائيلي من غير تحويل يهود إسرائيل كلهم إلى ضحايا بامتياز؟

قدمت إسرائيل نفسها للعالم بوصفها دولة مفارقة، أي مختلفة عن غيرها من الدول، باعتبارها الوصي الأخلاقي على المذابح التي عانى منها اليهود الأوروبيون. وقد أتقنت عملية توظيف المأساة بشكل مشهدي ناجح من شعائر متحف القدس إلى اختطاف ومحاكمة أحد أهم رموز النازية (آيخمان). ورغم تفوقها العسكري الدائم كانت إسرائيل تقدم كل حرب تخوضها باعتبارها حرب بقاء (وجود أو لا وجود). الأمر الذي منحها من التعاطف في الرأي العام العالمي ما يفوق اللوبي المستنفر للدفاع عنها. ولم يفتح الوعي الغربي عينيه على الطبيعة العدوانية والاستعمارية لدولة إسرائيل حتى حرب 1982. حيث ولأول مرة أبصر العالم إسرائيل وهي تخوض حربا للقضاء على الآخر لا لحماية وجودها كما ادعت باستمرار. ويومها تعالت عدة صيحات في أوربة تطالب بالتعامل مع إسرائيل باعتبارها دولة كغيرها. وقد وقف العديد من مثقفي اللوبي الصهيوني يومها يحذرون من تطبيع التعامل مع إسرائيل، بدعوى إن الحديث عما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي في لبنان بشكل عادي سيعيد شبح العداء للسامية، وينبغي بالتالي توفر نوع من “التحفظ الضروري” في كل مرة يجري فيها الحديث عن إسرائيل.

ومهما قيل بخصوص إن الصهيونية هي استجابة لمعاداة اليهود، وإن هدفها المركزي هو تشكيل أمة سياسية جديدة، وليس إيقاع الأذى بالفلسطينيين، فإن الشقاء لا يمكن له أن يهب الشقي لا صك براءة تعفيه من المسؤولية الخلقية والسياسية، ولا أن يكون بحد ذاته مصدر امتياز يعلو به على الآخرين. فلا الشقاء فضيلة بما هو كذلك، وليس وقوعه في الماضي أو كنتيجة للماضي يجعل منه واقعة لا راد لها، وغير قابلة للترميم. ولا يعطي موت الضحايا الكثيرين لا صك براءة للذين نجوا ولا يعفيهم من مسؤولياتهم، إن لم يكن يُعاظم منها. وفي المرات العديدة التي غدا الشقاء المصدر الوحيد للشرعية السياسية، لم يثبت الشقيون دائماً أنهم ارتفعوا بشقائهم إلى الرتبة الإنسانية العليا أو أنهم تطهروا به ومنه. فكثيراً ما صار الحقد والانتقام والتشفي من العنصر البشري مبرراً ليس لإنتاج عالم شقي فقط، بل ولإلغاء كل سياسة ممكنة في إطار جدلية من العنف المزروع في منطق التشفي. ألا يعني تحميل الفلسطينيين مسؤولية نكبتهم بالقول إنهم غادروا طوعاً و/ أو تلبية لنداء قادتهم أو تقليداً لهم غير إمعاناً في الشر؟ وإلا لماذا يصر الإسرائيليون اليوم على التنكر لحقوق الفلسطينيين وفقاً لمبادئ العدل وأوليات كل منطق إنساني؟ وهل يتسنى بتوسل الشقاء تسويغ الاستيلاء على بلاد الفلسطينيين وبيوتهم وممتلكاتهم ثم منعهم من العودة إليها؟

كان لأطفال الانتفاضة فضل فتح شرخ جديد في صورة الإسرائيلي المسالم المهدد من جيرانه. أما مؤتمر مدريد فجاء بمعطى جديد لم يكن لاستراتيجيي الأعلام الإسرائيليين التنبه إليه واحتسابه: لم تعد صورة داعية السلام ورقة إسرائيلية. بل لنقل مستبقين سنوات الإخفاق والتخبط في عملية التسوية، أصبح السلام يبدو للعديد من المراقبين كشافاً لبنية الاجتماع الإسرائيلي، بل ويشكل خطرا عليه. ليس لأن الأخير سيتمزق إربا في حروب أهلية داخلية بغياب العدو الخارجي العربي كما يقول البعض، ولكن، وقبل كل شئ، لأن دولة إسرائيل لا تمتلك مقومات السلام مع محيطها، أي ليست مستعدة لإعطاء الحد المقبول من الحقوق الفلسطينية لحل عادل وشامل كما يقول السياسيون، بل أكثر من ذلك هي أعجز عن الاستجابة لحل فلسطيني براغماتي ينطلق من ميزان القوى الخاسر عربيا وفلسطينيا مقابل ترسانة سلاح محمية من القوة العظمى الأولى في العالم اليوم.

