ما زال وضع السجون في العالم العربي مظلماً جداً مقارنة بأوضاع السجون والأنظمة العقابية في العالم، بما في ذلك بلدان الجنوب ونظم حكم غير ديمقراطية. فالعدالة في العقاب ليست مشروطة بالتقدم المجتمعي ودمقرطة الدولة. حسب متابعتنا لبلدان إفريقية، يكفي توفر الإرادة السياسية، وجمعيات حقوقية ذات مصداقية وكفاءة، علاوة على حراك فاعل لعائلات المعتقلين والسجناء لتوفير أوضاع متقدمة، بل وإصدار قوانين ترقى لمستويات جيدة بما يخص حماية السجناء واحترام حقوقهم. لقد سمحت المساعدات الدولية في بعض الأحيان بتشجيع العديد من الدول على انتهاج سياسات أكثر إنسانية بما يتعلق بمنظومتها العقابية. خاصة وأن تحسين أوضاع السجون، وبحسب كل المؤشرات والدراسات، يترك أثراً إيجابياً على مستويات تراجع الجريمة وتخفيف كمونات العنف في المجتمع وسهولة إعادة الانخراط في المحيط. هناك الكثير من النصوص القانونية في الدول العربية لا تتماشى البتة مع التطورات الحديثة للمنظومة العقابية. وهي بالتالي قاصرة عن علاج العديد من الإشكالات المطروحة، ومنها معالجة آفة التعذيب والمعاملة اللا إنسانية والمشينة داخل المعتقلات. كما يوجد غياب للقرار في استحداث آليات لمراجعة أنظمة السجون على المستوى القانوني والتشريعي وتدريب الجهاز العقابي على التخلص من المنعكسات المتخلفة والقاسية في معاملة السجناء، بما يتواءم مع القيم العربية المكرمة للإنسان والقوانين الدولية الناظمة في هذا الشأن. فمنذ لحظة الحبس الاحتياطي تبدأ رحلة الشقاء حيث لا يعطى المحتجز الفرصة للاستئناف ويحشر في مقرات أو سجون لا تخضع لأي إشراف قضائي أو رقابة الجمعيات الحقوقية التي ما زالت عموماً لا تتمكن من دخولها. ولا تعترض الإشكالات فقط المعنيين بالعقوبة وإنما سائر محيطهم، حيث يمنع أحياناً كثيرة الأهالي والمحامون من زيارة المعتقلين أو يتعرضون لمضايقات متعددة يعيشها السجناء كعقوبة إضافية. فهؤلاء يتكدسون داخل سجون ضيقة تفتقر لأدنى معايير النظافة وتتردى فيها الرعاية الصحية، بما يسهل انتشار الأمراض المعدية ومنها الجلدية كالجرب، علاوة على أمراض الدرن الرئوي وتليف وتضخم الكبد والطحال وقرحة المعدة والانزلاق الغضروفي وآلام العظام والفقرات وأمراض الأذن وضعف السمع والإبصار، كما أبانت تقارير المنظمات العربية والدولية التي تعنى بالسجون. وبمعزل عن النقص في المعدات والأدوية وفي الطواقم الطبية، يخضع هؤلاء للضغوط الإدارية بحيث لا يمكنهم القيام بعملهم بمهنية وحيادية. لا بل يغدون غالباً مطية في يد إدارة السجون، ويجري استعمالهم ضد السجناء وليس لمعاينتهم واحترام سلامتهم النفسية والجسدية كما يفترض. إضافة للنقص في الإمكانات البشرية المؤهلة لإدارة الشأن العام، والافتقار لنظم ادارية فعالة وموارد مالية كافية، هناك انتشار للفساد والمحسوبية وضعف في الثقافة الحقوقية شعبياً ورسمياً، وبنوع خاص افلات من العقاب لمن يملكون موازين القوة. عدد السجناء بلغ رقماً مهولاً، حوالي 62 الفاً بمن فيهم القابعون في السجون الإسرائيلية واكثر من نصفهم في الدول المحتلة. خاصة مع عولمة حالة الطوارئ منذ أحداث