عبد
الحسين شعبان* |
القضية
الكردية بين التأطير والتشطير! |
* مفكر
وباحث عراقي في القضايا الستراتيجية العربية والدولية، خبير في ميدان حقوق
الانسان، والقانون الدولي ( رئيس الشبكة العراقية لثقافة حقوق الانسان
والتنمية) له مؤلفات عديدة منها : النزاع العراقي- الايراني، عاصفة على
بلاد الشمس، بانوراما حرب الخليج، الصراع الايديولوجي في العلاقات الدولية،
القضايا الجديدة في الصراع العربي- الاسرائيلي، الاسلام والارهاب الدولي،
جامعة الدول العربية والمجتمع المدني، الاختفاء القسري في القانون الدولي،
السيادة ومبدأ التدخل الانساني، الانسان هو الاصل – مدخل الى القانون
الدولي الانساني وحقوق الانسان، وفقه التسامح في الفكر العربي- الاسلامي.
مقدمة
برزت
القضية الكردية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921(1)،
وقد وردت الاشارة اليها في قرار لمجلس وزراء الحكومة العراقية الموقتة،
التي نادت بالامير فيصل الاول ملكاً على العراق، وذلك حين جرى التأكيد على
مشاركة الاكراد في انتخابات المجلس التأسيسي وفقاً لما نصت عليه معاهدة
سيفر. ويذكر ان معاهدة سيفر التي تم توقيعها في آب (اغسطس) 1920 بين دول
الحلفاء والحكومة التركية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، نصت على حق
الشعب الكردي بالتمتع بشكل من اشكال الحكم الذاتي يمكن أن يتحّول الى نوع
من الاستقلال مع السماح لاكراد كردستان الجنوبية ( اكراد العراق) بالإنضمام
إليهم اذا رغبوا بذلك(2).
تم التراجع عن
معاهدة سيفر باقرار معاهدة لوزان في تموز (يوليو) 1923 بين الحلفاء وتركيا
بمساومة معروفة، ومعها تراجعت أيضاً القضية الكردية وحقوق الاكراد. ولذلك
ظلت القضية الكردية دون حل ومصدر قلقٍ وتوتر للعديد من دول المنطقة. وكانت
على النطاق العراقي تزداد تعقيداً مع مرور الايام، وبالقدر الذي كانت تكتسب
أهمية متزايدة سواءاً على صعيد الحكم او الحركة الوطنية العربية والكردية،
فإنها تركت تأثيرات انسانية خطيرة على وضع الاكراد ناهيكم عن تأثيراتها
السلبية على دول المنطقة.
لم يتجاهل
الانتداب البريطاني الذي فرض على العراق في 25 نيسان(ابريل) 1920 وجود
الاكراد وحقوقهم، فقد نصت المادة 16 على إن " لا شيء مما في هذا الانتداب
يمنع المُنتدِب من تأسيس حكومة مستقلة ادارياً في المقاطعات الكردية...".(3)
ولم تفلح ثورات
النجف 1918 والسليمانية بقيادة الشيخ محمود الحفيد 1919 والثورة العراقية
الكبرى التي عُرفت باسم " ثورة العشرين" في 30 حزيران (يونيو) 1920، من
تحقيق أهداف الشعب العراقي في الاستقلال والتخلص من السيطرة البريطانية
والانتداب وحل مشكلة الحكم في العراق على نحو سليم وبضمنها القضية الكردية.
وبقراءة
ارتجاعية تقويمية للدولة العراقية منذ تأسيسها يمكننا القول ان الحكم في
العراق عانى من إختلالات بنيوية في العديد من القضايا والمسائل العقدية
وإنْ كان بدرجات متفاوتة ولعل اهمها:
الاولى -
ضعف البنى والتراكيب التي قامت عليها الدولة العراقية
تعرضت التجربة
الوليدة في الدولة الناشئة الى التعثر، إذ غالباً ما تم التجاوز على دستور
عام 1925 (القانون الاساسي) سواءاً في موضوع الانتخابات أو الحريات أو حقوق
الانسان مما أضعف ثقة المجتمع بالدولة. وعلى الرغم من حدوث التغيير في
الحكم وإستبدال النظام الملكي بنظام جمهوري بقيام ثورة 14 تموز
(يوليو)1958، الاّ ان البلاد ظلت ُتحكم بالدساتير الموقتة والأنظمة
الانتقالية وأحكام الطوارئ والقوانين الإستثنائية، مما عزز غياب دولة
القانون والنظام الدستوري وهيمنة الأساليب والوسائل الفردية والإستبدادية
والتجاوز على الحقوق والحريات(4)، بل إن الصورة إزدادت قتامة مع
مرور الأيام.
الثانية -
عدم تلبية مطالب الشعب الكردي
ظلّت القضية
الكردية دون حل مما أدّى الى تبديد طاقات العراق في حرب داخلية إستمرّت
لسنوات طويلة، ولم تتمكن الحكومات التي لجأت الى الحلول العسكرية وإعتبرها
القادة العسكريون بمثابة " نزهة" لا تستمر سوى أيام أو أسابيع، وإذا بنا
أمام حرب بل " حروب مستمرة " ومتواصلة لقمع الثورات والتمردات الكردية، كما
لم تتمكن الحركة الكردية من تحقيق أهدافها باللجوء الى الوسائل العنفية،
وهُدرت إمكانات بشرية ومادية طائلة دون جدوى، وكان الطرفان يعودان الى
التفاوض عندما تفشل الحلول العسكرية والعنفية سواء لحين طريق هدنة طويلة أو
اتفاقات يتم الالتفاف عليها وليس بمعزل عن قصور نظر داخلي او عبر تأثيرات
وضغوط خارجية.
الثالثة-
تعاظم وإزدياد المشكلة الطائفية
حدث ذلك خصوصاً
مع صدور قانون الجنسية العراقية رقم 42 لسنة 1924 وتجلّياته، حيث وضع
درجتين للجنسية "أ" و"ب". الصنف الأول هو لرعايا الدولة العثمانية السابقة،
والصنف الثاني للرعايا غير التابعين للدولة العثمانية، مما أدى الى نشر
بذرة التمييز، التي إتخذّت بُعداً جديداً، وقد استندت اليها الحكومات
المتعاقبة مما أحدث تفاوتاً في درجات المواطنة ترك تأثيره السلبي وخصوصاً
الشعور بالحيف لدى بعض الفئات، التي تعرضت للتهجير ونزع الجنسية تعسفاً.(5)
القضية
الكردية: خصوصية واشكاليات !
