تقديم
منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبعد افول حقبة الامبراطورية العثمانية، عملت الحركة الاستعمارية بالسيطرة المباشرة على تقطيع المنطقة العربية التي هي نقطة وصل بين قارات ومحيطات. تقاسمت بريطانيا وفرنسا كيانات المشرق العربي، لاسيما مع عقد اتفاقية سايكس بيكو في 1916 ثم وعد بلفور بإقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين. ومنذ ذلك الوقت، هذه المنطقة تدفع ثمن أطماع غربية واقليمية في مواردها النفطية كما في ثرواتها المائية والمعدنية، بنوع خاص عبر إحلال قيادات تفشل أي مشروع نهضوي وتوظف عائدات النفط ضد مصالح الأمة التي من سوء طالعها وجود النفط في أراضيها. عبارة وليم سايمون أحد وزراء الخزانة الامريكية واضحة بمغازيها عندما يقول "إنهم لا يملكون النفط بل يعيشون فوقه".
خلال عقود، لم تفلح مرحلة التحرر من الاستعمار في هذه المنطقة من محاربة التهميش والتخلف السياسي والاجتماعي والإقتصادي، إلى أن تعرضت مجدداً لحرب شرسة على الأرهاب استهدفتها في الصميم وكأنها فصّلت لها في مراكز القرار الصهيونية والامبريالية. لقد شهدت عملية ممنهجة لاعادة صياغتها ضمن مشاريع تفتيتية، منها مشروع شرق اوسط جديد يشغل الكيان الصهيوني الغاصب قلبه كقاعدة امريكية متقدمة. وكان للشعوب العربية أن تدفع كذلك أثماناً باهظة لما خلفته الأزمة الاقتصادية للرأسمالية العالمية، وبنوع خاص منذ 2008، من ويلات بفعل تبعية البرجوازية العربية وتطبيقها للتوجهات النيوليبرالية المتوحشة. هذه السياسات التي ضربت القطاعات الانتاجية وزادت من حدة الفساد والسرقة والاثراء غير المشروع لأقلية احتكرت السلطة والثروة وكدست أموال الشعوب ثم هربتها للخارج.
أزمة النظام الرأسمالي البنيوية هذه تضاعفت مع فشل الحلول الاقتصادية والمالية، وانعكست اجتماعياً وسياسياً أيضاً على دول المركز ونخبه الحاكمة التي ضاعفت من التوتير العسكري والأمني ودفعت باتجاه صناعات الأسلحة وزج شرائح واسعة في أتون حروب عدوانية. أدى التسابق الرأسمالي في ظل توازن الرعب النووي والصراع الناشيء مع روسيا والصين والدول الرأسمالية الصاعدة لتقسيم العالم مجدداً واقتسام أسواقه والمواد الأولية ولشن حروب اقليمية.
الثورة المضادة وقوى الهيمنة
إذا كانت القواسم المشتركة للأوضاع في البلدان العربية تتمثل بغياب التنمية والحريات العامة والمشاركة السياسية واستشراء الفساد والقبضة الحديدية للسيطرة على الوضع وخنق الأصوات الاحتجاجية، فكلها عوامل عملت على إشعال فتيل الثورات العربية.
لكن في ظل "حالة ثورية" تطالب فيها الشعوب المنتفضة النظم العربية بتغييرات عميقة في بنيتها، دون أن تجد بديلاً جاهزاً لقيادة المرحلة الانتقالية، بدأ الصراع بين البحث في كيفية احداث قطيعة مع الماضي وتمكين القوى التغييرية (الشباب والهيئات والاحزاب ..) من مواصلة ثورتها حتى تحقيق كامل أهدافها التي دفعت دماءاً غزيرة وتضحيات جمة من أجل تحقيقها، وبين القوى المضادة للثورة من الخارج والداخل لتطويق هذا المد الثوري. فكان للإبقاء على التوازنات القديمة أو إعادة صياغتها بأشكال جديدة، أن ناورت قوى الردة على بعض التنازلات الفرعية للحفاظ على نفس السياسات عبر اللجوء للعنف الصلف واللعب على ورقة الأمن ولقمة العيش والخوف من الغد. تلاعبت بمهام المرحلة الانتقالية من خلال اثارة المصالح الشخصية والمطامع الفردية والعصبيات المختلفة وتدوير المال المنهوب، كما ببعث الفرقة بين القوى التي حضنت الثورة لتكفير الشعوب بثورتهم. استراتيجيات تفضي جميعها للتأليب على القوى الساعية للتغيير وعودة نهج الماضي وإن بآليات مختلفة وأشخاص آخرين.
