بعد عقود عجاف كان انتقال السلطة فيها يتم في العالم العربي عبر بالسيف أو الميراث، جاء انقلاب القصر في موريتانيا على ولد الطايع وما تبعه من مرحلة انتقالية سلمية ليقدم سيناريوهات جديدة في عملية الانتقال بدول تختزن في رصيدها الفساد والاستبداد. بلدان تجمع بين فشل التنمية وغياب العقد الاجتماعي وضرب المواطنة وتفكيك مقومات الشبكة المدنية الحامية من كل أشكال التعصب والعصبية المجتمعية التي هي المصنع الأكبر لعصبيات السلطة المتسلطة. شياطين العهد القديم لم تنم، ولعلها تعلمت هي أيضاً أن صناديق الانتخاب ليست بالضرورة عنواناً لتحول ديمقراطي. وأنه بالإمكان ابتذال بعض العبارات الشعبوية المستهلكة والاتكاء على جماعة عسكرية قوية وتحالفات قبلية وأخرى مصلحية مع رجال أعمال لضمان سير العربة، لكن دون هدف أكيد أو مشروع حقيقي أو حتى حلم ضروري. أتت اتفاقية داكار بمثابة عملية قيصرية لجعل الشرعية الفتية المغتصبة في موريتانيا سلطة معنوية أقوى من زعامة الانقلاب. لكن الطاقم الحاكم فعلاً والمستند إلى المؤسسة العسكرية كان صاحب القول الفصل في ما يمكن تسميته ميراث الدكتاتورية الثقيل وعقابيلها التي نخرت جسد المجتمع والدولة. مع ذلك، يبدو صعباً الآن القول أن رئاسيات 2009 كفلت استتباب الوضع. موريتانيا ما زالت على مفترق طرق قد يقودها: إما لتحول ديمقراطي فعلي وسيرورة جديرة بالاهتمام والمتابعة والتقليد، وإما لعزلة دولية وتأزم واحتمال انقلابات لاحقة. فالاحتقان لم يهدأ منسوبه بعد اعلان النتائج وفوز محمد ولد عبد العزيز من الدورة الأولى بأكثر من نصف الأصوات، مقابل أقل من النصف لمجموع المرشحين الثمانية الآخرين. فهم بأكثر من نصفهم دخلوا حلبة السباق للمرة الأولى وتوزعوا بين مكونات الطيف السياسي والعرقي والجهوي والأيديولوجي. هؤلاء الخاسرون اعترضوا على النتائج وما وصفوه بالتزوير في سير العملية الانتخابية وخلال التحضير لها، كما قالوا أن الرقم السحري 52% للجنرال عبد العزيز كان يجري الحديث به خلال الحملة الانتخابية. وأن الغش والتلاعب وقع، ولو أن المجلس الدستوري رفض كما كان متوقعاً الطعون التي قدمت خلال مدة 48 ساعة فقط من إعلان وزارة الداخلية النتائج. أطراف من المعارضة قالت أنها قدمت أدلة دامغة لا يجوز تجاوزها، في حين كانت أخرى قد أشارت إلى أنها لن تتوجه للمجلس كونها لا تعتبره طرفاً نزيهاً بعد اتخاذه مواقف دللت على عدم حياديته عندما رفض تأجيل الانتخابات لما بعد 18 يوليو/ تموز. من هذه الطعون طلباً بإعادة فرز الأصوات وفحص الأوراق التي أعدتها شركة لندنية وتم التصويت بها، حيث تبين أن الشركة تعرض خدمات "إنتاج أوراق حساسة وقابلة للتكيف والذوبان". الحملة الانتخابية التي أفضت لهذه النتائج جرت في ظل نوع من التوافق كرسه التوقيع على اتفاقية داكار التي كانت إطاراً لتسوية بين تيارات وقوى كبرى شهدت انقسامات وتوترات شديدة على مدى عشرة أشهر، إثر خلع الجنرال محمد ولد عبد العزيز للرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله