مهمة تقصي حقائق في القدس الشرقية
في النصف الثاني من ديسمبر 2008
إصدار خاص بمناسبة مؤتمر مراجعة ديربان نيسان/أبريل 2009
C.A. DROITS HUMAINS
5 Rue Gambetta - 92240 Malakoff - France
Phone: (33-1) 4092-1588 * Fax: (33-1) 4654-1913
E. mail achr@noos.fr www.achr.nu www.achr.eu
تقدمة
في غمرة هجمة تطرف جديدة على الحرم القدسي الشريف من جانب مستوطنين يسعون لاقتحامه وتظاهرات للمقدسيين لصدهم، بما يعيد للأذهان عملية اقتحام سابقة له من قبل آرييل شارون التي كانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الثانية في فلسطين، وفي زحمة التحضيرات لمؤتمر مراجعة ديربان الثاني في جنيف، الذي تنظمه الأمم المتحدة لمتابعة وتقييم التطورات الجارية في العالم في مكافحة العنصرية، تشارك فيه حوالي 350 منظمة غير حكومية من مختلف انحاء العالم، والذي يتعرض للابتزاز الاسرائيلي والأمريكي لمنع التطرق لاسرائيل وممارساتها العنصرية بحق الشعب الفلسطيني، كون المؤتمر الأول في ديربان قد أدان اسرائيل والصهيونية واعترف بالشعب الفلسطيني كضحية للعنصرية ولنظام الفصل العنصري، تشهد التحضيرات للمؤتمر حملة شرسة على الحضور العربي والفلسطيني ومحاولات عرقلة المنظمات الفلسطينية والدولية المناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني لتنظيم فعالياتها على هامشه كي لا يصار لإدانة اسرائيل كنظام فصل عنصري، تصدر اللجنة العربية لحقوق الإنسان بهذه المناسبة هذا التقرير الذي سعى لتقديم صورة عن عمليات تهويد القدس التي تسارعت وتيرتها في الآونة الأخيرة وإطلاق صرخة للوجدان العالمي من أجل إنقاذ هذه المدينة الرمز من التطرف الديني والشوفيني القائم على عنجهية القوة العسكرية ومشاعر العنصرية البغيضة تجاه الآخر.
لمحة عامة
لم تكن هذه المرة الأولى التي أتوجه فيها إلى الأراضي الفلسطينية للزيارة والإطلاع والتواصل مع شعب تقطعت أوصال موطنه بين أجزاء كانت تسمى قبل ستين عاماً فلسطين، فلسطين التاريخية. لم تكن المرة الأولى أيضاً التي أتعرض فيها لانتهاك حقي في الحركة والتعرف عن كثب على أوضاع هذا البلد الذي يواجه الداخل اليه بالصد والمنع بهدف عزله عن أنظار وحشرية نوع من المتطفلين. فهو من ناحية يحظر دخولنا إليه كعرب من جانب حكومات بلداننا العربية بذريعة مناهضة التطبيع مع اسرائيل. ومن ناحية ثانية لا بد أن نتعرض بزيارته للمساءلات والتحقيقات الطويلة والمهينة من طرف رجال أمن حدوده لتجرؤنا كعرب وحتى كأجانب على شد الرحال إليه، خاصة لمن يناصر حقوق الإنسان الفلسطيني أو ينتصر لقضية هذا الشعب. أما عندما كنت أمتنع عن الدخول إليه عن طريق مطار بن غوريون والتف على ذلك، بالذهاب إلى الطرف المصري قاصدة قطاع غزة عن طريق معبر رفح على سبيل المثال، كانت الإجراءات المتخذة من قبل حرس الحدود المصرية أقل ما يقال فيها أنها غالباً غير لائقة أو ودية من طرف بلد عربي شقيق. في حين أن الإسرائيليين وبشكل ملحوظ يظهرون عدم الود مع موظفي الحدود المصرية ويتعاملون معهم باستعلاء وخشونة عندما يضعون أقدامهم على أراضي هذه الدولة، خاصة وأنهم يأتون زرافات ووحدانا للاستجمام أو لأمور أكثر جدية تتعلق بأغراض سياسية أو اقتصادية أو ما شابه.
كان لا بد من استكمال الصورة عن أوضاع الأراضي الفلسطينية المحتلة بالتعرف عن كثب على مدينة القدس، "العاصمة الموعودة" للدولة الفلسطينية المقبلة، وعلى ما يجري داخلها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني ومن اغلاقات لمؤسسات المجتمع ومنها "مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية". فهذه المدينة التي هي مهبط الرسالات السماوية والتي ورد ذكرها عدة مرات في القرآن الكريم، تعد من أقدم المدن في العالم، وكان أول من سكنها العرب الكنعانيون ثم اليبوسيون قبل الفلسطينيين.
في هذه المرة بدت لي المدينة أكثر كآبة ووجوه ابنائها أكثر تجهما مما يمكن ان يتوقعه غريب قادم اليها. هو يتأكد من صحة مشاعره عندما يبصر حركتهم المسرعة في بلوغ منازلهم ما أن يهبط الليل، بحيث تخلو الشوارع من حركة البشر وكأنهم ليسوا في مأمن فيها. سائق التاكسي الذي قبل نقلي من المطار للنزل الذي استضافني اخبرني أنه يفعل ذلك استثناءا كي لا يتركني في الليل على قارعة الطريق لأبحث عن آخر يكمل بي المشوار، كون سيارات القدس الغربية لا تدخل عموماً للقدس الشرقية. المسافة لم تكن بالقصيرة، مما اتاح لي رؤية الأبنية على أطراف الشوارع التي اجتزتها، وبالتالي استغراب هذا القدر الكبير من الاختلاف بين جزئي القدس الغربية والشرقية. لا بل هذا التناقض الواضح وحتى الفاضح بين ما يترآى للناظر كمدينة جميلة تنعم بنصيب هام من العناية والثروة، وجزء آخر مهمل ومهمش من مثل الأحياء الفقيرة والمعزولة في ضواحي المدن العامرة.
شاءت الصدف أن زيارتي ما كادت تنتهي، حتى بدأ العدوان الأخير على قطاع غزة والذي دام 22 يوماً. كانت حمم النيران من السماء والبحر والبر تدك المدينة التي اشتدت أوضاعها قسوة مع حصار جائر استمر على مدى سنة ونصف. تعرضت خلاله المنطقة لمنع كل أسباب العيش بهدف مقاضاتها على اختيار ممثليها ولفرض إرادة الإحتلال والمشجعين له والمتواطئين معه. لكن قطاع غزة يتعرض منذ زمن طويل للويل والثبور، حيث تحول لسجن كبير دون سقف، كما وصفته قبل عدة سنوات إثر قيادتي لبعثة تقصي حقائق فيه. هذا السجن كان يتسع وتزداد ضراوة ظروفه مع الحصار، الذي هو أشبه بعدوان لا يعلن اسمه.
الأدهى من كل ذلك هو أن هذا الحصار الذي فرضته سلطة الاحتلال والذي يعد انتهاكاً للمادة 33 من معاهدة جنيف التي تحرم تحت أية ظروف العقاب الجماعي، وافقت عليه ضمنياً أطراف اللجنة الرباعية. فالتزامات سلطات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة بحماية الشعب المحتل، عبر توفير الأمان والطعام والمياه والتعليم وحرية الأديان تماماً كالتزاماتها بحماية مواطنيها، تقوضها ممارساتها بحق هذا الشعب. وفي قطاع غزة ذو الكثافة السكانية العالية، وحيث 80% من سكانه لاجئون وأكثر من نصفهم أطفال، كان عليهم أن يجدوا أنفسهم بين فكي كماشة وخلف أسوار ومعابر محكمة الإغلاق دون أي ملاذ آمن للنجاة بأنفسهم من نار جهنم.
عند فشل سلطة احتلال في القيام بالتزاماتها، تنتقل المسئولية للمجتمع الدولي المتمثل في الأمم المتحدة. وعليه، كان مجلس الأمن قد أصدر القرار رقم 1860 في بدايات العدوان الضاري على غزة، لكنه لم يوقفه. فاسرائيل، التي تدين بوجودها لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، أثبتت مرة أخرى أنها لا تحترم القانون الدولي ولا الأمم المتحدة. لقد تعاملت باستهتار مع قرارها وردت على لسان رئيس وزرائها أن " دولة إسرائيل لم تقر من قبل لأي هيئة خارجية أن تحدد حقها في الدفاع عن أمن مواطنيها".
فالإنسان في غزة يجرد من كل مقومات الحياة تدريجياً، والمرضى يتركون دون علاج مجدٍ ليواجهوا الموت، والأطفال يكبرون دون ان يعيشوا طفولتهم ويعرفون معناها يوماً. ليس اقل من 350 شخصاً ماتوا خلال الحصار لأنهم لم يتمكنوا من مغادرة قطاع غزة للعلاج بسبب رفض سلطات الاحتلال منحهم تأشيرات بالخروج للاردن او لمصر. ذلك علاوة على الدمار والمعاقين مدى الحياة التي خلفها العدوان باسلحة منها ما كان في طور التجريب وما هو محرم دولياً.
لقد كشف علماء ومنهم مصريون ان اسرائيل استخدمت في عدوانها هذا قنابل انشطارية متضمنة معادن ثقيلة تصيب الجينات وتحدث الفشل الكلوي فيما تحدثه من عواقب وخيمة على من تصيبه. أما قنابل الفوسفور الابيض التي أطلقتها، فقد شاهد العالم على شاشات التلفزة كيف اخترقت لحم الضحايا وشوهت عظامهم وخاصة منطقة الفك. في حين أن اليورانيوم المنضب الذي لجأت له أيضاً في هذا العدوان سيتسبب بحدوث تشوهات جينية وشيخوخة مبكرة وارتفاع بمعدلات الاصابة بالسرطان عند الاطفال خلال الفترة القادمة.
خلف العدوان الأخير على القطاع، حسب مركز الميزان لحقوق الإنسان، 1342 قتيلاً، منهم 109 نساء و318 طفل. أما المقاومين فكان عددهم 235، أي 15.50% من مجموع الضحايا. وبكل الأحوال الحرب ضد قطاع غزة ما زالت مستمرة بأشكال متنوعة ولو أن جيش الاحتلال لم يفلح في تحقيق ما كان يصرح به. أي التخلص من حركة حماس وايقاف اطلاق الصواريخ وفرض اتفاقية جديدة امنية على شعب يواجه بصدوره العارية وبالحجارة والصواريخ المصنعة محلياً رابع قوة عسكرية في العالم تمتلك 250 رأس نووية. وما زالت اسرائيل تحاول عبر وسائل متعددة فرض اعتراف بها، والحصول سياسياً وبمساعدة أمريكية واوروبية وعربية على ما لم تحققه عسكرياً.
