س1/ بداية، كيف كان لقاءك بالرئيس التونسي، وما الاستنتاجات التي خرجت بها من اللقاء؟ لقاء جيد وبنّاء شرفني به السيد رئيس الجمهورية. عموماً، أي لقاء بين صانعي السياسات ومن يديروا دفة الحكم مع مراقبين وأطراف من المجتمع المدني لإستمزاج رأيهم بمواضيع تهم مسار الانتقال الديمقراطي هو بالتأكيد خطوة محمودة تصب في مصلحة البلاد.
س2/ كيف ترين واقع حقوق الإنسان في تونس اليوم، خصوصا بعد المصادقة على قانون مكافحة الارهاب الذي أثار جدلاً واسعاً لدى أغلب الجهات الحقوقية؟ نلمس قلقاً واضحاً لما أثاره هذا القانون من جدل ومن تحفظات بما يخص احترام حقوق الإنسان لدى المنظمات الحقوقية. وفي حين نسجل رضى نسبي على هذا القانون لدى عديد الأحزاب السياسية، نرى أن المشكلة تكمن بجزء كبير منها في المناخ العام الذي ساد زمن نزول هذا القانون. للبحث عن توافقات وكي لا يذهب هذا القانون في مسارات تصطدم بمبادئ حقوق الإنسان، التشنج ليس النهج الأسلم وإنما الضغط المسؤول والهادف والرقابة والمتابعة الحقوقية المنفتحة والبناءة. أما بما يتعلق بواقع حقوق الإنسان في تونس، فإن كان من بين أفضل ما نتوق له على الساحة العربية (وسأشرح ذلك)، تبقى لدينا خشية من بعض الجمعيات الدولية المانحة التي تتحكم بالتوجهات الرئيسية لمنظمات المجتمع المدني الوطنية. اعتبارات التمويل قد ترهن الإرادات، وأخشى أن لا تتماهى أولويات المعنيين مع الواقع التونسي واحتياجات البناء.
س3/ ما تعليقك على مسار العدالة الانتقالية وما يحدث صلب هيئة الحقيقة والكرامة؟ لنتفق بداية على أن هذا المسار ليس من مصلحة أحد المس به وحرفه عما خُطط له. لكن حصلت تطورات خطيرة صلب الهيئة لم نكن نتوقعها أو نتمناها في بلد لا بد أن يبقى الشعلة في الظلمة التي تعتري واقعنا العربي. المساحة المتاحة لي هنا لا تسمح بتكرار ما سبق وذكرت حول الموضوع، لذا أحيل المهتم لمقالي في جريدة الشروق (في 12/08/2015 تحت عنوان: إضاءات على هيئة الحقيقة والكرامة). أما ما حصل من تداعيات وتطورات في الفترة الأخيرة ومن استقالات (استقالة عضو وإعفاء غير قانوني لنائب الرئيس الاستاذ زهير مخلوف)، علاوة على طرد موظفين، وتفسّخ في الهيئة ورفض أكبر لأطراف كثيرة لبقاء رئيستها على رأسها، فهو يؤكد ما ذكرته. هناك ممارسات اعترت المسار تتناقض مع الحيادية والاستقلالية، كما أن المواجهة غير المحمودة مع هياكل الدولة ومؤسساتها، علاوة على المناخ المتفشي داخل الهيئة، فيه ما يلقي بظلاله على نجاعة هذه المؤسسة إن لم يعطل دورها ونجاح أعمالها، كما يصب في خدمة أجندات سياسية ليست على الإطلاق في مصلحة الشعب التونسي.
س4/ ما ردك على الاتهامات التي وجهتها لك سهام بن سدرين والتي تقول أنّك تسعين مع منظومة الفساد الى ضرب هيئة الحقيقة والكرامة؟ كلام مضحك ومؤسف في الآن. إن كل من ينتقد آداء هذه المرأة ويلقي الضوء على عملية تسييرها لهيئة الحقيقة والكرامة لتصويبه تضعه في خانة المنظومة القديمة، على قاعدة "أنت معي أو ضدي". وكأنه ليس هناك من منزلة بين المنزلتين، وكأن الدكتاتورية التي انتفضت هي ضدها تكرر نفسها في نماذج بعض من كانوا ضحايا لها. إن من لا يقبل الرأي المخالف ووجهات النظر البناءة وينتقم بشكل حاقد من المنتقدين ويتهم بالخيانة هؤلاء يصعب عليه أن يسيّر بنجاعة مؤسسة ناشئة من هذا النوع. أما الخيانة فهي برأيي في خانة من ضرب بعرض الحائط بالمبادئ والأخلاقيات التي يفترض أن تُحمى من المتاهات التي تقود إليها رغبات ونزوات البشر.. لذا وصفت بن سدرين بأنها أتت لتسيّر عدالة انتقامية لا انتقالية.