يقدر تقرير لمجموعة جيوبوليسي للاستشارات أن كلفة الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن والبحرين، هذا عدا الخسائر البشرية والاضرار في البنية الاساسية وخسائر الاستثمارات الاجنبية، تخطت 50 مليار دولار بين خسارة في الناتج المحلي وفي المالية العامة. فقد تراجعت الايرادات في اليمن بنسبة 77% وفي ليبيا 84%. لكن هذه الأحداث عادت بالفوائد على البلدان التي لم تصل لها والمنتجة للنفط، خصوصاً الامارات والسعودية والكويت. ففي الامارات ازدادت عائدات الميزانية العامة 31% وفي السعودية 25%.
جزء من هذه الفوائد استثمرتها بعض بلدان النفط في إجهاض الثورات والتضليل الاعلامي والحشد لقوى بعينها دفعت بها لاحتلال الواجهة السياسية. برز تزييف الوعي كمظهر أساسي من مظاهر الثورة المضادة، بتركيز قنوات محددة على أحداث وبلدان بعينها مقابل تغاضي فاضح عن بلدان أخرى وأحداث لا تقل أهمية. يتم استضافة ألوان إيديولوجية ومذهبية محددة وإبراز شخصيات لاتجاهات معينة، مع التعمية على غيرها وكأنها غير موجودة في الساحة الفكرية والنضالية في حين أنها في أساس هذه الثورات. التوجه السياسي للممولين والتدخل الخارجي في السياسات الاعلامية والبرامج وحتى المفردات يطرح بالتالي السؤال عن الموضوعية والتجرد والحيادية في آلية نقل الخبر الذي يبدو وكأنه يدار من غرفة عمليات واحدة.
مع انكسار حائط الخوف والشعور بالقدرة على التغيير، وبعد نجاح تونس ومصر في تحقيق بعض أشكال من الديمقراطية وطرح بناء مؤسسي كبديل عن التكوينات الاستبدادية وحكم العائلة والاجهزة الأمنية، انتقلت عدوى نضالات النخب الشبابية والعمالية والعاطلين عن العمل المتعلمين الى اليمن والبحرين والعراق وليبيا والمغرب والاردن وسوريا ولبنان. وبمواكبة هذا التنازع بين منطق الاستمرار ومنطق القطيعة، شنّت الولايات المتحدة الاميركية وحلفاؤها أو أزلامها في المنطقة هجوماً شرساً على الانتفاضات العربية، لتطويق حركة التغييرات وتهميش شخوصها الذين لا تتوافق أهدافهم مع المشروع الاميركي الجديد للشرق الاوسط، مستندة في ذلك لبقايا النظام الرسمي العربي ولأموال السعودية وقطر التي قدمت دعمها للقوى الاسلامية الفرصة لتثبيت أقدامها وبشكل لا يتناسب مع حجمها الفعلي على الأرض أو مع ما قدمته للثورة. فالمطلوب هو اسلمة السياسة بعد أن كان الاسلاميون البعبع الذي منح عقوداً من الزمن للانظمة العربية لتغول في امتصاص دماء شعوبها برعاية حليفها الغربي ومن خلفه الاسرائيلي.
يتحدث سمير أمين في كتاب صدر له مؤخراً عن وثيقة أمريكية نُشرت حديثاً تؤكد أن 'خطة أوباما لإجهاض الثورة المصرية' كانت تتضمن مرحلة انتقالية قصيرة يبقى نظام الحكم خلالها في أيدي الطبقة الحاكمة ذاتها، بعد الحفاظ على الدستور الحالي بتعديلات تافهة (حصلت بعد أقل من 38 يوماً فقط من تنحي مبارك) وانتخابات سريعة عاجلة تضمن مساهمة الإخوان المسلمين في البرلمان وفق النموذج الباكستاني، لا التركي. فالمطلوب من النظام الجديد المفترض أن يحكم مصر أن يقدم تنازلاتٍ في المجال السياسي لضمان استمرار تبعية هذا البلد الاقتصادية للعولمة واحترام شروط السلام مع اسرائيل و'الامتناع' عن التضامن مع شعب فلسطين في مواجهة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.