ما جرى بغزة ليس بمعزل عما يحدث في مدينة القدس أو في الضفة الغربية أو حتى ما يتعرض له، وخاصة مؤخراً، أهالي الخط الأخضر من العرب الفلسطينيين. فالمظاهر التي تطالعنا عند الانتقال من مكان لآخر على الأراضي الفلسطينية يجدر ربطها ببعضها كون الداء واحد وإن اختلفت الأعراض ومظاهرها. هناك من يربط بين عملية "الرصاص المصبوب" في 27 ديسمبر 2008 ومخطط التهويد الكامل للقدس مستشهداً بالجولة التي قام بها أولمرت قبلها بثلاثة أيام على مواقع بناء جدار الفصل العنصري في القدس الذي يقضم 85% من قسمها الشرقي، وحيث شدد على ضرورة استكمال تشييده قبل بداية 2009.
بكل الأحوال، ما يحدث هنا أو هناك يخدم فكرة وهدفاً أوحد، وهو تأكيد سيطرة الكيان الغاصب على حاضر هذه الأرض والتحضير لمستقبل غير واعد أبداً لأبناء فلسطين، أكان بتمزيق أرضهم وزرع مستوطنات لشعب قدم من أرجاء العالم ليستوطن فيها، مقابل فرض التشريد والتوطين في بلدان الجوار أو أقاصي المعمورة على أهلها، وانكار حقهم في العودة إلى بلدهم أو حتى التجوال داخل حدوده التاريخية. ورغم كل المفاوضات والمباحثات والاتفاقات لم تلد دولة فلسطينية مستقلة. بل قفز عدد المستوطنين منذ اتفاق اوسلو 1993 في الضفة الغربية من 190 ألفاً الى نصف مليون اليوم. كما وقضم 25% من أراضيها بتشييد حائط الفصل العنصري وتوسيع القدس والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. وما بقي من 22 % من فلسطين التاريخية بات لا يصلح عملياً لاقامة دولة عليه، بفعل تجزئته وتقطيع اوصاله لكانتونات منفصلة عن بعضها يمنع أهلها من التواصل فيما بينهم.
فالدولة العبرية هي الوحيدة بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي لا تملك حدوداً معلنة، بحيث تستمر في ضم الأراضي الفلسطينية دون من يردع. وهي ايضاً الدولة الوحيدة التي لا تملك دستوراً وتعتبر ان كل يهودي على وجه المعمورة هي وطن له. وهي الوحيدة التي اشترطت الأمم المتحدة لقبولها عودة اللاجئين الفلسطينيين وقيام دولة عربية ولم تحترم أي من الشرطين، بل لعلها البلد الوحيد الذي يجعل من الدين والايديولوجية سبباً لطرد شعب من أرضه وإحلال كل من يقول بأنه من الدين اليهودي مكانه. أما اولئك الست ملايين نسمة الذين تشردوا من فلسطين في انحاء المعمورة، فلا يوجد أي اتفاق موقع يقر بعودتهم لوطنهم، وإن كانت الأمم المتحدة قد تناولت عودة اللاجئين الفلسطينيين الى قراهم وبلداتهم التي طردوا منها وأن يتم تعويضهم على ما خسروه.
يذكر رئيس الدورة الثالثة والستين الجمعية العامة للأمم المتحدة بكلمته أمام الجمعية ما قاله البروفيسور جون داجارد، المقرر الخاص بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة : "منذ أربعين عاماً والهئيات السياسية التابعة للأمم المتحدة والدول والأشخاص يتهمون إسرائيل بالانتهاكات المستمرة والتنظيمية والجسيمة ضد حقوق الإنسان والقانون الإنساني داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي عام 2004، أكدت الهيئة القضائية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في رأيها الاستشاري على أن أفعال إسرائيل داخل الأراضي المحتلة تنتهك بالفعل القواعد الأساسية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني ولا يمكن تبريرها على أساس أنها دفاع عن النفس أو ضرورة. وإذا كانت الأمم المتحدة جادة بشأن حقوق الإنسان فلا يمكنها أن تتحمل تجاهل هذا الرأي خلال مباحاثات اللجنة الرباعية؛ لأن هذا يعد تأكيداً رسمياً بأن إسرائيل جادة بشأن خرق التزاماتها الدولية. كما أن الإخفاق في تطبيق أو حتى الاعتراف بالرأي الاستشاري الذي يتناول القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان يثير التساؤل حول الالتزمات الحقيقية للأمم المتحدة تجاه حقوق الإنسان."
عمليات تهويد القدس
منذ اتخاذ القرار 303 في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1949 منحت مدينة الديانات السماوية الثلاثة وضعاً دولياً خاصاً، مع التأكيد على حماية الأماكن المقدسة فيها وعلى احترام الخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية لجميع سكانها. لكن دولة الاحتلال وضعته على الرف ولم تحترم يوماً ما ورد فيه. بل بات حتى القيام بالصلاة في مسجد الأقصى محرم على أبناء القدس الذين تقل أعمارهم عن 50 سنة. وأبناء الطائفة المسيحية ليسوا بمعزل عن الأحكام العرفية التي فرضت منذ احتلال المدينة في 1967. في حين أن هذا القرار الذي يرسم الحدود كان يمكن أن يشكل أساساً لسلام عادل ودائم.
أما الهيئة المشرفة والمكونة اليوم من الدول الخمسة الأعضاء في مجلس الأمن والتي أنيط بها تطبيق القرار، فقد باتت معطلة منذ 1994 وسريان اتفاقية أوسلو. اسرائيل لم تسمح للأمم المتحدة بممارسة أية سلطة ادارية على القدس، وهذه الأخيرة تعتبر أن اسرائيل قد الحقت القدس بها بالجوء للقوة العسكرية والاحتلال على الرغم من كل قراراتها بما فيها 181 و242 الصادرين عن مجلس الأمن. عملية الالحاق هذه هي في تعارض أيضاً مع قرار الجمعية العامة 303 الذي ينص على أن أي إجراء تتخذه حكومة ما لا يمكن أن يمنع الهيئة المشرفة من الحفاظ على وضعية مدينة القدس كما تبنتها. الأمر الذي يضر بمصداقية الأمم المتحدة بعيون كل شعوب العالم وليس فقط العربية.
الدولة العبرية، التي أعلنت ضم القدس الشرقية سنة 1980 بعد أن كانت قد احتلتها في 1967، ما زالت ترفض الاعتراف ب19 قراراً دولياً يعتبر القدس أرضاً محتلة. وقد فرض الاسرائيليون بقرار صدر عن الكنيست في أواخر 2007 عدم التنازل عن شرقي القدس في أي حل تتوصل له حكوماتهم، إلا إذا حصل على غالبية ثلثي الأعضاء، أي 80 من أصل 120 عضواً. وهذا ما يبدو صعباً جداً اليوم، خاصة مع قدوم حكومة أكثر يمينية وتطرفاً مما في السابق. وحيث أن بعض المؤسسات الاهلية الفلسطينية ما زالت تعمل في مدينة القدس المحتلة، يمنع بالمقابل اي نشاط للسلطة الفلسطينية. نذكّر باغلاق مؤسسة بيت الشرق في المدينة لسنوات خلت، بحجة قيام السلطة الفلسطينية بنشاطات مختلفة فيها. ذلك إلى جانب أن الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة يحتاجون لتصاريح خاصة لدخول القدس.
وهكذا، منذ اليوم الأول لاحتلال القدس، شرعت اسرائيل بعمليات التهويد المنظم للمدينة، معملة معاول الهدم فيها. ولم يكد يمضي الشهر الأول على نكسة 1967، إلا وقد أزال الاحتلال 5000 منزل وحارات بكاملها من الوجود، منها حارة المغاربة التي أنشئت منذ عهد صلاح الدين في ساحة البراق. كذلك حولت بعض المساجد لكنس يهودية وأماكن سياحية وتجارية ومرابض إبل، وجرفّت بعض المقابر الاسلامية ونقلت رفات بعض الصحابة لأماكن مجهولة. كما وصودرت وثائق المحكمة الشرعية، وهدم مبنى المجلس الاسلامي الأعلى رغم أن صفة الوقفية لا تسقط عنه بالتقادم. وجرت عمليات التزوير والحفر «السرية» تحت المسجد الأقصى وما زالت مستمرة. بدأت تتسارع إجراءات التهويد، وكشف عن تسجيل وتثبيت 120 عقاراً للمستوطنين من خلال وثائق مزورة وبصورة غير قانونية. إلى أن سيطرت سلطات الاحتلال على أكثر من 60 ألف دونم من الأراضي. كما وصادرت ما يزيد عن مائة عقار ومنزل في محيط المسجد، تم تحويلها لبؤر استيطانية شيد فيها حتى الآن أكثر من 50 كنيساً يهودياً. وهي تستكمل بافتتاح العشرات الآخرين والشروع في بناء أكبر كنيس يهودي في العالم.
أي ما يعني، حسب تقرير النائب أحمد أبو حلبية، أن 90% من الأراضي العربية وضعت تحت تصرف سلطات الاحتلال (بين 34% استيلاء، 40% محميات طبيعية، 10% أراضي مجمدة، 6% بنى تحتية وشوارع). علاوة على أن الفلسطينيين الذين يشكلون ما نسبته 34 % من سكان القدس، لا تصرف البلدية على أحيائهم سوى ما بين 5 إلى 10 % من ميزانيتها، بما يجعلهم يفتقرون للخدمات والبنى التحتية المناسبة، علاوة على أن حوالي الثلثين منهم يعيشون تحت خط الفقر.
الأمر لن يتوقف عند هذا الحد، حيث أكثر من 2200 عقار ومنزل والآلاف من الدونمات مهددة بالمصادرة. كما أن مكتبة الأنصاري، التي هي من أقدم وأهم مكتبات القدس الثقافية العامة، مهددة بالإخلاء والهدم. فسلطات الاحتلال تقوم باستعجال اجراءات الضم ومصادرة لآلاف الدونمات من الأراضي ومئات العقارات بشتى الحجج وباصدار العديد من الأوامر والقرارات وما يزيد عن عشرين قانوناً من أبرزها: قوانين مصادرة أملاك الغائبين، والمحميات الطبيعية، والأرض الخضراء، ومن أجل المصلحة العامة، الخ. والهدف بالطبع تهجير أهالي القدس، بحيث لا يبقى بعد عقد من الآن سوى 12% من عددهم الحالي. أي ربع مليون، مقابل رفع عدد اليهود فيها ليصل لمليون نسمة خلال العشرية القادمة.