تكتسب القضية
الكردية أهمية خاصة تتعدى حدود العراق كدولة، فالشعب الكردي مجزءٌ الى
أجزاء عدّة، فإضافة الى العراق التي يعيش فيها نحو اربعة ملايين كردي، يعيش
في إيران نحو عشرة ملايين كردي وفي تركيا أكثر من ستة عشر مليون كردي، وفي
سوريا اكثر من مليون كردي ونحو ربع مليون كردي في الاتحاد السوفياتي سابقاً
بمساحة تقدر نحو أربعمئة الف كيلومتر مربع حسب بعض المراجع.(6)
وللمنطقة
الكردية أهمية جيوسياسية إستراتيجية وإقتصادية، خصوصاً بوجود النفط اضافة
الى كونها تحفل بصراعات قومية ودينية وبمشاكل إثنية وعرقية غير قليلة، تؤثر
على دول المنطقة وعلى المصالح الاقليمية والدولية. وفي العراق حظيت المسألة
الكردية بمكانة خاصة بعد ثورة 14 تموز (يوليو)1958، وذلك حين نصّ الدستور
الموقت الأول الصادر في 27 تموز(يوليو) 1958 على " شراكة العرب والاكراد"
، لكن همينة العسكر على مقاليد الأمور وتضييق هامش الحريات والاستدارة
نحو الحكم العسكري الفردي، أدّى الى إنتكاسة الحل السلمي للقضية الكردية،
الامر الذي دفع قياداته الى حمل السلاح حيث بدأت مرحلة جديدة باندلاع ثورة
ايلول (سبتمبر) الكردية عام 1961، وقد كان شعار الحركة الوطنية هو
"الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان".
وعلى رغم
الاطاحة بعبد الكريم قاسم في 8 شباط (فبراير) 1963، لكن القضية الكردية لم
يتم حلّها بل إزدادت تعقيداً خصوصاً بتصعيد الحملات العسكرية ضد الشعب
الكردي وقصف العديد من المناطق المدنية واللجوء الى الحل العسكري، الذي ظل
بإستمرار خياراً للحكومات بإستثناءات محدودة كما حصل في حكومة الدكتور
عبد الرحمن البزاز في 29 حزيران(يونيو) 1966 وبيان 11 آذار(مارس) 1970،
وهذه الحلول ما لبثت أن تعثرت بدورها.
ويمكن القول ان
دستور عام 1970، الذي إعتبر العراق يتكّون من قوميتين رئيستين هما
العربية والكردية، كان متقدماً في وقته كما إن الإقرار بالحكم الذاتي
وصدور قانون عام 1974 رغم عيوبه ومثالبته، الاّ ان تسويفه وإجهاضه كان هو
السبب في منع التجربة من التقدم، ناهيكم عمّا لحق بالشعب الكردي من إضطهاد
وقمع عقب صدامات عام 1974-1975 وبخاصة بعد اتفاق شاه ايران – صدام حسين
المعروفة بإسم " إتفاقية الجزائر" في 6 آذار (مارس)1975.(7)
ومن خلال
استعراض تاريخ القضية الكردية يبرز إتجاهان أساسيان:
الاول:
يرجح الحل العسكري وتعود جذور هذا التيار الى بعض النزعات
الاستعلائية والتنكر لحقوق الشعب الكردي، خصوصاً ان البعض يعتبر الاكراد "عرب
سكنوا الجبال"، وبغض النظر عن أخطاء القيادات الكردية ومواقفها فإن
الجذر الفكري لهذا الاتجاه ينتمي الى المدرسة القومية التقليدية، وإنْ كان
قد حصل بعض التطور خصوصاً في أواخر الستينات والسبعينات، فإن بعض الخلط
يجري أحياناً بين الموقف من حقوق الشعب الكردي، وبين الموقف من أخطاء أو
تحالفات بعض القيادات الكردية وتعويلها على القوى الخارجية.
ولعل ما يقابل
هذا الإتجاه ورد فعل له أحياناً، هو ضيق الافق القومي والوطني لدى
بعض التوجهات الكردية واستعدادها للتحالف مع قوى معادية للعراق وفي ظروف
ملتبسة على أمل الحصول على بعض المكاسب، وقد حصل الامر فيما يتعلق بالعلاقة
مع ايران الشاه وبعد الثورة الاسلامية، وكذلك في العلاقة مع الولايات
المتحدة، في السبعينات وفيما بعد في التسعينات وخلال التحضير لاحتلال
العراق عام 2003 وما بعده، وكذلك ما جرى الحديث عنه في السابق وفي الحاضر
عن علاقات كردية-اسرائيلية(8).
الثاني:
هو الإتجاه الذي انتشر على المستوى الشعبي، والذي يدعو الى إعتماد الحل
السلمي للقضية الكردية والإعتراف بحقوق الشعب الكردي وبشراكته في الوطن
العراقي سواءاً عن طريق الحكم الذاتي أو شكل من أشكال الفيدرالية أو أيّة
صيغة تضمن هذه الحقوق. وقد تطوّرت نظرة معظم القوى السياسية العراقية من
القضية الكردية، الماركسية واليسارية منها وكذلك الليبرالية، إضافة الى
القوى القومية العربية والإسلامية في هذا الاتجاه.
أما الاختلاف
فإنه قائم اليوم وهو يتعاظم أحياناً، بتعاظم دور الأكراد وبعض النزعات التي
طفت على السطح بعد الاحتلال الامريكي – البريطاني للعراق، والتي يعتبرها
فريق كبير تنكرّاً للصداقة ومحاولة فرض الأمر الواقع في لحظة ضعف الكيانات
العربية والعراقية الأخرى، في أمر مضمون هذه الحقوق وحدودها ومستقبلها،
فضلاً عن إختلاف زاوية النظر اليها، بما في ذلك ما يتعلق بوحدة العراق
أرضاً وشعباً.
لم يكن من
السهل على العديد من القوى قبل بيان 11 آذار (مارس) 1970 قبول فكرة
الحكم الذاتي، فما بالك بصيغة أرقى إذا ما تجاوز الأمر حدودها النظرية
ومواقفها من القضية الكردية خصوصاً في ظروف ملتبسة وفي ظل الاحتلال؟ إن
العودة الى بعض الاطروحات القديمة التي تشكك بحقوق الشعب الكردي ككل، تجد
لها الآن ما "يبررها" ويختلط الثانوي بالأساسي والتكتيكي، واليومي
بالاستراتيجي والبعيد المدى، وذلك يشمل جميع الفرقاء. ونجد اليوم من
الفريقين من يدفع نحو القطيعة وذلك بسبب الشعور بالتقوقع والرغبة في الحصول
على المكاسب أو إنكار حقوق الآخر، أو تعاظم نزعات الانكفاء على الذات في ظل
الإتهامات التي يكيلها كل طرف للطرف الآخر.
