french

English

 

دليل المواقع

برامج وأنشطة

أخبار

الأرشيف

طلب مساعدة

عن اللجنة

الصفحة الرئيسية

Arab Commission for Human Rights
5, rue Gambetta
92240-Malakoff- France
Tel 0033140921588 Fax 0033146541913

e. mail achr@noos.fr

International NGO in special Consultative Status with the Economic and Social Council of the United Nations


أوضاع فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948  - تحرير : فيوليت داغر

 

2009-09-03

اللجنة العربية لحقوق الإنسان

                

 

تقديم

قبل ستين سنة ونيف، تلقى مجلس الأمن طلباً بانضمام دولة "إسرائيل" لعضوية الأمم المتحدة، حيث تعهدت حينها بان تقبل دون تحفظ الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة حين تصبح عضواً فيها. إلى أن صدر القرار بقبولها في 11 أيار/مايو 1949 مشروطاً بوجوب تنفيذها قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادرين في 29 تشرين الثاني/نوفمبر1947 وفي 11 كانون الأول/ديسمبر 1948 وهما:  181(د-2) أي قرار التقسيم والوصاية الدولية على القدس، و 194 (د-3) المتعلق بحق العودة للفلسطينيين.

لكن ما حدث منذ ذلك الوقت هو اتخاذ الوجهة المغايرة ونقض الشروط التي قبل بموجبها الكيان الصهيوني عضواً. لا بل أن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها قياداته المتعاقبة كانت من الوحشية بمكان هز الضمير الإنساني مرات متعددة، لكن ليس على ما يبدو ضمير القائمين على هذه المؤسسات ما بين الحكومية. فهي لم تعلق عضوية "إسرائيل"، ولا حتى تحاسبها على جرائمها على غرار ما جرى في بلدان أخرى من الكرة الأرضية. كان يفترض بالأمم المتحدة تطبيق الحظر الإقتصادي والدبلوماسي والسفر من والى "إسرائيل" استناداً إلى مقررات الإتحاد من أجل السلام (1950). كما أنه كان وما زال يمكن للجمعية العامة للأمم المتحدة تشكيل محكمة جرائم حرب "لإسرائيل" بموجب المادة 22 من قانون الأمم المتحدة، على الأقل من أجل استمرار أداء وظيفتها. ذلك خاصة بعد عدوان هذا الكيان الوحشي مؤخراً على قطاع غزة، والذي لم يعقبه سوى انبثاق حكومة "اسرائيلية" أكثر تطرفاً، لا تخشى المجاهرة وتطبيق ما كان من سبقها يترقب الوقت المناسب للشروع به.

فما يجمع قادة "اسرائيل" رغم اختلاف برامج أحزابهم وخلافاتهم السياسية هو الاتفاق، لا بل المزاودة على بعضهم، عندما يتعلق الأمر بالسكان الأصليين في فلسطين المحتلة، سواء كانوا في قطاع غزة أم الضفة الغربية أم أراضي 48. وما الأمر الجديد نسبياً سوى إعلان رغبتهم جهاراً وصراحة بالتخلص من الأقلية العربية. أي طردها بهدف تحويل "إسرائيل" لدولة يهودية نقية لا وجود فيها لغير اليهود. والانتخابات الأخيرة كانت فرصة لدغدغة مشاعر الناخب "الإسرائيلي" باظهار المزيد من التطرف في هذا الاتجاه للفوز بمقاعد إضافية. الذين قبلوا ببقاء الفلسطينيين على أرضهم يعتبرون أن على هؤلاء أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية ومنزوعي القدرة على الاحتجاج أو على مقاومة الإجراءات التعسفية والتمييز بحقهم. ذلك في الوقت الذي بات مبدأ القبول بدولة فلسطينية مستقلة أكثر صعوبة رغم انه يجب ان تكون منزوعة السلاح. علاوة على رفض عودة اللاجئين لديارهم، بما يعني الضغط على كل الأطراف المعنية لتوطينهم في أماكن اقامتهم.

بكل الأحوال، تسرع الحكومات "الإسرائيلية" الخطى لتصفية مقاومة المجتمع المدني الفلسطيني الصامد فوق أرضه منذ عام 1948 لسياساتها. افغدور ليبرمان، (الفائز بهذه الانتخابات الذي كوفئ بحقيبة وزارة الخارجية ومنح حزبه وزارة الأمن الداخلي)، كان قد دعا لحظر نشاط الأحزاب والجماعات التي تدعم حماس والى فرض نوع من الخدمة الإجبارية على جميع من يعيش في الدولة العبرية، كما دعا لمقايضة الأراضي التي يقيم فيها عرب 48 بالتي يقطنها يهود بالمستوطنات بالضفة الغربية. وهناك مشاريع قوانين طرحها بترسيخ فكرة يهودية الدولة، وحرمان العرب من احياء ذكرى النكبة، والقسم لمن يحمل الهوية اليهودية بيهودية الدولة، بما يهئ لسحب الهوية ممن لا يقبل ذلك من العرب وطردهم من أرضهم.

رأي لعزمي بشارة يقول بما معناه أن قسماً من هذه القوانين لن يمر بسهولة مثل اعتقال من لا يوافق على يهودية الدولة، مقابل قسم آخر قد تنجح بفرضه مثل منع إحياء ذكرى النكبة التي هي سياسياً وحزبياً وجماهيرياً ظاهرة جديدة عند عرب الداخل منذ أواسط التسعينات. كان العديد من عرب الداخل حتى أواخر السبعينات وقبل انتشار الوعي الوطني بقوة يحيي يوم استقلال “إسرائيل” إما خوفاً أو جهلاً، وكان قادتهم من أحزاب صهيونية وغير صهيونية، يهنئون “إسرائيل” بيوم استقلالها. وإن لم تكن هنالك قوانين ضد إحياء ذكرى النكبة، فليس لأن “إسرائيل” كانت أكثر ديمقراطية بل لأنه لم يكن من داع لها بنظر المؤسسة، حيث كان إظهار عدم الولاء للدولة كدولة صهيونية نادراً.

أيضاً، قد لن تتمكن من سن قانون يجبر المواطن على قسم ولاء خاص لأنه ليس مهاجراً، بل مواطناً بالولادة. فالمواطنة لا تمنح له أصلاً لكي يقسم الولاء للدولة، وليس من واجب سكان البلاد الأصليين، كما يرى بشارة، التكيف مع طابع “إسرائيل” الصهيوني. فالعربي الفلسطيني الذي يعتبر نفسه وطنياً “إسرائيلياً” هو بنظره حثالة بشرية، كونه يقبل بأقل من مواطن وأقل من عربي فلسطيني ويتماهى في الوقت ذاته مع قمع شعبه، ومع من صادر البلاد وشرد العباد. وما تغيير الوضع الدستوري ليصبح كذلك سوى مهمة صعبة حتى شكلياً، علاوة على أن هذه الخطوات القمعية ما هي في الوقت عينه سوى إعلان فشل الأسرلة.

تأتى هذه الخطوات بعد اتباع السلطات "الإسرائيلية" سياسات هدفت لقطع اتصال الأقلية العربية مع محيطها العربي. فكما يقول نبيل السهلي، عندما حاولت دمجها في المجتمع "الإسرائيلي" أبقتها على هامشه، كما جهدت في طمس الهوية العربية، وجعل الدروز والشركس قوميات منفصلة، والتفريق بين العرب المسلمين والمسيحيين، وتقسيم المسيحيين إلى طوائف شرقية وغربية، والمسلمين إلى مذاهب مختلفة. ذلك إلى جانب تجريدهم من أرضهم حيث هم لا يملكون اليوم سوى 3% من الأراضي التي أقيمت عليها الدولة "الإسرائيلية" عام 1948، وطردهم من قراهم ومدنهم ومنعهم من العودة إليها حتى ولو سكنوا على بعد كلومترات منها.

أما "اللاءات الإسرائيلية" المشهورة: لا للانسحاب لحدود 1967، لا لحق العودة، ولا لاعتبار القدس المحتلة عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة، فتبقى القاسم المشترك الأعظم لجميع الأحزاب "الإسرائيلية"، من أحزاب اليمين المتطرف إلى اليسار الصهيوني. إزاء ذلك ورغم كل هذه التصريحات والمواقف المتعنتة لم نسمع تصريحاً أوروبياً يدينها، أو تهديداً بتجميد تحسين العلاقات مع هذا البلد الذي يغرق في التطرف والعنصرية والإجرام بحق أبناء هذه الأرض العرب.

تحت غطاء صمت دولي مجرم يمضي المحتل إذن بخطى سريعة لخلق وقائع جديدة على الأرض وفرض الأمر الواقع بالقوة، حيث يمكن استعماله ورقة ضغط في أية مباحثات وتسويات. من ذلك مشروع تهويد الجليل والنقب، وما تسميه المحافل الرسمية الصهيونية تضليلاً "خطط التطوير". ففي حين أن 58.4% من الأسر الفلسطينية تحتاج كل منها لوحدة سكنية على الأقل خلال العشر سنوات القادمة، وفي الوقت الذي لن تتمكن 43% من الأسر من بناء أية وحدة سكنية إضافية، تمضي على سبيل المثال خطة النقب 2015، خطوات للأمام لزيادة عدد السكان اليهود فيه إلى 900 ألف خلال عقد من الزمن. وحيث أن البلدات العربية غيرِ المعترف بها تبقى مشكلةً تعيق التنفيذ، فهذا الأمر يعني عملياً إخلاءها وهدمها. ذلك كما فعلت الحكومة قبل سنوات قليلة عندما أقرت خطة للاستيلاء على 45 قرية فلسطينية في النقب وقامت بهدم المنازل في قرية طويل أبو جرول، وصادرت ممتلكات الفلسطينيين ومواشيهم والخيام التي تؤويهم لتتركهم دون مأوى تحت حرارة الشمس الحارقة بعدما أتلفت صهاريج المياه، فيما يعد واحداً من أنواع التطهير العرقي.

عرب النقب أو بدو جنوب فلسطين كانوا قبل عام 1948 مائة ألف نسمة، لكن لم يبق منهم مع سياسات الطرد والتهجير هذه سوى 11 ألف نسمة. وكانت "إسرائيل" قبل ذلك قد قامت ابان الحكم العسكري بحصر من تبقى منهم في منطقة جغرافية اسمتها منطقة "السياغ"، وصادرت اراضيهم وهدمت بيوتهم وأخضعتهم للترحيل بحجة أن قراهم غير معترف بها، مع انهم كانوا موجودين فيها قبل قيام الدولة العبرية. وهكذا بعد أن كانوا يملكون 60% من مساحة البلاد، من الأردن والضفة وقطاع غزة إلى سيناء، يعتبر وضعهم الاقتصادي اليوم الأكثر صعوبة بين جميع المجموعات السكانية الأخرى في دولة "إسرائيل".

إلى جانب ذلك نذكّر بتصاعد الاستفزازات التي يتعرض لها بنوع خاص منذ بضعة أشهر الفلسطينيون من سكان عكا ويافا، وما يُفرض في قرى وبلدات المثلث في منطقة وادي عارة والطيرة وقلنسوة وكفرقاسم من قوانين تعسفية لهدم البيوت، وما واجهه مؤخراً سكان حي "الحليصة" في مدينة حيفا من ابتزاز وتهديد بالاخلاء. في نفس الوقت تستمر الملاحقات السياسية بحق ممثلي الأحزاب والتجمعات العربية وناشطي المجتمع المدني، بهدف كسر شوكتهم والإجهاز على مقاومتهم للسياسات القمعية والعنصرية.

 

أرقام ومعطيات

نلجأ للغة الأرقام التي تعطي فكرة عن واقع معاش ولو بالخطوط العريضة. لكن قبل ذلك لا بد من توضيح أن فلسطينيي 48 أو عرب الداخل أو الخط الأخضر هم العرب والمتحدرين من عرب الذين بقوا في قراهم وبلداتهم بعد حرب 1948 وإنشاء الكيان الصهيوني، أو عادوا إلى بيوتهم قبل إغلاق الحدود.

مع التمعن بالأرقام يبدو (بالاستناد للتقرير الإحصائي السنوي لسنة 2008 لدائرة الإحصاء المركزية، نقلا عن المؤسسة العربية لحقوق الانسان في الناصرة) أن تعداد السكان العرب في "إسرائيل" بلغ 1,431,700 نسمة. وهم يقيمون في ثلاث مناطق رئيسية: جبال الجليل، المثلث وشمالي النقب. نسبتهم لمجموع السكان تبلغ حوالي 20% (يشمل التعداد سكان شرقي القدس والجولان المحتلين أيضاً. وهم إما مواطنون وإما حائزون على مكانة "مقيم دائم" في "إسرائيل" دون أن يملكوا الجنسية "الإسرائيلة"، حيث حسب قانون المواطنة "الإسرائيلي"، حصل على المواطنة كل من أقام داخل الخط الأخضر في 14 يوليو 1952، أي حين إقرار الكنيست "الإسرائيلي" القانون). 42% من هذا الرقم هم من صغار السن، أي ما دون 15 سنة، مقابل 27% لدى السكان اليهود. و3.4% هم من شريحة ال65 سنة وما فوق، مقابل 11.4%. يشكل العرب 53.1% من سكان لواء الشمال، 23.9% من سكان لواء حيفا، 15.8% من سكان لواء الجنوب، 30.3% من سكان لواء القدس، 8.1% من لواء المركز، 1.5 % من لواء "تل أبيب". وتشهد الخصوبة الكلية (معدل عدد الأولاد المتوقع للمرأة في سني حياتها) بين النساء العربيات حالة انخفاض مستمر منذ سنة 1960. فقد انخفضت في العقود الأربعة الأخيرة من معدل 8 أولاد للمرأة العربية سنة 1960 إلى 3.6 عام 2007. وعند النساء اليهوديات، من 3.6 أولاد في 1960 الى 2.7 في 2007. 

التقرير الشامل الذي أعده مركز (ركاز– بنك المعلومات عن الأقلية العربية في "اسرائيل") وجمعيتا "الجليل للبحوث والخدمات الصحية" و" الأهالي – مركز التنمية الجماهيرية "، ساهم من ناحيته في تسليط الضوء على مختلف جوانب حياة المجتمع العربي الفلسطيني في أراضي 48. ذلك من خلال عملية المسح الشاملة التي قام بها المركز عام 2007، حيث شملت  العيّنة 3270 أسرة فلسطينية تعيش في مناطق التواجد العربي "الشمال، الوسط، الجنوب"، داخل المدن الساحلية (المختلطة)، وفي التجمعات السكانية التي تقوم على إدارة شؤون حياتها مجالس محلية قروية، وفي بلدات تخضع لسلطة مجالس إقليمية (مناطقية) "اسرائيلية" تابعة للمستوطنات اليهودية في النقب، كما يقول معدو التقرير.