فالمسجد الأقصى، الذي تبلغ مساحة ما يشمله من متعلقات ومعالم هامة وآثار 144 دونماَ، لم يتعرض فقط لعمليات السطو عليه والاستيلاء على حائط البراق الذي أسمته سلطات الاحتلال حائط المبكى، بل لهدم تلة باب المغاربة بداية 2007، وإقامة جسر مكانها ومبان وحصون لا علاقة لها بما كان. وقد كثفت عمليات الحفر في ساحات الأقصى، ومن تحته في السور الجنوبي منه وصولاً لأسفل مسجد الصخرة شمالاً، ومن شرقه لغربه. كذلك لشق الأنفاق لتمكين دخول الشاحنات والجرافات، ولطمس المعالم والآثار الاسلامية والزعم بوجود هيكل اسفل المسجد الأقصى. مما بات يهدد أساساته وجدرانه والكثير من العقارات والمنازل في محيطه. ورغم تبيان وجود تصدعات وانهيارات في سوريه الغربي والجنوبي، لم تسمح سلطات الاحتلال لدائرة الأوقاف الإسلامية بترميم ما خرّب في ساحته وفي مسجد البراق والمسجد الأقصى القديم والمسجد المرواني والمدارس التي تتبع له.
كان المسجد الأقصى قد تعرض بعد سنتين من الاحتلال لحريق أتى على جزء منه، ومن ثم تكررت المحاولات لحرقه. كذلك تعرض لاقتحامه واطلاق رجال الاحتلال النار على المصلين فيه، بما أردى العديد منهم بين قتلى وجرحى. واحدة من هذه الاقتحامات كانت لشارون في 2000، وأدت لاندلاع الانتفاضة الثانية. أيضاً تعرض حراسه لاعتداءات متكررة ومنعهم من مزاولة عملهم. في حين ما زال الفلسطينيون من سكان قطاع غزة والضفة الغربية يمنعون من الوصول للمسجد والصلاة فيه. بينما توضع تحديدات عمرية لأهالي القدس وفلسطينيي الخط الأخضر مع شرط حصولهم على تصريح اداري من السلطات في مكان سكنهم.
إسرائيل، بخلاف ما يطالبها به المجتمع الدولي وبتناقض مع التزاماتها في خارطة الطريق، تمضي بخطى حثيثة في الاستيلاء اللاقانوني على القدس الشرقية وتشييد المستوطنات وهدم منازل الفلسطينيين وبناء الجدار العازل الذي قطع أوصال القدس الشرقية وعمق المشكلة الاقتصادية لسكانها العرب. علاوة على انتهاج بلدية القدس التشدد في منح رخص البناء لفلسطينيي القدس ومنعهم من الإعمار والتوسع الأفقي والعمودي بالبناء. وإن أعطى ترخيص استثناءاً فكلفته تكون عالية جداً، أي ما يتعدى 25 ألف دولاراً للشقة السكنية. مقابل ذلك يمنح اليهود كل التراخيص والتسهيلات اللازمة برسوم رمزية. الأمر الذي اضطر البعض لتشييد منازلهم دون هذه التراخيص، مما وفر الحجة للسلطات لهدمها. وعليه، أكثر من 400 منزل قد ازيل منذ عام 2004، في حين أن ما لا يقل عن ألف ينتظر أوامر الهدم. ذلك حين لا توضع اليد على المنازل ليقطنها اسرائيليون بعد ان يطرد أصحابها منها.
واحدة من هذه العائلات التي طردت من منزلها في حي الشيخ جراح شمال القدس هي عائلة الكرد التي قمنا بزيارتها في الخيمة التي أقامتها على مقربة من منزلها والتي تحولت ل"خيمة الصمود". فقد أقيمت على أرض لفلسطيني قدمها مؤقتا لتلك العائلة بانتظار حل يقيها المهانة والعوز. مع ذلك، علمنا أنه بعد يومين من زيارتنا قدمت جرافات اسرائيلية وهدمت الخيمة التي عاد أصحابها والمساندون لهم ليشيدوها من جديد، رغم أن الحياة فيها صعبة جدا، خصوصاً مع برد قارس وشتاء لا يرحم. لكن هذا كل ما توفر لهذه العائلة، والذي على علاته يبدو أفضل مما قد يحظى به الكثير من هؤلاء المطرودين من منازلهم والذين بلغ عددهم في حي الشيخ جرا ح فقط 1500 شخصاً. فالمشكلة كما تبدى لنا وكما أكد لنا الكثيرون أن هدف الهدم هو كسر روح المقاومة عند الفلسطينيين. أما اقامة الخيام فلها أيضا، فوق الحاجة لها، رمزيتها الهامة في التعبير عن رفض سياسة تهجير السكان والتمسك بالحق والأرض، ولو كان ثمنه الشقاء في الخيام.
أشخاص آخرون قابلناهم في القدس القديمة كانوا شديدي القلق من التهديدات التي يتعرضون لها. يخشون أن يستيقظوا ويجدوا أنفسهم مجردين من مسكنهم وممتلكاتهم بحجة أن ما بنوه غير مرخص به. وفوق ذلك عليهم أن يدفعوا مبلغاً عالياً جزاء مخالفاتهم. لكن رغم كل المعاناة، فهم مصرين على بقائهم في أرضهم حفاظاً على حقوقهم وهوية القدس. وإذا كان في حي الشيخ جراح وحده هناك أمر باخلاء 28 منزلاً، يوجد على سبيل المثال في حي العباسية 36 منزلاً، وفي حي رأس خميس قرب مخيم شعفاط شمال البلدة القديمة 55 منزلاً يجب اخلاؤه. وعلى ذكر بلدة شعفاط هذه، يتسبب عدم وجود مدارس عربية فيها بتسرب ليس أقل من نصف تلامذتها. الأمر الذي يجبر مسئولي المدارس العربية المتواجدة بمحيط القدس لاستيعاب 50 تلميذاً في الصف. فهدف السلطات الإسرائيلية هو تجهيل المقدسيين أيضاً وإجبارهم على الرحيل لعدم توفر أسباب التعليم لأبنائهم. هذا عدا نشر المخدرات بين الشبيبة وإضعاف مناعتها وصمودها.
بلدة سلوان الواقعة في جنوبي سور المسجد الاقصى، تبلغ مساحة أراضيها، التي هي ملك للأوقاف الإسلامية، حوالي 5700 دونماً. وتتميز بعدد من الينابيع الطبيعية التي استحوذ الاسرائليون عليها. عين سلوان التي تسير في نفق بين الصخور، كان السياح يؤموها من جميع أنحاء العالم، إلى أن أغلقتها سلطات الاحتلال عام 1988، وحولتها لأراضي «إسرائيل»، وفرضت على كل زائر دفع ما يناهز عشرة دولارات. كذلك توجد عين اللوزة الموسمية، وبئر أيوب الذي كان الجيش الأردني يشرف عليه قبل الاحتلال، إلى أن قام الكيان الإسرائيلي بامتصاص الينبوع من منطقته الرئيسية عند وادي الرباب (في منطقة الشماعة). 78 ألف نسمة تعيش في سلوان التي تعتبر من أعلى المناطق كثافةً سكانية، كون أهلها ينتشرون على مساحة لا تتجاوز مئات من الدونمات. الأمر الذي دفعهم إلى البناء العمودي.
يواجه حي البستان في هذه البلدة تحدي تشريد أهله. مساحة الحيّ 70 دونماً، وجميع أراضيه تعود ملكيتها لفلسطينيين. كانت بلدية القدس قد سلمت في 21 /2/2009 حوالي 1500 شخصاً، أي 134 عائلة يقطنون في 88 عقاراً، انذارات إخلاء بيوتهم تمهيداً لهدمها بحجة إقامة حديقة عامة مكانها. وكان سكانه قد تعرضوا للاعتداء عليهم قبل أن يتسلموا الانذار الأخير، واجبروا على دفع غرامات عالية لقاء ما تعتبره السلطات الاسرائيلية مخالفات. قرار مماثل كان قد صدر نهاية 2004، لكنه لم ينفذ مع تجميده أواخر 2005، نتيجة الضغوط الدوليّة على حكومة الاحتلال.
السلطات المحلية التي كانت قد اخطرتهم بأنها ستقدم لهم منازل في ضاحية بيت حانينا بالقدس، تراجعت عن ذلك ونفت أي وعد قطعته. وكانت هناك عروض بتعويضهم بيوتهم وتوفير أراض بديلة، وكأن هذه الأراضي ملك للاحتلال وليست عربية وإسلامية. لكنهم رفضوا ذلك معتبرين أن الغرض منها، ليس فقط إجبارهم على مغادرة المنطقة المحاذية للمسجد الأقصى الذي هو في خطر، وإنما عزلهم مستقبلاً عن مدينة القدس وإلحاقهم بالضفة الغربية. وذلك ضمن مخطط تطويق محيط المسجد الأقصى بسلسلة من الحدائق التلمودية وتهويد البلدة القديمة وحي سلوان وجبل الطور ورأس العامود، وربطها ببعضها ببؤر استيطانية. المخطط يهدف كذلك لاستبدال إدارة الأوقاف الإسلامية، التي هي صاحبة الصلاحية في إدارة شؤون الأقصى، بأخرى يشارك فيها اليهود. بحيث يتمكن هؤلاء من دخول الأقصى وإقامة شعائرهم فيه أو اقتسامه مع المسلمين.
من الأهالي من ترك عمله وبقي يرابط في منزله لمنع الهدم حتى ولو كلفه حياته. فالأساس هو المحافظة على أراضي القدس الوقفية والاستمرار في السكن فيها وعدم الرحيل عنها مهما كانت الأسباب. خاصة وأن غاية الهدم هو إلحاق هزيمة بوعي الفلسطينيين ليقبلون باغتصاب أرضهم وهدم منازلهم وتشريدهم من بلدهم. بعد صدور الأوامر بالإخلاء، توجه المعنيون للمحاكم الاسرائيلية بعدما بلغوا من طرف البلدية أنه عليهم اعداد مخطط تنظيم للحي، للحصول على ترخيص لمنازلهم وتجنب الهدم. انكبوا على اعداد المخطط الذي وضعوا فيه كافة التفصيلات وبلغت كلفته 70 ألف دولار. وعندما حملوه إلى اللجنة المختصة، جاء جواب رئيسها أن حديقة الملك داود ستشيد على أنقاض بيوتهم. من ناحيته، مفتي فلسطين السابق كان قد أفتى بتحريم التعويض المالي أو العيني بمبان أو أراض للمساكن التي تهدد بلدية القدس بإخلائها من سكانها وأصحابها الشرعيين. واعتبر أن أي تعويض هو بمثابة بيع لها وانتقال لملكيتها إلى السلطات الإسرائيلية، مما هو محرم شرعاً.
سبق وقدم سكان الحي مشروعاً لاعماره، كما ولجأوا للطرق القانونية والاحتجاجات السلمية لمنع الهدم، لكن السلطات المحتلة لا تمنح تراخيص بناء للمقدسيين. وإذا منحت استثناءا فالرسوم تتعدى 25 ألف دولار للشقة السكنية. سابقاً كان بت الأمر متعلقاً ببلدية القدس، لكن اليوم انتقلت صلاحية إعطاء الرخص للسلطة الإسرائيلية المركزية بتل أبيب. ذلك رغم أن رئيس بلدية القدس الغربية، نير بركات، كان يشدد على ضرورة بناء المزيد من المستوطنات والشوارع "لإحداث تغيير جذري بقضية الديمغرافية الإسرائيلية على حساب المصالح الديمغرافية الفلسطينية".