من سدة الحكم. راعية الاتفاقية مجموعة دولية تمثلت أساساً بالرئيس عبد الله واد والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والمجموعة الأوروبية والأمم المتحدة. وبمعزل عن اهتمام ودعم الدول الجارة وبنوع خاص ليبيا والمغرب والجزائر والسنغال، فالبترول الذي اكتشف قبل سنوات، علاوة على ملفات الهجرة والإرهاب، هي أكثر ما شغل الدول الغربية، وخصوصاً فرنسا الحريصة على استتباب وضع يضمن لها مصالحها وعدم ترك الساحة للاعبين آخرين قد يشكلوا تهديداً لها. وهناك من يربط بين مجموعة الانقلابات التي حصلت والاهتمام الدولي بهذا البلد حديث العهد وبين ظهور البترول بكميات كبيرة داخل حدوده الفسيحة منذ 2000. في هذه السيرورة التوافقية، جرت الانتخابات باشراف لجنة انتخابية مستقلة كانت هي تجربتها الأولى ضمت تمثيلاً لأطراف ثلاثة توزعت بشكل متوازٍ بين موالاة ومعارضة. كان التنافس بالطبع حاداًَ بين المرشحين الذين غابت برامجهم الانتخابية عن المشهد، مع غياب المرجعيات الايديوليوجية والسياسية، وعدم تآلف المعارضة حتى على المستوي الفكري والأيديولوجي، ودور بعض أطرافها في تزريرها لقاء التقاء المصالح حول أشخاص بعينهم. فالساحة السياسية تتحرك في موريتانيا كرمال الصحراء وتتسم هي أيضاً بالترحال. وذلك على خلفية بنية قبلية مرنة نسبياً ولا تفرض نفسها كفاعل سياسي، رغم الاصطفاف القبلي الحاد في القوى الداعمة للمرشحين هذه المرة بين قبيلة أولاد بالسباع من جهة وقبيلتي السماسيد وإدواعلي من جهة أخرى. وعلى الرغم من الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد منذ انقلاب محمد ولد عبد العزيز على سلفه، يبدو المجتمع الموريتاني متسامحاً عموماً. بما قد يفسر عدم وقوع اصطدامات عنيفة كالتي شهدتها عدة دول بعد عملية انتخابات تطرح عدة تساؤلات، كالنموذج الإيراني مؤخراً. ما جرى في موريتانيا يعطي المراقب صورة عن انتخابات تم تحضيرها وتمريرها على طريقة "الوجبات السريعة". وجود المؤسسة العسكرية كان طاغياً حتى داخل مكاتب الاقتراع يوم 18-07-09، وتدخّل رجال الأمن بحجة حفظ الأمن بدى احياناً تعسفياً ليس فقط مع الناخبين وإنما أيضاً المراقبين. ومن الناخبين من اقترع بلباس عسكري دون حيازة بطاقة انتخابية، في حين أن هذه البطاقة كان مطلوب تقديمها من غالبية المدنيين الذين شاهدتهم لحد العودة مجدداً بعد استخراجهم لها من الانترنت كي يتم مطابقة رقمي البطاقة والهوية. وحيث كان التشدد سيد الموقف حيناً، جرى أحياناً أخرى التغاضي عن بعض الأساسيات مثل عدم التوقيع على المحضر أو عدم تطابق الأرقام. ارتبط ذلك برؤساء المكاتب بشخصياتهم وانتماءاتهم، وتلوينات الأحياء التي تضم مراكز الاقتراع، وأوقات النهار وغيره من اعتبارات. وإذا كان صحيحاً أن هذه العينة لا تسمح بالتعميم على 2400 مكتب اقتراع في أرجاء البلاد توازع فيما بينها 60% من 1.183.447 المسجلين على اللوائح الانتخابية، فصحيح أيضاً أن مكوث المراقب