لقد غطى طاقم العمل بعمليات التقصي المباشرة "واقع الحال في بنية المجتمع العربي الخاضع للاحتلال والقمع المباشر وتشويه الهوية والأسرلة ولإجراءات التهميش والحصار والتفتيت المنهجية". كما وكشف عن هموم ومعاناة العرب أصحاب الأرض الأصليين، والتي يمكن اختصارها في قضايا: المسكن، العمل، مستويات المعيشة، مسائل التعليم، موضوعات الصحة. ففي مجال السكن، أبرز التقرير أن القضية الأهم التي يعاني منها عرب الداخل تتحدد، كما يقول المشرف على الدراسة، "بكارثة سكنية نحن في صددها، هناك احتياج لأكثر من سبعين ألف مسكن جديدة للأسر الفلسطينية في الداخل، ولا ترى الأسر العربية الآلية في كيفية تحقيق هذا الحلم، بسبب ممارسات الحكومة "الإسرائيلية"، أكان ذلك من خلال تضييق مناطق النفوذ، أو مصادرة الأراضي، واستمرار المنهجية التي كانت ولا زالت في سياسة هدم البيوت".

وفي حين أن حوالي 156 ألف فلسطيني، أي ما نسبته 9% من الفلسطينيين من سكان القرى، وقلة من سكان بعض المدن "حيفا، عكا، يافا، اللد والرملة"، استطاعوا البقاء ضمن الحدود التي أقرتها هدنة 1949، تضاعف عدد الفلسطينيين مذاك حتى نهاية 2006 نحو 7.3 مرات، ليبلغ تعدادهم منتصف 2007 نحو1.136.900 نسمة (باستثناء مواطني مدينة القدس المحتلة). مما يعني أن المجتمع الفلسطيني "فتيّ جداً" أي بمعدل %40.3 حتى سن 14 عام، (56.2% في الجنوب و59.6% في القرى غير المعترف بها في الجنوب). 82.2% من الفلسطينيين هم من المسلمين، 9.4% من المسيحيّين، 8.5% من الدروز. هناك 103.4 ذكرًا لكل مائة انثى والعمر الوسطي يبلغ 19 عامًا (منطقتي الشمال وحيفا 21 عامًا والوسط 20 عامًا خلافاً لمنطقة الجنوب حيث يبلغ 13 عامًا فقط، وينخفض إلى 11 عامًا في القرى غير المعترف بها). متوسط عمر الذكور عند الزواج الأول بلغ 25 سنة والإناث 20 سنة. أما بما يخص ظاهرة الانفصال والطلاق، فهي منخفضة جدًا في المجتمع الفلسطيني في "إسرائيل"، لكن ظاهرة زواج الأقارب ما زالت منتشرة (18.0%)، حيث ترتفع  بشكل خاص في الجنوب لتصل الى 32.3%، مع قرابة من الدرجة الأولى. متوسط حجم الأسرة 4.64 فردًا (مقابل 6.03 في منطقة الجنوب). كذلك 50.5 % من العائلات عدد أفرادها 5 وأكثر (مقابل 64.6% في الجنوب).

بما يتعلق بالعمل والبطالة، أشار التقرير إلى أن نسبة المشاركة في قوى العمل تبلغ 42.6% بين الفلسطينيين مقارنة بـ 58.5% بين اليهود، وأن19% من النساء العربيات يعملن مقابل 56% من اليهوديات. نسبة البطالة تزيد قليلاً عن 10%، لكن في الواقع 25% من القوة العاملة تعيش بطالة كاملة أو "مقنعة" في العديد من المجالات. 77.7% من الذين يعملون أفادوا بأنهم مستخدمين بأجر، بينما بلغت نسبة العاملين لحسابهم الخاص أو اصحاب المصالح الصغيرة او المتوسطة نحو 20.5%.

إذا كان أكثر من نصف عدد الأسر الفلسطينية يعتمد على الأجور والرواتب كمصدر للدخل، يوجد 32.5% ممن يعتمدون على المخصصات الحكومية: "العلاوة الاجتماعية للأولاد، الشيخوخة، البطالة، الإعاقة، والتقاعد..".  ينعكس ذلك على معدل الصرف الشهري "غير الصافي" الذي يبلغ 1700 دولار، مقابل 3350 دولاراً للأسرة اليهودية.

النسبة العامة لمعرفة القراءة والكتابة بين الفلسطينيين في "إسرائيل" (15 سنة فأكثر) هي نحو 95.1% (90.4 % بين الفلسطينيين في منطقة الجنوب). وفي حين أن 87.6 % من طلبة الجامعة يدرسون في كليات وجامعات إسرائيلية، نحو 12.4% يلتحقون بمعاهد عليا خارج البلاد، بواقع 6.2 % في بلد عربي (الأردن تحديداً) و6.0 % في معاهد أوروبية.

إذا كانت الأوضاع الصحية مرتبطة بنمط الحياة، 68 % من الفلسطينيين من الفئة العمرية 60 سنة وما فوق يعانون من أمراض مزمنة. لكن 51 % منهم فقط يملكون تأميناً مكملاً مقابل 85 % من اليهود. لقد أعاد هذا التقرير، كما يؤكد أصحابه، التأكيد على عنصرية حكومات المحتل المتعاقبة في تعاملها مع السكان العرب الأصليين في كل ما يتعلق بمجالات حياتهم. كما ومكن من ربط المشكلات الإجتماعية والاقتصادية بالقضية الأساس، أي الاحتلال الذي أسس للنكبة الكبرى وكل ما نتج عنها من معاناة. مما يتيح مواجهة "أسرلة" المجتمع العربي ومحاولات الغاء انتمائه لشعبه وأمته.

المؤسسة العربية لحقوق الانسان، ومركزها الناصرة، تناولت من ناحيتها في تقريرها السنوي الأخير الأوضاع الصحية للعرب في الداخل الفلسطيني بشكل مسهب. فقد أبرزت التمييز في مجال الصحة واتساع الفجوات بين السكان العرب واليهود، وأشارت للاختلاف في معدلات متوسط العمر، وفي نسبة انتشار الأمراض المزمنة والأمراض الخبيثة. وحيث أن العلاقة قوية بين الوضع الصحي للفرد والسكان بشكل عام وبين الوضع الاجتماعي- الاقتصادي، فالفقر والثقافة المتدنية والاكتظاظ في السكن والبطالة تؤدي لارتفاع نسبة انتشار المرض والوفيات.

وعليه، ما زال السكان العرب هم الأقل ثقافة (6.2 % لم يتعلموا بتاتاً، 29.2 % تعلموا في المدارس الابتدائية ولم ينهوا بالضرورة التعليم الابتدائي، و35.3 % منهم، مقابل 12.9% من اليهود، لم يتعلموا في مدرسة ثانوية، في حين أن 12 % من العرب التحقوا بمؤسسة أكاديمية، مقابل 30 % من اليهود). لا ننسى الأخذ بعين الاعتبار لمشاكل التسرب من المدارس، والصفوف التعليمية المكتظة في المدارس العربية مقارنة بالمدارس اليهودية، والفجوات في الميزانيات وغيرها، بالرغم من ارتفاع نسبة التعليم منذ سنة 1980 بشكل كبير لدى العرب. 

هؤلاء العرب هم أيضاً الأكثر فقرًا، حيث تشير معطيات مؤسسة التأمين الوطني الى أن 61.3 % من العائلات العربية سنة 2006/7 يقعون تحت خط الفقر، مقابل 28.7 % من العائلات اليهودية. وفي حين ينقذ الدعم الحكومي 47 % من العائلات اليهودية الفقيرة بحيث تخرج من دائرة الفقر، فهو لا يساعد سوى 10.6 % فقط من العائلات العربية الفقيرة. 

معطيات دائرة الإحصاء المركزية لسنة 2006 تدلل من ناحيتها على أن معظم البلدات العربية (نحو 85 %) تقع في أسفل السلم الاجتماعي- الاقتصادي. وحيث أن مجمل دخل السلطة المحلية العربية من الميزانيات والمخصصات الحكومية هو 25 % من مجمل دخل السلطة المحلية اليهودية من المصادر ذاتها، فالفجوة في جودة الخدمات التي تقدمها السلطات المحلية العربية للسكان آيلة للاتساع. الشئ نفسه يقال فيما يخص التآكل الاقتصادي في الميزانية الحكومية للتربية والصحة، بما يؤثر على المجموعات السكانية الضعيفة والأكثر فقرًا، ويشمل النساء والشيوخ. 

يشكل العرب النسبة الأعلى من عدد العاطلين عن العمل (نسبتهم في قوى العمل منخفضة: 54.9 % في سن 25-54 سنة مقابل 82.7 % في أوساط اليهود). وفي حين أن نسبة النساء العربيات العاملات تبلغ 28 %، فهي ترتفع ل 81.45 % في أوساط النساء اليهوديات. ذلك رغم أن السكان العرب هم من المجموعات الشابة، حيث أن 42 % منهم تحت سن الـ15 سنة.

كثافة السكن هي بدورها أكبر عند العرب منها عند اليهود (1.43 شخص للغرفة مقابل 0.84). أما نسبة الوفيات العامة فهي أعلى لدى العرب، وكذلك نسبة وفيات الرضع حيث تساوي في صفوفهم ضعف ما هي عليه عند اليهود. هذه الفجوة شهدت اتساعاً في السنوات الأخيرة. أما أسباب الوفاة الأساسية فهي: أمراض قلب، أمراض خبيثة، إصابات خارجية (حوادث وإصابات بما فيها حوادث طرق)، سكري وأمراض الأوعية الدموية في الدماغ. نسبة انتشار سرطان الرئة وسرطان الثدي لدى العرب آخذة بالازدياد بشكل سريع جداً، إضافة إلى أن الكشف عن سرطان الثدي يتم في صفوفهم في مراحل متأخرة (أي بعد استفحال المرض). الأمر الذي يقلل من احتمالات الشفاء والبقاء على قيد الحياة، علاوة على أن المرض يظهر في سن أبكر عندهم. يبين التقرير كذلك أن نسبة الوفيات جراء سرطان الرئة تشهد ارتفاعاً منذ الثمانينيات، حيث بين 1980 و2000 ارتفعت وفيات سرطان الرئة لدى العرب بنسبة    48.3 % عند الرجال، وبنحو 45.3 % عند النساء، مقابل استقرار في نسبة الوفيات عند اليهود، رجالاً ونساءاً. وحيث من المعلوم أن التدخين والسمنة وقلة النشاط الجسدي لها علاقة مباشرة بالإصابة بأمراض السكري وضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية، فهذه المسببات موجودة بنسب أعلى لدى العرب منها عند اليهود. 

أما حصة العرب من المصابين في حوادث الطرق فهي أعلى من نسبتهم لمجموع السكان في "إسرائيل". ففي حين شكلت المجموعة العربية سنة 2006 ما معدله 20 % من مجموع السكان، كانوا 25 % من المصابين في حوادث الطرق، و 28 % من القتلى فيها. وبلغت نسبة الأطفال العرب المقتولين 59% من مجموع الأطفال الذين قتلوا جراء حوادث الطرق.

هذه النتائج وغيرها تبرز، كما يؤكد التقرير، حقيقة أن الحكومات المتعاقبة فشلت في تطبيق واجباتها  تجاه الفلسطينيين في "إسرائيل"، منتهكة بذلك المعاهدة الدولية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي صدقت عليها في 1966. كما أنها داست على التزاماتها الرسمية في اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. 

يعتبر مركز العدل البيئي في جمعيّة الجليل أن الظروف البيئية في التجمّعات العربية تنتج أخطاراً صحيّةً جديّةً على السكّان من أهمها : المعالجة غير السليمة لمياه المجاري، نقص مياه الشرب النقيّة، انتشار الكسّارات والمجمّعات الصناعيّة، وتجاهل التخطيط الهيكلي في البلدات العربية للاعتبارات البيئية.

 صحيفة "عرب الداخل" كشفت من ناحيتها عن أكبر مشروع لاستخراج مادة الفوسفات في النقب، على أراضي قرية الفرعة غير المعترف بها إلى الجنوبي من عراد، والذي بات في مرحلة متقدمة. أما شركة "روتم امبرط" المفوضة بتنفيذ المشروع، فتبذل قصارى جهدها منذ عام 1997 لوضعه حيز التنفيذ، حيث سيستخرج احتياطي فوسفات تقدر كميته بنحو 65 مليون طن بقيمة 100 مليار شاقل. لكن معارضة بلدية عراد للمخطط منعت من مباشرة العمل في المشروع الذي سيؤدي كلياً إلى تغير ملامح الأرض من جبال وأودية ومعالم. فهذه القرية، التي يقطنها قرابة 5000 نسمة، سيجد أهلها أنفسهم في العراء في حال الشروع ببناء المشروع الذي سيلتهم نحو 13 ألف دونم من الأراضي العربية. كذلك انشطار الغبار الناعم الذي يلوث الهواء يعرّض السكان للإصابة بأمراض سرطانية مختلفة أهمها سرطان الرئة. أيضاً لأضرار في عمل الرئة خاصة عند الأطفال وكبار السن، وغيره من المخاطر التي ستؤدي إلى ازدياد عدد الوفيات سنوياً. وعليه، من المتوقع أن ترتفع نسبة الوفاة في مدينة عراد لوحدها بنحو 4،25 %.

 

مقابل التهويد والتهجير والعنصرية مقاومة مدنية

كثيرون سمعوا باستفزازات واعتداءات عنصرية وتهديد لأمن العرب من أهل عكا السنة الفائتة. هذه المدينة التي كانت قد فرّغت عملياً بعد نكبة 1948 من غالبية سكانها لتتحول لمدينة ذات أغلبية يهودية، بحيث باتت الأقلية العربية فيها تعاني من وضع اقتصادي واجتماعي صعب بفعل الإهمال الحكومي. بعد أحداث اكتوبر 2000 بنوع خاص، شهدت المدينة توجه العائلات الشابة للسكن فيها بسبب الضائقة السكنية في القرى المجاورة. الأمر الذي حدا بدولة "إسرائيل" لتكثيف نشاطها بهدف تهويدها. مما استتبعه احراق بيوت وسيارات لعرب وكتابة شعارات عنصرية على منازلهم واعتداءات منظمة، كان الهدف منها اخراجهم من الأحياء ذات الأغلبية اليهودية. وذلك في تصعيد نوعي ضمن مخططات تهجير واقتلاع، بما يتناغم مع مفهوم "الدولة العنصرية" ومشروع تهويد عكا ضمن مخطط تهويد النقب والجليل. وعلاوة إلى عدم قيام الشرطة بدورها في حفظ الأمن عندما يكون المعتدى عليه عربي، يتم التعامل مع الضحية وكأنها الجاني.

