بعد 11 أيلول (سبتمبر) دخل العالم في مرحلة جديدة لم يتسن له بعد أن يبصر حقيقة أبعادها علي مستقبله. وفي حين أصبح العنف الأهوج وإرهاب الدولة مباحاً باسم محاربة الإرهاب للأطراف التي تملك موازين القوي تفرض من خلالها رؤيتها علي بقية العالم، أصبح الدفاع عن النفس في ظل الاحتلال ينعت بالإرهاب.. سيادة منطق القوة علي قوة الحق سمحت بالقفز فوق الخطوط الحمر والقوانين الدولية لأشخاص لا يملكون من طاقات عقلية وسلوكيات سوية وتوازن نفسي يسمح لهم بالتحكم بمقدرات الشعوب. في حين تبدو هذه الأخيرة وكأنها تساق لحتفها بانصياعها للأوامر التي تتهدد مصالحها ومستقبلها من منطلق أن ما يضمن حقوقها هو احترامها لحقوق الآخر، ولم تتوصل قواها المعارضة أن تشكل وزناً كافياً يمكنه الوقوف بوجه ما يرتكب باسمها من مظالم وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. فكأن المواقف العلنية ما زالت تفصلها مسافة طويلة من السلوكيات التي تتحكم بها المشاعر العميقة والغرائز البدائية وكمونات اللاوعي المحملة بمخالفات البربرية والخوف من الآخر الذي قد يتهدد طمأنينة النفس. مع ذلك ما زلنا نعوّل علي هذه الأقليات، إن كان ذلك في إسرائيل أو أمريكا أو في البلدان العربية المعنية بما يجري في فلسطين، للانتقال إلي مواقع مناهضة فعلية لما يرتكب أمام أعينها من جرائم بحق الإنسانية.
أكثر من أي وقت مضي يتعرض الشعب الفلسطيني اليوم لأبشع هجمة علي حقوقه ووجوده حيث لم يخيب أرييل شارون ظن العالم والفلسطينيين به، عندما باشر بارتكاب جرائم جسيمة وعقوبات جماعية وفردية باستخدام الآلة العسكرية والأمنية الإسرائيلية دون وازع. فهو لم يحترم أي ميثاق أو عرف دولي من شأنه تنظيم الصراع المسلح بين البشر عندما أقدم علي قصف الشرعي وغير الشرعي من الأهداف واستهداف المواقع المدنية بأسلحة ثقيلة وممنوعة وتعزيز الحصار والتضييق علي التجمعات السكانية وحرمان الفلسطيني من قوته وعمله وتعليمه ووظيفته وممارسته لحقه في العيش بشكل محتمل. لقد تجاوز في عهده عدد الشهداء الألف والجرحي 25 ألفا وهدم المنازل والإضرار بها الآلاف، وزاد عدد المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية عن ثلاثة آلاف وأربعمئة معتقل. باختصار، لم تعد قوات الاحتلال تأبه باتفاقيات جنيف وخاصة منها الرابعة حتي عند مرور سيارات الإسعاف لنقل الجرحي.
قد لا تختلف الصورة الحالية كثيراً عن الأوضاع في فلسطين في ظل الانتفاضة الأولي التي انطلقت عام 1987. لقد شهد العالم حينها عمليات القتل والإعدام خارج القضاء وسياسة التصفيات لنشطاء الانتفاضة وهدم المنازل بشكل يومي ومصادرة الأراضي والاستيطان ومنع التجول والمداهمات. إلا أن تلك الانتفاضة وبالرغم من أن الفلسطيني كان الشاهد الأساسي والوحيد في العديد من الأوقات علي الأحداث، قد لاقت التعاطف والتأييد من المجتمع الدولي بإظهار واقع المعاناة الفلسطينية وبأن الاحتلال لا يمكن أن يتساوي مع حق تقرير المصير. لكن الانتفاضة الثانية التي ترافقت مع ثورة المعلوماتية وانتشار الفضائيات مع ما حملا من مواكبة وتفاعل مباشر بين من يعيش الحدث ومن يتابعه لم تتوصل لنفس النتائج.