القضية
الكردية إقليمياً
الورقة الكردية
كانت قابلة على الدوام لـ "اللعب والاستثمار" من قبل القوى الدولية
والاقليمية، بما فيها المخططات الامبريالية والصهيونية، فالقضية الكردية
إضافة الى كونها نزاعاً داخلياً في كل من تركيا وايران والعراق بدرجة
رئيسية، فانها مصدر للخلاف ولتحريك الصراع بينها، كما أنها بالقدر نفسه
مصدر إتفاق ومساومة وصفقات بين الحكومات التي يجمعها قاسم مشترك اعظم هو
التنكر للحقوق القومية للشعب الكردي، لهذا كله ظلت بؤرة ساخنة وعامل قلق
دائم.
بعد إخفاق
الانتفاضة الكردية في العراق إبان الحرب العالمية الثانية إنتقل بعض
الاكراد العراقيين للقتال الى جانب الاكراد الايرانيين عند قيام جمهورية
مهاباد عام 1947، ومن المفارقات ان يكون الحكم قد صدر بالإعدام في كل من
العراق وايران بحق الملا مصطفى البارزاني، الذي إلتجأ الى الاتحاد
السوفياتي السابق، ولم يُلغَ هذا الحكم عن البارزاني الاّ بعد عودته الى
العراق عام 1958 ، وظلّ الحكم عليه قائماً في ايران حتى عام 1968 على رغم
قيام بعض الاتصالات بين الحركة الكردية في العراق ونظام الشاه قبل هذه
الفترة (9) .
كان إقرار "
شراكة العرب والاكراد في الوطن العراقي " 1958 وتحقيق بعض المنجزات
القانونية والادارية للشعب الكردي 1970، أثره في إستنهاض الشعور القومي
الكردي في كل من ايران وتركيا، وقد سارعت ايران بعد إندلاع الحركة المسلحة
في كردستان العراق 1961، الى الاتصال بقيادتها منذ العام 1962، وأغلب الظن
أن الصلة تعززت بعد عام 1964، حين أرسل شاه ايران مبعوثاً خاصاً للاتفاق
على صيغة التعاون، كما تقول وثيقة بإسم الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)
اثناء احتدام الخلافات، في العام 1979 (10).
وعند إعلان
بيان 11 آذار (مارس) 1970، الذي هو بمثابة إتفاق بين الحكومة العراقية
والثورة الكردية على إنهاء القتال ووضع أسس حل سلمي، لم تكن إيران مرتاحة
من تثبيت بعض الحقوق الكردية، خصوصاً إنّ العلاقات الايرانية-العراقية كانت
على درجة عالية من التوتر، حيث أقدمت إيران على إلغاء معاهدة عام 1937
العراقية- الايرانية، بخصوص تنظيم الحدود من طرف واحد خلافاً للقانون
الدولي، وهو ما أقدم عليه النظام السابق حين تم تمزيق اتفاقية 6 آذار(مارس)
لعام 1975 في 17 ايلول (سبتمبر) 1980 عشية الحرب العراقية- الايرانية.
قد يصح القول
إستناداً الى التجربة التاريخية، خصوصاً بعد إندلاع القتال بين الحكومة
العراقية والحركة الكردية عام 1974، ان إيران التي تخلّت عن دعم الحركة
الكردية عام 1975، لم تستهدف من معاونتها للحركة الكردية دعم الشعب الكردي،
وإنما إضعاف العراق وإشغال جيشه في نزاع داخلي في حين كانت اسرائيل هي
المستفيد الاول من ذلك، وعندما إصطدمت مصالح ايران مع الحركة الكردية،
أقدمت على الفور على قطع المساعدة عنها.
ويقول تقرير
للمستر بايك(11) قدّم الى الكونغرس في 9 كانون
الثاني (يناير) 1976، ان شاه ايران لم يعتبر مساعدته للحركة القومية
الكردية في العراق سوى " ورقة يلعب بها في النزاع مع جيرانه"، وبالمقابل
فإن بغداد بعد انتصار الثورة الايرانية في شباط (فبراير) 1979، عمدت
الى استخدام سلاح الشاه في مدّ يد العون الى أكراد "العدو" مشجعةً إيّاهم
على مواجهة السلطة الجديدة وخلق المتاعب بوجهها، مبديةً حرصاً زائفاً على
مطالب الشعب الكردي في ايران في حين كانت توغل في اضطهاد الشعب الكردي في
العراق، كما أنّ القيادة السورية كانت تستقبل القيادات الكردية
العراقية وتبدي تعاطفاً مع اكراد العراق، في حين تمتنع من تلبية بعض الحقوق
الكردية بما فيها منح عشرات الآلاف منهم الجنسية السورية وإعتبارهم
مواطنين.
وفي أواسط
الثمانينات خصوصاً في ظل الاحتراب الكردي – الكردي العراقي وفي ظروف الحرب
العراقية- الايرانية، إنقسمت الحركة الكردية العراقية، فالحزب الديمقراطي
الكردستاني (حدك) تعاون مع ايران، في حين تعاون الاتحاد الوطني الكردستاني
(أوك) مع الحكومة العراقية، وخصوصاً عشية وبُعيد مجزرة بشتاشان 1983 ضد
الانصار الشيوعيين في كردستان، ومن المفارقة ان قيادة الحزب الديمقراطي
الكردستاني (حدك) إستعانت بالحكومة العراقية عام 1996، لإستعادة أربيل من
الاتحاد الوطني الكردستاني (اوك)، الذي كان يتعاون مع ايران في تلك الفترة،
بما يؤكد فكرة تلاعب القوى الاقليمية والدولية بالقضية الكردية ومحاولة
إستغلالها، واضطرار القيادات الكردية تحت ضغط إصرار الحكومات العراقية على
عدم تلبية مطالب الشعب الكردي المشروعة، لمثل هذا التعاون، الذي ألحق ضرراً
بليغاً بالشعب الكردي، وبقضيته، وبمستقبل علاقاته بجيرانه:ً العرب بعامة
وعرب العراق بخاصة.