ايلول 2001 وتضاعف القوانين الاستثنائية وإباحة المتابعة بغطاء الأدلة السرية والمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة والتفنن في وسائل التعذيب والاحتجاز التعسفي في أماكن منها ما زال سرياً حتى الساعة. في هذه المجتمعات التي تخضع لانظمة مستبدة و/ أو دوغمائية، يتحول البشر لرعية تفقد شعورها بالانتماء والآمان والمواطنة. ويبقى المجرم أو الجاني عرضة لأبشع أنواع المعاملة اللانسانية والحاطة بالكرامة. تفرز عملية الضبط الاجتماعي أنماطاً من السلوك تتأثر بالقسرية والالتزام بتطبيق القانون تحت عامل الخوف والإكراه واللجوء للقوة، كما وتؤثر على التوازن النفسي والعقلي للبشر. في رسالة وصلتنا من الدكتور المازني بعد خروجه من السجن في مصر يقول: "يبقون على أناس أصيبوا من جراء التعذيب بالفصام والهوس الاكتئابي، وعلى أناس أصلا هم معتوهون جاؤوا بالخطأ لكن من دخل خروجه صعب.. جميع الناس-إلا نادرا- يخشون البوح بما يجري لأن ثمنه مزيدا من الأذى". وبعد وصفه لما تعرض له من تعذيب يقول أنه أصيب في الغضروف بين الفقرات. الأمر الذي شل حركته ومنعه من مزاولة عمله كطبيب، علماً أنه دخل السجن دون جرم ارتكبه وخرج منه دون تهمة وجهت له أو حتى معرفة سبب اعتقاله. كثيرون مثله أضاعوا سنوات في الزنزانات المعتمة فقط لانتمائهم لتيارات فكرية تطاردها الأنظمة القمعية وتعامل أعضائها كمجرمين. كيف يمكن شرعنة واقناع البشر بأن القاء القبض قبل عدة ايام على الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الأمين العام، والدكتور جمال عبد السلام مدير لجنة الإغاثة والطوارئ لاتحاد الأطباء العرب وغيرهما وقبلهما الكثير من كوادر هامة في وطنهما هو لحماية البلد ومن أجل أمن الدولة ومواطنيها ؟ وفوق ذلك لا من يحرك ساكناً أو بالكاد حين يدخل رفعة القوم والمئات بل الآلاف من أمثال هؤلاء للسجن ويضيعون سنوات عمر كان يفترض خلالها ان يخدموا بلدهم، أن يبنوا مجتمعاتهم. فكيف لا يتصور الحاكم نفسه حينئذ أنه صورة الله على الأرض ويبيح لنفسه كل المحظورات طالما أن مقاومة إرادته لا ترقى للمستوى المطلوب، وطالما الإفلات من العقاب ما برح لمن هم في مقامه القاعدة ؟ قد لا تكون المشكلة غالباً في النصوص حيث أحياناً ما تتوفر، لا بل تبرزها حكومات هذه البلدان التي يشغل ممثلون لها مناصب رفيعة في أجهزة الأمم المتحدة التي تنادي باحترام حقوق الإنسان، تبرزها باعتزاز عند تقديم التقارير أمام اللجان المختصة عن مدى احترام هذه الحقوق. لكن التقصير كثيراً ما يرتبط بنظرة مؤسسات الدولة والحاكم للمحكوم وللهدف المتوخى من إنزال عقوبة السجن، كما بالارادة السياسية وخصوصاً بعملية التطبيق. لقد تبنت المدارس العقابية المختلفة فلسفات قوامها علاقة الفرد بالمجتمع وافترقت حول مفهوم الإرادة الشخصية. فالمدرسة الوضعية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر والتي تأثرت بها الكثير من التشريعات اليوم، بنت نظرياتها القانونية على نقيض ما قامت عليه المدرستان التقليدية والتقليدية الحديثة اللتان ركزتا على حرية الإرادة عند الفرد. المدرسة الوضعية