شكّل كل هذا الأرضية الخصبة للهجمة الأخيرة على العرب، التي قام بها مستوطنون سابقون في الضفة والقطاع، وأوساط عنصرية استقدمت من صفد وطبريا وطلاب مدرسة دينية تجمع بين تعلم التوراة والخدمة العسكرية. فهم يسكنون من دون عائلاتهم في بيوت خالية لمنع العرب من استئجارها، ويتسلحون بأسلحة رشاشة للتضييق عليهم وارهابهم بهدف تهجيرهم. السبب من وجهة نظرهم قيادة عربي لسيارته عشية عيد الغفران، في حين أنه لا القانون ولا حتى الديانة اليهودية تمنع قيادة السيارات أثناءه، كما ولا يمنع اليهود امثالهم من قيادة السيارة بل العرب فقط. مما يجعل هؤلاء الذين يقطنون في المدن الساحلية (المختلطة) يعيشون في هذه المناسبة نوعاً من حظر التجول. وهو ما حدا عشية العيد بالنائب العربي، عباس زكور الذي يعيش في عكا، أن يتوجه بطلب لوزير الأمن الداخلي لنشر دوريات شرطة تحسباً لحدوث احتكاكات، كما سبق وحصل في مثل هذه المناسبة في سنوات سابقة.  

لكن هذه المرة أدى تفاعل المناوشات خلال ثلاثة أيام لاحراق سيارات لعرب واعتداءات على بيوتهم ودكاكينهم وأملاكهم وجرح العديد منهم وتوقيف العشرات من الطرفين. إلى أن تم اطلاق سراح غالبية المحتجزين من اليهود بعد احضارهم للمحكمة، مقابل استبقاء العرب وتمديد اعتقالهم. بالطبع كان لا بد أن تشكل هذه الأحداث ذريعة للتحريض العنصري ضد العرب، حيث كثرت المواقع الالكترونية التي تنشر تصريحات معادية لهم وتطالب بايقاف التعامل معهم، لا بل طردهم من عكا. ذلك في الوقت الذي اصر فيه ضحايا هذه الاعتداءات على اطلاق سراح معتقليهم، وعلى حقهم في عودتهم لبيوتهم المهجّرة، وتعويضهم على الأضرار التي لحقت بهم، وتعزيز صمودهم وضمان أمنهم وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم بعد حرق بيوتهم وممتلكاتهم، كما وتقديم بلدية عكا والمحرضين ضدهم من وسائل الاعلام الاعتذار لهم.

بكل الأحوال، هذه الأجواء العنصرية الرسمية والشعبية ليست سوى مؤشر على ما يمكن أن يتطور له الوضع في المستقبل المنظور. لقد شكل الإجماع اليهودي ضد العرب مدخلاً لهجمة أكبر على الوجود العربي برمته، وخاصة في المدن المختلطة، حيث تظهر بوضوح أكبر عبر شعارات "الموت للعرب" المكتوبة على جدران منازل عربية وبنايات عامة. وهو يؤشر إلى أن العرب لم يعودوا بالنسبة لليهود سوى غرباء في وطن ينكرونه عليهم ويشددون سعيهم لطردهم منه.

ليس ببعيد عن ذلك اطلاق قوات الشرطة النار على المتظاهرين العرب في مختلف انحاء البلاد، مع بداية انطلاق انتفاضة القدس والاقصى والاحتجاج على قيام الاحتلال بارتكاب المجازر في الضفة والقطاع، لتقوم الشرطة والامن الاسرائيليين بارتكاب مجزرة في الداخل الفلسطيني كانت نتيجتها قتل 13 عربي. ورغم الادلة القاطعة على مسئولية الشرطة واستنتاجات لجنة التحقيق الرسمية، لم يتم تقديم لوائح اتهام ضد أي منهم. لا بل رد رئيس الحكومة السابق على عريضة ربع مليون فلسطيني يطلبون محاكمتهم بأنه لا ينوي التدخل في قرارات المستشار القضائي. لكن عدم تطبيق القانون على القتلة ساهم بتضاعف حوادث قتل عناصر الشرطة لعرب.

بكل الأحوال عندما تتهم عناصر يهودية بقتل عرب وتحاكم وتعتقل، لا تلبث بعد سنوات معدودات أن تخرج من السجن حتى ولو كان الحكم بالمؤبد. وحيث هم لا يصنفون كسجناء أمنيين مهما كان الظرف ولا يحاكمون بتاتاً بمحاكم عسكرية، يلبّس العرب هذه الصفة مهما كانت درجة جرمهم. لقد تعرضوا لمحاكمات جائرة في المحاكم العسكرية حتى 1996، بما يعني أن الضحية العربية ليست بنفس قيمة اليهودي الذي يعتبر الاعتداء عليه حينئذ اعتداءا على الأمن، وما يشجع على استباحة دم هذا العربي طالما الثمن لن يكون باهظاً. بكل الأحوال، على السجناء العرب أن يساموا كل ألوان الهوان، حيث رفضت الحكومات المتعاقبة تحسين ظروفهم والتعامل معهم وفق القانون، أو الافراج عنهم ضمن عمليات تبادل الأسرى أو مفاوضات سلام. أما ظروف اعتقالهم فهي أيضاً مختلفة، حيث يعيش الأسرى اليهود في أقسام مفتوحة تغلق أبوابها ليلاً، ويستطيعون بالتالي تبادل الزيارات فيما بينهم. كذلك تبادل الرسائل بالقدر الذي يشاؤون، إلى جانب العمل خارج السجن بعد مدة من الاعتقال، والاختلاء بالزوجات وادخال ما يريدون من صحف وكتب ونشرات واشرطة فيديو وممارسة عبادات في غرف خاصة مهيئة لذلك، كما الاحتفال بالأعياد مع رجال دين. في حين أن كل هذه الشروط ليست مؤمنة للعربي أبداً، أو بأحسن الأحوال بشكل بسيط حسب أهميتها.

من ناحية أخرى، تشهد البلدات والتجمعات العربية الفلسطينية في عموم الأرض التي احتلت منذ عام 1948 تحركات واسعة سنوية بمناسبة احياء عروبة الأرض. وذلك في  الناصرة وأم الفحم والنقب وسخنين ودير حنا وعرابة وداخل الجامعات. شرارة هذه التحركات انطلقت، كما يشرح محمد العبد الله، في الثلاثين من آذار عام 1976، موعد التمرد الجماعي والاحتجاج على إجراءات القمع والتهميش ومصادرة الأراضي وهدم القرى. سبب التفجير المباشر كان قيام سلطات الاحتلال بمصادرة نحو 21 ألف دونم من أراضي  المنطقة 9 "عرابة البطوف وسخنين ودير حنا" وغيرها، لإدراجها في مخططات بناء المستعمرات الجديدة ضمن سياسة "تهويد الجليل".

في الذكرى الثالثة والثلاثين ليوم الأرض جرت مسيرة مركزية وتحرك جماهيري واسع، حيث سار آلاف المتظاهرين ضمن برامج عمل للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية التي أشارت إلى أن "قضية العنصرية والفاشية، وضرورة التصدي الوحدوي لها، هي في مقدمة قضايا "يوم الأرض"، لما تُشكله من مخاطر وجودية وليس فقط حقوقية، تجاه الجماهير الفلسطينية في البلاد".

حتى أن الأقلية الدرزية التي يشيع عنها أنها أكثر تقرباًً لسلطات الاحتلال وتخدم بالجيش الإسرائيلي بغالبيتها استناداً الى تطبيق قانون الخدمة العسكرية الالزامية عليها (منذ أن قررت القيادة الدرزية التعاون مع الدولة الجديدة بما في ذلك خدمة الشبان الدروز في الجيش الإسرائيلي، وحيث كان يسمح الحكم العسكري لهم، الذي طبق منذ إقامة الدولة عام 1948 وحتى عام 1966، بما لم يسمح به للآخرين من عدم الخروج من مدنهم وقراهم إلا بتصاريح من الحاكم العسكري وغيره)، وأنها صوتت غالبيتها للأحزاب الصهيونية وتمثلت فيها بثلاثة مقاعد، لم تشفع لها هذه الوصمة. فمشايخ الطائفة والنائب سعيد نفاع الذين زاروا سوريا قبل سنتين تعرضوا هم أيضاً لحملة تحريض ولملاحقة، وقال وزير الأمن الداخلي حينها أنه يسعى لتقديمهم للمحكمة بتهمة زيارة "بلد معاد".

في هذا الصدد يجدر لفت الانتباه إلى نتائج استطلاع جرى في 2008 (العينة مؤلفة من405  مواطن درزي من 18 قرية ومدينة درزية) يعدل من صورتهم ويبين حسب صحيفة "حديث الناس" أن %64 من المستطلعين يعارضون الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي: 47.8 % منهم قالوا أن العلاقة بين الدروز والدولة غير جيدة بالمرة، أو غير جيدة. وقدَر73.2  % من المشاركين أن وضع الدروز في إسرائيل أسوأ من وضع سائر العرب واعتبر% 83.3  أن وضع الدروز أسوأ بكثير نسبة لوضع اليهود. أما أسباب ذلك فهي مصادرة الأراضي (% 90.1 من المشاركين)، تتبعها البطالة، ثم الخرائط الهيكلية وأحداث البقيعة. فيما يتعلق بقضية التجنيد الإجباري، أظهرت النتائج أن فقط نسبة 36.1 % منهم يؤيدونه، بينما % 46.6 اعتبروا أنه يجب أن يكون تطوعيًا و %17.3 طالبوا بإلغائه كلياً. وفي حين صوّت غالبيّة المشاركين في الانتخابات للمرشحين الدروز، كانت نسبة الامتناع عن التصويت في صفوفهم غير مسبوقة هذه المرة.

وعليه، "خطورة تنامي العنصرية تأتي، كما يشرح محمد العبد الله، من خلال فاشية القوانين والممارسات التي تستهدف التضييق على العرب الفلسطينيين في شتى مجالات الحياة، بل واستهداف وجودهم، خاصة مع ما كشفت عنه أحداث العام المنصرم، والتي يمكن الاستدلال على بعض شواهدها من خلال التذكير بما يتعرض له سكان "الحي الشرقي" في مدينة عكا، وأهالي حي "العجمي والنزهة" في مدينة يافا، وفي "نتسيرت عيليت" واللد والرملة وأم الفحم، على يد عصابات اليمين الفاشي بتلاوينه الدينية والعلمانية، والمنفلت في شوارع هذه البلدات، وهو يردد ما ينعق به غربان الفاشية "مارزل، بن غفير وبن آري" (الموت للعرب) في ظل حماية بوليسية، حكومية، شاملة. وقد أكد مركز "مساواة" من خلال التقارير والتصريحات الصادرة عن المشرفين عليه، عن ارتفاع حالات التمييز ضد العرب خلال عام 2008 بنسبة 150%".

أما التهويل المبرمج من "الخطر الديمغرافي" فيترجم فعلياً، منذ أكثر من ستة عقود، بعمليات تهجير واسعة، تترافق مع مصادرة دائمة وممنهجة للأرض. حملة بناء المستعمرات المتواصلة لا تقتصر على الضفة الغربية ومدينة القدس والجولان فقط، وإنما تطال مناطق الجليل والمثلث والنقب. وعبر سياسة التضييق الشامل على القرى والبلدات العربية، يتم حشر "أكثر نسبة عرب على أقل مساحة أرض". فالأراضي الفلسطينية تتعرض للمصادرة الدائمة، في الوقت الذي يتزايد فيه أصحاب الأرض الأصليون. لقد أقامت السلطات المحتلة أكثر من ستمائة بلدة ومدينة للمحتلين على أنقاض خمسمائة وواحدة وثلاثين قرية ومدينة فلسطينية.

بالرغم من كل هذا يتمسك العرب بحقوقهم وبممارستها كمواطنين يفترض أنهم متساوين أمام القانون، ولو أن الكلمة الأخيرة للسلطات "الإسرائيلية" وإن كان بخرق القوانين المعمول بها. فالمواطنة التي فرضت على الفلسطيني في "إسرائيل" هي الصيغة الممكنة للبقاء في وطنه وحماية ما تبقى منه من التهويد، كما يقول رئيس اللجنة الشعبية للدفاع عن الحريات أمير مخول. وفي حين أن نتائج الانتخابات "الاسرائيلية" لا تؤثر جوهرياً على وضعية المجموعات "الاسرائيلية" المختلفة حتى وان تغيرت اولويات الحكومة، نزع شرعية وجود الجماهير العربية الفلسطينية في وطنها هو موضوع نقاش انتخابي، حسب ما يذهب اليه. فالانتخابات التشريعية "الاسرائيلية" ليست مرجعية تمثيلية للجماهير العربية أو تأطيراً سياسياً لها، بل أن الموقف منها خلافي وغير اجماعي. لذا يرى أنه لا بد من تدعيم أسس التنظيم الذاتي للمجتمع الفلسطيني من خلال ليس فقط لجنة المتابعة في الكنيست، بل واسهام كل القطاعات والاطر المؤسساتية الحزبية والاهلية والبلدية والحركة الطلابية المنظمة، من مثل اللجنة الشعبية للدفاع عن الحريات ولجنة متابعة قضايا اسرى الحرية وحملة مناهضة الخدمة المدنية وغيرها. كون مرجعية النائب المنتخب هي حزبه، حيث يمثل برنامج حزبه ومصالحه ورؤيته وجمهوره وليس الجماهير العربية أو لجنة المتابعة.

شكل من أشكال مناهضة المجتمع المدني الفلسطيني لانتهاك حقوقه يتمثل بنشاط مركز "عدالة"، المكون من عدد من المحامين الذين يعملون على تقديم دعاوى أو مناشدات للهيئات المختصة ضد الخروقات التي يتعرض لها العرب. فهم ينجحون أحياناً في ربح بعض القضايا، رغم أن الكثيرين من الأقلية العربية في الدولة العبرية لا يمنحون ثقتهم لجهاز العدالة والقضاء "الإسرائيلي"، لا بل يعتبرونه "شريكاً في أجهزة القمع وتبرير جريمة الدولة وتبييضها". الأمثلة التي أخذناها من ملفات المركز والتي نوردها هنا، أردنا من خلالها أن نلقي الضوء ليس فقط على نوعية عمل هؤلاء المحامين، وإنما أيضاً على أشكال أخرى من الانتهاكات التي يتعرض لها فلسطينيو الخط الأخضر.