بعد الاستحواذ على المواقع الأساسية في المغرب العربي، تتحرك الولايات المتحدة للدفع مجدداً بمشروع "الشرق الأوسط" المتعثر وإعادة تنظيم الأوضاع في العراق وفلسطين وسوريا ولبنان. خطاب باراك أوباما في جامعة القاهرة، بعد عام من انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، هدف لإبراز دور ما سمي ب "القوى الإسلامية المعتدلة" على حساب ما اطلق عليه تسمية "أنظمة الإعتدال" التي انهار جزء منها بفعل الانتفاضات. الاستعداد الامريكي للاعتراف ب"القوى الإسلامية" والتعاون معها على كل المستويات، يقابله أن لا تطرح هذه اعادة النظر باتفاقية كمب دايفيد وغيرها من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية المعقودة بين بعض الدول العربية والكيان الاسرائيلي. كذلك أن تقف بمواجهة القوى الثورية واليسارية التي تدفع نحو التغيير الحقيقي والدولة المدنية الديمقراطية. وهكذا استطاعت القوى الاسلامية بفعل بنيتها التنظيمية واغداق المال السياسي خصوصاً تحويل الثورات عن مجراها التغييري.
فالغرب والولايات المتحدة تناسوا المواقف التي أطلقوها في الماضي القريب عن الاسلاموفوبيا وربط الاسلام بالارهاب، إذ يعتقدون أن عودة القوى الإسلامية "السنيّة" الى واجهة الفعل السياسي في أكثر من بلد عربي (مصر- تونس- ليبيا- المغرب) تبرر للاطروحات الدينية المنتشرة في اسرائيل وتفرض يهودية الدولة التي يطالب بها الكيان الصهيوني. وهي قد تتيح استكمال تفتيت المنطقة العربية عبر ما سمي ب "الهلال السني" مقابل "الهلال الشيعي"، كما تحضير المواجهة مع ايران بعد الانسحاب من العراق، ومنح موقع مركزي لتركيا فيه، بحجة تمدد حزب العمال الكردستاني الى منطقة كردستان العراق. يعتبرون أيضاً أن جود حلف شمال الأطلسي في الأراضي التركية يساعد بخطة وضع اليد بعد ايران على الجمهوريات الاسلامية جنوب روسيا التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق. بما قد يضع روسيا وسط حصار شبه كامل، يمتد الى أفغانستان (بتواجد قواعد عسكرية دائمة على اراضيها)، انتظاراً لقطع" حبل السرّة" بينها وقاعدتها العسكرية في طرطوس السورية.
بدلاً من إقامة نظام عربي جديد قائم على مرتكزات التحرر والديموقراطية والتنمية الشاملة، شعرت من ناحيتها العائلات المالكة الخليجية بتهديد الثورات المباشر لممالكها وإماراتها. فلجأت لمقايضة استمرارها بالسماح بالسيطرة الأميركية الغربية على النفط والثروات العربية، والتحشيد الاعلامي حول شعار الهلالين المتصادمين (السني والشيعي)، وإحلال الصراعات المذهبية والإتنية مكان الصراع الرئيسي مع العدو الصهيوني، وترتيب الأجواء للتنافس الإقليمي بين تركيا وإيران، والدولي الأكبر بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى.
على الجبهة الفلسطينية التي تبقى في قلب الأحداث العربية، بدأت اسرائيل مباشرة بعد انتهاء الدورة العادية للأمم المتحدة بمواصلة التحضير لاعلان "الدولة اليهودية"، وعاصمتها القدس التي وضعت يدها على منطقتها الجنوبية وواصلت أعمال التهويد داخلها، مستفيدة من أوضاع البلدان العربية المنشغلة بثوراتها لمضاعفة سياسة القصف والقتل والاعتقال وبناء مستوطنات جديدة.