أما
الولايات المتحدة فقد كانت حريصة على ان لا يحصل أي اتفاق بين الحركة
الكردية وبين الحكومة العراقية في التسعينات وخلال فترة الحصار الدولي
والعقوبات. وقد تحدثت قيادات كردية عن ذلك بعد الاتفاق الأولي بينها وبين
الحكومة عام 1991، وقالت أن هناك ضغوطاً أميركية حالت دون تحقيق الاتفاق،
ما يؤكد ان هذه القضية التي أخفقت الحكومات في حلّها سلمياً، كانت تستثمرها
قوى خارجية دافعةًً الامور باتجاه التباعد، والصدام، وتشجيع النزاعات على
حساب التعايش والوحدة الوطنية، وهو ما شكّل خسارة للجميع.
وقد أخذت
قيادات كردية تستذكر مواقف كيسنجر عام 1974-1975، حين تمت التضحية
بالقضية الكردية في تلك المساومة المعروفة وهو ما كان وزير خارجية الولايات
المتحدة آنذاك يرددها في سياق رؤيته للفارق بين السياسة والاخلاق. ولعل
الموقف من أحداث حلبجه وعمليات الأنفال عام 1988 خير دليل على إزدواجية
المعايير وإنتقائية المواقف من قبل الولايات المتحدة، التي سكتت عنها أو
برّرتها آنذاك، ثم عادت الى التهديد بها بعد غزو القوات العراقية للكويت
في 2 آب (اغسطس)1990.(12)
وعلى الرغم من
دعم طهران للحركة الكردية العراقية في أواخر السبعينات والثمانينات،
فانها قد لاحقت الحركة الكردية الايرانية، بل هناك اتهامات تشير الى ضلوعها
في اغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو في النمسا.
اما في
تركيا فان الموقف من القضية الكردية ظلّ قاصراً، حيث عانى الاكراد
سياسة التتريك والحرمان من الحقوق لنحو سدس سكان تركيا، الذين كان يطلق
عليهم مصطلح " الأتراك الجبليين"، وعملياً هضمت حقوق أولية للكرد،
بما فيها حق التعليم بلغتهم ناهيكم عن إن كلمتي " كردستان" و "كردي" كانتا
ممنوعتين من التداول والاستخدام منذ الثلاثينات وحتى وقت قريب، بل إن بعض
مواد القانون الجنائي التركي والقانون الخاص بتأسيس الاحزاب تعاقب من يقوم
باستخدم هاتين الكلمتين.
وكان قانون
الاحزاب الصادر عام 1984 في تركيا قد حظر على الاحزاب السياسية " الدفاع عن
فكرة وجود أية أقليات قومية" مشيراً الى اللغة والثقافة التركية فقط فما
بالك بحق الكرد في حكم أنفسهم بأنفسهم في حكم ذاتي او وفق أية صيغة أخرى(13).
أما إيران
فقد تنكرت لحقوق الاكراد في عهد الشاه، وإعتبرت بعض الإتجاهات المتنّفذة
بعد الثورة الاسلامية الحديث عن المسألة القومية، هو بدعة وضلال،
لأن المسلمين متساوون "كاسنان المشط" في محاولة للتنكر وعدم الاعتراف بحقوق
الكرد، رغم أنه حصل بعض التطور في الترخيص لمراكز ثقافية وهيئات اجتماعية
وغيرها في السنوات الاخيرة، الاّ أن ذلك لم يرقَ الى صيغة الاقرار بحقوق
الاكراد كأقلية متميزة ولها مطالبها.
ومن المفارقات
الاخرى ان الحركات الكردية العراقية والايرانية والتركية خصوصاً حزب
العمال الكردستاني PKK
بقيادة عبدالله اوجلان كانت علاقاتها تسوء فيما بينها بحسب القرب او
البعد من الحكومات أو لاعتبارات ضيقة، لا تأخذ المصالح القومية الكردية
العليا في الاعتبار، ما جعل بعض الحكومات ينفرد ببعض الحركات أو يحاول
توظيفها ضد شقيقاتها.
مواقف القوى
العراقية
حتى وقت قريب
كانت برامج معظم الأحزاب السياسية القومية العربية تخلو من تحديد واضح
للمسألة القومية الكردية في العراق، خصوصاً عندما تكون قريبة من مواقع
السلطة، ولم ينظر التيار الاسلامي بشقيّه الى المسألة القومية الكردية
باعتبارها أحد أركان مشكلة الحكم في العراق، ولهذا لم يبلور حلاً واضحاً
بخصوصها سوى الدعوة للمساواة من زاوية أقرب الى الاخلاق منها الى السياسة.
واذا كان اليوم
قد جرى تأكيد شعار " الحكم الذاتي" وفيما بعد " قبول الفيدرالية" إرغاماً
أو قناعة جزئية في برامج وأنشطة مشتركة خصوصاً مع الاحزاب الكردية، فإن هذه
القوى والأحزاب تختلف الى حدود غير قليلة حول مضمون ودلالات هذا الشعار وما
يشمله. وفي التطبيق العملي فإن التيار الماركسي أيضاً لم يخلُ من التشوش في
الموقف من الحركة القومية ومن الحل المطروح وذلك بالقرب او البعد من مواقع
السلطة أيضاً، رغم تقدم أطروحاته النظرية بصدد الحل المنشود للقضية
الكردية وعلى اساس حق تقرير المصير.
من الحركات
القومية العربية التي إتخذّت منذ وقت مبكر موقفاً متميزاً من الحركة
الكردية وتأييد فكرة الحكم الذاتي على اساس حق تقرير المصير هي الحركة
الاشتراكية العربية بعد مؤتمرها، الذي إنعقد عام 1968. اما الحزب الاشتراكي
وبعض الشخصيات والتنظيمات الناصرية فقد وافقت على فكرة الحكم الذاتي وفيما
بعد على فكرة الفيدرالية بدرجات متفاوتة. وكان حزب البعث - قيادة قطر
العراق (المدعوم من سوريا) قد أيّد فكرة الحكم الذاتي للاكراد خصوصاً بعد
قرار المؤتمر القومي الحادي عشر (دمشق- 1971) أما حزب البعث في العراق فانه
كان قد بلور فكرة " اللامركزية" عام 1963 بديلاً للحكم الذاتي، لكنه فيما
بعد ساهم في التوصل الى بيان 11 آذار (مارس) 1970 للحكم الذاتي وأصدر "
قانون الحكم الذاتي " عام 1974 الذي رغم نواقصه وثغراته يعتبر خطوة متقدمة
في حينها، وخصوصاً ما تضمنه دستور 16 تموز (يوليو) 1970(14).
وبخصوص الحركة
الاسلامية العراقية، فإن أول حزب اسلامي وافق على فكرة الحكم الذاتي
الحقيقي كان حزب الدعوة الاسلامي في برنامجه الصادر في آذار(مارس) 1992،
وخلا مشروع السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاسلامي الاعلى،
الذي عرضه في مطلع العام 1992 من الاشارة الى موضوع الحكم الذاتي.