من يتجول في سلوان، يرى الأعلام الاسرائيلية ترفرف على سطوح بعض المنازل التي يحتلها مستعمرون متطرفون، وقد باتت بمثابة القلاع المحروسة على الدوام.
وهناك من المستعمرين المسلحين بالبنادق من يعتدون بالضرب على السكان العرب ويلقون قاذوراتهم على بيوتهم، ويشتبكون مع المواطنين العزل. فبيوت كثيرة قد تم وضع اليد بأساليب عدة، منها شراءها عبر سماسرة من مالكين في الأردن باسم شركات أجنبية. لكن تخفي خلفها حركات صهيونية متطرفة همها "تنظيف مدينة الملك داود" من العرب. مثال آخر هو عندما تلتجئ عائلة لمحكمة الصلح وتقاوم أمر الهدم باثبات وجود ترخيص من قبل احتلال المدينة. فالقاضي لا يملك سوى الغاء قرار الهدم، لكن يستبدله ببند موجود في حيثيات القرار يعطي الاذن للبلدية بهدم البيت لأغراض عامة، وهنا إقامة حديقة الملك داوود.
لقد أنهت سلطات الاحتلال القسم الأكبر مما يسمى "مدينة داوود" الأثريّة في حيّ وادي حلوة في ضاحية سلوان، علاوة على البؤر الاستيطانية في الأحياء الفلسطينيّة المحيطة بالمسجد الأقصى. كما شيدت، إضافة للحواجز، جداراً عازلاً لعزل الأحياء الفلسطينيّة المحيطة بالبلدة القديمة والمسجد الأقصى عن بقية القدس. ومنعت سكان هذه الأحياء من استخدام عدد كبير من الطرق والشوارع الرئيسة "لدواعٍ أمنيّة". وقد رصدت لمشاريع التهويد حوالي 150 مليون دولاراً لتصرف خلال السنوات القليلة القادمة. أما الجهات المنفذة لهذه المشاريع فهي بلدية القدس، وسلطة تطوير القدس، وسلطة الآثار الإسرائيلية.
في هذه المدينة المستحدثة، تم افتتاح مزارات وأنفاق تلمودية، في إطار خطة تشمل ما يسمى "الحوض المقدّس". أي البلدة القديمة بكاملها وجزء كبير مما يحيط بها من أحياء من حيّ الشيخ جراح ووداي الجوز في الشمال، وضاحية الطور في الشرق، وضاحية سلوان في الجنوب. يقول الشيخ رائد صلاح بأن ما يحدث في حي البستان «ليس مفاجئاً.. حيث هناك مخطط لعام 2050 يقضي بتطهير كامل القدس من الوجود الفلسطيني».
في حي العيسوية شرقي القدس المحتلة، أكثر من عشرة آلاف فلسطيني يعيشون في ظروف قاسية، محرومين من المدارس وملاعب الأطفال، وحتى من وصول البريد اليهم. مما يضطرهم لاستعمال عناوين المحلات التجارية لاستلام مراسلاتهم. ذلك إلى جانب إخضاعهم للتفتيش والإغلاقات بالحواجز، بما يعيق كما في كل مكان من وصول االتلاميذ لمدارسهم والعاملين لأماكن عملهم.
في جبل المكبر يعيش العرب كالسمك داخل "علبة سردين" كما يصف ذلك أحدهم، بحيث أن معظم الشباب لا يستطيعون الزواج. علاوة على أنهم يعيشون في أوضاع صحية سيئة: من دون شبكة صرف صحي أو مدارس أو شوارع أو عيادات طبية. وفي حين رفضت البلدية ربط منازل العرب فيه بشبكة المياه العادمة، تبين أنها بنتها خصيصاً للبؤرة الاستيطانية الجديدة. وقد كانت البلدية قد صادرت أراضي أحد أبناء جبل المكبر المزروعة زيتوناً، وتبين فيما بعد أن ذلك كان من أجل اشادة مستوطنة نوف تسيون.
فالسلطات المحتلة ما فتئت تمنح التسهيلات لمؤسسات "عطريت كهونيم" و"العاد" وللجمعيات الاستيطانية عموماً لشراء أو مصادرة العقارات والمباني القديمة المحيطة بالمسجد الأقصى، والتي تجاوزت حتى الآن المائة، وصولاً لتشديد الظروف الصعبة على السكان العرب والاستيلاء على الآلاف منها. تعمل هذه الجمعيات بشكل خاص على حفر الأنفاق الضخمة والطويلة تحت بيوت مدينة القدس القديمة وتحت أراضي مدينة سلوان العربية. وتجري الحفريات من داخل البيوت بعيداً عن الأنظار وبسرية تامة. وفي حين يبدأ النفق من داخل البيت بفتحة متوسطة الحجم، لا يلبث أن يتوسع تدريجياً بالامتداد للأسفل ضمن مسارات طويلة ومتعرجة تصل إلى 8 أمتار عرضاً وطولاً.
أما جمعية "العاد" الاستيطانية المتطرفة فتقوم قبل الحفريات بالاستيلاء بطرق مباشرة أو غير مباشرة على المنازل العربية القديمة في البلدة القديمة، ثم تحولها لبيوت سكنية مؤقتة للعائلات اليهودية. هذه المؤسسة تركز نشاطها على مدينة سلوان بشكل خاص. أما نفق "شيتح"، الذي يمتد تحت مدينة سلوان وينقسم لقسمين يتجه أحدهما نحو القدس القديمة والثاني نحو جبل صهيون، فقد كان العمل قد توقف عليه مؤقتاً بفعل الانهيارات المفاجئة التي تسبب بها. قاضي قضاة فلسطين ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي الشيخ تيسير التميمي، كان قد حذر من خطورة الحفريات الإسرائيلية التي تجري أسفل الأقصى حيث ستؤدي لانهياره.
معظم الأنفاق تتجه نحو البلدة القديمة لتلتقي بالحفريات والأنفاق تحت الحرم القدسي الشريف قرب حائط البراق. وإن كان الهدف من شقها السيطرة على أسفل القدس العربية، فالخطر داهم على البيوت العربية بسبب وصولها لأساساتها حيث يتشقق وينهار جزء من حجارتها. عند التجوال في القدس القديمة كان لي أن أرى التشققات في حيطان بعض المحال التي تتسبب بها عمليات الحفر تحت الأرض، كما أن أسمع ضجيجها لحد ما رغم صخب المارة. كذلك أمكن ملاحظة درج قديم تستعمله سلطة الآثار الإسرائيلية للوصول من خلاله لباطن الأرض. ومؤخرا أصيبت 17 طالبة فلسطينية بجروح جراء انهيار أرضية صفهن، بمدرسة القدس الأساسية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بسبب الحفريات الإسرائيلية التي تجري في أسفل المدرسة الواقعة على بعد عشرات الأمتار من المسجد الأقصى.
أحدث مشروعات طمس معالم المدينة حسب مؤسسة الأقصى هو "جادة الجيش"، في الزاوية الغربية الشمالية من سور القدس العتيقة. وقد حوّل قسم من المساحات المحيطة بأسوار القدس القديمة إلى حدائق عامة. لذلك فالاستيلاء على الأبنية والعقارات العربية والإسلامية في القدس القديمة يتواصل، خاصة في حارة الشرف، وغرب حي المغاربة، وفي أقصى شارع الواد، وبالقرب من مسجد النبي داود، ووقف آل الدجاني. إضافة لاستبدال أسماء الشوارع التاريخية العربية والإسلامية بأخرى عبرية. ومن المخططات التي تنتظر التنفيذ اعادة إعمار أبواب القدس القديمة والأسوار وبعض المواقع التاريخية والأحياء، حيث بدأ العمل في باب الخليل الواقع في الجهة الغربية. وكانت "مؤسسة الأقصى للوقف والتراث" قد كشفت منذ مدة وجيزة عن عزم سلطات الاحتلال حفر نفقين أرضيين جديدين، بطول 56 متراً و22 متراً، مع تركيب ممر ومصعد كهربائيين لربط حي الشرف الواقع في البلدة القديمة- والذي تم هدمه بعد احتلال القدس في 1967 وهجر سكانه وسمي بالحي اليهودي- بحائط البراق والمسجد الأقصى، تسهيلاً لمرور المستوطنين والسياح لهما.
أهداف اسرائيل من مشاريعها هذه لا تطال وحسب المناحي السياسية والديمغرافية، وإنما أيضاً الثقافية والدينية منها كما يشرح الكثيرون: محو الهويّة العربية والإسلاميّة لمدينة القدس، واستبدالها بهويّة يهوديّة من الناحيتين التاريخيّة والدينيّة، وعزل المسجد الأقصى عن الأحياء العربية الفلسطينية. كذلك ترحيل عدد كبير من المقدسيّين خارج المدينة، وتحقيق تواصل جغرافيّ بين البؤر الاستيطانيّة في البلدة القديمة ومحيطها وبين المستوطنات الموجودة على أطراف مدينة القدس، كمستوطنة التلّة الفرنسيّة في الشمال، ومستوطنة تل بيوت الشرقيّة في الجنوب، ومستوطنة أخرى في الشرق. الأمر الذي يخلق واقعاً نهائياً على الأرض، يصبح حاسماً في أية مفاوضات لاحقة.
ضمن هذا المخطط، كان لنا أن نرى أيضاً كيف يجري العمل حتى في يوم عطلة رسمية لتشييد مترو انفاق، من المقرر البدء بتشغيل جزء منه في 2010. (يجدر بالذكر أنه خلال عملية شق الأنفاق لسير خط التراموي تم اكتشاف بقايا مدينة قديمة من العهد الروماني، عبارة عن مساكن مصممة بشكل جيد يتبع لها حمامان عامان). يمتد النفق بطول حوالي 15 كلم ويبتلع أجزاءا هامة من أراضي القدس الشرقية، بهدف ربط المستعمرات في الجزء الشرقي من القدس بطرفها الغربي. فشركتي الستوم وفيوليا الفرنسيتين، اللتان تعملان ضمن كونسرسيوم على بنائه وكانتا قد وقعتا على العقد نهاية 2004 في عهد شارون، تستمران بالعمل في المشروع رغم الاحتجاجات والدعاوي وخسارة عقود. شركة الستوم، التي تجهز 46 عربة، تصنع الزجاج من النوع المضاد للرصاص لدرء "الأعمال الإرهابية". وكان بعض من عمالها ونقابييها قد عبروا عن احتجاجهم على الاستمرار في المشروع، لمعرفتهم بأن ذلك لا يتفق مع القانون الدولي الذي لا يجيز عمليات تشييد من هذا النوع تحت ظروف الاحتلال.