عدة دقائق في كل مكتب اقتراع زاره ليس كافياً لتشكيل صورة وافية عن العملية برمتها ومباركة ما آلت إليه نتيجتها أو الطعن بها. إنها صورة فوتوغرافية عن اللحظة وعن جزء من المشهد ينقصه ليكتمل كل ما جرى في الشارع وفي الكواليس وما يرقى لأسابيع طويلة وربما أشهر من التحضير. كذلك يجب أن لا يغيب عن الذهن أن سلوكات البشر تأخذ بعين الاعتبار وجود عيون ترقبها، وأن خلفيات المراقب الشخصية من ثقافية وسياسية وغيره تلعب دوراً أساسياً في قراءته لما يدور حوله، علاوة على أنه لا يستطيع أن يتوقف عموماً إلا على بعض المؤشرات الشكلية منها إجمالاً وعلى تكرار حدوثها. الدرس الأكبر لما جرى في السنتين أو الثلاثة الماضية يؤشر لضعف فكرة شرعية المؤسسات التشريعية والانتخابية في ذهن أصحاب القرار الفعليين. بالمقابل، العديد من الأحزاب السياسية ومن النخب كانت ذاتية الموقف حيناً، وقصيرة النظر أحياناً أخرى في تقييمها للأثر العميق لإبعاد الرئيس ولد الشيخ عبد الله عن السلطة باحتلال القصر. ولعل في ذلك ما ترك أثره على الشعب الذي شهد صمت شخصيات سياسية كبيرة عن عمل غير شرعي بكل التفسيرات الدستورية. الأمر الذي نجم عنه بالتأكيد دخول الأحزاب السياسية المعركة من موقع مشتت وضعيف وبدون مرشح جامع وقادر على الاستقطاب والتصدي لإعلام موظف لتمجيد الجنرال المرشح منذ لحظة استلامه السلطة حتى حملته الانتخابية. لإطلالة أكبر على الواقع الموريتاني، لا بد من تقديم لمحة سريعة عن تشكيل هذا البلد، حيث الصورة عنه ضبابية لحد ما في ذهن الكثيرين. فنواكشوط العاصمة، والتي تزدحم فيها اليوم المباني والسيارات في أكثر من مكان، لم تكن قبل نصف قرن من الزمن سوى بضعة بيوت متناثرة على الطريق العام رقم واحد العابر لافريقيا والممتد بين داكار والجزائر. المحطة الأبرز حينئذ كانت كاراجاً لتصليح كميونات شحن البضائع التي تعبر الخط. إلى أن اتخذ في 1959 قرار نقل عاصمة موريتانيا من سان لويس في السنغال نحو هذه القرية التي باتت نواكشوط التي نعرفها اليوم. فكان الإسراع في تشييد بضع مباني تناثرت هنا وهناك لتكون مقرات لرئاسة الجمهورية والبرلمان وبعض الوزارات، ثم أعلن ميلاد جمهورية موريتانيا الاسلامية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1960. وقد عقدت الجلسات الوزارية في البداية تحت قبة خيمة منصوبة بانتظار إقامة المبنى المخصص لذلك، كما وبني مطار صغير لوصل هذه الجمهورية بالعالم. تعيش موريتانيا، المكونة من 2.8 مليون نسمة والممتدة على مساحة 1.030.700 كلم² مع شواطئ يبلغ طولها 750 كيلومتراً والغنية بالنفط المكتشف حديثاً وببعض المعادن كالحديد والفوسفات ومنها الثمينة كالذهب والماس وغيره التي تنقب عنها شركات أجنبية، من زراعة الحبوب والخضار والفواكه. كما ومن تربية المواشي وصيد الأسماك النهري والبحري، حيث تباع وتصدَر منها مئات آلاف الأطنان سنوياً. تشتهر ولاية نواذيبو بنوع خاص بثروتها السمكية التي يخشى عليها من التراجع الكبير بسبب الصيد