وحين وافقت
القوى الاسلامية في مؤتمرات المعارضة وخصوصاً مؤتمر صلاح الدين عام
1992، على الفيدرالية أردفتها بكلمة " الولايات" ذات الابعاد
الاسلامية، لكن البرامج الخاصة للاحزاب الاسلامية بما فيها قائمة الائتلاف
الوطني العراقي إتخذّت منحىًٍ آخر بعد احتلال العراق وشروعها بطرح فكرة
الفيدرالية للقسم الجنوبي من العراق، وفي إطار مناقشات الدستور الدائم الذي
تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الاول(اكتوبر)2005، ويعني ذلك قبول المبدأ
الفيدرالي للمنطقة الكردية ولبقية مناطق العراق وفقاً للرؤية الخاصة التي
كان قد عرضها السيد عبد العزيز الحكيم(15) ولعل تصويت البرلمان
العراقي على قانون الاقاليم وتأجيل تطبيقه الى 18 شهراً يعني فيما يعنيه أن
الاشكالية ستبقى قائمة وربما تنفجر عند مناقشة موضوع تعديل الدستور حسبما
هو مقرر ومتفق عليه.
أما الحزب
الاسلامي العراقي وجبهة التوافق العراقية وقوى أخرى، فإنها وإن كانت قد
تحدثت عن خصوصية القضية الكردية، لكنها لم تذهب الى تاييد الفيدرالية
الكردية صراحة أو تبريرها، وعارضت بشدة فكرة الفيدرالية لوسط وجنوب العراق،
وإعتبرتها خطوة للتقسيم، وهو ما تؤكده حتى عندما وافقت على دخول الانتخابات
الاخيرة في 15 كانون الاول (ديسمبر)2005، و كان قد تم الاتفاق على تعديل
الدستور، الذي تم التصديق عليه، بعد 4 أشهر من اجراء الانتخابات. وهناك
الكثير من الألغام والعقبات على هذا الطريق. ورغم تشكيل لجنة لصياغة
التعديلات تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، الاّ أنها لم تثمر عن شيء حتى الآن.
وتطمح جبهة التوافق ومعها قوى اخرى في تثبيت نصٍ يؤكد موضوع وحدة العراق
على أساس واضح وصريح بما يبعد فكرة الفيدرالية الجنوبية.
أما التيار
الماركسي والحزب الشيوعي، فقد تبنيّا فكرة الاستقلال الذاتي للاكراد
عام 1956 في الكونفرنس الثاني للحزب، وفي العام 1970 أكدّ على حق تقرير
المصير لجميع الامم صغيرها وكبيرها وحق التحرر من نير الاضطهاد القومي
وإنشاء الكيان القومي المستقل والموحد لكل أمة في معرض حديثه عن الامة
الكردية المجزأة. ومن الجدير بالذكر إن الحزب قد رفع شعار الفيدرالية
منذ العام 1991، وهو ما أكدّه مؤتمره الخامس المنعقد في تشرين الثاني
(نوفمبر) 1993.(16)
لقد خرجت
القضية الكردية في العراق من الدائرة المحلية الى الدائرة الدولية،
لتصبح من أعقد القضايا الحادة، التي تتطلب حلولاً عاجلة وسريعة وذلك
بالارتباط بحرب الخليج الثانية ومشاهد الهجرة الجماعية للأكراد وبعد قمع
"انتفاضة" آذار(مارس) 1991. وإذا ما استثنينا القضية الفلسطينية وعدوانات
اسرائيل المتكررة والبعد الانساني والسياسي لقضية اللاجئين لرأينا أن
القضية الكردية هي في طليعة القضايا ذات البعد الانساني والسياسي الاكثر
سخونة وإلتهاباً بعد القضية الفلسطينية، ليس في العراق حسب بل على صعيد
الامة الكردية التي تعاني مثل الامة العربية من التجزئة والتقسيم.
وقد شكل صدور
القرار 688 في 5 نيسان (ابريل)1991 عن مجلس الامن الدولي العودة الجديدة
الى الاروقة الدولية وتحديداً في اطار الامم المتحدة منذ معاهدة سيفر 1920.
ويمكننا القول ان هذا القرار هو القرار اليتيم والتائه والذي ظل
منسيا من بين جميع قرارات مجلس الامن التي بلغت ما يزيد عن 60 قراراً
مجحفاً صدرت كلها ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات واستخدام جميع
الاجراءات بما فيها القوة لفرض امتثال الحكومة العراقية لجميع تلك القرارات
الجائرة والمذّلة واللاانسانية باستثناء هذا القرار الوحيد، الذي انتصر
للشعب العراقي حين دعا الى كفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية
لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق
العراق بإعتباره تهديداً للسلم والامن الدوليين.
ومن المفارقة
ان القرار 688 لم يصدر ضمن الفصل السابع ولم يصرّ مجلس الامن على تطبيقه
اسوة بالقرارات الدولية الاخرى، كما لم تضغط الولايات المتحدة على تنفيذه
دون قيد او شرط كما فعلت بالنسبة الى قرارات الحصار الدولي، وكذلك لم توافق
عليه الحكومة العراقية، التي وافقت على جميع القرارات الدولية المجحفة.(17)
مستقبل
القضية الكردية
إن قيام أوضاع
سلمية وطبيعية واجراء انتخابات حرة لإختيار ممثّلي الشعب في برلمان عراقي،
سيطرحان المسألة مجدّداًً على بساط البحث، ويحتاج الأمر من الآن الى نقاشات
علنية صريحة وواسعة في إطار توفير قناعات مشتركة وعامة لتامين معالجة سليمة
للقضية الكردية ومسألة الفيدرالية وفي ظل ضمانات قانونية ومشروعة لتطور
العلاقات العربية – الكردية، في اطار عراق دستوري موحد.
وللأسف فان
"الضمانات" التي جرى الحديث عنها في قانون ادارة الدولة العراقية
للمرحلة الانتقالية الصادر في 8 اذار (مارس) 2004 او في الدستور
العراقي الدائم، الذي تم الاستفتاء عليه قد أثارت الكثير من الاشكاليات
والتداعيات وربما ستثير المزيد منها يوم يناقش الموضوع في المستقبل عند
مناقشة التعديلات، ما يقتضي البحث عن صياغات مقبولة فيما يتعلق بهذه
الضمانات أو بغيرها لتاسيس العلاقات والاتحاد الطوعي على نحو تعاقدي ووفقاً
لعقد سياسي اجتماعي جديد وليس بنصوص مشوّشة، وفي ظرف ملتبس من جانب مجلس
معيّن وليس منتخب او في ظل انتخابات في ظروف الاحتلال، رغم أنّ هناك
تمثيلاً واسعاً لطيفٍ من القوى السياسيّة، ولكن غياب قوى وتيارات عديدة عن
المشاركة.