س5/ ما تقييمك لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وهل تعتبرين أنّ الثورة التونسية حققت فعلا أهدافها وقطعت مع المنظومة السابقة، ونحن نشهد عودة للحرس القديم عبر صناديق الاقتراع؟ الانتقال الديمقراطي خطى خطوات معتبرة في تونس، حيث تطور: من وضع ثوري عطل أهم المؤسسات من برلمان وحكومة ومجلس دستوري وأعطى نفوذاً للجماهير التي كانت تقرر إزاحة الوزراء والولات والمسؤولين الكبار واسقاط الحكومات، إلى وضعية تأسيس لفترة انتقالية مؤقتة تتسم بمشروعية أكبر. فقد انتخب مجلس وطني تأسيسي وحكومة ورئاسة استطاعت أن تكرس نوعاً من الانتقال السلمي الهادئ الذي صيغ فيه دستور توافقي شكل أرضية جديدة لوحدة وطنية وأسس لتحولات هيكلية حداثية. فقد قلت التحركات الاجتماعية العنفية وتقلص تدخل ونفوذ الشارع في إدارة المسار، بالرغم من الكثير من الأزمات والخضّات التي تبعت اغتيالات سياسية وزيادة وتيرة الإرهاب. بالرغم من ذلك، استطاع الشعب التونسي والمسؤولين السياسيين إجراء نقلة نوعية من دون أن تؤثر على التماسك المجتمعي والوحدة الوطنية. إلى أن أجريت الانتخابات الأخيرة التي أعطت برلماناً ورئاسة منتخبين وحكومة توافقية ذوبت لحد ما جليد الصراعات وحمت البلاد من فتنة داخلية. والآن هناك مناخ توافقي واسع بغض النظر عمن يحكم. ونأمل أن يبقى الجميع ملتزماً بالدستور والقانون والهياكل والمؤسسات، وليس بالأشخاص وتوجهاتهم السياسية المتباينة حكماً، وبما قد ينحو لا سمح الله لتوجهات سلطوية تعسفية كما كان سابقاً في عهد بن علي. أرى أن الفترة الحالية تشهد تكملة البناء الديمقراطي والتحول الاقتصادي وتكريس السلم الاجتماعي، بغض النظر عن كل المعوقات التي تحف بهذا المسار وتستهدف استقرار البلد، خاصة مع الإرهاب القادم من الجوار والذي يشكل خطراً محدقاً بالبناء الديمقراطي والتحول السلمي في تونس.
س6/ برأيك ما هي الأسباب التي أحالت "الربيع العربي" الى شتاء، وما هو أكبر خطر على حقوق الشعوب العربية، الأنظمة الحاكمة المستبدة أم "التنظيمات الإسلامية المعتدلة والمتطرّفة "؟ في هذا السؤال نوع من الخلط والمقاربة التي لا يمكن التوفيق بينها والتوافق معها. أعتبر أن الدكتاتوريات التي قادت لاندلاع انتفاضات وقع التعامل معها لا بل رعايتها من أطراف دولية، إلى أن بات لا بد من وضعها جانباً وتبديل الأحلاف باستغلال الثورات وتجييرها بما يخدم مصالح قوى كبرى وسلم الكيان الصهيوني الذي احتل فلسطين. فكانت حروب من نوع جديد، تم رفدها بقوى ظلامية متطرفة تتحرك ضمن توجهات مخابراتية وأجندات دولية، لضرب استقرار شعوب هذه الأمة وتمزيق جغرافية أوطانها ونهب ثرواتها وافقارها وسرقة تراثها ومحو ذاكرتها وتجهيل أجيالها القادمة وتشريد أهلها في المهاجر وتشويه صورة دين سماوي تدين به أكثرية شعوبها. التداعيات الخطيرة التي حصلت بعد الانتفاضات كان يفترض أن تنبه لمشاريع التفتيت بالحروب الأهلية وبإدخال معطى الجماعات الاسلامية المتطرفة على المشهد. وثائق ويكيليكس وكتابات مؤسسات بحثية في الشأن تكلمت عن مؤامرة حيكت وحضر لها قبل زمن من الانتفاضات. لكن ما أريد منه تخريب ما تبقى من وحدة الأوطان وقدرة الشعوب على التحرر من التبعية الاقتصادية والمالية، هو جريمة موصوفة في حق السلم العالمي وليس العربي فقط، وسيرتد على أصحابه مع تنامي المقاومات لهذه المشاريع التقسيمية التفتيتية. إنها معركة إرادات والتطورات الأخيرة تظهر أن موازنات تجبرت لنصف قرن من الزمن هي بإطار التحول مع نشؤ قوى مضادة تضع حداً لهذه المؤامرة الكبرى التي وظف فيها الإعلام بما فيه العربي بشكل فاق التصور.