تتحرك "عدالة" على سبيل المثال ضد اقتراح قانون المواطنة ومن أجل عدم المصادقة عليه، كونه يمكّن السلطات "الإسرائيلية" من سحب المواطنة من "كل من يخرق الولاء لدولة إسرائيل". خرق الولاء هذا يكون بالقيام بعمل ارهابي (كما عرّف في قانون تمويل الارهاب 2005) وتسهيله أو المشاركة في منظمة ارهابية، وبارتكاب خيانة حسب القانون الجنائي أو تجسس خطير، وبالحصول على مواطنة او الإقامة الدائمة في كل من: أيران، أفغانستان، لبنان، السودان، باكستان، ليبيا، سوريا، العراق، اليمن وقطاع غزة. قانون المواطنة والدخول الى "اسرائيل" الذي وضع منذ 2000، والذي تم تعريفه على أنه "أمر ساعة" أي قانون مؤقّت، جرى تمديده ثماني مرات. فهو يمنع منعاً شبه تام لمّ شمل عائلات عربية، حين يسكن أحد الزوجين المناطق المحتلة أو بلدان معادية. وبالتالي يمنع حصول العرب على أية وضعية قانونية في "إسرائيل" وممارسة حقّهم في حياة عائلية داخل بلدهم. كذلك يمكّن من سلب مواطنة شخص لا يحمل جنسية أخرى بما يتناقض مع بنود القانون الدولي، وعبر تقديم أدلة سرية في الجلسة التي تُعقد لسحب مواطنته. الأمر الذي يعتبر خرقاً لتعاليم قوانين الأدلة والقرائن وانتهاكاً خطيراً للحق في الإجراء العادل.

كان البرلمان "الإسرائيلي" قد صادق في تموز 2008 بأغلبيّة 21 ضد 8 على تمديد سريان قانون المواطنة والدخول إلى "إسرائيل" لسنة إضافيّة حتى تموز 2009. ذلك بالرغم من قرار المحكمة العليا في 2006 الذي اعتبر أن القانون غير دستوري، ومن "الأمر المشروط" الذي يطالب الدولة بتفسير قرارها بعدم إبطال القانون. وكان قد سبق وصادق في آذار 2007 على تمديد إضافي للقانون، موسعاً في نصه بمنع لمّ الشمل ليشمل مواطني "دول معادية"، وهي سورية ولبنان والعراق وإيران، وكل من يسكن في مكان تجري فيه عمليات تعد خطراً على أمن "إسرائيل" ومواطنيها، وفق ما يمليه جهاز الأمن "الإسرائيلي". إلى أن أضيف أوائل تموز 2008 قطاع غزّة لهذه القائمة. وما قرار وزير الداخلية "الاسرائيلي" (ايلي يشاي)، في 5/5/2009 بالبدء باجراءات سحب مواطنة اربعة من عرب الداخل، سوى الشروع بتنفيذ التعديل رقم 9 على قانون المواطنة هذا. تعديل ينسحب فقط على العرب الفلسطينيين، إذ أن يهودية اليهودي تمنحه تلقائياً الحق بالهجرة الى "إسرائيل" والمواطنة في كيان يعرّف نفسه كدولة اليهود ودولة يهودية.

يرى مركز "عدالة" أنّ الدولة تتعامل مع الفلسطينيين، سكان المناطق المحتلّة ومواطني سورية ولبنان والعراق وإيران على أنّهم إرهابيين مع وقف التنفيذ. "هذا التصنيف هو تصنيف عنصري تمّ وضعه بحسب أصل سكان ومواطني الدول العربيّة والإسلاميّة". في حين لا توجد دولة أخرى في العالم تسلب الناس الحق في ممارسة حياة عائلية على خلفية انتمائهم القومي أو الإثني.

وحيث سنّ بعض القوانين في الدولة العبرية يرتبط أحياناً بالمزاج العام للمجتمع اليهودي، فمنها ما يقترح ويصادق عليه ليس سوى للانتقام من الفلسطينيين بسبب مواقفهم السياسية. انطلاقاً من ذلك اضيف بند لقانون اساس الكنيست يمنع أية قائمة أو مرشح يبدي تأييداً لفظياً أو فعلياً للكفاح المسلح ضد "إسرائيل" من المشاركة في انتخابات الكنيست. وإثر الحرب "الإسرائيلية" الثانية على لبنان صيف 2006، وبفعل موقف المجتمع الفلسطيني في "إسرائيل" منها، صادق الكنيست في أواخر حزيران 2008 على اقتراح قانون يمنع من يزور دولة "معادية" دون إذن وزير الداخلية من ترشيح نفسه للكنيست خلال فترة سبع سنوات. حيث تفسر الزيارة وكأنها تأييد للكفاح المسلح ضد الدولة العبرية. لكن هذه الدول هي عربية أو إسلامية، وبعضها بنوع خاص يضم عائلات تشكل امتداداً لعرب 48 وأحياناً أقرباء من الدرجة الأولى. إثر ذلك، شن النواب العرب على هذا القانون هجوماً شديداً، حيث قال محمد بركة: "هذا قانون ارهابي بكل معنى الكلمة.. ولا يمكن اعتبار زيارة الأقرباء والزيارة الهادفة إلى دفع السلام تأييداً للإرهاب". أما سعيد نفاع فقد استأنف على القانون أمام المحكمة العليا.

هذا الاجراء يعتبر بمثابة مأسسة للملاحقات السياسية تجاه عرب الداخل، ومسعى عملي لإقامة جدار فصل "اسرائيلي" إضافي لعلاقة هؤلاء بامتدادهم الفلسطيني والعربي الاقليمي. فالملاحقات السياسية، التي باتت بنيوية في تعامل المؤسسة الرسمية "الإسرائيلية" مع المواطنين العرب، تؤشر لتصعيد الممارسات القمعية ضد مجمل فئاتهم ولنزع الشرعية عن العمل السياسي العربي في الداخل.

من ناحية أخرى، نرى في ردود مركز "عدالة" تقديمه إلى لجنة الانتخابات المركزية رداً على طلب شطب القائمة العربية الموحدة والحركة العربية للتغيير ومنعها من خوض الانتخابات الفائتة، وذلك بتهمة أن القائمة تدعم الارهاب من خلال دعمها السفر الى الدول المعادية "لاسرائيل"، علماً أنها أكبر قائمة عربية تقدمت للدورة الأخيرة للكنيست. فهي تدعو للتمسك بالمبادئ الديمقراطية وحل القضية الفلسطينية بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بالحرية وتقرير المصير، وذلك عبر اقامة دولة فلسطينية الى جوار "اسرائيل" في حدود حزيران 1967 تماشياً مع قرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن.

ارتكز الرد على إفادة رئيس القائمة، الشيخ إبراهيم صرصور، الذي أوضح "مبادئ القائمة وعملها الدؤوب في الكنيست على مر السنين بكل ما يتعلق بحقوق المواطنين العرب وسياسة التمييز ضدهم في القضايا المدنية والاجتماعية كالتعليم والصحة والرفاه الاجتماعي والاقتصاد والبنى التحتية والخدمات الدينية وأملاك الوقف وغيرها. كذلك عمل أعضاء القائمة على رفع قضايا تعنى بالعدالة الاجتماعية التي تخص جميع المواطنين بالدولة". وجاء في الرد "أن أعضاء القائمة الموحدة والعربية للتغير كانوا شريكين في صياغة 170 اقتراح قانون الموجودة حاليا بمراحل تشريع مختلفة. ومن القوانين التي سنت والتي كانوا هم من المبادرين لاقتراحها نذكر: قانون تنظيم العمل بمهن الصحة (2008) وقانون المجالس المحلية (استشارة قانونية) (2007) الذي يهدف الى الرقابة على عمل السلطات المحلية وقانون الغاء دمج السلطات المحلية في قرى الشاغور والكرمل (2008). أما اقتراحات القوانين التي ما زالت قيد البحث فهي كثيرة من أبرزها: اقتراح قانون اساس: المشاركة المدنية والمساواة للعرب، واقتراح قانون اساس: الحق في المسكن، واقتراح قانون خصم الضرائب للأكاديميين (2006) واقتراح قانون يوم المساواة ومناهضة العنصرية (2008)". وأضاف الرد "أن اعتماد مقدم الطلب على اقتباسات جزئية من صحف ومواقع انترنت وإخراج هذه الاقتباسات من سياقها يدل على أن الدافع من وراء هذه الطلبات هو دافع سياسي يهدف إلى ضرب الحق الدستوري لممثلي هذا الحزب وجمهور مصوتيه".

بعد الاستئناف الذي قدمه المركز باسم القائمتين، قررت المحكمة العليا في 21 كانون الأول 2009 إلغاء قرار لجنة الانتخابات المركزية بالمنع من خوض الانتخابات. وعقَب مديره على ذلك بأن المطلب بات "إلغاء البند 7-أ من قانون أساس الكنيست الذي يجيز منع قائمة من خوض الانتخابات إذا كان في طرحها السياسي أو في أقوال وأفعال قادتها معارضة لتعريف دولة إسرائيل كدولة "يهودية وديمقراطية". حيث أصبح هذا البند في السنوات الأخيرة أداة في يد اليمين الإسرائيلي للتحريض على المواطنين العرب والأحزاب العربية".

في موضوع سابق، وحيث كان الكنيست قد رفع في تشرين الثاني 2001 حصانة النائب عزمي بشارة لمحاكمته بسبب خطاباته السياسية، في سابقة تعد الاولى من نوعها، نجح هذا المركز عندما قدم باسم النائب المذكور التماساً في بداية 2006 للمحكمة العليا أقرت بموجبه سريان الحصانة البرلمانية على الخطابات السياسية التي القاها بشارة في ام الفحم (حزيران 2000) وفي القرداحه في سورية (حزيران 2001). وقد تم ابطال لائحة الاتهام التي قدمت ضده بتهمة دعمه لتنظيم ارهابي، كون جناية دعم تنظيم ارهابي معرَفة بشكل واسع وفضفاض في القانون "الاسرائيلي". لكن يجب التذكير بأن النائب بشارة ما زال ملاحقاً، حيث تحاول سلطة الاحتلال تجريم عمله السياسي. وكان قد تم استدعاء أعضاء من حزب التجمع الوطني الديمقراطي ومنهم قاصرين للتحقيق معهم. دار التحقيق حول علاقتهم بعزمي بشارة، وطولبوا بعدم الاتصال به كون ذلك يشكل خرقاً جنائياً حسب ادعاءات الشاباك. كما وطُلب من آخرين بالتوقيع على تعهد يفيد بأنّ الدكتور بشارة "مطلوب للتحقيق بسبب علاقته مع حزب الله" وأن أي اتصال معه قد يؤدي إلى تجنيد ناشطين لحزب الله.

 

الملاحقات السياسية

رصدت المؤسسة العربية لحقوق الإنسان موضوع الملاحقة السياسية للحركة الوطنية وقيادات الأقلية العربية في "إسرائيل" التي ازدادت حدة منذ الانتفاضة الفلسطينية. أتت هذه الانتهاكات لحقوقهم السياسية ضمن حملة منظمة تعرضت لشرعية تمثيليتهم بهدف ارهابهم واسكاتهم، ضمن وضع اتسم بالتدهور بشكل عام بعد أحداث أيلول 2001 وتوظيف الادارة الأمريكية وحلفائها ومن تشملهم رعايتها لهذه الأحداث لجني مكاسب سياسية والاستئساد على الخصوم. ففي "إسرائيل" برر جورج دبليو بوش سياسة القمع والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين بمشروعية الحرب على الإرهاب أو ما أسماه "حق الدفاع الشرعي"، كما عبر المحامي حسين أبو حسين.

تجلت إذن هذه الانتهاكات باعتداءات أفراد الشرطة والأمن على ممثلي الأقلية العربية وأعضاء الكنيست العرب، بما فيها الجسدية والتي تجلت بالضرب بالهراوات خلال مشاركاتهم بالاحتجاجات أو اطلاق قنابل الغاز او الرصاص المطاطي عليهم من مكان قريب بعد التعرف على هويتهم. وحيث أحيل نتيجة ذلك عدد منهم للعلاج في المستشفيات، لم تتخذ بالمقابل اجراءات عقابية ضد من قام بالاعتداءات. الأمر الذي يعد تمييزاً اضافياً مقارنة بالطريقة اللينة التي يتم التعامل بها مع أعضاء الأحزاب اليهودية اليمينية المتطرفة. أضف لذلك الإجراءات العقابية لتقييد حركة الشخصيات العربية والتحقيقات التي فتحت بشأنهم واتهامهم بزيارة المناطق المحتلة ودول معادية والقيام بالتحريض من خلال تصريحات وخطب سياسية. وحتى عندما كان يتم تقديم تسجيلات صوتية من شأنها تكذيب الشرطة واغلاق الملف، لم يكن الشرطي يحاكم على ادعاءاته. كل ذلك يجري في سياق المس بشرعية هؤلاء الممثلين العرب أمام المجموعات اليهودية والجهاز القضائي ومنعهم من القيام بمهامهم، وخصوصاً التصدي للاحتلال العسكري للضفة الغربية وقطاع غزة والعمل لدولة فلسطينية مستقلة مع باقي أفراد شعبهم والشعوب العربية.  

لقد حمَلوا فوق ذلك مسئولية تحريضهم للمتظاهرين في بداية انتفاضة 2000 ومقتل 13 عربياً على يد الشرطة. لجنة اور التي كلفت بالتحقيق في الحادثة خرجت عن المألوف بتوجيه تحذيرات وتحميل بعض القيادات المسئولية. تطور ذلك لتشريع قوانين بهدف منع ترشيح بعض الشخصيات والأحزاب من المشاركة في الانتخابات، بسبب رفضها للدولة اليهودية ولأنها ترى فيها حرماناً للأقلية العربية من الكثير من حقوقها. الأمر الذي يمكن أن يتطور لتجريم وسجن على خلفيتها. يجدر بالذكر أن المستشار القضائي للحكومة يلعب دوراً سلبياً جداً في هذا المضمار، كما أن الأحزاب الصهيونية قدمت طلبات للجنة الانتخابات لالغاء شرعية الأحزاب العربية.

إذا كان هذا هو الواقع بما يخص النواب في الكنيست، فكيف بالحري عندما يتعلق الأمر بالقيادات الوطنية والشخصيات التي تقاوم السياسات "الاسرائيلية" فيما يخص أوضاعهم كأقلية في وطنهم؟ فهم بالطبع يتعرضون لكل أشكال كمّ الأفواه وتضييق الخناق والترهيب والقمع والملاحقات والمداهمات والاعتقالات. وحيث تستند السلطات الأمنية في ممارساتها التمييزية العنصرية هذه على أنظمة الطوارئ التي ورثتها من الاستعمار البريطاني لفلسطين، تقوم بتلفيق سيناريوهات وادعاءات تقيض لها اصدار أوامر بالمنع من السفر، وأحياناً إلصاق تهمة "التعامل مع عميل أجنبي"، وأحياناً أخرى يطال المنع دخول المناطق المحتلة في 1967 والتواصل مع الأهل. ذلك إلى جانب مصادرة جوازات السفر وإجراء محاكمات تعسفية ضد الناشطين والقياديين الفلسطينيين من الأحزاب والحركات السياسية والمدنية، كما إصدار أوامر بمنع الموقوفين من زيارة أهلهم أو محاميهم لهم وتعرضهم للتعذيب والمعاملة اللانسانية والمهينة للكرامة.