لم يتغير الاحتلال ولا الشعب الفلسطيني ولا الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية بحقه، بل علي العكس زادت حدتها وأصبح كل مواطن فلسطيني ضحية متكاملة لهذا الاحتلال في حياته اليومية. لكن هذه المرة، رغم فداحة الخسائر وجسامة المعاناة وبكاء الرجال والنساء علي شاشات التلفزة، اختار العالم منذ الحادي عشر من سبتمبر، وخاصة المتحضر منه، أن يجعل من الضحية جلاداً. لقد حاول أن يعيد للأذهان كليشة أن كل فلسطيني إرهابي وأن شارون حمامة سلام وأن الإسرائيليين قدموا كل شيء من أجل السلام إلا أن الفلسطيني رفض ذلك لأنه يحب القتل والدم.
المظهر الجديد للانتفاضة الفلسطينية الثانية، مظهر حمل السلاح أو وجود السلاح في الأوساط الفلسطينية والعمليات المسلحة والاشتباكات غير المتكافئة بالسلاح، شكل هاجساً عند كل العاملين في أوساط منظمات حقوق الإنسان. لا ننسي أن استعمال السلاح الناري (البدائي نسبياً) كأحد أدوات الانتفاضة قد تبع سقوط عشرات المتظاهرين بالأسلحة الحية وطائرات الأباتشي والـ F16 وبطريقة تهدف للمبالغة في القتل والهدم. كان غياب التكافؤ بين الطرفين قاعدة عامة، لكن ما حققته طلقات متفرقة هو تصوير لأمر وكأنه حرب بين جيشين.
لم تكف التقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية ومناشداتها اليومية ولا تقارير المنظمات العربية والدولية التي تقصت الحقائق أو حتي تقارير الأمم المتحدة في إقناع أصحاب القرار في النظام العالمي الجديد بضرورة إرسال قوات حماية دولية أو حتي مراقبة دولية للجرائم الإسرائيلية. هذا المطلب ليس أكثر من خطوة لوضع حد للمعاناة اليومية وهو لا يغدو خطوة للأمام علي طريق ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة والحرية والاستقلال أسوة بباقي شعوب الأرض. وليس بالإمكان وضع المبادرات الرسمية العربية والعالمية في مستوي ما يحدث علي الأرض. فإنتاج الحقد والسعي الإسرائيلي الممنهج للقتل والهدم لا يمكن الرد عليه بتنازلات عن حق العودة هنا وأخري عن حدود السيادة الفلسطينية. ومن المؤسف أن يخرج أحد أنصار إسرائيل التاريخيين باستنتاج لم يتوصل إليه بعد عدد هام من الحكام العرب: بالسلم أو بالحرب، إسرائيل كما هي، لا مستقبل لها (جاك أتالي).
السؤال الذي يطرح نفسه بشدة الآن هو ما المطلوب القيام به من قبل أصدقاء الشعب الفلسطيني في حركات التضامن، من أنصار حقوق الإنسان الملتزمين بعالمية تلك الحقوق ومن منظمات المجتمع المدني العربية والدولية؟
لا يمكننا إنكار ارتكاب أخطاء فلسطينية ساهمت في ابتعاد العديد من حركات التضامن عن الاهتمام بالمنطقة. جزء منها يتعلق بمسيرة السلام من خلال تجاوزها في أوسلو لمبادئ حقوق الإنسان وتوقيع اتفاق منفرد أعطي صورة بأن الفلسطينيين قد حققوا الجزء الأكبر من حقوقهم، وما هي إلا خطوة أو اثنتين ويتم الانتهاء من قضية الشرق الأوسط. لكن ما هو أهم من ذلك هو نهج السلطة الفلسطينية في تغييب الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان وما أعقبته من خيبة أمل لدي أصدقاء الشعب الفلسطيني. كان الحلم الذي راود العديد منهم أن فلسطين ستكون أنموذجاً للديمقراطية في العالم العربي. هناك أيضا عوامل ثانوية مصدرها بعض تعبيرات المجتمع المختلفة التي لم تستطع الرد علي كل مرحلة ما بعد أوسلو بما ينسجم مع مبادئها وبوضع برنامج قادر علي الفعل في الظروف المتغيرة الجديدة. نقول ذلك ونحن ندرك أن عدة انتهاكات قامت بها السلطة الوطنية الفلسطينية سببها الضغط الإسرائيلي والتعنت أمام اتفاق يضمن الحد الأدني من الكرامة، إن لم يكن العدالة، للمفاوض الفلسطيني.
من التمديد الماراثوني لكل خطوة مهما كانت صغيرة واستغلال الوقت في مضاعفة عدد المستوطنات ومصادرة الأراضي وبناء الطرق الالتفافية وغيره. ما عرف بمفاوضات لاسلام بمجملها تجنبت الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، بل وعدداً من قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية.