اسرائيل، التي وقعت على اتفاقيات جنيف، عليها أن تلتزم بها. كما بالقرار 446 العائد ل22 مارس/آذار 1979، والذي يعتبر أن السياسات الاسرائلية التي تقيم مستوطنات في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة منذ 1967 هي مرفوضة. كونها تقوض عملية اقامة سلام عادل وشامل ومتين في الشرق الأوسط. لكنها ضربت بعرض الحائط تعهداتها بهذا الخصوص. واستحقت تقريظها أيضاً من طرف مجلس الأمن ومحكمة العدل في لاهاي واحتجاج السلطة الفلسطينية. فمشروع التراموي، الذي تسبب بهدم بيوت والاستيلاء على أراضي يمر بها الخط، يسهل سياسياً من عملية ضم القدس الشرقية للكيان الغاصب ويدعم الاستيطان. الأمر الذي أدى لإقامة دعوى من طرف جمعيات حقوقية في فرنسا ضد الشركتين في 2007 تطلب فسخ العقد. ردت الشركات، التي أكدت التزامها باحترام حقوق الإنسان، بأنها لم توقع على عقود. لكن الضجة التي أثارتها الجمعيات الحقوقية في أكثر من بلد أوروبي أدت، وبضغط بنوع خاص من جمعية دياكونيا السويدية، لخسارة فيوليا لعقد في السويد بداية هذه السنة لصالح شركة من هونغ كونغ قيمته 3.5 مليار أورو كان سيستمر على مدى 8 سنوات. وكان قبل ذلك بنك هولندي قد توقف عن تمويل الشركة للأسباب نفسها.
عندما يطرد الفلسطينيون من بيوتهم يتشردون عند الأقارب أو يلجأون للخيم، حيث تتصدق هيئة الصليب الأحمى بخيمة لكل عائلة. وبعد ذلك يجبرون على ترك المكان بالقوة، مما يؤدي بالمقدسيين للنزوح وأحياناً للهجرة بعدما تسد المنافذ بوجههم. هذه الاجراءات الطاردة تستكمل بسحب سلطات الاحتلال لهويات من تستطيع من المقدسيين لسبب أو لآخر. فقد سحب ما لا يقل عن أربعين ألف هوية، في حين يفرض الحصول على بطاقة الهوية "الزرقاء" هذه من الداخلية، إلى جانب الأوراق الأخرى من مثل فواتير الماء والكهرباء وأوراق الضرائب، للتثبت من السكن في القدس. الحجج كثيرة ومنها: تعديل قوانين الدخول والاقامة على أساس سنوات الغياب والحصول على جنسية اجنبية وغيره. وقد بدأت السلطة المحتلة باغلاق بيوت للمقدسيين بحجة انهم لم يسكنوها منذ فترة، رغم ابرازهم الاوراق الثبوتية التي تدحض هذا المزاعم. كما أنها تمنع الفلسطيني الذي يملك جواز سفر أجنبي من السكن في القدس، بحيث يصبح كالسائح مضطراً لتجديد تأشيرة اقامته كل ثلاثة أشهر. علاوة على أنه لا يحق للأزواج لم شمل الأسرة عندما يكون أحد الزوجين من خارج القدس، وإلا فالمخالف يتعرض للسجن والشريك لمخالفة مالية.
ممثل هيئة العلماء والدعاة في فلسطين كان قد أكد لنا أن دولة اسرائيل ترفق حملتها لتهجير المقدسيين باللجوء لرفع ضريبة المسقفات (الارنونا) عليهم لتكون اعلى من سواها في أي مكان آخر بما فيه تل ابيب. وذلك دون تقديم أية خدمات بالمقابل، حيث لا مدارس جديدة أو مرافق صحية أو أبنية عامة أو تجديد طرقات أو غيره. حتى أن سلطات الاحتلال طالبت أهالي القدس، عبر توجيه رسائل لعناوينهم مباشرة، بدفع غرامات للبلدية عن مخالفات سير ليس لهم علم بها ورفعت فوق ذلك قيمتها ما يزيد عن ألف في المئة. اعتراضات المعنيين لم تقبل، واللجوء للمحكمة لم يجدي، "كون القاضي يحكم على المقدسي العربي سلفاً قبل ان يسمع مرافعة محاميه إلا في حالات نادرة جداً لا تزيد عن حالة من عشرة آلاف حالة".
مؤخراً أيضاً، قامت الحكومة الإسرائيلية بإغلاق آخر بوابة تربط مدينة القدس ببلدة الرام وضاحية البريد وهي "بوابة ضاحية البريد"، التي كانت صلة الإتصال الوحيدة بين شمال القدس وجنوبها. لتتحول بذلك المدينة لسجن يفصلها عن الضفة الغربية ويحشر سكانها داخل اسوار محكمة تتحكم فيها ارادة ومزاجية الجندي الاسرائيلي الذي يقرر لمن ومتى يمنح ترخيصاً بالدخول اليها او لا. علاوة على تحويل ضاحية البريد لمنطقة عسكرية وضعت عليها كاميرات مراقبة، وتهديد ما لا يقل عن 60 ألف مقدسي من سكان المنطقة المقتطعة بسحب هوياتهم الإسرائيلية "الزرقاء" وجعل حياتهم معاناة يومية في الاتنقال لعملهم أو لمدارسهم وغيره. فالرام التي يبلغ عدد سكانها حوالي 58.000 مواطن، وأكثر من نصفهم يحملون الهوية الإسرائيلية، تخلو من المراكز الصحية وتنقصها المدارس. مع هذا الإجراء سيتحولون لمعبر قلنديا العسكري أو حاجز حزما، وسيزداد تعقيدا تواصل العلاقات العائلية والاجتماعية لديهم، بعد أن كانت العديد من المحلات التجارية قد أغلقت أبوابها بعد بناء الجدار لصعوبة الوصول اليها.
تنفيذ مخططات الهدم والتهجير تتسارع خطواتها في الآونة الأخيرة لتحويل القدس لمدينة يهودية بعد تفريغها من سكانها العرب حتى حدود 2020. فالإحصاءات كانت تشير إلى أن ما يقارب 260 ألف عربي يعيشون في القدس الشرقية مقابل أكثر من 182 الفاً من اليهود. أتى بناء الجدار لاخراج 1635 عائلة من المدينة، أي حوالي 100 ألف عربي، من أجل إقامة القدس الكبرى وفرض هيمنة ديمغرافية للمستعمرين اليهود في "غلاف المدينة" أو "الحوض المقدس" وتثبيت وقائع جديدة على الأرض. هدم المنازل كان أول عمل قام به الاحتلال عام 1967، ليتوالى بعد ذلك فرض نظام الحكم العسكري والتطهير العرقي والاعتقال والإبعاد وإلغاء حقوق المواطنة.
أيضاً يجري فرض الأمر الواقع عبر الاستثمار الاقتصادي والسياحي للاجبار، عندما يتم الانتهاء من ترتيب الوضع، على الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل. لقد ازداد البناء الاستيطاني في النصف الأول من العام 2008، حسب دائرة الإحصاء المركزية، بـ1.8 ضعف مقارنة بالمدة المقابلة العام الذي سبقه. وبالاستيطان المكثف تعمل سلطات الاحتلال على محو ما يسمى بالخط الأخضر، أي خط حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، لفرض واقع جديد على الأرض. فهناك ما لا يقل عن 192 ألف مستوطن يعيشون بشكل غير شرعي في 12 مستوطنة في القدس الشرقية، تضم أيضاً مستوطنات زراعية وصناعية وعسكرية. تشجع سلطات الاحتلال الامتداد بها وليس وقفها عبر تحفيزات ضريبية ومشاريع تمويلية واسعة.
ما يجري في القدس ينسحب على الضفة الغربية، حيث كانت دراسة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب قد تعرضت لمسيرة الاستيطان في الأراضي المحتلة على مدى أربعة عقود، واستنتجت أنها لم تتوقف رغم عملية السلام، معتبرة ذلك عقبة خطيرة أمام فكرة الدولتين. تشير الدراسة لوجود أكثر من مائة نقطة استيطانية عشوائية "غير قانونية"، أكثر من نصفها أقيم بعد تسلم شارون الحكومة وانطلاق خارطة الطريق في مارس/آذار 2001. ورغم التصريحات المتشددة لسلطة الاحتلال، فهي لم تقض إلا على ثلاث نقاط "عشوائية" فقط. فما يشغلها، عدا تأمين الاحتياجات الطبيعية في الزيادة السكانية للمستوطنين وتحصين السيطرة اليهودية بالكتل الاستيطانية الكبيرة، اظهار الاهتمام بالأوساط اليمينية المتطرفة، حرصاً على المصالح السياسية. بما يؤكد التراخي في مواجهة موضوع إخلاء المستوطنين.
للأسف، ترتيب الوضع هذا وتغيير الطابع الديمغرافي والجغرافي والاجتماعي والاقتصادي لم يقابله للأسف سوى "اجتهادات فردية ومعارك شخصية في غياب إستراتيجية شمولية فلسطينية عربية وإسلامية ومسيحية لوقف النزيف اليومي في المدينة" كما يقول مهدي عبد الهادي. التحركات المناهضة لا توازي ما يجري بشكل عنيد وممنهج، بما فيها التحركات التي أدت لإصدار محكمة الشؤون المحلية التابعة لبلدية القدس مؤخراً قراراً بتجميد أوامر هدم 55 شقة سكنية فلسطينية في حي رأس خميس وسط مدينة القدس، بانتظار البت في الاعتراضات المقدمة. البعض يرى في ذلك اختراقاً قانونياً مهماً، ويمنح المزيد من الوقت للطواقم القانونية للعمل على إلغاء أوامر الهدم الإدارية. أما "اللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل" فقد اعلنت أنها ستوجه رسالة موقعة إلى الأمم المتحدة للمطالبة بتطبيق القرار 252، الذي تبناه مجلس الأمن إثر هدم حي المغاربة، حيث دعا دولة الاحتلال للامتناع الفوري عن اتخاذ المزيد من الاجراءات التي تغير من وضع القدس. كما وعدت باطلاق حملة من اجل اعادة بناء منازل الفلسطينيين المهدمة بما يعادل 300 منزل سنوياً.
دائرة البحث والتوثيق بمركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية أبانت أنه منذ مطلع هذا العام فقط بلغ عدد المساكن التي صدر بحقها أوامر بالهدم في القدس وضواحيها أكثر من مائتي منزل فلسطيني. أما المنازل التي هدمتها سلطات الاحتلال بالفعل خلال نفس الفترة فهي حوالي ثلاثين مسكناً، أي ما بين منزل وثلاثة منازل في اليوم. فعلاوة على صعوبة امكانية السكن في القدس الشرقية، لا تمنح البلدية الاسرائيلية سوى ما بين 150 و350 ترخيص سنوياً. لكنها تهدم ما لا يقل عن 150 منزلاً في الوقت نفسه. الأمر الذي يتسبب في تشريد آلاف الفلسطينيين وسحب حقهم في الإقامة في مدينتهم. كما ويعتبر أوسع عملية تهجير جماعي قسرية لفلسطينيي القدس منذ عام 1967.