ذريعة الحفاظ "على أمن الدولة" تقيض للماسك بزمام الأمور اتهامهم بالانضمام "لمنظمة معادية" أو القيام "بنشاط سياسي محظور"، حتى ولو كان في أساس ذلك القيام بتظاهرة أو رفع العلم الفلسطيني أو الاحتجاج على زيارة مسؤول اسرائيلي لبلدة عربية، كما حصل في بلدة سخنين على سبيل المثال عندما زارها موشيه كاتساف (في حينه كان رئيساً للدولة العبرية والان يحاكم بتهمة الاعتداءات الجنسية على موظفات عملن تحت إمرته). أو عندما رفض قبل اشهر رئيس لجنة الطلاب العرب في الجامعة العبرية مصافحة شيمون بيريس عندما زار الجامعة، قائلاً "لا يشرفني مصافحة قاتل أطفال". فأدى ذلك لسحب بطاقة الطالب منه والاعتداء عليه وعلى غرفته وتسليمه أمر باخلائها واحتجازه وتهديده بمنعه من اكمال تعليمه. من البديهي القول في هذا الصدد أن هذا الطالب الذي يمثل شريحة لا بأس بها من شباب وشابات فلسطين الداخل، يقابله في المنحى المعاكس نسبة أخرى ليس أو لم تعد معنية فعلاً بما يعيشه شعبها من هوان تحت الاحتلال بفعل اندماجها في النظام الذي كبرت في ظله أو طمعاً بتحسين ظروف عيشها إن التزمت بالشروط المطلوبة منها.

التعديات طالت فيما طالته قيادات للحركة الاسلامية تعرضوا بالعشرات للمداهمات والاعتقالات المتكررة والمحاكمات الجائرة، وبنوع خاص الشيخ رائد صلاح. شنت أيضاً حملات تحريضية في الاعلام ضدهم على الرغم من عدم اثبات أية دلائل تدينهم وخرق الجلسات لمبادئ عدالة وانصاف القوانين والمحاكمات التي في أساسها علنيتها. تطور الأمر لإغلاق مؤسسة الأقصى وافراغها من كل محتوياتها وأرشيفها الثمين جداً، بعد إطلاق قنبلة باتجاه الشيخ صلاح خلال مؤتمر صحفي كشف فيه عن عمليات جديدة ضمن خطة الاستيلاء على الأقصى المبارك. ففي عملية تأكيد التواصل بين الداخل الفلسطيني مع القدس والأقصى، كانت الحركة الاسلامية (كما شرحنا بشكل أكثر تفصيلي في تقرير سابق اعددناه حول تهويد القدس) تسيّر قافلات يومية تحمل آلاف الفلسطينيين من الجليل والمثلث والنقب والساحل للقدس. كما خلقت حركة تكافل مادية ومعنوية بين فلسطينيي الخط الأخضر وآلاف الأيتام في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن سلطات الاحتلال، التي ينتابها قلق شديد من مد الأقلية الفلسطينية في الداخل يد العون لأبناء شعبها في الضفة والقطاع، تستفيد من أجواء "الحرب على الإرهاب" التي ساهمت بإشعالها، لتربط بين حركات مدنية سياسية وحركة مقاومة مسلحة، بناء على تصورات وفرضيات ليس إلا، ودون الاستناد على أي دليل أو حجة قانونية.

في هذا السياق لا تغفل الشرطة "الإسرائيلية" عن القيام بتحقيقات واعتقالات مع قياديين وناشطين من حركات المجتمع المدني. لا فرق إن كانوا مسلمين أو مسيحيين، دينيين أو علمانيين، من اليمين أو اليسار. كمثال على الممارسات الترهيبية والعنصرية التي يتعرض لها الناشطون الفلسطينيون، كان أمين عام حركة أبناء البلد محمد كناعنة، وسكرتيرة تحرير مجلة "الجيل الجديد" سحر عبدو، قد أطلعاني على ظروف اعتقالهما والتنكيل بهما. فحركة أبناء البلد، التي تنظم منذ عقود مخيمات صيفية لمئات الأطفال ومهرجانات سياسية وثقافية تركز على التربية القومية والانتماء والهوية، قد تعرضت فيما تعرضت له لإغلاق مخيم العودة. حصل ذلك إثر تحقيق تلفزيوني عن نشاط يرفع شعار حق العودة للاجئين والمهجرين، وادعاء الصحافة بتدريب أطفال ليصبحوا "استشهاديين". كذلك وسط إدانة لجنة المتابعة الفلسطينية بالخروج عن "الإجماع القومي الإسرائيلي"، حيث تبرز كما في كل مكان خلافات في الداخل "الإسرائيلي" بين أبناء التيار الواحد والجبهة المؤتلفة. ولمجرد أن تنظم على سبيل المثال جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين مسيرة العودة لقرية صفورية، تقوم الشرطة، تساندها مظاهرة مضادة لاحزاب اليمين الاسرائيلي والمستوطنين واعتداء دموي على المسيرة واستفزاز المتظاهرين، باستدعاء المنظمين للتحقيق معهم وتوجيه اتهامات بالحاق أضرار بالممتلكات العامة ورفع أعلام ممنوعة، كما وتعتدي عليهم وعلى الصحفيين العرب وتعتقلهم.

ومنذ حوالي شهر قبل تاريخ صدور هذا التقرير ما زال يتعرض شباب حزب التجمع الوطني الديمقراطي لحملات تنصت على هواتفهم ومراقبة بريدهم الالكتروني ومداهمات وتفتيش وتحقيق مطوّل ومكثّف من قبل أجهزة الشاباك ووحدة التحقيق الدولية للشرطة. أما التهم التي وجهت لبعضهم وهم في حالة اعتقال، فهي "الاتصال بعميل أجنبي" و"تقديم معلومات لمصلحة العدو" و"التآمر لاقتراف جريمة".

قبل ذلك وإثر مجازر غزة، تحرك طلاب الجامعات في أراضي الخط الأخضر للاحتجاج والمطالبة بوقفها. ووجهت التحركات باستشراس المؤسسة الأمنية والأكاديمية وكمّ الأفواه وضرب حرية التعبير والتنظم والتظاهر. وفي حين تكثف ذلك ضد الطلاب العرب في جامعة حيفا، سمح للأحزاب اليهودية بالتظاهر وممارسة نشاطاتها بشكل عادي دون ادانتها ب"الإخلال بالنظام العام". وبادخال المئات من عناصر القوات الخاصة المدججة بالسلاح لحرم الجامعة، تمت ملاحقة الفلسطينيين وتجميد نشاطاتهم واعتقال العشرات منهم، كما ومنعوا من جمع التبرعات. توجت الاعتداءات بتقديم لائحة اتهام ضد خمسة منهم بالتحريض وخلق الفوضى وتنظيم مظاهرة غير قانونية كون الجامعة رفضت التصريح لهم بالتظاهر. كما وجرت محاكمات تأديبية للطلاب. وقد اعتبرت لجنتي الدفاع عن الحريات ومتابعة قضايا الأسرى أن المؤسسة المدنية "الإسرائيلية" وبالخصوص الأكاديمية، متمثلة بإدارات الجامعات وبنوع خاص جامعة حيفا، وكذلك المؤسسة الإعلامية، كانا ذراعاً من أذرع العدوان. فتناسقت الأدوار بين الجهاز القضائي والشرطة والشاباك (جهاز المخابرات العامة) التي كان من السهل بمكان حصولها على قرارات الاعتقال ولاسيما بالنسبة للشبيبة دون الثامنة عشر.

هذا الأمر ينبه لخطر إحداث شرخ في صفوف الفلسطينيين وتصنيفهم بين متطرفين ومعتدلين. ومن خلال ذلك توسيع إطار الملاحقات ومشروع الخدمة المدنية. فالعشرات من قيادات الأحزاب والحركات السياسية استدعوا بعد اتصالات هاتفية بهم "لاجتماعات" مع الشاباك، وجرى تضليلهم بإخبارهم أنهم ملزمون بالحضور بحسب القانون. وكان المحققون قد هددوا خلال هذه الاجتماعات قادة الأحزاب والحركات بالمسؤولية الجنائية عن أي عمل مخل بالقانون يقوم به أي شخص ينتمي لحزبهم أو حركتهم، وطلبوا منهم نقل هذه التعليمات لاعضائهم. لا بل أن يقوموا بأنفسهم بمنع النشطاء من أي "إخلال بالنظام العام". الأمر الذي استنفر الجميع في هبة لمساندة المعتقلين، واحصاء عددهم، والدفاع عنهم لأجل اطلاق سراحهم واغلاق ملفاتهم. كما وإصدار كراس ارشادي حول حقوق المعتقل وكيفية مواجهة التحقيقات، لكون القضية لا تنحصر بهم وإنما هي مسؤولية سياسية لكل الأطر القيادية الوطنية. هذه المبادرات المناطقية واللجان الشعبية كان لا بد أن تستمر كأدوات كفاحية حتى بعد وقف العدوان، من أجل مواجهة أي تصعيد في ظل التوقعات المستقبلية السلبية.

تهديدات الشاباك، التي تمس حق المواطنين العرب بالتنظيم والتظاهر والتعبير عن رأيهم، هي في الواقع منافية للقانون الجنائي الذي يعتبر المسؤولية شخصية ولا يجبر أي شخص بالمثول "لاجتماع" مع الشاباك. إلى جانب أن عدم قانونية هذه التحقيقات تنبع، كما يرى مركز عدالة، "من كون رجال الشاباك لا يعرّفون عن أنفسهم بشكل قانوني، ولا يعلنون للخاضعين للتحقيق إن كانوا متهمين أم لا، وأيّة تهم موجهة لهم، وهل يحقق معهم كشهود، بالإضافة لعدم استعراض حقوقهم أمامهم، وعدم توثيق التحقيقات بالرغم من أن القانون يلزم بذلك". الشاباك والشرطة لا يملكان إذن الصلاحية بالتوقيف والتحقيق مع أحد بهدف جمع المعلومات أو الردع عن الاشتراك في نشاط سياسي قانوني. كذلك، التحقيقات غير قانونيّة بسبب فحواها، إذ أنّها تمحورت في النشاط السياسي لمن تم استدعاؤهم للتحقيق، وهو نشاط قانوني، وحيث طُلب منهم التطرق خاصة لموضوع الخدمة المدنيّة.

نقتطع نموذجاً من تحقيقات الشاباك هذه مع احد الذين استدعيوا خلال أحداث غزة. فبعد تسلمه مكالمة هاتفية لم يحضر على أثرها، أرسل رجلا شرطة لمكتب أمير مخول في اتحاد الجمعيات "اتجاه"، وطلبا منه مرافقتهما لمركز الشرطة السرية دون اظهار أمر قضائي. هناك أخذت منه تفاصيل شخصية، ومنع من استعمال الهاتف الذي سحب منه فيما بعد، وجرى تفتيش جسدي دقيق له، ثم جرى تصوير الأوراق التي بحوزته، قبل أن يحقق معه مسؤول الشاباك الذي سأله عن العنوان والسيارة والبلدان التي زارها وعما فعله فيها. ليبدأ بعدها بتوجيه كلمات نابية واستفزازية وتهديدات وتحذيرات إن استمر في معارضته ودعم المقاومة ضد أمن الدولة وفي تحريض الشباب واصدار بيانات واختراق الخطوط الحمراء، منتهياً باتهامه بأنه مخرب ومعاد لدولة في حرب وملفه جاهز ينتظر استدعاءاً جديداً ليدخل السجن، وأنه بفضل امتلاكه الهوية الزرقاء لم يرسل إلى غزة.

في مهرجان عقد قبل حين كان المعني قد قال: ".. حملة الملاحقات السياسية سعي من الشاباك لخلق واقع جديد تكسر فيه الإرادة الوطنية للشباب الفلسطيني.. وإضعاف مقاومتنا وقدرتنا على مقاومة المشروع الصهيوني..لتصنفنا بين ما يسمونه معتدل أي متأسرل، ومتطرف أي وطني فلسطيني طبعاً.. هذه الحملة تستهدف بناءنا الذاتي وانتماءنا الوطني وترابطنا العضوي مع باقي أجزاء شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية..علينا أن نكون جاهزين لأن الملاحقات السياسية الواسعة اليوم ضد القوى الوطنية سوف تتسع في حال قررت اسرائيل تصعيد عدوانها على المنطقة وضد شعبنا.. ندرك جيداً أننا نعيش في دولة الجريمة السياسية المنظمة المفروضة قسراً على كل ما هو فلسطيني.. وضمنها تجري عملية تببيض الجرائم لتتظاهر الدولة القمعية بأنها ضحية ضحاياها ولتصور ضحاياها وكأنهم هم المجرمون.. هذا نهج اسرائيل في كل موقع في الداخل والضفة والقطاع ومخيمات اللجوء.. وهذا نهج اسرائيل الرسمية وغير الرسمية بمؤسساتها الحاكمة والأمنية والقضائية والاعلامية.. فكلها شريكة في تكامل مؤسسة الجريمة.. علاقتنا ببعدنا الفلسطيني والعربي والاسلامي والدولي هي علاقة حق، وقانونهم هو قانون باطل..لا يحق لنا أن نتفاجأ من أي اجراء قمعي، بل مطلوب منا أن نكون جاهزين لأي تحد. إننا مطالبون بما نطالب به العالم وهو اطلاق حملة استباقية لمقاطعة اسرائيل ونزع شرعية نظامها عالمياً وطابعها ككيان عنصري استعماري قمعي احتلالي نردعها بذلك ونحمي وجودنا.."

 

أدوات الرصد

لا شك أن مثل هكذا نظام يعتمد على أدوات تخابر وتجسس قوية جداً ومنتشرة داخل وخارج حدوده، بهدف السيطرة الاقتصادية والعسكرية والثقافية ومن ثم التأثير في القرار السياسي الدولي. يقول رئيس شعبة الاستخبارات "الإسرائيلي" الأسبق شلومو غازيت أن توفر المعلومات الاستخبارية الدقيقة منحت الجيش "الإسرائيلي" دائماً القدرة على توجيه ضربات قاصمة وخاطفة للجيوش العربية وحركات المقاومة الفلسطينية. وتم تفويض جهاز الاستخبارات للمهام الخارجية "الموساد" مواجهة الخطر الذي تمثله الحركات الجهادية في جميع ارجاء العالم والبرنامج النووي الإيراني على "إسرائيل"، كما جمع المعلومات عن الدول العربية بما فيها أو خصوصاً تلك التي تربطها بها معاهدة سلام، حيث لا ثقة من مواصلتها التقيد بالاتفاقية: "يتوجب علينا ألا نغفو أثناء الحراسة، معاهدة السلام مع مصر ليست بوليصة تأمين"، كما قال ليبرمان. أما ايتان هابر مؤلف كتب عن اجهزة الاستخبارات فيقول أن هذه تعتبر "أنه يتوجب محاولة زرع عملاء لها في كل المؤسسات الهامة في العالم العربي للحصول على المعلومات التي يمكن على أساسها إتخاذ القرارات السياسية والعسكرية المناسبة". فمواصلة العمل ضد حركات المقاومة الفلسطينية هو هدف استخباري بالغ الأهمية لقربها من العمق الإسرائيلي. وقد تباهى قادة "الشاباك" بقدرتهم على توظيف العملاء لمحاربة المقاومة، حيث بعض المعلومات الحيوية لا يمكن الحصول عليها إلا عبر المصادر البشرية، كما يجزم آفي ديختر المسؤول السابق لهذا الجهاز.