نفت ذلك واعتبرته وهماً يكذبه الواقع، قائلة بحتمية الجريمة عندما تتضافر عوامل ذاتية وموضوعية مرتبطة، ليس فقط بالفرد وبسوء استخدام حريته، وإنما بمحيطه الذي يجعله في نهاية الأمر ضحية له، وبقانون السببية الذي يوجه نشاط الإنسان مثلما يوجه ظواهر الطبيعة. تاريخ السجون لم يعرف عموماً على الصعيد الدولي تقدماً مطرداً، بل تراجعات وخطوات للوراء أيضاً. الى أن عادت فكرة العناية بالسجين ورعايته بدلاً من عقابه في سجنه باعتبار السجن نفسه عقوبة. وذلك في عودة للأفكار المسيحية الأولى، حيث يعود للسيد المسيح توصيته بالسجناء والغرباء والفقراء. القرآن الكريم كان قد أكد هذه الوصية في الآية: "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً". كذلك أكد على تفريد المسئولية الجرمية (لا تزر وازرة وزر أخرى) واعتبر العقوبة قضية دنيوية وليس فقط دينية (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). لقد قال بإقامة العدل دون تمييز (أعدلوا ولو كان ذا قربى)، مع إقرار مبدأ العفو ورفض مبدأ الثأر. كما أن الجزاء من غير ضرورة يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتهـا، ويقيد الحريـة الشخصيـة دون داع لذلك. الإمام علي بن أبي طالب كان قد أقر في العراق صدقة لأهل السجون. أما الخليفة عمر بن عبد العزيز فكان من أوائل من طالب في القرن الثامن الميلادي بإصلاح السجون وتأهيل السجناء أثناء وبعد الاعتقال. السجن كعقاب يحرم من الحرية عرفته الحضارات الشرقية مبكراً، حيث وجد في الصين والهند ومصر وبلاد الرافدين. كذلك فكرة رصد مخصصات للسجناء أثناء فترة اعتقالهم وما بعد قديمة العهد. لكنها عادت بقوة مع وجود منظمات غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان وإصلاح أوضاع السجون والسجناء والاهتمام بإعادة تأهيلهم، ومع شرعة حقوق الإنسان ومنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يقضي بوجوب "أن يراعي نظام السجون معاملة المسجونين معاملة هدفها الاساسي إصلاحهم وإعادة تأهيلهم الإجتماعي". كذلك يمكن القول أن تعبيرات المساعدة الاجتماعية والنفسية المختلفة قد ساهمت في تقدم ما يمكن تسميته النظرة المتعددة الميادين لإعادة التأهيل. فإذا كان نظام القانون الجنائي قد وُضع لحماية المجتمع من الجرائم والجنح التي يرتكبها الأفراد ولحماية حقوق ضحاياهم، ولضمان احترام حقوق المتهمين وتوفير محاكمة عادلة لهم، وإذا كان جوهر دولة القانون يتمثل بأن القانون فوق الجميع، لا يعلق به الضعيف ويفلت منه القوي، يفترض بالعقوبة أن تهدف للإصلاح والتقويم لا للثأر والانتقام من المحكوم عليه. وهكذا مع تطور مفاهيم حقوق الإنسان وعلم الاجتماع وعلم النفس الجنائي جرى التقليل من العقوبات السالبة بحيث لا يبقى الحبس العقاب السائد، واستُبدل بالتدابير الاحترازية والعقوبات المالية والتشغيل خارج السجن. أي الانتقال التدريجي من العدالة العقابية إلى العدالة التقويمية. لقد بدأت السجون في الكثير من البلدان المتقدمة تتحول إلى مراكز للإصلاح والتأهيل هدفها أن يصبح نزيلها بعد انقضاء محكوميته فرداً صالحاً نافعاً لنفسه