في ليبيا، وبعد الإمساك بورقة جنوب السودان إثر تقسيمه، استطاعت الولايات المتحدة بعد الاطاحة بنظام القذافي مع حلف شمال الأطلسي تسجيل إنتصار مرحلي ثان في شمال القارة الأفريقية. فهو يتيح إعادة النظر بحدود الدول الأفريقية (وفقاً للمخطط الذي وضعته الادارة الأميركية السابقة ووزير دفاعها دونالد رامسفيلد، بتشكيل "القيادة الأفريقية العسكرية" - "أفريكوم"). تفتيت ليبيا، بعد السودان، يفتح الطريق باتجاه النيجر والجزائر وتشاد (التي تبني الولايات المتحدة فيها أضخم مشروع خط أنابيب مع الكاميرون بكلفة 3700 مليار دولار). بما يمكنها من وضع اليد على الثروات النفطية في الصحراء الليبية ومنطقة "السدود" في جنوب السودان اللتان تزخران ببحيرتين ضخمتين من النفط لم يتم اكتشاف كل مخزونها. هي تهدف أيضاً لتوجيه ضربة ثانية موجعة للاستثمارات الصينية في أفريقيا بعد السودان، في مجال البترول خصيصاً، بهدف اخراج الصين من كل أفريقيا.
تصعيد وشحن في الحالة السورية
في المثل السوري، حيث السلطة ابتلعت الدولة وأوكلت لقواها الأمنية حمايتها من شعبها بدل حماية الشعب من اعدائه المتربصين به، كانت أهم القرارات الإصلاحية التي أتخذتها وهو رفع حالة الطوارئ، قراراً شكليا بالنظر لتطبيقه على أرض الواقع. فالاجتماعات ما زالت ممنوعة، ولم تلتزم بالاصلاحات المطلوبة، وتنصلت من اجراء الحوار الوطني مع اطياف المعارضة التقدمية والديمقراطية، ثم وصدت الباب أمام التدخلات الخارجية والتصعيدات التدريجية. لا يزال هناك الآلاف من سجناء الرأي، بل أكثر مما كان عليه عددهم قبل بدء الحراك في 18/3/2011، كونها زجت بأعداد هائلة من كوادر الثورة السورية وقياداتها الميدانية الواعية في المعتقلات واغتالت آخرين. وبحجة انتشار السلاح والعنف المضاد والخطف والقتل على الهوية المذهبية، غالت باعتماد الحل الأمني – العسكري. مما ضاعف في ظروف حياتية خانقة من التصرفات الرد فعلية وقلل من فرص إبداع الحلول الشعبية السلمية. فارتفع مع الوقت والمزيد من المعاناة عدد من يعتقدون بأن إسقاط النظام السوري بالإمكانات الذاتية غير ممكن. وبالتالي يجب الاستعانة بأي كان يساعدهم على ذلك ولو أن الحل العسكري قد يؤدي لتمزيق البلاد وتهديد وحدة الجيش والشعب. رقصة الموت هذه من جانب الأطراف الخارجية جعلت بالمقابل شرائح واسعة من السوريين تتشبث بهذا النظام الذي رغم تحطيمه المجتمع والدولة يبدو لهم أفضل الشرين.
في أوساط المعارضة التي كانت مطاردة أو مغيبة عن الفعل السياسي والمنقسمة على نفسها على قاعدة "من طول عهدك بالمستبد تحمل جزءاً من أخلاقه"، يأتي من يطالب بالحماية الدولية والتدخل الأجنبي، ليذهب بالشعب "من الدلفة لتحت المزراب". كون قوى الامبريالية لم تكن يوماً مناصرة لمطالب الشعوب في التحرر وبناء الدولة الديمقراطية، وإنما فقط وفية لمصالحها. أما عملية تشكيل قيادة موحدة من المعارضة، فقد خضعت لضغوطات خارجية لإفشالها، بحيث ينبري منها من يقول أنه لا يمكن الوثوق بتكوينات تأخذ بعين الإعتبار التطمين الخارجي أكثر من التمثيل الداخلي. فالسياسة التي تعلي المصالح على الحقوق مجردة من الأخلاقيات، خاصة مع إثارة شهوة السلطة عند الانتهازيين الذين يجيدون لعبة القفز فوق الحبال وتلقف فرص التدخلات الخارجية والتمويل، وكأن دماء الشهداء ما سالت إلا لتغيير الواجهة دون المضمون.
استقبلت روسيا وفوداً من هذه المعارضة لتؤكد لهم أنه لا يمكن بقاء الوضع على ما هو عليه وأن الإصلاح ضرورة والحوار هو السبيل الوحيد إليه وليس التدخل الخارجي أو اللجوء لعنف السلاح من أي طرف كان. خاصة وأن الأزمة السورية لم تعد اليوم مجرد صراع بين نظام ومعارضة ومسلحين، بل باتت ورقة في صراع أكبر.