المطلوب، في وقت يشمل فيه الحصار كل مواطن وشارع وقرية، من الطفل إلي رئيس السلطة الفلسطيني، هو استنفار جملة شبكات التعاون النقابية والحقوقية. ذلك من أجل إبراز الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة لحقوق الإنسان والعمل علي آليات المحاسبة ضمن نطاق الاختصاص القضائي العالمي، رغم كل أشكال المقاومة التقليدية للولاية الجنائية العالمية بما فيها قرار محكمة العدل الدولية الأخير. بالطبع، إلي جانب الدعم المادي الفعلي للنسيج المجتمعي الفلسطيني بما يسمح لهذا الأخير بمقاومة العنصرية الشارونية.
تقف المرحلة الحالية في النضال الفلسطيني عند مفترق طرق، حيث يمكن القول إنها مرحلة مصيرية تشبه في أهميتها عام النكبة. لقد أعادت أحداث أيلول (سبتمبر) فرز المفاهيم والتحالفات معطية اللوبي الصهيوني العالمي فرصة استعادة أنفاس كانت قد خلقتها العنجهية الشارونية. ففي غياب أية استراتيجية مواجهة لأصدقاء الشعب الفلسطيني والعالمين العربي والإسلامي، وفي حالة الهيجان التي تعيشها الإدارة الأمريكية التي لا تنظر لأبعد من أنفها، كان الكيان المستهدف بعد أفغانستان هو الكيان الفلسطيني وفكرة وجود دولة فلسطينية ذات معني ومبني تتمتع بحد أدني من المصداقية.
استقلال فلسطين يمكن أن يتحقق مع عودة الاعتبار للمواطنة في العالم العربي وتعاون الحاكم والمحكوم علي إعادة صياغة الهوية السياسية بحيث تتسع لكل الطاقات والخبرات والإمكانات. كذلك مع اتساع هامش الحرية الضروري لحفظ كرامة كل إنسان وكرامة الجماعة المهددة بالذل والبؤس.
وحيث أنه لكل دول العالم مصالح في هذا الجزء من العالم، فمقاطعة الغني مشروعة في كل الأعراف الدولية. كذلك، مناهضة التطبيع مع العنصرية يقرها فقه مقاطعة جنوب أفريقيا العنصرية. إنها تتطلب إلغاء التسهيلات العسكرية والاقتصادية للكيان العبري. هذا الإجراء الذي ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة و الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية و اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية ضروري لمحاربة دور الابن المدلل الذي تلعبه إسرائيل منذ ولادتها والذي رعي مجرمي حرب مثل شارون وتركهم يعيثون فساداً في الأرض. فالعالم كله مسؤول عن هذه العنجهية الإسرائيلية والحديث عن دول مارقة لا معني له عندما يغض النظر عن إسرائيل، أكبر دولة مارقة علي الصعيد العالمي والتي شرّعت وتبنت إرهاب الدولة في خطابها وممارساتها. هل بقي من جريمة ضد الإنسانية لم ترتكبها إسرائيل بعد؟
لابد من التذكير أن المجتمع الإسرائيلي الذي لا يقاوم سياسات حكومته التي تجر عليه الويلات، يؤثر علي سياساتها بترك فئاته الأصولية والدوغمائية تفرض قراءتها للواقع. لهذه الأغلبية المعادية للعرب نقول بأن كل طفل يلد في دولة إسرائيل سيجد أمامه جاراً فلسطينياً وسورياً ومصرياً وأردنياً إلخ ولن يكون جاره أمريكياً أو هولندياً. فتأصيل الظلم وإنتاج الحقد يعني بالضرورة غياب الأمن وتأبيد العنف في العلاقات بين الإنسانية. ولا معني للسلام بالتدخل الأمريكي المنحاز وبالوصاية الأمريكية، وإنما باعتناق نمط تفكير آخر يقوم علي احترام حقوق الإنسان الفلسطيني. هذا الاحترام هو المعبر الوحيد لوجود يهودي طبيعي في المنطقة العربية، لا يكون مستودعاً لأسلحة العدوان أو كياناً لا يرى الآخرين إلا من منظار التفوق والهيمنة.
* د. فيوليت داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمحامي محمد أبو حارثية مسؤول مركز القدس لحقوق الإنسان
|