يضاف الى ذلك
إن صدور الدستور في وقت وقوع العراق تحت الاحتلال بموجب قرار مجلس الامن
الدولي رقم 1443 الصادر في 22 ايار (مايو) 2003، أو القرارات التي تبعته
بما فيها القرار رقم 1500 او 1511 او 1546، يجعل تلك الضمانات غير مضمونة،
فضلا عن إمكانية الطعن بها من الناحية القانونية والسياسية ، ولذلك وعلى
صعيد الوضع المستقبلي يقتضى الامر البحث عن ضمانات دستورية لتامين الشراكة
العربية - الكردية مع بقية الاقليات، وفي ظل أوضاع سليمة وبعيدة عن
التداخلات الخارجية التي تجرح السيادة الوطنية العراقية وتعوّمها.
ويمكن القول أن
هناك تحديات وتهديدات ومخاوف تعترض طريق العلاقات العربية -الكردية،
ليس على صعيد الوضع الداخلي العراقي وحده، وإنما على الصعيد العربي
والاقليمي والصعيد الدولي أيضا واهمها(18):
1- محاولة
عزل الكرد عن المحيط العربي
وإضعاف ما هو مشترك وايجابي في تاريخ العلاقات العربية – الكردية وتقديم ما
هو خلافي وإشكالي. وقد يذهب البعض الى تحميل عرب العراق بل العرب عموماً ما
قام به النظام العراقي طيلة السنوات العجاف الماضية، فستساهم هذه النزعات
في تعميق الخلاف، وتثير نقاطا خلافية اخرى، ولعل التحفّز والإستقطاب،
اللذين حدثا في كركوك والموصل عقب احتلال العراق ومناطق أخرى ليسا بعيدين
عن المساعي المحمومة لإحداث نوع من الصدع في الوحدة الوطنية، وخصوصاً
الصدامات وأعمال العنف والإحتكاكات الإثنيّة والرغبة في الاستحواذ على
مراكز النفوذ.
وليس من باب
الاتهام المسبق الاشارة الى ان بعض القوى الخارجية والاقليمية، ظلّت تعزف
على هذا الايقاع لأسباب مصلحية تعود الى رغبتها في تأمين مصالحها السياسية،
التي قد تكون على حساب الكرد والعرب، بل ان الوقائع في السابق والحاضر،
تقودنا الى القول إن تلك القوى لم تكن بعيدة عن إثارة وتعميق النعرات
وتوسيع دائرة الاحتقان والتوتر.
وفي المقابل
هناك مساعٍ حثيثة لعزل العرب عن الكرد، واتهام الكرد بأنهم من المسؤولين
عن وقوع الاحتلال، وخصوصا ان الحركة الكردية تعاملت مع نتائجه. وقد
تكون بعض المواقف والتصريحات بشان ما حدث في الفلّوجة أو النجف أو الرمادي
أو غيرها، من أعمال العنف والقسوة التي إستخدمتها قوات الإحتلال- العقوبات
الجماعية والقصف العشوائي بخاصة- سبباً إضافياً في ذلك، ناهيك عن مسؤولية
المشاركة في الحكم وما تقوم به اجهزته من اعمال قمع.
2- السعي
لاظهار العروبة باعتبارها مسؤولة عما حدث للكرد، ومقابل ذلك السعي
لإتهام الكرد بالإنفصالية والعداء للعرب والعروبة وتحميلهم مسؤولية ما
حدث وما يحدث، وخصوصا بعد الاحتلال. ولا بد هنا من المييز بين عروبة
الحكام المستبّدين وعروبة العرب بشكل عام الذين هم غير مسؤولين عما ارتكبه
الحكّام الدكتاتوريون بحق الكرد.وكما سكتت نخب عربي عن أعمال القمع
والإبادة التي تعرض لها الشعب الكردي، عمدت نخب سياسية كردية الى التعويل
على العامل الخارجي في الاطاحة بالنظام السابق.
ولا شك أن هناك
نزعة استعلائية عربية ضيقة الأفق بشأن موضوع الفيدرالية التي غالبا ما
تقابل باعتبارها الخطوة الاساسية نحو الإنفصال. مثل هذه النظرة الخاطئة هي
استمرار للموقف من حقوق القوميات والأقليات وحقوق المراة وحقوق الانسان
بشكل عام. ومن جهة أخرى، هناك نزعات ضيقة الأفق في القيادات والاوساط
الكردية، وخصوصاً من حيث التعويل على العامل الخارجي الذي قاد الى
الاحتلال، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون مبرراً لتفتيت الوحدة الوطنية أو
التنصّل من استحقاقاتها، كما لا ينبغي أن يكون رد الفعل عليه مبرراً
لإتخاذ موقف سلبي من حقوق الشعب الكردي، وكما أنه لا يمكن تحميل الشعب
الكردي وزر وجود جماعات كردية باسم الجحوش وحرس الحدود والفرسان شاركت في
قمع الشعب الكردي،وكذلك مواقف بعض الميليشيات الكردية، كذلك لا يمكن تحميل
العرب أوزار ارتكابات بعض الحكومات العراقية.
3- تقديم ما
هو طارئ ومؤقت وآني على ما هو استراتيجي وثابت وبعيد المدى. وهنا يمكن
الاشارة إلى أن ما يربط الأكراد بالعرب هو بالتاكيد أكثر بكثير مما يربطهم
مع الولايات المتحدة. وإذا بدت الصورة الحالية على غير ذلك، فإنها مؤقتة
وآنيّة وطارئة لا تعكس حقيقة العلاقات بين الشعبين برغم بعض المشكلات.