ما يدمي قلوب المقدسيين وما سمعناه مراراً وتكراراً في القدس هو أنه لا يوجد آليات عمل للسلطة الفلسطينية لحماية القدس. لا توجد سياسة واضحة لمواجهة مشاريع الاستيطان والتهويد، بل ارباك وتشويش. ويردد الكثيرون بأن هذه السلطة تبدو وكأنها لا علاقة لها بأهل القدس أو لا تعرف كيف تتعامل مع ملف المدينة. فموظفي الداخلية الإسرائيلية يفعلون ما يحلو لهم بأهالي القدس ولا من يردهم، حيث يقتحمون ليلاً المنازل بحجة اجراء احصاء للسكان ويطرحون الاسئلة التي يريدون عن الموجودين والغائبين ويطلبون الهويات ويتحققون من كل أمر، وعندما تسأل الوزارة عن أمر الإحصاء هذا لا يجد السائل من مجيب.
هيئة العلماء والدعاة في فلسطين كانت قد حذرت في بيان لها من ايام سوداء مقبلة على القدس، حيث قد ننام ونصحو على مدينة كان اسمها القدس. أما أهلها الذين يسمعون نداءات الصمود، فلم يصل اليهم بعد ما يدعم هذا الصمود. ولفتت لمخطط كبير يجري تنفيذه بسرعة لتغيير طابع المدينة الكلي وتحويلها إلى مدينة يهودية بكل المعاني. "فالكنس الآن يجري حفر الاساسات لها داخل المدينة المقدسة وعلى اسوارها، وما هي إلا اشهر قليلة حتى تختفي الصورة التاريخية الخالدة لقبة الصخرة لتحل محلها قبة كنيسة عملاقة تطوقها من جنوبها". فاسرائيل التي تجري حفريات تحت الارض سراً ترمي اخفاء الحقيقة عن اعين العالم، وابراز آثار مزعومة "منها القناة التاريخية التي اسمتها بنفق (الحشمونيئم) مع ان هؤلاء الحشمونيئم لم يكن لهم أي وجود في القدس أو ضواحيها، ونعرف من خلال معاينة هذه القناة علمياً ان اسرائيل قامت باستخدام مواد كيماوية لاذابة الصخور الكبيرة التي اعترضتهم وذلك كي يثبتوا لهم وجوداً سابقاً في هذا المكان، وكي يقولوا للزائرين والسياح والطلبة: انظروا لقد كنا هنا قبل آلاف السنين". يترافق ذلك باعادة كتابة التاريخ عبر رصد أموال طائلة وتوظيف عشرات المؤرخين والاثريين في الغرب، واسكات أصوات من يردون على هذه الادعاءات وعلى تزوير التاريخ.
ذكر أن باراك قال يوماً لياسر عرفات: أنتم لكم في القدس ما هو فوق الأرض أما ما تحتها فهو لنا، وقوبل هذا الكلام بالرفض. لكن اسرائيل تعمل انطلاقاً من أطماع لا تعرف حدوداً ولا تتوقف عند اتفاق أوسلو أو غيره، إلى أن باتت تمتلك ما فوق الأرض وما تحتها. في حين تدأب السلطة الفلسطينية على إجراء مفاوضات ولقاءات شحيحة النتائج. الأمر الذي يساعد على سرقة الأرض ونهب ثرواتها وما في داخلها من مصادر طاقة وغاز ومياه وحجارة لتشييد مساكن المستوطنين وحتى آثار للتزيين بها.
اغلاق مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية
بكل الوسائل تسعى سلطات الاحتلال للتضييق على المؤسسات الفلسطينية التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وذلك بإعاقة ممارستها مهامها، وفرض ضرائب باهظة عليها، ومنع البناء والتوسع أو عرقلة الترميمات فيها، أو حتى إغلاق بعضها. فإسرائيل لم تحرض فقط العالم على محاربة الحركات الاسلامية، خاصة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية التي أحرجتها في المحافل الدولية، بل قامت ضمن الهجمة العالمية على مؤسسات العمل الاسلامي الخيري في الدول العربية والغرب، باستهداف العمل الخيري والإنساني عموماً في الأراضي المحتلة (أنظر تقريرنا الصادر بداية 2007 حول التضييق على عمل المؤسسات الخيرية والإنسانية في الضفة الغربية والاغلاقات التي استهدفت في قرار واحد ما يقرب من مائة مؤسسة).
طبعاً هي لم تنتظر هذا التاريخ لتبدأ حربها على كل ما ومن يهدف لتعزيز صمود الفلسطيني، بل بدأت بأغلاق مؤسسات للحركة الإسلامية الفلسطينية منذ 1996 واعتقال قياداتها ومصادرة وثائق واموال تخصها. ذلك لتجبرها تحت الضغط المستمر على تغيير سياساتها، تفادياً للاعتقال واغلاق المزيد من المؤسسات، ولإلهائها في الدفاع عن نفسها في حين تستفرد هي بالمسجد الاقصى وبالمقدسات الاسلامية. كذلك هدفت لإبراز هامشية المجتمع العربي ولتعزيز تيار التخاذل العربي والفلسطيني مقابل مشروع الاسرلة، كما لتوجيه رسالة مفادها أن حدود التعامل مع الفلسطينيين ستكون وفق قوانين الطواريء.
إغلاق "مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية" جاء هذه المرة بأمر من وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك في 14 أغسطس/ آب من السنة الماضية، بذريعة "تهديدها الاستقرار والتعايش وأمن المواطنين". اقتحام المكاتب جرى ليلاً، باتباع أسلوب همجي تخريباً وشتماً وترويعاً. في الواقع، الاقتحام أتى إثر عقد الشيخ رائد صلاح لمؤتمر صحفي كشف فيه عن مخططات الاحتلال بشأن المسجد الأقصى، وعرض وثائق تدعمها وتكشف عن بناء كنس يهودي حول المسجد وجسر عسكري يصل إلى داخل الحرم القدسي الشريف. مما أحدث حراكاً شعبياً ورسمياً عربياً وإسلامياً.
منزل رئيس مؤسسة الأقصى الذي يقع في قرية عارة اقتحمته قوات كبيرة من الشرطة والوحدات الخاصة والمخابرات الاسرائيلية، بالتزامن مع اقتحام مكاتب مؤسسة الأقصى في مدينة أم الفحم داخل الخط الأخضر. فصادرت من الأول ربع مليون شاقل اختلستها من أموال الرئيس الخاصة، واعتدت عليه جسدياً وعلى أحد أبنائه وخربت وعبثت بأغراضه بشكل همجي ومزقت المصحف الشريف .أما من المؤسسة، فاستولت على السيارة الخاصة وعلى جميع الحواسيب واجهزة التصوير، إضافة لحوالي 1.5 مليون شاقل، بما فيها نحو 800 حصالة جمعها الأطفال من مصروفهم اليومي، إضافة لحصالات البيارق. وتمت مصادرة جميع الخرائط والوثائق والمخطوطات التي كشف عنها في المؤتمر الصحفي الذي سبق الاعتداء.
المصادرات طالت عشرات آلاف الوثائق التاريخية التي تعود لقرنين من الزمن والتي لا تقدر بثمن. من أبرزها مستندات خاصة بمشروع "المسح الشامل للأوقاف الإسلامية والمسيحية" في فلسطين التاريخية الذي بدأ عام 2000 وكان يشارف على الانتهاء. وهو كناية عن 3000 ملف غطى 75% من مقدسات فلسطين ووثق نحو 2500 موقعاً جغرافياً وتاريخياً وهندسياً. كذلك وثائق خاصة بأوقاف المدن الكبرى مثل يافا وحيفا وعكا واللد والرملة في القرنين الماضيين. ووثائق "الطابو" والأرض الخاصة بالأوقاف الإسلامية والمسيحية من الفترة العثمانية والتي أخذت من الأرشيف العثماني. إضافة إلى ملفات المتابعات القضائية بخصوص المقدسات المسطو عليها، ورسومات فنية، وأرشيف إعلامي يضم عشرات آلاف الصور وأفلام وثائقية عن النكبة والقرى المهجرة، وعن انتهاكات المستوطنين والمخابرات الإسرائيلية للمسجد الأقصى. كما مئات الشهادات الشفوية التاريخية، ومقابلات مع معمرين عاشوا في فلسطين قبل النكبة وكانوا شهوداً عليها.
جريمة مؤسسة الأقصى هي أنها أحيت في الذاكرة مدناً وقرى كانت قد غابت عن الأذهان بعد محاولات التهويد وطمس هويتها العربية والإسلامية، من مثل صرفند حيفا ومسجد قرية حطين ومجدل عسقلان، وكثير من القرى التي دمرها الاحتلال وتركت على حالها عرضة للنسيان. وهي جريمة لا لتغتفر بعرف المؤسسة الإسرائيلية السياسية والعسكرية التي رأت بعمل مؤسسة الأقصى مقاومة مدنية ضد تغييب التاريخ، وضد اكذوبة الكيان الذي قام على مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض التي روجت لها الحركة الصهيونية. لكن كذّبها كل ما نبش من الأرض وجمع من الآثار والوثائق والشواهد. وكذلك علماء الآثار الإسرائيليون من أمثال فنكلشتاين وغيره الذين أعلنوا أن الآثار لم تثبت مجيء النبي إبراهيم إلى فلسطين ولا دخول يشوع إلى أريحا ولا وجود مملكة داود وسليمان ولا الهيكل على أرض فلسطين.
إزاء كل هذا لا تملك سلطة الاحتلال سوى اللجوء لسياسة الإرهاب وتكميم الأفواه وإخفاء الدليل بعدما عجزت عن الرد الفكري العلمي والعملي لتفنيد مقولاتها. فتقوم بإغلاق لجنة التراث الإسلامي في المسجد الأقصى عام 2002، ثم تتبعها بمؤسسة الرفادة والوفادة وبغيرها، والآن عودة من جديد لمؤسسة الأقصى. ولا يتوقف الأمر على المؤسسات، وإنما ينسحب على الشخصيات التي تعمل على استنهاض الوعي وعلى التصدي لضرب مقومات المقاومة المدنية واسدال الصمت والتعتيم الإعلامي من أجل اتمام مهمة السطو على المقدسات.
القائمون على مؤسسة الاقصى يرون أن ضربها خطوة تصعيدية خطيرة في عملية استهداف المسجد الأقصى، ومنع المسلمين من عرب 1948 من الصلاة فيه ومن مراقبة وفضح ما يجري تحته من حفريات وما يخطط له ولمحيطه كخطوات تمهيدية لهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه. كما وأنه يستهدف منع نشاطها في اعمار المقدسات وتجميد العشرات من ملفات المقابر والمساجد والمقدسات الاسلامية والمسيحية الموجودة في أروقة المحاكم لفرض سياسة الامر الواقع. كذلك يدلل على رغبة الاسرائيليين في مصادرة الرواية الفلسطينية للتاريخ بعد احتلال ومصادرة الأرض. فمؤسسة الأقصى، كما مؤسسة مسلمات من أجل الأقصى، كانت تعمل على إحياء المساجد والمقابر والقرى المهجرة وكل الأمكنة المتبقية من وطن موضوع برسم التصفية، عبر تنظيم الزيارات والمهرجانات وفي عملية تواصل معها لا تتوقف من خلال تسيير مسيرة البيارق للحافلات وغيره.