يرصد صالح النعامي (في بحث له على موقعه) تصريحات بعض مسؤولي الأجهزة الاستخبارية في "إسرائيل" حول طرائق عملهم، حيث نقرأ أن مواطني الطرف المهزوم يبدون استعداداً للتعاون مع الطرف المنتصر. وعليه يتوجب استغلال الحاجات المادية والإقتصادية والعاطفية للمهزومين كونها تشكل نقاط ضعف. خاصة وأن الأنظمة الشمولية في العالم العربي عامل مهم في تقليص الشعور بالإنتماء الوطني والاستعداد للتعاون مع "إسرائيل" احتجاجاً عليها. علماً أنه كلما ارتفع المستوى التعليمي للفرد كانت عملية تجنيده أكثر صعوبة، وأن الوازع الديني لدى العرب والفلسطينيين هو بمثابة درع واقي يقلص استعدادهم للتعامل مع المخابرات "الإسرائيلية". وبعد تحديد هوية الأشخاص انطلاقاً من مواقعهم الحساسة، سواء في مؤسسات أمنية أو سياسية أو منشآت إستراتيجية، يرسل "الموساد" من يحتك بهم لإستدراجهم، وفي الأغلب يعتمد على عناصر نسائية. لقد دشن العديد من صفحات التعارف على شبكة الإنترنت، حيث يدخلها رجاله للدردشة بانتحال شخصية فتاة لاستدراج من يصبحون عملاءا بعد تصويرهم بأوضاع مشينة والضغط عليهم للخيار بين العمالة أو فضح أمرهم.

لكن هناك ايضاً آليات تقليدية لتجنيد العملاء، حيث وجودهم، كما يذكر النعامي، يعمل على زعزعة ثقة الفلسطينيين بقضيتهم، وإثارة الفتن الداخلية بينهم، وإبعادهم عن صفوف المقاومة. أما هذه الآليات فهي الضغط من خلال منح تصريح بالعمل أو العلاج أو الإذن بالسفر للخارج من أجل الزيارة أو مواصلة التعليم، كون ذلك مرهون بموافقة سلطات الاحتلال. كذلك من المعروف منذ أوائل السبعينيات عند الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة في سجون الاحتلال موضوعة "العصافير"، أي العملاء الذين تعتقلهم المخابرات "الاسرائيلية" وتدعهم مع المقاومين في الزنزانات لاستدراج هؤلاء كي يدلوا باعترافات خلال التحقيق معهم. وقد لعب العملاء دوراً هاماً في دفع المشاريع الاستيطانية والتهويدية في الضفة الغربية والقدس المحتلة، حيث قام سماسرة الأراضي من الفلسطينيين بتزييف وثائق أراضي تعود لفلسطينيين غائبين أو متوفين ثم بيعها لجمعيات يهودية. وفي هذه العمليات المعني بالأمر هو جهاز "الشاباك" والذي يهمنا تحديداً في هذا التقرير تسليط الضوء عليه.

جهاز الشاباك أو "الشين بيت" أو جهاز الأمن العام الذي تأسس سنة 1949 ولم يعلن عن نشاطاته إلا في 1957هو(بالاعتماد على ما نشره سميح خلف بهذا الخصوص) أحد أجهزة أمنية "اسرائيلية" ثلاث وأصغرها وأخطرها لاختصاصه بالشؤون الداخلية وبمحاربة فصائل المقاومة. هو قريب من صانع القرار الصهيوني كونه يتبع لمكتب رئاسة الوزراء "الاسرائيلية" مباشرة، ورئيسه يعتبر الحاكم الحقيقي في كل ما يتعلق بالسياسة تجاه فلسطينيي الداخل.

عند تعيين مسؤول الشاباك يوفال ديسكين في 15 مايو 2005، أبدت وسائل الإعلام "الإسرائيلية" اهتماماً نادراً ما توليه لمسؤول. فقد عمل بمحافظة نابلس قبل 30 سنة بإسم عربي مستعار حيث يجيد العربية الفصحى، وتوصل لتفكيك تنظيم حركة فتح العسكري فيها في 1983. هو صاحب نظرية الاغتيالات المركزة التي مكنته من اغتيال عناصر وقادة نشطين في حركة المقاومة عن طريق المعلومات التي يحصل عليها من العملاء المنتشرين في الاراضي المحتلة. تمكن من اقناع رئيس الموساد مائير داغان بوجوب تبني سياسة الشاباك في ملاحقة نشطاء ومناضلي الثورة الفلسطينية، فصرح رئيس الموساد عن ضرورة اعتماد التصفية الجسدية للنشطاء الاسلاميين في العالم. وتعقيباً على انخراط حماس في الحياة السياسية وخوضها الانتخابات التشريعية، قال ان "إسرائيل" ستواجه صعوبات في تنفيذ سياسة الاغتيالات المركزة ضد حماس السياسية كما فعلت ضد حماس العسكرية لانعدام التبريرات لها. وفي مطلع شهر مايو 2008 وبعد حديث الطرف المصري عن قرب التوصل إلى اتفاق التهدئة، دعا ديسكين أعضاء الحكومة الأمنية "الإسرائيلية" المصغرة إلى رفض الهدنة بداعي أنها تخدم مصلحة حماس. وهو الذي قال انه لا يفهم كيف يمكن "لإسرائيل" أن تطالب العالم كله بأن لا يفاوض حماس، وفي الوقت نفسه ترسل مسؤولين كبيرين إلى القاهرة كل يوم اثنين وخميس ليفاوضا رجالات حماس.

بخصوص التعامل تحديداً مع فلسطينيي ال 48، أشارت صحيفة "معاريف" بتاريخ 13/3/2007 أن ديسكين أبلغ رئيس الوزراء إيهود أولمرت بأن "الأقلية العربية تمثل خطراً على إسرائيل". الأمر الذي رافقه طرح خطة وضعها "الشاباك" ونفذتها الأحزاب السياسية والمرجعيات الدينية ووسائل الإعلام اليهودية، جوهرها التحريض على الفلسطينيين. هذا التحريض أسفر عن موقف عدائي ضد عرب ال48 أظهره استطلاع بيّن أن أكثر من 40 % من اليهود يطالبون بمنع الفلسطينيين من المشاركة في الحياة السياسية، و 64%  يعتبرون أن فلسطينيي 48 يعرّضون أمن دولتهم للخطر بسبب معدل الولادة العالي لديهم.

استطلاع آخر نشر بعد فترة، في 1/4/ 2008، يُظهِر بأن 75 % من "الإسرائيليين" يؤيدون ترحيل فلسطينيي 48 في إطار "الحل الدائم". وكان رئيس الوزراء "الإسرائيلي" إيهود أولمرت قد عقد جلسة مغلقة مع رئيس الشاباك تناولت "الأقلية العربية في إسرائيل وانخفاض نسبة تضامنهم مع الدولة وتزايد القوى الراديكالية والمخاطر المنطوية على ذلك". تحدث تقرير الشاباك الخاص بالجلسة عن: "تزايد تأييد عرب إسرائيل للفلسطينيين ولجهات إرهابية ولإيران وحزب الله وجهات لا تعترف بشرعية وجود إسرائيل كدولة يهودية". كما وحذر مما يعتبرها "ظاهرة وثائق الرؤية المستقبلية التي كثرت مؤخرا لدى عرب إسرائيل"، قائلاً : "هناك أربع وثائق من هذا النوع والمشترك بينها هي رؤية إسرائيل كدولة لجميع مواطنيها وليس كدولة يهودية".

بالاستناد لبعض القوانين والأجهزة القضائية عموماً، تعمل أجهزة الأمن "الإسرائيلية" على تجريم أي عمل خيري وليس فقط سياسي. كما وتقوم بملاحقة اي كان في الداخل ينسج علاقات مع طرف فلسطيني أو عربي، على اساس أنه عمل ارهابي او فيه دعم للارهاب. وعند غياب الأدلة الكافية لدعمها تتستر وراء الاعلان عن وجود أدلة سرية لا يمكن كشفها الا للقاضي بمعزل عن المتهم وموكليه. في نفس الوقت، يتلقف الإعلام التهم الموجهة للشخص ويتعامل معها كأنها حقائق، ثم يحولها لتهمة جماعية ضد الشعب برمته. عشرات من التهم والتحقيقات قامت ضجة كبيرة حولها ثم تلاشت حيث لا سند لها. لكن الوصمة بقيت معلقة على عرب فلسطين ضمن محاولات نزع الشرعية عن العمل السياسي والخيري ووصمه بالارهاب.

كذلك تعمل أجهزة الشاباك على الإيقاع بالشباب العرب من خلال مواقع الانترنت والمراسلات والتخاطب ورصد البريد الالكتروني. وكانت الحركة لحرية المعلومات قد كشفت عن وجود ملحقات سرية لتعاقد السلطة التنفيذية مع شركات الهواتف الخليوية، بما يتيح للشاباك التنصت على مكالمات الأشخاص الذين تتعقبهم وكشف أماكن تواجدهم وجمع المعلومات عنهم وعن مخاطبيهم. وهذا ما يحدث أيضاً مع شبكات الاتصال والانترنت وشركة طيران العال وكل المؤسسات التي تصب في خدمة المؤسسة الأمنية، بما فيها مؤسسات تعليمية وجامعية وأخرى اقتصادية عنصرية. مما يتيح لرئيس الشاباك تحقيق تهديداته باستخدام الأساليب غير الديمقراطية في مواجهة من يعترض على يهودية الدولة.

 

مزاعم "الديمقراطية" الاسرائيلية

العرب في "إسرائيل" باتوا مجموعة قومية في خطر، خاصة بعدما كان رئيس مخابراتها قد عرفّ فلسطينيي الداخل اوائل العام 2007 بأنهم خطر استراتيجي على الأمن القومي "الإسرائيلي"، ثم عاد وأوصى رئيس الشاباك الحكومة بإيلاء الإهتمام الخاص للعرب. فالملاحقات السياسية، التي تبدو هدفاً في هذه المرحلة، إنما هي استراتيجية عمل لإضعاف بنية هذا الجزء المكون للشعب الفلسطيني، وفك ارتباطه مع القضية الفلسطينية كما مع بعدها العربي والإسلامي والدولي. إنه مخطط لمحاصرة عرب الداخل ضمن معادلة الولاء للصهيونية وليس الانتماء للوطن. ومعيار هذا الولاء هو القبول بالأسرلة وبالخدمة المدنية "الإسرائيلية" وبمعاداة نضالات الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال. ومن ثم القبول بفرزهم بين معتدلين ومتطرفين، وفرض قيادات بديلة تقبل بيهودية الدولة، وتنسى حق العودة، وتتجاهل الأسرى ومعاناتهم، وتدير ظهرها لجرائم "إسرائيل" في غزة والضفة الغربية ولتهويد القدس، وتقبل بتصفية حقوق الشعب في الوطن والشتات واقتلاعه مما تبقى من أرضه، ذلك ضمن عملية تطهير عرقي آخذة في النمو. كل هذا لن يكون التصدي له دون ثمن، حيث التحديات التي تواجههم تبدو بأقصى الخطورة. لذا يجد الكل نفسه مطالباً بمراكمة النضال وتنظيم الصفوف لحماية الحقوق والوجود من الاستهداف.

يرصد تقرير المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية (مدى الكرمل) منذ 2002 تعامل دولة "إسرائيل" والمجتمع "الإسرائيلي" مع الفلسطينيين، ويوثق السياسات والقوانين التي تطال مكانتهم المدنية والسياسية والقانونية. هذا التوثيق يثير تساؤلات كبرى حول مزاعم "الديمقراطية الإسرائيلية" التي هي ليست بجديدة وإنما قائمة منذ 1984، لكنها ازدادت إلحاحاً منذ انتفاضة الأقصى عام 2000. فمنذ هذا التاريخ أضيف إلى تدني مكانة الفلسطينيين بعدُ آخر، ألا وهو التهديد الفعلي لمواطنتهم.

والسؤال الذي يرد بعد هذا العرض، هل حقاً وبالنظر لكل ما ورد يمكن تصنيف "اسرائيل" كدولة ديمقراطية كما تشيع أبواق الدعاية بما فيها الغربية وحتى الحقوقية أحياناً ؟ الجواب هو إذا كانت أنظمة الحكم الديمقراطية تكفل مساواة المواطنين أمام القانون وتمكن الأقلية من تجسيد حقوقها وتحقيق مطالبها، فمن الواضح أن التزام الدولة "الإسرائيلية" باليهودية والصهيونية يعيق هذه المطالب، كما يرى المحاضر في جامعة حيفا أسعد غانم. بل ينبغي تعريفها كدولة اثنوقراطية من حيث أنها تمنح الأقلية مساواة جزئية وتشركها بشكل محدود في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية. وذلك في ظل اتباع سياسة مستمرة وثابتة من السيطرة والرقابة اللتين تكفلان الحفاظ على هيمنة الأغلبية وهامشية الأقلية. ففي النظام الاثنوقراطي، كما يشرح الكاتب، المجموعة الاثنية المهيمنة هي التي تسيطر على جهاز الدولة. وعلى أساسها يتم توزيع الموارد والامكانيات وتجري بشكل تدريجي عملية "الأثننة" للسياسات، ضمن حالة من عدم الاستقرار المزمنة. من ذلك سياسة الهجرة، وقانون العودة، وتهويد الأراضي، وإيلاء الدين دوراً مركزياً، ورصد التدفقات المالية لصالح التجمعات اليهودية، وهيمنة الثقافة العبرية في سائر المجالات العامة، وغيرها من شواهد وتعبيرات تضع علامات استفهام كبيرة حول نظام عنصري بكل معنى الكلمة.

عندما طرحت فكرة اعتماد تعديل لقانون اساس الكنيست في 1985، وسط سياسة التنكر لوجود مجموعة قومية فلسطينية وحظر ترشح قائمة لا تعترف صراحة بدولة "اسرائيل" كدولة للشعب اليهودي، قدمت اقتراحات من نائبين في القائمة التقدمية وقائمة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة تدعو أن ينص القانون على أن "إسرائيل" هي "دولة الشعب اليهودي ومواطنيها العرب". لكن هذا المقترح أسقط بالأغلبية الحاسمة. الأمر الذي يبقي العرب في وضع غير معرّف، كما يضيف غانم، علاوة على شعورهم بالغبن وعدم امكانية تماثلهم مع رموز الدولة التي يعتبرون مواطنين فيها.