لقد دفع الروس، بمواجهة المواقف الأمريكية، ببوارجهم الحربية واسلحتهم الى السواحل السورية، حيث رأوا شرق اوسط جديد على نحو مغاير للشرق الاوسط الامريكي الذي يهدد مصالحهم وأمنهم القومي. وهناك تهديدات بتحريك الاكراد في جنوب شرق تركيا وخلق كيان كردي على غرار ما حصل في الشمال العراقي، إلى جانب الحصار على وصول البضائع التركية الى آسيا ودول الجنوب. وبمواجهة منظومة "الدرع الصاروخية" التي نصبها الغرب على تخوم روسيا الأوروبية في تركيا، اتخذت في روسيا خطوة "دفاعية" بنصب أنظمة رادارات في محافظة كالينيغراد يبلغ مداها ستة آلاف كيلومتر بما يغطي كامل أوروبا.
كان قد سبق ذلك بدء للعودة إلى المنطقة العربية، التي تمت مغادرتها بعيد الانهيار السوفييتي، بارسال حاملة الطائرات "الأميرال كوزنتسوف" والمدمرة "الأمرال تشاباننكو" التي وصلت إلى الموانئ السورية. فالسفن التابعة لسلاح البحرية الروسية والتي تحمل صواريخ بحر-جو ومعدات متطورة لرصد التحركات الجوية والبحرية، تحمل بالوقت عينه رسالة روسية مفادها أن معركة سوريا هي معركة روسيا. فغلطة مدفيدف ومستشاره بوغدانوف بعدم التصدى في الملف الليبي لتدخل الناتو المبيت في مجلس الأمن لا يراد لها أن تتكرر.
فيما عدا العلاقات التاريخية القديمة والوثيقة بسوريا، روسيا ترد على الحصار الذي تحاول واشنطن ضربه حولها حماية لمصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في المتوسط، كونه لم يعد لديها موطئ قدم فيه إلا في الجزائر وسوريا. تعتبر روسيا أن الخطر المباشر على أمنها القومي يتمثل في الأصوليات الدينية الإرهابية المتطرفة، بما يقتضي السعي لمنعها من الوصول للحكم في الدول التي تهمها أو تحيط بها. أما إذا تزايدت الضغوط الأميركية، فهناك احتمال العودة إلى كوبا بعدما تخل الروس طوعاً عن قدرات هائلة كانت لديهم هناك. وربما بالعودة الى فيتنام بالتنسيق مع بكين.
محاذير الاجراءات العقابية
رد الجامعة العربية والأطراف الغربية باتخاذ اجراءات عقابية وفرض عقوبات اقتصادية على سوريا جاء ليرفع من وتيرة التوتر والمعاناة في هذا البلد والمنطقة عموماً. هو يعطي ذريعة اضافية للتدخل الأميركي في الشؤون السورية الداخلية وتنفيذ الخطة الخماسية الأبعاد التي تضمنها التقرير الذي قدمه، قبل بضعة أيام من قرارات الجامعة العربية، أندرو تايلر الى لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي حول "سياسة الولايات المتحدة في سوريا".
في الورقة المعنونة "خطة الولايات المتحدة لإشعال سوريا"، يقول أليوت إبرامز في مقترحه ما مفاده أن الولايات المتحدة التي مارست حظراً على سوريا لم يعد لديها ما تفعله، كونه لا يوجد بين البلدين أي تجارة أو استثمار. لذلك يجب تشديد العقوبات الاقتصادية الأوروبية والتركية على سوريا. لكن من المؤسف أن الحكومة التركية استغلت التطورات الحالية في سوريا لتعزيز الدور التركي في حلف شمال الأطلسي، في حين أن انفتاح هذا البلد على دول الجنوب والعالم الاسلامي ودول الخليج العربي عبر دول الجوار سوريا والعراق وإيران كان له تأثير كبير في انهاض الاقتصاد التركي (تجارة تركيا مع سوريا بلغت مليارين ونصف المليار دولار تقريباً عام 2010، وشكلت صادراتها لسوريا ثلاثة أضعاف صادرات هذه الأخيرة لتركيا).