ولهذا يقتضي الأمر التعايش والتفاهم والبحث عن المشترك الانساني، ومثل ذلك
ينسحب على علاقة الكرد بالفرس، وعلاقتهم بالأتراك وبغيرهم.(19)
4- صراع
العرب مع الولايات المتحدة
لانحيازها الى إسرائيل وموقفها من الصراع العربي - الاسرائيلي سيبقى
قائما طالما لم تحلّ القضية الفلسطينية حلاًً عادلاً، لذا يقتضي الامر
النظر الى ما هو أبعد من السياسة الراهنة ، سواءاً ما يتعلق بالاحتلال
الاسرائيلي أو الاحتلال الأمريكي للعراق، حتى وإنْ إتخذ الأمر اليوم شكل
إعتراف دولي سواء بالقرارات الدولية 1443 او 1500 الذي رحب بصيغة مجلس
الحكم الإنتقالي باعتباره يجسّد السيادة لكنّه لا يمثّلها (قانونيّاً)
والقرار 1511، الذى دعا الى دور أكبر للامم المتحدة وللقوات المتعددة
الجنسية، ثم القرار 1546 بخصوص نقل "السيادة" وتحويل القوات المحتلة الى
قوات متعددة الجنسيات وإن كان بقيادة امريكية. إن اللامبالاة من جانب بعض
النخب والاتجاهات الكردية تجاه هذه القضايا، وكذلك ما قيل عن محاولات
إسرائيل إختراق الوضع العراقي في كردستان تحديداً، وبخاصة في ظل الأوضاع
الأمنية المنفلتة والفوضى العارمة بعد الاحتلال- وهو ما نشرته مراكز أبحاث
ودراسات غربيّة وإسرائيليّة- ... أقول إن ذلك يعود ضرره على العلاقات
العربية – الكردية، ومستقبل الشعبين الكردي والعربي إن عاجلاً أم آجلاً.
لقد بادرت بعض
القيادات الكردية الى " التشكيك" بصحة تلك الأخبار، التى أثارت قلقاً
عربياً واسعاً وتثير حساسية خاصة، وهو ما ينبغي تأكيده وتوثيقه لكي لا تتخذ
القضية مسارات عدائية لا عودة فيها، خصوصاً وأن التجربة التاريخية اثبتت
بما لا يدع مجالاً للشك أن القوى الخارجية بما فيها اسرائيل، كان همّها
الاساسي هو إضعاف العراق كبلد وتعكير صفو وحدته الوطنية، لا ضمان حقوق
الكرد او المواطنة العراقية، وهم في لحظة تناقض المصالح يتخلّون عن الشعب
الكردي ويتركونه للأقدار الغاشمة. ولذلك لا بد من تصوّر العلاقات العربية-
الكردية في مسارها التاريخي بعيداً عن الظروف الضاغطة حالياً سواء أكانت
دولية أم إقليمية.
ولا بد من
الاشارة إلى أن الموقف من القوميّات والأقليّات ومساواتها يعتبر معياراً
أساسيّاً لمدى الإيمان بقضايا حقوق الإنسان، إن تحقيق تلك الأهداف يستوجب
التفاهم بين عرب العراق وكرده بشكل خاص وبينهما وبين بقية التكوينات بشكل
عام في اطار صيغة ملائمة من الاتحاد الطوعي والاختياري وعلى اساس المساواة
وحقوق الانسان والمواطنة الكاملة .
واذا كانت هناك
من تحديات أمام العرب والكرد، فإنّ التحدي الدولي هو التحدي الاول،
خصوصا إستمرار الوضع العراقي كما هو عليه من وجود قوات محتلة بإسم " القوات
المتعددة الجنسيات " والإنفلات الأمني والعنف المستمر المنفلت من عقاله
واستشراء الطائفية على نحو مريع وإستفحال ظاهرة الميليشيات، بالإضافة الى
تفشي الفساد والرشوة والبطالة وغياب مرجعية الدولة وضعف الشعور بالمواطنة
خصوصاً بالقسمة الطائفية –الإثنية، التي جاء بها بول بريمر أساساً لمجلس
الحكم الانتقالي وانتقالها الى مفاصل الدولة والمجتمع.
التحدي
الثاني
هو التحدي الاقليمي، الذي هو احد التحديات التي تعوق تطوّر الوضع العراقي
بشكل سليم وخصوصاً بحكم التأثير والإمتداد الاقليمي، والضغط على بعض القوى
الداخلية لاستحقاقات ومصالح إقليمية بما يؤدي الى تعكير " الوحدة الوطنية"
من بعض دول الجوار مثل ايران وتركيا وغيرها.
اما التحدي
الثالث فلعلّه من أهم التحديات، وهو التحدي الداخلي(الوطني) واذا كانت
الحرية مقدمة للديمقراطية، فإن المواطنة هي التحدي الاول للدولة القانونية،
ومن دون مواطنة كاملة وتداولية لا يمكن تحقيق التعددية وضمان حق المواطن في
الإنتخاب الحر وإختيار الحاكم، وفي ذلك احدى ضمانات حقوق الانسان، ويتطلب
ذلك قدراً واسعاً من العقلانية في التعاطي مع تركة الماضي وقدراً كبيراً
من التسامح لتجاوز أوضاع الحاضر.
ولإرساء دعائم
علاقات كردية – عربية متينة ينبغي الاعتراف على قدر المساواة بحق
القوميتين والشعبين في الاتحاد الأخوي الإختياري على أساس الشراكة ومراعاة
المناطق الجغرافية، وهو ما إختاره الشعب الكردي في ظروف شبه طبيعية عندما
صوّت برلمانه المنتخب بشكل شرعي وبتأييد هيئات دولية، رغم بعض النواقص
والملاحظات على الاتحاد الفيدرالي (في 4 تشرين الاول -اكتوبر- 1992).
الفيدراليات العراقية وجدل الهويات !
• الفيدرالية
كمصطلح جديد دخل الادب السياسي العربي منذ عقدين من الزمان تقريباً. فمنذ
مطلع التسعينات ومع انهيار نظام القطبية الثنائية وإنتهاء عهد الحرب
الباردة وتحول الصراع الآيديولوجي الى طور جديد، كثر الحديث عن الفيدرالية،
وخصوصا في العراق والسودان وفي مناطق أخرى.
الأمران الآن
مطروحان للمناقشة و" التطبيق " بصيغ دستورية مقترحة تثير جدلاً واسعاً هما
" الفيدرالية الكردية " و " فدرالية جنوب السودان"، وقد حثّ ذلك أوساطا
واسعة في الوطن العربي على التفكير أو المطالبة بفيدراليات متنوعة سواء
حملت أساساً واقعياً او رغبة في الحصول على مكاسب أو إمتيازات.
نبحث هنا في
الفيدراليات العراقية المطروحة، وليس " الفيدرالية الكردية" فحسب:
واقعيتها، ضروراتها، إمكانيات تحقيقها، آفاقها والتحديات والمخاطر التي
تواجهها، وإنعكاسات ذلك بالتالي على الواقع العربي سواء من حيث الوحدة
الوطنية ومواجهة التحديات الخارجية أو إحتمالات التشظي والتشطير والتفتيت
والتقسيم التي تواجهه.