كذلك على الصعيد البنيوي يشعر العرب بأنهم مستبعدون من مؤسسات تعتبر حكراً لليهود، وتخدم أهدافاً يهودية-اسرائيلية وليس مجمل مواطني "اسرائيل". وسائل الاستبعاد كثيرة منها: الاستبعاد من مراكز القرار، وعدم التوظيف في مناصب رفيعة، ووجود مؤسسات خاصة مكلفة بمعالجة شؤونهم، والتمييز ضدهم في تركيبة الاعلام، والاجحاف بحقهم في جهاز التعليم. يضاف لذلك التمييز التنفيذي على صعيد القوانين، وتوزيع الميزانيات والأراضي، وخطط التطوير وغيره. فعلى سبيل المثال، لم تعترف حتى اليوم "إسرائيل" وسلطاتها بشكل رسمي بعدد كبير من القرى العربية (معروفة ب"القرى غير المعترف بها"). كما لم تزود سكانها بأية خدمات، وأعاقت تعيين سلطات محلية. أما عندما سمحت بذلك، مارست بحقها اجحافاً سافراً بالمقارنة مع السلطات المحلية اليهودية. نعلم أنه ينظر للفلسطينيين كمجموعة عربية "معادية" وطاقة كامنة ل"طابور خامس". وكان وزير الأمن الداخلي جدعون عيزرا قد وصفهم بالمصيبة الكبرى عندما قال: "يوجد مواطنون عرب في دولة إسرائيل، هذه مصيبتنا الكبرى. تَخَلَّص من غزة، تَخَلَّص من يهودا والسامرة، ستبقى مع المصيبة الكبرى". بعض الباحثين قدموا صورة بأن العرب في "اسرائيل" يقبلون الطابع اليهودي-الصهيوني للدولة، أي ما هو ضد وجودهم. لكنه خطاب صيغ في خدمة أجهزة الأمن للاستمرار في السيطرة عليهم وفصلهم عن باقي فئات الشعب الفلسطيني.

حينما يؤيد المجتمع الدولة الاثنية هذه بسياستها المذكورة تجاه أقليتها يعتبر هذا التأييد ضمانة لاستمرار نهج عملها ويضمن استقرارها وليس استمرارها فقط. بما يؤشر للأقلية بصعوبة احتمال تغيير وضعيتها. لكن زيادة الوعي بحالتها ونضوج رؤاها مع تراكم التجارب والمعارف لا بد أن يفضيا بها تدريجياً للبحث عن حلول وإيجاد المخرج. يعزز هذا التوجه القناعة بأن استمرار تجاهل الأغلبية لتطلعات الأقلية تجاوباً مع رغباتها الذاتية لا يمكن إلا أن يضعها في مأزق لا يمكن أن تستمر بالتغافل عنه.

انتخابات الكنيست الأخيرة (2009) كانت الأغرب منذ احتلال الأرض في 1948، كما يراها رجا اغبارية رئيس حركة أبناء البلد، حيث "رغم أو لأنها جاءت غداة انتهاء العدوان الإجرامي الصهيوني على قطاع غزة، انعكست مفاعيلها عند العرب بشكل مباشر لصحوة وطنية شاملة معادية للصهيونية.. الآن نحن مجموعة قومية فلسطينية، مقابل أغلبية يهودية صهيونية واضحة في مخططاتها تجاه مستقبلنا على أرض وطننا، تنعتنا في أفضل الحالات بأننا سرطان في جسد دولة اليهود، قنبلة ديموغرافية، أو طابور خامس وعملاء وغير موالين للدولة.. لقد انتصرنا في هذه المرحلة على الصهيونية وأخرجناها من داخلنا، لكن تنتظرنا الآن معركة الانسلاخ عن الأسرلة البنيوية، السياسية والثقافية و/أو وضع بدائل لها، والبدء بالتصرف كمجموعة قومية، لها مؤسسات منتخبة، بدءًا من لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية" (الهيئة التمثيلية لفلسطينيي ال48). هذا الانتصار كما يراه اغبارية هو على واقع مضلّل نتج عنه سياسة تمييز عنصري رسمية وشعبية، وتحويل "إسرائيل" الى دولة ابارتهايد بحيث ستزول الفوارق القانونية والسياسية تدريجياً بين الـ 48 والضفة والقطاع من الجانب "الإسرائيلي" الرسمي أولاً. أما الواقع المضلل فهو الاختلاف غير القائم فعلاً بين أحزاب اليمين واليسار عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية عامة، أو بممارسة التمييز العنصري تجاه عرب "إسرائيل".

"فاليمين المتطرف، يدعو مباشرة لمحو المقاومة في غزة، وإتمام السيطرة على الضفة الغربية وتهجير فلسطينيي الداخل الى الضفة الغربية أو الى الدول العربية، على قاعدة "إما الولاء لإسرائيل اليهودية الصهيونية بكل شيء، بما في ذلك الخدمة في "تساهال" أو طردهم من "أرض إسرائيل"!. واليسار المندثر كان قد طرد الشعب الفلسطيني عام 1948، وأكمل احتلاله لفلسطين عام 1967 وخاض كل حروب إسرائيل ضد الدول العربية وارتكب كل المجازر بحق الفلسطينيين وكان آخرها محرقة غزة. لقد نفّذ هذا اليسار الصهيوني كل برامج الذبح والترانسفير التي نادى وينادي بها اليمين الأكثر تطرفا...اليمين كان دائما أصدق بعدائه ومخططاته حيال كل الصراع، بينما استطاع "اليسار" خداع العرب والعالم بأسره من خلال دعوات "السلام"، فيما كان دائما يرسّخ سياسة القتل والتهجير وتثبيت المشروع الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين ويترك اليمين يصرخ بأن هذا لا يكفي".

ينهي اغبارية بأن "الأحزاب الصهيونية التي فازت في الانتخابات حددت بأن التناقض الرئيسي في الصراع الصهيوني الفلسطيني انتقل من الصراع العربي الإسرائيلي.. الينا نحن داخل "الخط الأخضر" فنحن نشكل النقيض الأساسي للدولة الصهيونية. ويأتي هذا التحديد من أناس رسميين لا بد أن لهم خططا مبيّتة لتنفيذ هذه المشاريع عندما سيخلقون الظروف المسوّغة لذلك..."

إذا كانت اسرائيل التي اهتزت صورة سياسييها بفسادهم وفضائحهم الأخلاقية، وصورة جيشها الذي لا يقهر خلال عشر سنوات ثلاث مرات متتالية، رغم تفوقها الكبير على مقاتلين لا يملكون من الوسائل الدفاعية ما يقارن بما لديها فيما عدا ايمانهم بحقهم بالحياة وبأرضهم وعدالة قضيتهم، فهل ستستطيع الاستمرار بفرض شروطها كما بالسابق أم أن وضعها المأزوم سيجعلها تمعن في الهرب للأمام على مبدأ "علي وعلى أعدائي يا رب"؟

لقد خرجت تسريبات عن صدور تقرير سري لجهاز "السي آي أي" مؤخراً يتناول، أخذاً بالحسبان لمعطيات موضوعية سياسية واقتصادية واجتماعية، مستقبل دولة "اسرائيل". من ضمن المعطيات النفسية التي اعتمدت في البحث الشعور بالقلق الشديد عند الكثير من "الاسرائيليين" الذين يتوقون للعيش بأمان ويشعرون بالمرارة مما آلت اليه الصهيونية. خاصة وأن معظم هؤلاء يحملون جواز سفر أمريكي وتدغدغهم فكرة العودة للولايات المتحدة، حيث ثلاثمائة ألف من الخمسمائة ألف قدموا من كاليفورنيا. يسجل التقرير ارتفاع معدل الطلبات على جوازات سفر من السلطات الأوروبية والأمريكية. كما ويشير لنفس المشاعر والأحلام عند مليون ونصف المليون من اليهود الذين أتوا من روسيا. وهو يتوقع هجرة مليوني يهودي من "اسرائيل" مستقبلاً خلال عقد ونصف من الزمن. إنه رقم كبير بالنظر لاحصاء 2007 الذي يظهر أنه من اصل سبعة ملايين ونيف من السكان في الدولة العبرية يوجد خمسة ملايين وأربعمائة ألف يهودي. مع العلم أن انخفاض نسبة الولادات بات يعادل حسب التقرير 2.8 طفل للمرأة اليهودية في "اسرائيل" مقابل 3.7 للفلسطينية.

وعليه، لا ترى الوثيقة هذه من حل سوى حل الدولة الواحدة بدل الدولتين وعودة اللاجئين الذين هجروا من أراضيهم في 1948 و1967 كشرط لسلام دائم في هذه المنطقة. وإلا فسياسة الفصل العنصري المشابهة لما ساد بالسابق في جنوب أفريقيا هي المعتمدة. كونها في أساس الصهيونية التي تقوم على التمييز ضد الآخر المغاير على أسس اتنية ودينية وعلى نفي حقه بأن ينعم بالعدالة. الأمر الذي يملي سياسة العنف والالغاء ضد الشعب الفلسطيني منذ ستين سنة ونيف ويقف حائلاً دون التوصل للسلام المنشود.

 

خاتمة

يبدو أن السلام الحقيقي والقائم على اسس صحيحة فيه ما يخيف المسئولين السياسيين "الاسرائيليين". فحتى اليوم لا يوجد واحد منهم لديه القدرة على مواجهة الشارع "الاسرائيلي" وتحمل مسئولية اتخاذ قرارات حاسمة وجريئة. كذلك غالبية الرأي العام "الاسرائيلي"، الذي يعاني من عقدة الشعور بالتفوق وما زال يعتبر بأنه مصان من العقاب على الجرائم التي يرتكبونها بحق الفلسطينيين، غير مستعدة لدفع فاتورة السلام. لكن الشارع "الإسرائيلي" يمكنه أن يتبدل لو وجد من استطاع فعلاً أن يقود سياسة حكيمة بدلاً من السياسات المتهورة والعنصرية التي عهدناها، على الأقل لانقاذ اليهود في "اسرائيل" قبل أن يكون لاسترداد الفلسطينيين حقهم وعيشهم كباقي البشر في دول تضم عرقيات وديانات متعددة. المسئولية في ذلك تقع أيضاً على عاتق حكومات دول العالم الغربي التي لم تجد بعد ضرورة لمساعدة سكان هذه المنطقة للخروج من الحلقة المفرغة التي جعلتهم بسياساتهم المصلحية يدورون في رحاها.

العالم بات بجزء كبير منه على الأقل يبصر الحقيقة، خاصة بعد الجرائم التي ارتكبتها "اسرائيل" في غزة. حتى أن من يهود العالم من يجاهر بأنه غير مستعد أن يؤخذ بجريرة هؤلاء القتلة في "اسرائيل" الذين يتقلدون مناصب سياسية وعسكرية ويعتقدون أن منطق القوة سيبقى سائداً على منطق الحق والقانون. والسؤال هو كيف سيعيش ابناء هذا الكيان في محيط يشعرون بأنهم يكرهون ابناءه لهذا الحد؟ عقدة الذنب لما اقترفوه من آثام بحقهم، والتي لا بد أنها تطارد بعضهم على الأقل، ألن تترك آثارها عليهم وعلى صورتهم عن نفسهم وتقض مضاجعهم؟ وإذا كان منهم وخاصة من مسئوليهم من يريد اعتبار الآخر مسئولاً عما استحق من عقاب في عملية اسقاط للذنب، فهل سياسة الترانسفير كحل جذري تريحهم من مواجهة الواقع الذي يريدون حتى الآن تجنبه؟ لكن هل هذا الواقع مطواع لحد تغييره كما يشاؤن وفرضه على شعب صامد ومقاوم ومؤمن بحقه بالعيش على أرضه؟ ألا يطالهم مسلسل الحروب المتتالية بنيرانها ولو أن ضحاياهم يدفعون اثماناً مضاعفة قياساً بما هم يعانون؟ هل الهدف هو ان يبقوا حارساً لمصالح الغرب في هذه المنطقة وحاجة وظيفية للنظام الرأسمالي العالمي مهما كلفهم ذلك من أثمان؟ أم أن الادارة الأمريكية الجديدة ستكون أكثر تعقلاً بما لن يترك مجالاً لسياسة الهرب للأمام واقتلاع البشر والشجر والحجر من هذه الأرض التي آوتهم، كما فعل مكتشفوا أمريكا مع سكانها الأصليين؟

لا يجافي معاذ حسن الصواب عندما يذهب للقول أنه ضمن سياق استعماري عالمي كان للصهيونية كحركة سياسية أن تكتسب دعم وتأييد أغلبية يهود أوروبا المحكومين بذاكرة العزل والاضطهاد والمحرقة، وتستثمر توقهم للخلاص بخلفية توراتية، لتزرع دولة "إسرائيل" على أرض فلسطين وتوكل لها وظيفة ودور وكيل في منطقة بالغة الأهمية بالنسبة لمصالح هذا الاستعمار في ظروف مرحلة الحرب الباردة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وظهور النفط بغزارة في شبه الجزيرة العربية. من هنا أهمية ما يطرحه المؤرخون الجدد "الإسرائيليون" من أفكار في تحديهم لكثير من الأساطير التي بنيت عليها المخيلة "الإسرائيلية" تجاه عدد من القضايا الأساسية، سواء كانت قبل تأسيس الدولة أو بعدها: من تفكيك الصورة المثالية والرومانسية للتجمعات الاستيطانية في فلسطين في العشرينات والثلاثينات التي رسمتها الرواية الرسمية في عقول أجيال "الإسرائيليين"، وعن كون علاقتها مع جيرانها العرب غاية في التسامح في حين أن العرب لم يبادلوها إلا العدوان والعداء. هم يثبتون أن المنظمات العسكرية الصهيونية التي شكلت الجيش "الإسرائيلي" قبيل الحرب، انخرطت في برنامج تهجير واعٍ للفلسطينيين يستهدف طردهم من فلسطين انسجاماً مع الفكرة الصهيونية الأساسية حول الترانسفير وضرورة إخلاء الأرض للمهاجرين اليهود وعدم إمكانية وجود شعبين في المكان ذاته.