س7/ كيف يمكن تكريس الديمقراطية وحقوق الانسان في مجتمعات عربية غالبيتها أمية وتعاني من الاقتتال الداخلي والحروب الأهلية؟ على الرغم من واقع الدماء والدمار والدموع الذي ابتلع جزءاً كبيراً من مجتمعات عربية عديدة، ما زالت هذه الشعوب تمتلك من المقومات ما يجعل من تكريس منظومة حقوق الإنسان أمراً قادماً إن لم يكن واقعاً لا محالة. خاصة وأن هذه الشعوب قد استوعبت الدروس وكشفت المتربصين بها وشرعت في تأسيس هياكل تحتمي بها من كيد الأعداء. هناك نخب وجماعات تعمل لمصلحة أوطانها وليس بيعها، وعملها هذا سيراكم ضمن توجهات حكومية تنشد الحكم الرشيد وتعمل على تطبيقها ضمن تآلف وتوافق بين مكونات المجتمع السياسي والمدني. يبقى أننا نطمح لثورة ثقافية ترسي مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في الفعل والمسلك وليس القول والشعارات، بمن فيهم من يصدحون بانتمائهم لهذه المنظومة ويتجبرون بحكم ذلك على البشر.
س8/ ما السبيل للتخلص من منطق القبلية والعشائر كما هو حاصل في اليمن والعراق، وخلق مجتمعات مدنية؟ هناك بلدان وشعوب حافظت على أعراقها ومكوناتها المختلفة بعد أن دخلت في صراعات الغاء فيما بينها، عندما وعت أن في الاختلاف إغناء وليس العكس. فباتت لها تمثيلية ومشروعية، وهي اليوم تشكل معطى جديد هام في المشهد السياسي على الخارطة الأوروبية. بدل منطق الالغاء والتنابذ، يفترض بالدولة العربية أن تعمل بمنطق الجمع بين مكوناتها المختلفة لصهرها في بوتقة واحدة مرتكزها المواطنة، وبالاعتماد على مؤسسات ديمقراطية تبني الأوطان وتفوت على الطامع والمعتدي الفرصة للاستمرار بإشاعة الفوضى وفق استراتيجية: فرّق تسد.
س9/ من المستفيد برأيك من محاولات إجهاض التجارب الديمقراطية سواء كان ذلك عبر اللعب على وتر الطائفية وخلق الحروب الأهلية كما حدث في لبنان أو عبر استحداث الارهاب والاغتيالات السياسية كما حدث في تونس؟ هو من يعمل في السر والعلانية لبث الفوضى وتقسيم المقسم من أجل وضع يده على الثروات الكامنة في بطن هذه الأرض وعلى طرق امدادها ولحماية أمن الكيان الغاصب. وهو هذا الأخير الذي يحيا وينتعش كلما ارتفعت وتيرة الخراب والدمار من حوله، فيخطط لتجريف البشر والحياة من حوله ويسهر على بث سمومه في جسد هذه الأمة بكل الأشكال المتاحة. وهو من يتعامل مع هؤلاء من أهل هذه الأرض وينفذ مخططاته لقاء بقائه في الكرسي ولو كان ثمن ذلك رهن حاضر هذه الأمة ودمار أوطانها وضياع مستقبلها. يبدو أنه نسي المثل الذي يقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
+س10/ كيف عايشتم في اللجنة العربية لحقوق الإنسان أزمة اللاجئين السوريين، وما تعليقكم على رفض بعض الدول الخليجية استقبالهم؟ هي أكبر حركة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية وهي مأساة لا توصف ونزيف حاد في جسد هذا البلد الذي دفع غالياً جداً ثمن التجبر الدولي والأطماع الإسرائيلية التي ارتكزت على حجة أن الشعب يريد تغيير من يحكمه. والخزي والعار لمن موّل وسلح هذه المؤامرة وجنودها ولم يجد لديه ما يقدمه لهذا الشعب الذي أجبره على النزوح واللجوء والتشرد في أرجاء المعمورة دفاعاً عن حقه بالحياة. وفي الحين عينه وكونه يتوجس من كل نسمة هواء تهب عليه، يتجبر على شعبه ويزج بنخب خلاقة معطاءة في غياهب السجون بتهم واهية ويمارس عليها التعذيب الوحشي وانتهاك الكرامة. لكن يوم الحساب قادم لا محالة، والمظلوم لن يغفر، وهناك آليات محاسبة دولية لا بد أن تفعّل، حتى ضد من ساعد وسهّل وصمت.
س11/ ختاما، ما المطلوب فعله اليوم من الحكومات العربية لنصرة المسجد الأقصى الذي يشهد تفاقما لانتهاكات الصهيونية؟ لا أمل يرجى من حكومات عربية طبّعت بالسر وبالعلن مع الكيان الصهيوني الذي اغتصب فلسطين وقضمها شبراً بعد شبر واليوم ينتهك حرمة المسجد الأقصى. قبل سنوات كتبت تقريراً عن تهويد القدس إثر زيارة لهذه المدينة المقدسة للفت الأنظار لما يحصل من انتهاكات تطالها ونبهت إلى الخشية من أن الهدف القادم هو المسجد الأقصى. ثم نشرت مقالاً عنونته: "القدس، لات ساعة مندم". للأسف، الدودة كانت في الثمرة، فهل ينفع الندم؟ الأقصى يحميه اليوم شباب مقدسي يخرج بصدوره العارية لمواجهة المعتدي، لكن حتى متى على العين أن تقاوم المخرز بمفردها في ظل تواطؤ النظام الدولي وصمت بعض أهل هذه الأرض؟
حوار نشر مجتزءا في صحيفة المستقبل الكويتية في 01/10/2015
|
|