ولمجتمعه. كذلك كان لا بد من ايجاد بدائل للحبس لاسيما عند ارتكاب الجنح البسيطة، بما يعود بالفائدة على المعني كما ويسهم بتخفيف الأعباء عن ميزانية السجون ومن اكتظاظها بالنزلاء. فتح أبواب السجون أتاح في بعض الحالات أمام جمعيات المجتمع المدني العمل مع نزلاء هذه الأماكن المغلقة إنطلاقاً من برامج تربوية وترفيهية وحقوقية. فالحرمان من الحرية الذي يفترض أنه مؤقت يترافق مع الحرص على خروج السجين بعد انتهاء محكوميته دون عقابيل تعرقل انخراطه مجدداً في مجتمعه. كأن لا تظهر الأحكام على سجله العدلي مثلاً، وسائر ما يحول دون تحوّل الجاني بعد اطلاق سراحه لمجرم أكثر خطورة على مجتمعه وذاته. فالسجن بحد ذاته مدعاة لتشويه صورة الإنسان عن نفسه وفقدان ثقته بنفسه وبالآخرين. لا يغيب عن الذهن أن المعتقَل له مؤهلات وامكانيات وإن كان ماضي البعض لم يسمح لهم باستغلالها. وعليه، يجب أن يتيح السجن الفرصة لمتابعة التحصيل العلمي أو المهني ولاكتساب مهارات او تطويرها من أجل توظيفها بما يساعد على كسب العيش بعد العودة للحياة الطبيعية. كما أنه بانتظار استعادة الحرية، للسجين الحق بالعمل وكسب الأجر والحفاظ على صحته وممارسة حياة شخصية وعائلية تحفظ الحد الأدنى من آدميته وتنقذه من رغبة الانتقام من المجتمع الذي أساء له. الكثير من المجتمعات المتقدمة تعيد النظر في منظومتها القانونية والعقابية وتعمل لمعالجة الأسباب وليس النتائج. لاعادة التأهيل والادماج عبر مراكز الإصلاح ومؤسسات الأنشطة الموازية وتنشيط المهارات والتدريب على الحرف وضمان فرص العمل. لتعزيز العقوبات البديلة واطلاق السراح المشروط. وهناك منها من يضع تصور مشترك مع المعني بالأمر حول الخطة المستقبلية التي ينوي الأخير تطبيقها بعد اطلاق سراحه، ومساعدته على تحضير نفسه لها خلال مدة السجن عبر البرامج الدراسية والتأهيلية. تحسين ظروف الاعتقال يترافق باصلاح المباني وتثقيف العاملين بالمؤسسات العقابية ورصد الامكانيات المالية اللازمة خاصة باتجاه القاصرين. ايضاً تحسين شروط عمل الجهاز القضائي الذي يصدر الأحكام ويحيل للسجن، بزيادة عدد القضاة ومنع السلطة التنفيذية من التسلط على القضائية واستخدامها لتلبية مطالبها. تجري أيضاً اعادة التفكير بدور الحراس وتصويبهم لتأهيل السجين بدلاً من انزال العقاب كيفما كان. فالصمت على ما يرتكب من جرائم بحق السجين من طرف جلاديه يجعل هؤلاء قادرين على تدمير آدميته. لذلك توضع برامج لاعادة تأهيلهم من أجل تغيير صورتهم السلبية عن أنفسهم وعن السجناء ومساعدتهم على مواجهة الصعوبات التي يعانون منها في ظل ظروف نسبياً صعبة. أخيراً وليس آخراً، عندما تتوفر شروط الحراك الاجتماعي لجمعيات المجتمع المدني التي تسعى لتقديم العون للسجناء ولتحفيز السلطات على أنسنة السجون ومفهوم العقاب انطلاقاً من مفاهيم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، تكون خطوة هامة قد قطعت في طريق رقي المجتمع وبناء دولة القانون وتحرير الإنسان من قيود التخلف.
* رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان ** نشر في الجزيرة نت في 16-07-2009
|