الشيخ رائد صلاح، الذي أجرينا معه لقاءا في أم الفحم، كان قد نفى مزاعم السلطات الإسرائيلية حول علاقة مؤسسة الأقصى بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وما أسمته السلطات الإسرائيلية "جهات إرهابية" في القدس المحتلة. ذلك في إطار رده على ادعاءات سلطات الاحتلال بأن امر الاغلاق جاء بسبب شبهة وجود صلة بين المؤسسة وحركة حماس في القدس، حسب الادعاء الإسرائيلي "تجمع (ائتلاف الخير) الذي يعتبر الداعم لجهات إسلامية متطرفة تقف خلفها حركة حماس". وأكد بأنه سيستمر بالقيام بمهام مؤسسة الأقصى تحت إسم آخر، إن لم يكن بالإسم نفسه. والشيخ صلاح، الذي اتهم جهاز الاستخبارات الإسرائيلي بالوقوف وراء هذا الإغلاق، أشار إلى أن هذا العمل يأتي في سياق إغلاق 36 مؤسسة إسلامية في العالمين العربي والإسلامي في غضون شهر واحد. وقد لفت لوجود فتوى يهودية بقتله وقدوم متطرفين قبل أسابيع من ذلك لبلدته للبحث عنه.
كيف لا وهو، ومؤسسة الأقصى بطاقمها كله، تصّر على خلق حالة من التواصل الحقيقي مع المدينة، وتقوم بكل ذلك نيابة عن العالمين العربي والإسلامي وعن الفلسطينيين الغائبين والمغيبين أيضاً. باستثناء طبعاً بعض الشخصيات التي لم تيأس وما زالت تنشط على المستوى الفردي، ولم تلتجئ للنظر في الأمر للمحكمة العليا الإسرائيلية، أو للكنيست لوضع مشاريع قوانين تتعلق بمكان ورمز معتقد مستهدف. الأمر الذي يفسر أيضاً إقدام شرطة الاحتلال على اعتقال المنسق الاعلامي لمؤسسة الاقصى مؤخراً من باحة المسجد الأقصى، للتعمية على ما تقوم به هذه السلطات من خطوات حثيثة في تهويد الأقصى والقدس.
اللجنة الشعبية للدفاع عن الحريات التي تنشط من داخل الخط الأخضر، ربطت بين إغلاق مؤسسة الأقصى وبين تنظيمها مهرجان "الأقصى في خطر" في مدينة "أم الفحم"، الذي شارك فيه عشرات الآلاف من فلسطينيي الداخل. وقالت أن هذا العدوان "يأتي عشية شهر رمضان المبارك بما في ذلك من ضرب لبنية العمل الخيري الذي يضمن بعضاً من فرحة هذا الشهر لعشرات الآلاف من أبناء شعبنا". وقانون الطوارئ، الذي يتم اللجوء اليه تحت ذريعة المواد السرية التي تزودها أجهزة المخابرات لوزارة الأمن، ينفي حرية التعبير والاعتقاد التي تتغطى بها المؤسسة، كما قال رئيس مركز الميزان لحقوق الانسان. في حين رأى رئيس لجنة الدفاع عن الحريات أمير مخول أن الأمر انتقل بهذه الخطوة لمرحلة جديدة، حيث لم يعد الأقصى وحده في خطر بل الشعب العربي كذلك.
موقع الأقصى أون لاين الذي رصد الردود "الرسمية"، الفلسطينية والعربية والإسلامية، على مدى أربعة أيام استنتج غياب المواقف على المستوى الرسمي، وكأن المسؤولين في أكثر من عشرين دولة عربية وأكثر من خمسين دولة إسلامية، يعتبرون القضية "داخلية إسرائيلية". في حين يستهدف الإسرائيليون بإغلاق مؤسسة الأقصى ومصادرة وثائقها، القضاء على ثمرة جهود سنوات لتثبيت إسلامية المسجد وعروبته، بأبنيته وأروقته ومساجده وجدرانه وسوره وأوقافه ومدارسه، كما وبأعماق الأرض التي يقوم عليها. ويستهدفون إسكات صوت يحتل المكانة الأولى في العمل الجهادي المتواصل دفاعاً عن الأرض والمقدسات، والتمهيد لتنفيذ المزيد من المخططات العدوانية. مؤسسة القدس أكدت من ناحيتها أن هذا الإغلاق خطوة تهدف لحجب المدّ البشري عن المسجد الأقصى، كونه شبكة حماية له بوجه الاقتحامات المتواصلة ومحاولات تثبيت الوجود اليهودي فيه.
لم تكن بكل الأحوال هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها المؤسسة للإغلاق، حيث سبقها محاولات أخرى. منها في العام 2003، حين جرى اقتحام مماثل واعتقال رئيس وعدد من قيادات الحركة الإسلامية الذين عرفوا بــ "رهائن الأقصى". وذلك للحؤول دون بناء الحركة مؤسسات تعتمد من خلالها على نفسها، ولضرب أي مشروع يعمل ويفكر ويقدم للمحتاجين ولا يكتفي بالتنديد والإدانات والخطابات.
بالطبع لم تسلم أية مؤسسة أو أي رمز وطني أو ديني شريف في القدس من محاولات عرقتله والضغط عليه بكل الوسائل لثنيه عن التصدي لسلطات الاحتلال وما تقترفه من آثام بحق المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام. نذكر منهم الأب عطا الله حنا الذي لا يعدم فرصة، أكان عبر المحافل الدولية أو من داخل الأراضي المحتلة، لتقديم صورة أمينة لما يجري على الأرض واعطاء المثل في التآخي الإسلامي المسيحي، والذي كان قد استقبلنا مشكوراً لدى زيارتنا لمدينته وحدثنا طويلاً عن الجريمة التي تقترف تحت سمع وبصر الجميع. في بيان أخير له عند اصدارنا التقرير هذا، أكد "أن الأعتداء على الأقصى هو أعتداء على الجميع وأن التطرف الديني والعنصرية الدينية مرفوضة من قبلنا جملة وتفصيلا. والاعتداء على الاقصى عمل غير أنساني وغير أخلاقي". وجدد الدعوة "للمسيحيين الفلسطينيين بأن يدخلوا مدينة القدس غداً وبعد غد للأشتراك في المناسبات الدينية المتعلقة بالجمعة العظيمة وسبت النور. لكي نعلن رفضنا الى جانب أخوتنا المسلمين لكل الأجراءات الاحتلالية الاستفزازية في القدس"
القدس عاصمة الثقافة العربية
من الأهداف الأساسية في مواجهة الاحتلال وتهويد المدينة المقدسة تكريس الهوية الثقافية للمقدسيين. خاصة في ظل ما يشبه الغفوة العربية والاسلامية إزاء ما يجري، في مرحلة مفصلية سرعت من الإجراءات التهويدية بشكل غير معهود، ولاسيما منذ انتهاء العدوان على غزة. مدينة مهبط الديانات كانت قد كرّست ضمن برنامج عواصم الثقافة العربية «عاصمة للثقافة العربية عام 2009»، منذ أن تم اختيارها بدلاً من بغداد بسبب أوضاعها، في مجلس وزراء الثقافة العرب الذي عقد في مسقط قبل ثلاث سنوات وبايحاء من حركة حماس. الفكرة بدت مغرية وقتئذ وتم الاتفاق على ان لا تبقى محصورة في القدس أو الأراضي الفلسطينية عموماً، وإنما تتقاسم الدول العربية هذه الاحتفالات أيضاً.
وكان قد تقرر إطلاق الفعاليات في نفس الوقت وفي 5 مدن مختلفة هي: بيت لحم في الضفة الغربية والتي تحضر اليها الشخصيات الفلسطينية والعربية التي لا تستطيع دخول القدس، ومدينة الناصرة في أراضي 48، وفي غزة للتأكيد على وحدة الصف الفلسطيني رغم الانقسام السياسي والانفصال الجغرافي، وفي مخيم الرشيدية في لبنان للتذكير بقضية اللجوء والشتات الفلسطيني. كذلك تجري الاحتفالات في العواصم العربية. فزهرة المدائن التي تعيش حالياً أخطر مرحلة من مراحل تهويدها، كانت بحاجة لاعلانها عاصمة الثقافة العربية لتأكيد أهميتها في عيون كل من يعرف تاريخها.
لكن القدس التي حظيت بتاريخ مجيد، كل الوسائل بدت مباحة للمحتل لاستهداف ليس فقط تاريخها، وإنما حاضرها ومستقبلها. ومعاول الهدم لم تستهدف وحسب ثقافتها من لغة ودين وآثار وحضارة، بل أن قوات الاحتلال اتخذت قراراً بمواجهة الذين أعلنوا القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009، وكسر ارادتهم بالاعتقال واصدار قرارات منع التجمعات والاحتفالات. لذا، يجتمع رئيس اللجنة القانونية لمنتدى ارض اسرائيل المدعو ناشي ايال، مع وزير الامن العام افي ديختر، ومفوض الشرطة ديفيد كوهين لمنع تنظيم هذا الحدث. فهذا التوجه هو محاولة لإثبات السيادة الفلسطينية بصورة غير مشروعة في القدس حسب رايهم. رغم أن هذه السلطة الفلسطينية بالتحديد لم تنفك عن اجراء مباحثات سلام مع سلطات الاحتلال هذه التي ارتأت منع تنظيم تلك الفعاليات.
وعليه، يصدر وزير الامن أمراً في 20/3/2009 بالغاء المهرجان المزمع قيامه في اليوم التالي، للاعلان عن انطلاقة الاحتفالات بالقدس عاصمة الثقافة العربية في مدينتي القدس المحتلة والناصرة (نعلم أن انطلاقة الاحتفالات كانت قد تأجلت 3 أشهر بسبب العدوان على غزة وعقابيله). وهكذا، جاءت الانطلاقة في القدس هامشية، حيث كان المكان الرئيسي والذي كان من المقرر أن يشهد مؤتمراً صحفياً يعلن انطلاق الحملة الشعبية للقدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009، هو "خيمة الاعتصام" في الشيخ جراح، وجرى الاحتفال الرئيسي في بيت لحم. قبيل انطلاق المؤتمر, طوقت قوات كبيرة من الشرطة والقوات الخاصة والمخابرات وقوات من الخيالة البوليسية خيمة الاعتصام بحي الشيخ جراح، وسلمت "ام كامل" امراً بمنع التجمهر فيها، رغم أن هذا الإجراء غير قانوني. بعد ذلك اعتدت على عدد من المشاركين في المؤتمر ومن الصحفيين والمصورين واعتقلت بعضاً منهم.