إذا كانت العقوبات الشخصية التي تفرض على أشخاص ارتكبوا جرائم سياسية و/أو اقتصادية مطلوبة لمعاقبة من حوّل البلد لمزرعة يتحكم بها دون رادع أو وازع، فالعقوبات الوطنية لا يمكن إلا أن تضر بمصالح الشعب السوري. إلى جانب أن العقوبات الاقتصادية الوطنية لم تسهم في أي مكان (العراق وغزة وكوبا نموذجاً) في تغيير الأوضاع السياسية، بل تسببت في كوارث إنسانية. فمع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها جامعة الدول العربية على سوريا، الكوارث ستتدحرج على الدول العربية، وخصوصاً دول الجوار، بما يفسر رفض لبنان والعراق والاردن لهذه العقوبات.
الضرر الذي سيقع على هذه الدول نتيجة لذلك سيطول قطاعات كثيرة. بما يضعف وتيرة النمو الاقتصادي الذي من دون تأثير العقوبات تراجع هذه السنة في لبنان إلى 1.5% حسب توقعات صندوق النقد الدولي، مقابل معدل نمو سنوي وسطي تراوح في السنوات الأربعة الماضية بين 8% و9%. وكان انعكاساً للانحسار النسبي في الحركة السياحية وحركة التبادلات والاستثمارات والتحويلات الخارجية والودائع والتسليفات المصرفية (مقابل تواصل ارتفاع في أسعار الاستهلاك وبخاصة أسعار المحروقات والمواد الغذائية، واللجوء الى الضرائب والرسوم غير المباشرة التي تراوح بين 75% و80% من اجمالي ايرادات مشروع موازنة عام 2012).
يخشى كذلك أن الوضع السوري يهيء لفتنة داخلية قد تنزلق لحرب أهلية مذهبية تنعكس سلباً على وضع دول الجوار. خصوصاً في لبنان الذي يشهد انقساماً بين الطوائف، وصراعات حول سلاح المقاومة والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ووضع الحكومة الهش، وتجاذبات سياسية عنيفة بين قوى مرتبطة بواشنطن وأخرى موالية لسوريا. الأمر الذي يمكن أن يدفع به مجدداً باتجاه أتون الحرب الأهلية وعودة التدخل العدواني للكيان الصهيوني، انطلاقاً من بعض الخروقات الأمنية في الجنوب أو اللجوء لأسلوب الاغتيالات والتفجيرات الأمنية المتنقلة.
كذلك سينجم عن العقوبات على سوريا ارتفاع في عجز الموازنة العامة (وهي مقدرة في الاردن بمليار و400 مليون دولار) كون نحو 60% من حجم التبادل التجاري الأردني يأتي من سوريا وعبرها. أما العقوبات التي تطبقها خصوصاً تركيا، فقد جعلت رجال الاعمال الأردنيون يطلقون نداءات تحذير من حجم الأثر السلبي الذي سيلحق بقطاعات اقتصادية وتجارية واسعة. بما سيؤثر حتماً على سائر الشعب الأردني، ولاسيما فئاته الفقيرة التي ستضرر كثيراً من ارتفاع الأسعار. وذلك بفعل استبدال أنواع السلع والبضائع السورية بأنواع أخرى أعلى كلفة، وارتفاع كلفة نقل معظم البضائع الواردة إلى المملكة عبر سوريا والآتية من لبنان وتركيا وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.
للاعتماد عليها، سوريا كانت قد منحت طوال سنوات معاملة خاصة للاردن بالماء والغذاء. فحوالي 40% من مستوردات الاردن تدخل عبر ميناءي طرطوس واللاذقية، ومعظم هذه البضائع مواد تموينية وغذائية. مما يعني، حسب خبراء اردنيين، "وقوع خلل كبير في الأمن الغذائي الأردني الذي سيكون لتعويضه تكاليف عالية على المواطنين والاقتصاد معا". الصناعات الوطنية ستتأثر كذلك، لأن معظم المواد الأولية الداخلة في هذه الصناعات تأتي من سوريا وعبرها. وكما أن قطاع النقل قد سجّل انخفاضاً كبيراً، فقطاع المصارف هو أيضاً سيتضرر، كون حجم ودائع الحكومة السورية في الأردن يقدر بنحو 500 مليون دولار موزعة على خمسة مصارف محلية. الأمر الذي سيؤجج بالتالي المشاعر ضد السياسات الحكومية المتلكئة في الاستجابة للمطالب الإصلاحية.