من كتّاب مدرسة المؤرخين "الإسرائيلين" الجدد: توم سيغيف الذي كتب حول عنصرية وبشاعة المهاجرين الأوائل (اليشوف) وغيرهم، وآفي شلايم الذي تكلم عن مسؤولية "إسرائيل" بإضاعة فرص السلام مع العرب، وزئيف شتيرنهيل الذي تناول ادعاءات "إسرائيل" بالليبيرالية والديمقراطية، وبيني موريس الذي تحدث عن سياسة الترنسفير. وكان هذا الأخير قد نقل عن بن غوريون في خطاباته أمام الوكالة اليهودية والمؤتمرات الصهيونية -خاصة عام 1937 وبعد نشر تقرير بيل لتقسيم فلسطين- تأييده "الترانسفير" باعتباره الحل العملي الوحيد للحصول على دولة يهودية غالبيتها الكاسحة من اليهود. وهو الذي يقول "بأننا لا نريد تبديل مكان سكن الفلسطينيين ولكننا نريد تهجيرهم". فهناك مساحات واسعة من الأرض عند العرب يمكنهم أن يستقبلوا الفلسطينيين فيها. ثم يقول بن غوروين بوضوح في 1938 أنه يدعم فكرة التهجير الإجباري ولا يرى أي شيء غير أخلاقي فيها. وهذا ما حصل ورأينا ترجمة له مرات عديدة. واليوم هناك من يرى في ذلك دروساً يجب اتباعها حتى بما يخص من يسمون انفسهم مواطنين، لكنهم فعليا ليسوا كذلك.

أما ايلان بابيه فيرى من ناحيته أن دولة "اسرائيل" ماضية في: توسيع بؤرة الاستيطان، والتمييز بين المواطنين العرب واليهود، كما والسيطرة على الوضع العام وكل ما يجعل من قيام دولة فلسطينية مستقلة احتمالاً ضعيفاً في المرحلة الحالية. كذلك يلفت إلى أنها ما زالت تتعنت بمواقفها، ولا تؤمن بفكرة إقامة دولتين، في حين أن السلام العادل والشامل يجب أن يكون مرتبطاً بالمساواة وليس التفرقة العنصرية وإهدار حق عودة اللاجئين. شلومو ساند مؤلف كتاب "كيف تم اختراع الشعب اليهودي" يعتبر أن الحياة في الشرق الأدنى لا تقوم إلاّ عبر التعايش مع الثقافة العربية، إذ يقول: "لا ننسى أنّ الذين يطلقون صواريخهم على عسقلان يعرفون أنّها بنيت على أنقاض قرية عربيّة كبيرة في المجدل التي منها طرد آباءهم سنة 1950".

إذا كان من يعترض على السياسات "الإسرائيلية" من اليهود أنفسهم من داخل "إسرائيل" ما زالوا عددياً أقل مما يفترض بفعل الشحن والتخويف والابتزاز، فهم أكثر بروزاً وتعبيراً عن أنفسهم خارجها. عينة منهم تألفت من أكاديميين ومفكرين ومبدعين من اليهود الذي يعيشون في الغرب كانوا قد وقعوا في 30 نيسان الماضي على مقالة نشرت في صحيفة "الغارديان" البريطانية تحت عنوان "لن نحتفل بالذكرى الستين لإسرائيل"، جاء فيها: "في تموز (يوليو) 1948 طُرد أكثر من سبعين ألف فلسطيني من بيوتهم في حرّ الصيف الشديد من دون ماء أو غذاء، وقد مات من هؤلاء المئات... وفي المجمل سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني أصبحوا لاجئين، و400 قرية تقريباً (بالأحرى 531) أزيلت عن الخارطة. ولم يوقف ذلك الإبادة الإثنية التي استمرت، بل إن آلاف الفلسطينيين (وهم مواطنون إسرائيليون) طردوا من الجليل في 1956. وأكثر من ذلك بكثير عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة. وبحسب القانون الدولي وقرار الأمم المتحدة رقم 194 فإن للاجئين بسبب تلك الحرب حق العودة أو التعويض. لكن إسرائيل لم تقبل أبداً بذلك الحق. لهذا فإننا لن نحتفل. إننا لا نستطيع أن نحتفل بولادة دولة تأسّست على الإرهاب والمجازر، وطرد شعب آخر من أرضه. لا نستطيع الاحتفال بولادة دولة ما زالت حتى الآن تمارس الإبادة الإثنية، وتنتهك القانون الدولي، وتفرض عقاباً جماعياً وحشياً على المدنيين في غزة، وتواصل إنكار الحقوق الإنسانية للفلسطينيين وطموحاتهم الوطنية. سنحتفل عندما يعيش العربي واليهودي متساويين في شرق أوسط يعمه السلام".

يعتبر البعض أن التشدد الديني للمستوطنين لم يعد بنفس الحدة، كونهم باتوا حركة مأزومة لم تعد تملك الامساك بقوة بناصية الذين هاجروا لهذه البلاد. وذلك على الرغم من نجاحها في تغيير خارطة الضفة الغربية والقدس المحتلة وتقطيعها والفصل بينها بشبكة مستعمرات. لكن في وضع قلق كهذا، بمقدورهم أن يخيفوا حتى اترابهم بعنفهم وتعصبهم وخطورة توجهاتهم. والدين، إن كان يستخدم لتبرير تشددهم، فهو ليس المنطلق الوحيد، كون الدغمائية لا تعدم الاستناد لأشكال مختلفة لتبرير وجودها. فهي تركيبة نفسية وحالة شخصية ترتبط بالطفولة والتنشئة والبيئة، وتغذي نفسها بشكل باتولوجي انطلاقاً من الهواجس الأمنية والخوف من الآخر وعلى المستقبل. لذلك تلجأ للدين عندما يخدم مصالحها وتتخلى عنه حالما تجده مقيداً وعائقاً أمام انطلاق رغباتها وتصوراتها ومكنونات لاوعيها. وفي التنشئة التربوية داخل هذه الدولة ما من شأنه أن يفبرك منذ نعومة الأظافر جموع واسعة من المتشددين والدوغمائيين والعنصريين الذين يمكن أن يشكلوا خطراً على من ينضوي للجماعة، فكيف بالحري على الآخر المستهدف؟

وعليه، بقدر ما تستجيب هذه الحالة المرضية عند شخص في موقع قوة من أمثال ليبرمان لمن هو مشابه لها، بقدر ما تأخذ مشروعيتها وتفرض نفسها في مجتمع يعزز عناصر التطرف. ذلك طالما أنها تخدم النحن وتشعر الفرد بالاطمئنان لجماعة متماثلة فيها من عناصر القوة ما يوفر الحماية. فبالاستناد لمشاعر الاضطهاد، يمكن لهذا الشخص كما لغيره الذهاب لاعتبار الآخر المغاير أو العدو ليس فقط تهديداً يجب التخلص منه بكل الأشكال المتاحة، وإنما أيضاً تحميله مسئولية ما آل إليه وضعه. وكلما ازداد الخوف منه كونه صاحب حق متمسك به ومدافع عنه، كلما ازدادت تفنناً وتصعيداً أشكال اضطهاده والتنكيل به. لذلك نرى التحالف بين جماعة المتطرفين الدينيين والمتعصبين لقوميتهم يأخذ أشكالاً غير منطقية. لكنها تفرض نفسها بقوة على من عداهم من أقلية ضئيلة تتمسك برؤى مغايرة لهذا الكيان ولا تجد تمثيلية لها ضمن ما وصل إليه من جائحة باتولوجية.

إن التنامي غير العقلاني لفكرة دولة يهودية نقية فيه ما يحوّل الدولة العبرية، القوية عسكرياً والمدعومة اقتصادياً وسياسياً من مراكز القوة الغربية الأساسية، إلى آلة تحطيم منهجي لكل ما يشكل عنصر إعاقة أو موضوع اختلاف وتشكيك بالمشروع الإيديولوجي. الأمر الذي ينتهي بالاستعمال المفرط لتعبيرات القوة المختلفة وتوظيف مؤسسات الدولة جميعها لهكذا مشروع. وعليه فالتعبئة الداخلية، التي تكتسب مع الوقت أغلبية انتمائية عضوية مناهضة للانتماء المدني والإنساني، تجعل من الأقلية العربية جماعة هشة ومستضعفة يمكن ضربها في أي مكان وفي كل وقت. مما يجعل من التدخل الخارجي السبيل الوحيد لحماية الأقلية المهددة من الأغلبية ومؤسسات الدولة بآن. 

إذا كان نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قد أسقط. واذا كانت اعداد واسعة من جمعيات المجتمع المدني والهيئات الدولية قد تحالفت لدعم المقاومة الفلسطينية، وشن حملة مقاطعة للبضائع الاسرائيلية، وتسيير خطوط بحرية لكسر الحصار عن غزة، ومحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين، وتفكيك جدار الفصل العنصري، ودعم القدس ومقاومة تهويدها، والاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة والتعويض، وكل ما من شأنه توسيع حركات التضامن بعد خفوتها بفعل عوامل داخلية وإقليمية ودولية عديدة، فهل ستعود وتخبو أصوات المقاومة ويربح الجولة من يستأسد على حقوق البشر لمجرد تحكمه بالقرار على الصعيد الدولي ؟

إننا نرى أن الوضع المتفجر والمقلق للقريب والبعيد بآن يحتاج لهذا التدخل الخارجي وبشكل حازم في غياب قدرة "حلفاء" العرب القليلين من المجموعة اليهودية على التأثير لصالحهم. كونهم غالباً ما يصطفون مع مصالح الجماعة والأغلبية ويبررون بطريقة أو بأخرى خياراتها وممارساتها. هذا التدخل الخارجي هو الوحيد الذي يمكن أن يكون في الظرف الحالي مؤهلاً لمعالجة الاحتقان بفرض حلول باتت ملحة. في حين أن سياسة جماعات الضغط الموالية لإسرائيل التي تعتمد مبدأ "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما" ستنعكس سلباً على أي مشروع يأخذ بعين الاعتبار حقوق الحد الأدنى لشعوب المنطقة وإمكانية التعايش فيما بين مكونات المجتمع المختلفة. إنها ستؤدي بالضرورة  لمزيد من التأزيم الذي قد ينفجر في وجه الجميع. وعليه، من يهمهم مصلحة هذه الأغلبية، عليهم قبل كل شئ أن يحرروها من نفسها ومن عقد الماضي لتصبح أكثر جاهزية للتطلع للمستقبل بعين ناقدة والتحلي بقدرة على رسم استراتيجيات عمل أكثر انفتاحاً وإيجابية. فالوضع المتعفن يتطلب فكفكة بعض البنى الفكرية العقيمة والمسهمة في تعميق الأزمة والدوران ضمن الحلقة المفرغة دوماً وأبداً.

التوصية الأساسية بالتالي من هذه المهمة نتوجه بها إلى المنظمات بين الحكومية (وفي الاعتبار الأول المفوضية السامية لحقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان) وإلى المؤسسات الإقليمية الأوربية (اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في البرلمان الأوروبي ومجلس الأمن والتعاون في أوروبا..) لنطالبها بمراقبة ومتابعة سياسات التمييز بحق الأقلية العربية في فلسطين واتخاذ مواقف جدية وغير متواطئة تنسجم مع مبادئها وأهدافها المعلنة كمؤسسات مناهضة للتمييز ومدافعة فعلية عن الحق والديمقراطية والسيادة والاستقلال. تفاقم الأوضاع لن يخدم أحداً، خاصة وأننا نتحدث عن مشكلة تفرض نفسها ليس فقط في الجوار الجغرافي للاتحاد الأوروبي، وإنما تتداخل مباشرة معه من أبعاد عدة.

 

ملاحظة وامتنان

هذا التقرير الذي خرج إثر جولة تقصي حقائق ميدانية قمت بها الى فلسطين48 في اواخر العام 2008 والذي اعتمد على وثائق وتقارير صادرة عن المؤسسات الشعبية والحقوقية الفلسطينية، كان اساساً حصيلة تنسيق وتعاون بين اللجنة العربية لحقوق الانسان واللجنة الشعبية للدفاع عن الحريات والمنبثقة عن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في فلسطين 48. كان هدف الجولة معاينة ورصد الملاحقات السياسية التي يواجهها فلسطينيو ال48، على خلفية استعراض وضعيتهم منذ تشريد الشعب الفلسطيني ونكبته في العام 1948 وفرض المواطنة الاسرائيلية عليهم. لكن تطوران هامان حدثا خلال اعداد التقرير : الاول كان العدوان الصهيوني على غزة، والثاني تفاقم سلسلة القوانين العنصرية الاستعمارية الاسرائيلية إثر الانتخابات النيابية وفوز مجموعة من المتطرفين بحيث شكلت ادوات جديدة للملاحقات السياسية وتصعيدها. وعليه، إن كان التقرير لا يتعرض بشكل واف لهذين التطورين، إلا أنهما يؤكدان على ما ورد فيه وعلى توصياته، حيث العوارض التي تتجلى في الداخل او الضفة او غزة لا تختلف جوهرياً كونها ترجمة لمرض عضال واحد ينهش جسد فلسطين. والرسالة التي نروم تبليغها للقارئ في الأخير هي أن الملاحقات السياسية هي نهج بنيوي لدولة إسرائيل، وقد ازدادت شراستها مع ازدياد وعي الجمهور العربي بحقوقه. وأن الطابع الاستعماري العنصري لهذا الكيان لم يتغير بل يتواصل ويزداد بشاعة وشراسة. كما وأن فلسطينيي ال48 هم في نهاية المطاف شعب في خطر، كون وجوده على أرضه بات أكثر مما مضى كثرأ مستهدفاً برمته ضمن الاستهداف الصهيوني لمجمل الحق الفلسطيني.

أخيراً لا بد لي من شكر الشخصيات في جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الذين التقيتهم وأحسنوا استقبالي وعرفوني على أوضاعهم وأمدوني بالمعلومات المفيدة، وعلى رأسهم اللجنة الشعبية للدفاع عن الحريات والزميل أمير مخول. عسى أن يسهم هذا التقرير في توضيح صورة ما يعيشه فلسطينيو الخط الأخضر على أرضهم للخارج العربي كما الغربي، أملاً باتخاذ خطوات كفيلة بمساعدتهم على استرداد حقهم في العيش الكريم مع باقي أجزاء الشعب الفلسطيني، وكسائر شعوب الأرض في أوطانهم دون تمييز أو اضطهاد أو احتلال. إن حق الفلسطيني في وطنه، وكما تؤكد اللجنة الشعبية للدفاع عن الحريات، سواء من مكث فيه او من هجّر قبل وخلال النكبة ولغاية اليوم أو من يعيش في المنفى القسري وحتى من قرر الهجرة من الوطن، لا يمكن ان يرهن للقانون الاسرائيلي ولا للواقع القسري المفروض على الفلسطيني في أية بقعة كان. أحقية الفلسطيني في وطنه هي الأساس وليس قانون المستعمر واجراءاته، حيث لا شرعية لاجراءات اقتلاع شعب من أرضه على الاطلاق.

 

 

 

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي اللجنة العربية لحقوق الإنسان , إنما تعبر عن رأي أصحابها

الصفحة الرئيسة