المكثف وطرائقه المؤذية للاسماك. كذلك بجمال شطآنها التي تستدعي فلول السياح للتمتع بمناظرها الطبيعية وروعة جزرها ومعالمها الأثرية. لكنها تشكو في نفس الوقت من ندرة ماء الشرب وارتفاع متواتر في كلفة العيش، مثلما تشهد مناطق أخرى في هذا البلد الممتد الأرجاء ظاهرة الجفاف وغزو الجراد واتساع رقعة التصحر بشكل سريع ومخيف. وبمعزل عن ارسال المهاجرين لتحويلات مالية لأهاليهم ولتشييد الطرقات والمدارس والجوامع والمستوصفات، ووجود بعض التعاونيات الزراعية والصناعة الحرفية، كما ومشاريع لمحسنين ودول اجنبية ومنظمات خيرية تعمل على حفر الآبار الارتوازية ومد الكهرباء للمدن وانشاء مشاريع اجتماعية وتنموية ومحو أمية لتحسين ظروف عيش السكان، ما زال الكثير ينتظر أهل هذا البلد شديد الفقر. فموريتانيا تفتقر للكثير من مقومات العيش الكريم، رغم استئثار أقلية غنية جداً بالثروة وأحياناً بالسلطة معاً وتبديد أموالها الطائلة نسبياً في العطل بالخارج بدل استثمارها في تنمية بلدها. وبغض النظر عن الاصلاحات الاقتصادية الكبيرة التي أجريت منذ 1986 والتخلص من المديونية، فالكثير ما زال مطلوباً من أجل نهضة بلد لا يصل دخل الفرد السنوي فيه لمعدل 500 دولار أمريكي. يلزمه المزيد من الجهد والعمل والمثابرة والاتكال على النفس لمحاربة الفقر والأمية وتشييد البنية التحتية وتطليق حياة البداوة والترحال وتثبيت أقدام الساكنة في الأرض. خاصة في القرى التي تشهد نزوحاً قوياً نحو المدن هرباً من شظف الحياة وبحثاً عن العمل ولقمة العيش. فالبطالة تجاوزت 22% حسب الأرقام الرسمية، يضاف لها مخاطر الهجرة السرية، في ظل ضعف الرقابة على الحدود وهشاشة نظام الهجرة والجنسية، والتي يخشى البعض تهديدها التوازن الديمغرافي لموريتانيا. نخلص للقول أن معركة التنمية، التي تحتاجها موريتانيا بشدة لتنهض من حالة الفقر والجهل والتخلف التي تتخبط بها لا يمكن أن تتم دون ديمقراطية، في مجتمع ما زالت تسود فيه قيم ما قبل الدولة وضعف الوعي المدني رغم التيارات السياسية العديدة التي تتوازعه والأحزاب التي عرفت في السنوات الفائتة طفرة كبيرة. وإن كنا كالكثيرين نأمل بالتوصل لتشكيل حكومة وحدة وطنية أو بإيجاد أرضية لتوافق وطني عام يجنب البلد الصراعات والاهتزازات، فالمعارضة تتوعد بأن لها شروطها للقبول بذلك ولن ترضى بمجرد محاصصة وزارية، والرئيس المعلن فوزه يرفض هو أيضاً هذا الطرح باعتبار أنه فاز بتفويض أغلبية الشعب الموريتاني. فهل سيتجدد مشهد الصدام مع الأمن والنزول للشارع والمطالبة بالتحقيق في نتائج الانتخابات وازدياد الاحتقان؟ أم أن الجنرال عبد العزيز سيسعى بعد تنصيبه رئيساً في الخامس من الشهر الجاري للتهدئة وليس للحرب على خصومه، والتركيز خلال الخمس سنوات القادمة على التنمية ومكافحة الفساد والإرهاب مثلما أكَد، كما على تنفيذ ما وعد به من صون المال العام وتحسين مستوى دخل الفقراء ومكافحة البطالة ومواجهة العديد من التحديات في ظرف محلي ودولي شديد الصعوبة؟
|