فالمشكلة كل المشكلة تكمن في أسئلة تم تأجيلها حتى اليوم لينفجر الدمل في كامب دافيد الثانية: هل يمكن لأي حل براغماتي أن يتحاشى قضية القدس العربية؟ هل يمكن لحل كهذا أن يحتمل استمرار نظام الأبارتايد الذي يؤسس له الإسرائيليون منذ مشروع آلون وتسارعت وتائره منذ أوسلو؟ هل يمكن إغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين قبل فتحه؟ وأخيرا وليس آخرا كيف يمكن التعامل مع المستوطنات الإسرائيلية التي تمزق احتمال أي تماسك جغرافي لدولة توحي بالثقة عند استعمال الاسم؟

أمام وضع كهذا، وفي ظل أزمة سياسية إسرائيلية اندلعت الانتفاضة الثانية بعد الطريق المسدود الذي وصلت له المباحثات السياسية. وقد كان من أول الملاحظات على ما حدث في الأسبوع الأول لأعنف مواجهة بين الشعب الفلسطيني الأعزل ومختلف أسلحة الجيش الإسرائيلي القابلة للاستعمال منذ الانتفاضة نقطتان:

الأولى: هي أن الطبقة السياسية الإسرائيلية هي بنت ماكينة واحدة وجهاز واحد، وأن أي خرش يصيب هذا الجهاز يتطلب باستمرار وحدة مقدسة بين الأطراف المكونة والداعمة له. في وضع كهذا، لا يوجد يسار ويمين في الحركة الصهيونية، والجميع متفق على استعمال القوة كحق أساسي من حقوق دولة إسرائيل مهما كان الثمن الذي يدفعه الإنسان الفلسطيني.

الثانية: أن هذه الأحداث قد أكملت الهزيمة الخلقية لصورة إسرائيل في الرأي العام العالمي. ولم تبق أمام المدافع عن إسرائيل غير أن يستعمل ما يشاء من تعابير كحليفة استراتيجية أو بلد صديق للغرب أو ضرورة وقفة للشعب اليهودي مع الدولة اليهودية الوحيدة في العالم.. أما الخطاب القديم فلم يعد يقنع حتى أصحابه.

ويخيل إلينا أن السؤال المطروح اليوم هو الآتي: كيف يمكن توظيف الهزيمة الخلقية للدولة العبرية على نطاق الحقوق الإنسانية الفلسطينية؟ كيف يمكن إحداث النقلة الضرورية من “حق” القوة الإسرائيلية إلى “قوة” الحق الفلسطيني؟

لا بد للدفاع عن أي حق من حدّ صاحبه وتعريفه. ولقد حرصت إسرائيل حتى اليوم على رفض مفهوم الاحتلال للأراضي التي تحتلها مما يتركها دولة دون حدود ثابتة وبالتالي يسمح لها بضم الأراضي الواقعة تحت الاحتلال. ويلاحظ كيف زرع اللوبي الصهيوني مصطلح الأراضي مختطفا كلمة المحتلة في تعبير يغيب عنه أي مفهوم قانوني دولي. كذلك تركت حكومات إسرائيل على اختلافها المواطن الفلسطيني خارج تعريف المواطنة في ما هو أقل من دولة وخارج حقوق الأشخاص فيما هو شعب يعاني من الاحتلال. بل وحتى في الوضع الفلسطيني الانتقالي، ترفض إسرائيل احترام توقيعها للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهي تتهرب من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين في ظل الاحتلال. ورغم ضمها للقدس والجولان، فلا تتعامل إسرائيل مع سكانهما كمواطنين إسرائيليين كاملي المواطنة. ويصعب حصر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في ظل الاحتلال الإسرائيلي بل حتى انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني الحامل للجنسية الإسرائيلية.