هناك من يرى أنه كان من المتوقع أن يقوم الاحتلال بايقاف الاحتفالية، حيث صرح عن نيته بذلك مسبقاً، خاصة وأن المكان مكشوف ومراقب باستمرار. ويعتبرون أنه كان بالامكان أن يستبدل إما بساحة المسجد الأقصى في ساعة صلاة الظهر حينما تكون ممتلئة بالمصلين، أو بساحة كنيسة القيامة، أو أن تجري الاحتفالية في منطقة باب الخليل التي تعج عادة بالسياح الأجانب حيث سيجد الاحتلال نفسه محرجاً باللجوء للقوة لايقاف الاحتفال أمام السياح الذين ستكون فرصة موآتية لتعريفهم بما يجري حقيقة في القدس المحتلة، أو في أماكن أخرى كان يفترض اختيارها بعناية.
آخرون وجدوا أن الاحتفالية كان يفترض أن تكون مناسبة لفضح جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني والعربي. وفضح كل محاولات التطبيع وإقامة العلاقات الديبلوماسية مع سلطات الاحنلال أو الاعتراف بها أو التنسيق معها أو إعطاء صورة عن الواقع أكثر زهاء. خاصة وأنه لا يمكن فصل النواحي الثقافية عن الجوانب السياسية والتاريخية والحضارية والوطنية. بحيث تكون الاحتفالية مناسبة للإعلان عن التمسك بالقدس وفلسطين وبأرض الآباء والأجداد، علماً أن أهالي القدس لا يستطيعون وحدهم بمئات آلافهم الثلاثة على أقصى حد انجاح الفعاليات والتعبئة لها طالما يحتاج الفلسطينيون الذين هم من خارج المدينة لتصاريح لتأمين دخولهم اليها.
هناك من ذهب لأبعد من ذلك بالاحتجاج على جدوى الاحتفالية وتبذير الملايين من الدولارات، بينما قدس الأقداس، عاصمة الثقافة العربية 2009، مهملة من النواحي المادية والمعنوية والحياتية، ومؤسساتها المختلفة ترزح تحت نير الاحتلال والضرائب والضغوطات بكافة أشكالها، وأهلها بأمس الحاجة لهذه الأموال لتعزيز صمودهم أمام بعض سماسرة الأراضي الذين يختطفون أراضيهم وبيوتهم ويسربونها للاحتلال وأمام أناس يسرحون ويمرحون من غير رادع ويغرقون أبناءهم بالمخدرات. ثم ما نفع الاحتفال بمدينة أشباح عاصمة للثقافة العربية عندما تفرغ تدريجياً من سكانها بعد أن تسحب هوياتهم ويهجّرون عن مدينتهم بالضغوطات المختلفة، في حين يقف الكل موقف المتفرج وليس سوى البيانات والاستنكارات للرد على ذلك.
كان على القدس إذن أن تدفع، إضافة لمعاناتها من الاحتلال وأعراضه، معاناة الخلافات بين الفلسطينيين أنفسهم المنقسمين بين برنامجين سياسيين وايديولوجيتين تقفان عند طرفي نقيض: المقاومة والتسوية. بما شوه وجه انطلاقة الاحتفالية وأبرز التنافر بين الفعاليات ومكان انطلاقتها وتحديد شخوصها وأهدافها وبرامجها. ذلك بدل الخروج بتفاهمات لتشكيل حالة شعبية ونخبوية متوحدة ومنيعة تحمي القضية ورمزها مدينة القدس من التصفية. علاوة على أن الخلافات العربية لم تساهم هي الأخرى في تعزيز صمود القدس واحياء ثقافتها، بمواجهة المزيد من الدعم للمؤسسات الصهيونية الموجودة في القدس.
لقد بات من الطبيعي ضمن هذه الصورة أن ينخفض النشاط الثقافي الذي يعاني من الممارسات الاسرائيلية ومن غياب الدعم له. إلى جانب أن القاعات المغلقة لن تفي بالغرض، مع منع الاحتلال التجمهر في الساحات، وأسرلة الإنسان الفلسطيني، وتقييد وتضييق إن لم نقل طمس كل ما يمت له بصلة بالقوة، من منشآت تربوية وثقافية وسياحية. وحيث يتم تداول رقم 920 انذار هدم اضافي هذه السنة وتشريد 17000 مقدسي - مقابل عرض أكثر من 5500 وحدة سكنية تمت الموافقة على 3000 منها وذلك فقط منذ مؤتمر أنابوليس نهاية 2007 - فالأمر يتطلب بالحاح مد يد العون لأهالي القدس بمساعدات عربية لتوفير أسباب الصمود لهم ازاء كل هذا الكم من الانتهاكات لحقوقهم.
تساؤلات مشروعة
يجدر بنا بعد كل هذا أن نتساءل أين المجتمع المدني العالمي مما يحدث في القدس، وأين الأطراف الأكثر حساسية فيه لقضيتها، أي العالمين العربي والإسلامي مما هم فيه أبناء القدس الشرقية؟ واذا كانت عملية تهويد المدينة جارية على قدم وساق، فلماذا ما زال العرب المعنيون أصلاً بالقدس كما الفلسطينيين، غافلون عموماً عن ذلك ؟ لماذا ترك المقدسيون لأمرهم يصارعون أوضاعاً ضاغطة وانتهاك حقوق على كل الأصعدة وكأن لا حياة لمن ينادون؟ ثم ألا يشكل ما ترتكبه اسرائيل تحد للسلام الذي تحاول اقناع العالم بأنها جادة في إقامته مع الفلسطينيين؟ وإذا كانت الدولة العبرية تقوض بما تقوم به من إجراءات عملية مصداقية محادثاتها مع الطرف الفلسطيني، معتبرة أن الشطر الغربي للقدس الذي احتلته منذ سنة 1948 ليس وحده العاصمة الأبدية لها وإنما أيضاً ما ضمته عام 1967، فأي دولة فلسطينية مقبلة وعاصمتها القدس الشرقية يمكن أن تلد من رحم هذه المعاناة وسلب الأرض وانتهاك الحقوق؟
في ظل المشهد الكارثي الذي يلف الأحياء العربية بمدينة القدس، كما في كل الأراضي الفلسطينية، يناشد المقدسيون كل أحرار العالم وأنصار الحقوق الإنسانية الأولية، الأشقاء والأصدقاء والمتعاطفين دعم صمودهم وإنشاء صندوق مالي للمساعدة واسكان المطرودين والمشردين. كما وتشكيل لجان قانونية متخصصة لمناهضة قوانين البناء والتملك ومزاعم المخالفات. خاصة بعد تعيين وزير خارجية اسرائيلي جديد يعلن أن اسرائيل غير ملزمة بالاتفاق الذي جرى التوصل له في مؤتمر السلام في انابوليس في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 حول قيام دولة فلسطينية، كون "الحكومة الاسرائيلية والكنيست لم يصادقا يوما على انابوليس". في حين أن خارطة الطريق التي يعترف عليها السيد ليبرمان، والتي هي خطة سلام دولية وضعتها اللجنة الرباعية الدولية حول الشرق الاوسط (الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وروسيا والامم المتحدة) وتنص على اقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل اقرت في صيف 2003، فهي لم تعدو كونها منذ ذلك الحين حبراً على ورق.
عندما كانت اسرائيل تدير شكلياً مفاوضات مع الفلسطينيين لمراضاة المجموعة الدولية التي تعتبر كل المستوطنات في الأراضي المحتلة منذ يونيو/ حزيران 1967 غير مشروعة، كانت واشنطن تناهض الاستيطان بالأقوال لا بالأفعال. بينما تتواصل الضغوط الأميركية على الشعب الفلسطيني وعلى مقاومته بالخصوص لاجبارها على تقديم التنازلات التي تريدها اسرائيل، مما سمح لهذه بالمماطلة وبفرض ما تريده. وفوق ذلك تسمع الادارة الأمريكية حالياً كلاماً من وزير يقول ان اسرائيل لا تتلقى الأوامر من اميركا، وأنها ليست الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة الأميركية، ولا تعلق عليها. كما لم تحرك ساكناً ازاء تصريحات رئيس الوزراء الجديد برفض مبدأ الدولتين التي طالما ذرت رماداً في العيون بخصوصها.
إذا كان تطرف الفئات التي شكلت الحكومة الحالية لن يقودها لاتخاذ قرارات إستراتيجية مثل الانسحاب، وتفكيك المستوطنات والاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين وما الى ذلك، فثمة سؤال يوجه للقوى السياسية الفلسطينيةأيضا: إلى متى سيستمر الانقسام الفلسطيني وتصدع المواقف وغياب اتفاق حول دولة يجتمع عليها كل الأطراف قادرة على تمثيل الجميع باختلاف مشاربهم؟ وإذا كان الاسرائيليون لا يريدون اكثر من التهدئة والتمسك بوهم الأمن المطلق عبر فرض سلام مهين على شعب مسحوق، وما معنى مطالبة الأطراف الفلسطينية بالرضوخ للشروط الإسرائيلية في حين يترك الطرف الإسرائيلي فوق المحاسبة وفوق النقد؟ إذا كان الزعماء الاسرائيليون الذين يتناوبون على السلطة يفتقدون للحكمة السياسية والشجاعة الأخلاقية للاقرار بأن أمنهم لن يتحقق طالما أنه قائم على شقاء من ينتهكون حقهم في دولة هي حق شرعي لهم، فهل أن الخيار يراوح بين منح الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية وهو ما يعني نهاية الدولة اليهودية، أو التطهير العرقي للفلسطينيين عبر تهجيرهم إلى الأردن، وهو ما يعني نهايتها الأخلاقية؟
لا شك بأن العدوان على غزة قد أعاد للقضية الفلسطينية راهنيتها وزخمها التحرري على الصعيد العالمي. ونحن اليوم كفضاء مدني غير حكومي أمام اختبار جد صعب وحساس: فمن جهة، ثمة فرملة رسمية غربية في الدفاع عن حل يضمن الحد الأدنى للشعب الفلسطيني، ومن جهة ثانية، ضرورة عزلة للدولة العبرية ولمن يدافع عنها يفترض أن تزداد بكل الوسائل بما في ذلك المقاطعة.
في وضع كهذا، هناك مسؤولية تاريخية على كل الحكومات العربية التي أصبحت مراقباً أصماً أبكماً لما يحدث. ولا بد من دعم مادي ومعنوي لسكان القدس لمواجهة عمليات استيطان وتهويد مدعومة بمليارات الدولارات وأكثر التيارات اليهودية ظلامية وتطرفاً. ان أي استنفار مادي ومعنوي عربي سيترك أثراً إيجابياً على صعيد التضامن المدني الدولي الذي يناضل بين سندانة الاحتلال والتواطؤ الغربي معه، ومطرقة الاستبداد في العالم العربي الذي يغيب المواطنة الصلبة القادرة على دعم كل أشكال المقاومة. إن انهاء نظام الفصل العنصري في آخر بلد احتلال، كما حصل في جنوب افريقيا سنة 1994 يعتبر الاختبار الأكبر لشعوب المنطقة وكل الأحرار في العالم.