أما بما يخص المناطق العازلة التي نسمع من يطالب بها لمعاقبة السلطات السورية وتأمين الحماية للهاربين من سوريا، يمكن القول أنه، وبغض النظر عن حق كل انسان في الحصول على مساعدة إنسانية مناسبة تضمن له حقه في الحياة والصحة والحماية من أي معاملة وحشية أو مذلة، وغير ذلك من الحقوق الضرورية لبقائه على قيد الحياة ورفاهيته وحمايته في الحالات الملحة، يفترض إقامة مناطق عازلة أو ممرات إنسانية إما: وجود كوارث طبيعية ضخمة لا تستطيع الدولة التي اصابتها مواجهتها، وإما نزاعاً مسلحاً بين طرفين. وهذا الأمر غير متوفر في الحالة السورية، حسب دراسة للمعارض السوري ناصر الغزالي.
هو يجد أن أغلب التجارب السابقة التي جرى فيها بناء ممرات إنسانية، على شاكلة ما حصل في العراق والصومال والسودان وجورجيا ويوغسلافيا السابقة، لم تفض في معظمها لما هو متوخى منها ظاهريا، بل أدت لعدد كبير من الضحايا والمعاقين والمفقودين ولكم هائل من المعاناة البشرية. وذلك بإنهاك الدول المستهدفة اقتصادياً واجتماعياً وصحياً وبيئياً وتفجير حروب أهلية ادت لتفتيتها. ذلك باعتبار التدخل الانساني آلية من آليات السياسة الخارجية للدول المهيمنة وإهانة للشعوب المستهدفة واستخفافاً بمقدرتها على بناء الدولة الديمقراطية العادلة، كما اخفاءاً لمراميها الكامنة وراء غايتها الإنسانية المعلنة بخصوص حماية الإنسان.. وهذا الأمر كان قد أودى بالجمعية العامة للأمم المتحدة للتحذير من اللجوء للتدخل المباشر بشؤون الدول، وإيكال مهمة الضغط على تلك الدول للتوقف عن ممارساتها الهمجية بحق شعوبها، لمنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني ولمحكمة الجنايات الدولية ومفوضية حقوق الإنسان.
من هنا، فإن طلب الحماية العسكرية، أكانت حظراً جوياً أو خلق منطقة عازلة أو تدخلاً مباشراً، سيكون إذا ما تم تنفيذه كارثياً على الدولة وعلى الشعب السوري. رغم الأصوات المستغيثة والمستنجدة بالتدخل الخارجي، الكثيرون لا يريدون لبلدهم أن يصبح عراقاً جديداً، بل ينشدون تغييراً بأيديهم، لتحقيق مطالبهم المشروعة باسقاط احتكار السلطة وسياسة الدولة البوليسية والحزب الواحد، واقامة دولة المواطنة التي تخدم الشعب الذي يريد حرية في اختيار ممثليه وفي التعبير عن ذاته ومقاومة الفساد والاستبداد. لاسقاط النظام، لا بد للشعب السوري والقوى السياسية والمدنية من المثابرة في الفعل الثوري المرتكز على سلمية الحراك واستنباط طرق جديدة للمقاومة من عصيان مدني وغيره. ذلك بعد التوصل لاتفاق حول صيغة مؤتمر سوري عام يشمل المجلس الوطني وهيئة التنسيق وتنسيقيات الثورة والكتلة الكردية والشخصيات العامة وغيرها، مع احتفاظ كل منها بهيكليته، على أن تنبثق عن هذا المؤتمر هيئة قيادية مشتركة للمرحلة القادمة.
لعلهم كثر من يدركون أن إجهاض الثورات يتم عبر عسكرة الحراك الشعبي، والتدخل الأجنبي، واستدراج المجتمعات لحروب أهلية وصراعات عرقية وطائفية وجهوية. ثم إن من ينتفض على القمع والاستبداد وسفك الدماء البريئة في ربوع الأقطار العربية، لا يمكن إلا أن يرفض المشاريع التي ستعمل بها تفكيكاً.
*محاضرة قدمت في اطار المؤتمر الدولي الثاني للتغيير في الشرق الأوسط، هاتاي، تركيا،7-9/12/2012
**رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان
|