لفكفكة الخطاب الإسرائيلي لا بد لنا من خطاب يجمع بين العقلانية والبعد الحقوقي الدولي ويتجنب قدر الإمكان الخطاب الأسطوري الذي يعزز بشكل مباشر أو غير مباشر أسطورة التأسيس الإسرائيلية عبر الدخول في معركة القراءات الخاصة للتاريخ.

تقوم الدولة العنصرية في شكلها الإسرائيلي على أن أمتها مكونة من شعب الله المختار وبقدر ما تمنح الهالة المقدسة لأبنائها “الأنقياء” بقدر ما تحول وجود من سواها إلى حالة لا إنسانية. فنحن أمام جماعات بشرية مستثناة من عالم الحقوق وهي المبرر الوحيد لعدم إلقاء قانون حالة الطوارئ البريطاني في القمامة. وبقدر ابتعاد “الآخر” الفلسطيني عن الإنسانية بقدر ما يحق للإسرائيلي أن يتعامل معه بالرعونة والوحشية التي لا تدخل في قاموس حقوق الإنسان. هناك مشاهد رمزية كبيرة تذكر بهذه التربية العنصرية: الجنود الإسرائيليون الذين يكسرون عظم الفلسطينيين في أيام الانتفاضة الأولى، صورة الطفل الفلسطيني وهو يتفادى الموت مع أبيه الأعزل في الانتفاضة الثانية قبل أن يكون ضحية الرصاص الحي.. المسلك العنصري يسعى لخنق كل عمل تحاول عبره الجماعة المستبعدة عن الحقوق المسماة بالشعب الفلسطيني الدخول في عالم الحقوق الأولية للبشر. فالإنسان الفلسطيني في نظر الجلاد الإسرائيلي لا يحق له حتى أن “يضطر آخر الأمر للتمرد على الاستبداد والظلم” باستعارة تعبير ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الشهير. لقد انتزع من الآخر ذاته الوطنية والمواطنة، وهو يعرف أن الآخر يعي تماما ذلك. كاللص المفضوح أمره لمن سرقه، يخاف في كل لحظة من أن يستعيد المسروق حقه أو على الأقل جزء منه. إن قرارات تطويق القدس بالطرق والأنفاق وتطويق الضفة بالمستوطنات وتعزيز محاصرة الوجود الفلسطيني مهما كان حجمه والإصرار على بقاء مستوطنات في قطاع غزة، كل هذه الظواهر تؤكد على أمرين مترابطين. أولاهما أن المحاكمة العقلانية لم تعد ذات حجم يذكر في معادلات القامع الإسرائيلي. وثانيهما أنها تستحثنا في الوقت نفسه على تعلم الدروس المستفادة من خبرات المناضلين من أجل الحرية في جنوب إفريقيا في كيفية انتزاع الرأي العام العالمي من أيدي الإسرائيليين وأشياعهم. فبقدر ما تسعى العنصرية الإسرائيلية لنقل جرثومها للصف الفلسطيني، بقدر ما يستوجب على الشعب الفلسطيني أن يؤكد على أنه لا يشكل استثناء في الوضع البشري، وعلى أنه بالتالي صاحب حق مغتصب وأن الماكينة الإسرائيلية قد قطّعت أوصال هذا الحق بالمعنى الفردي والجماعي.

الاستيطان اليوم جريمة ضد الإنسانية؛ ويجافي نظام الأبارتايد مبادئ العدل والمساواة وشرعة حقوق الإنسان والقيم الخلقية والروحية التي تحض على احترام الكائن الإنساني؛ وغدت حماية المدنيين جزءاً لا يتجزأ من تعريف الناس للخروج من البربرية.. ولا يمكن استثناء إسرائيل من المعايير الدولية لحقوق الإنسان. ألا يضاهي السلوك الإسرائيلي جرائم نظام ميلوزوفيتش إن لم تكن تجاوزتها في جرائم نوعية عديدة؟

في هذا الميدان يمكن إنجاز النقلة النفسية الكبيرة من الضحية بامتياز إلى الجلاد بامتياز لدولة علها اليوم الوحيدة في عالم اليوم التي تصر على محاسبة الآخرين من غير تهاون، في الوقت الذي تصر على أن تكون خارج أي شكل من أشكال المحاسبة.

9/10/2000

الفهرس