* * *
من القضايا
المركزية والعقدية، التي كانت مثار خلاف شديد وحاد في لجنة صياغة الدستور
العراقي بين القوى والاطراف السياسية في الجمعية الوطنية أو خارجها من
الفئات الممانعة أو المعارضة، هي قضية الفيدراليات أو ما أطلق عليها إسم "
الاقاليم"، فقد ذهب الباب الخامس (المادة -113) لتحديد مكوّنات النظام
الاتحادي (الفيدرالي) الى القول : بان يتكون من " عاصمة وأقاليم ومحافظات
لامركزية وإدارات محلية".
وعلى رغم إقرار
البرلمان العراقي أواخر العام 2006 قانون الأقاليم، الاّ أنه تمّ تأجيل
تطبيقه لـ 18 شهراً بسبب إندلاع الخلافات بشأنه وتهديد بعض القوى الانسحاب
من الحكومة ما قد يؤثر في كامل العملية السياسية، ولذلك تقرر تأجيل تنفيذه
على أمل أن يتم تعديل الدستور وإحداث نوع من التوافق الجديد، الذي قد يؤدي
الى تعويم قانون الاقاليم كما تريد جبهة التوافق وقوى اخرى، في حين أن
قائمة الائتلاف "الشيعية" تراهن على الزمن لإقناع أو إجبار الأطراف
الممانعة على الإمتثال لقرار البرلمان المذكور، وخصوصاً انها تحظى
بالأغلبية فيه.
ولأن (المادة –
114) أقرّت إقليم كردستان وسلطاته القائمة " إقليما" اتحاديا"، فإن النقاش
والاختلاف ينصرفان حاليا إلى حدود سلطات وصلاحيات الاقليم وإمتداداته
وتطبيقات وتفسيرات النصوص الواردة في الدستور لجهة العلاقة التي تزداد
إلتباسا" بينه وبين السلطة الاتحادية (الفيدرالية)، خصوصا انعكاسات ذلك على
فكرة إنشاء أقاليم في الجنوب والوسط، تحت مبررات "الروابط الخاصة" و" وحدة
النسيج المذهبي" و" المظلومية التاريخية"، وكأن الامر لا علاقة له بتغوّل
الدولة المركزية الشديدة الصرامة والشمولية وحصر الصلاحيات والمسؤوليات
بيدها على حساب علاقتها بالاطراف والاقاليم، ليس في الجنوب والوسط
ولإعتبارات طائفية ومذهبية فحسب، بل في الغرب والشمال، ناهيك عن المنطقة
الكردية وعموم العراق أيضاً، وهي المسألة التي تغيب عن الأطراف الداعية
للفيدراليات الجنوبية أو لأن رغبتها في الحصول على مكاسب وامتيازات تجعلها
تتشبث بكل الوسائل لتحقيق هذا الهدف الذي تعتبره ملاذاً لحماية الطائفة،
على رغم أن بغداد العاصمة تظلّ عصيّة على التقسيم أو التمذهب بحكم الاشتباك
الكبير فيها قومياً ودينياً ومذهبياً واجتماعياً، رغم عمليات التطهير
الطائفي والمذهبي التي طالتها.
*
* *
واذا كانت
الفيدرالية نظاما" اداريا" على درجة عالية من الرقي والتطور وينشأ استجابة
لضرورات واحتياجات تاريخية ملحّة اقتصادية واجتماعية وسياسية لتنظيم
المجتمع وادارته، وزيادة مشاركة الاقاليم في مسؤولية اتخاذ القرارات فيه،
سواء ما يتعلق بشؤونها الخاصة او تلك التي تعنى بعموم الدولة، فان حجج " رد
المظالم" او " إحقاق الحق" او " الغاء التمييز" ليست كافية لقيام نظام
فيدرالي ان لم يكن هذا الاخير استجابة لتطور تاريخي ثقافي وحاجة ماسة
لهيكلة وادارة وتنظيم امور الدولة والمجتمع، فقضايا مثل " المظلومية" او "
الغبن التاريخي" او "النسيج المذهبي" او " التمييز" يعالجها الدستور في باب
الحقوق والحريات، وسواء" كان دستورا" فيدراليا" اتحاديا" أم لم يكن!(20)
النظام
الفيدارلي من الأنظمة المتطورة دولياً، وهو مطبق بصورة ناجحة في نحو 25
دولة وما يزيد عن 40% من سكان المعمورة، وقد عزز اختياره من تعميق
الديمقراطية وزادها غنىً وتعدديةً وتنوعاً، لكنه لا يقود الى الديمقراطية
بذاته او لذاته وبصورة تلقائية. لقد أقيمت أنظمة حكم فيدرالية لكنها كانت
شمولية ومستبّدة مثل النظام السوفيتي واليوغسلافي والتشيكوسلوفاكي. كما لا
يمكن اطلاق صفة الديمقراطية على أنظمة اخرى في " العالم الثالث" اتخذت شكلا
من اشكال الانظمة الاتحادية (الفيدرالية) كدولة الامارات العربية مثلاً.
فليس هناك تلازما بين النظام الديمقراطي والفيدرالية، فقد نشأت انظمة
ديمقراطية لكنها لم تختار الفيدرالية شكلا لتنظيم علاقة المركز بالأطراف أو
بالإدارات المحلية أو الأقاليم بل إتخذت من اللامركزية شكلا للحكم.
النظام
الفيدرالي إذاً وإنْ كان نظاماً راقياً ومتطوراً، ليس بالضرورة ان يكون
ديمقراطياً وعلى العكس من ذلك فالانظمة الديمقراطية وهذه هي القاعدة - يمكن
أن تهيء المستلزمات الضرورية الادارية والتنظيمية، لإختيار الفيدرالية أو
اللامركزية الموسعة، بحيث تحرص على مشاركة المركز للاطراف والاقاليم
والمحافظات في إتخاذ القرارات المهمة والحاسمة، بدلا من إنفراد المركز بها
او حصرها ضمن اختصاصاته.
النظام
الديمقراطي وليست الفيدرالية هو الذي يعتمد على مبدأ المساواة التامة
والمواطنة الكاملة وسيادة القانون وتداولية السلطة سلمياً وفصل السلطات
وإستقلال القضاء والشفافية والمساءلة واطلاق الحريات العامة والخاصة، وهذا
هو المهم والجوهري وليس شكل الادارة.
* * *
هناك نوعان من
الفيدرالية. الاول ينشأ بإتحاد دولتين أو أكثر أو إنضمام مجموعة من الدول
في "إتحاد فيدرالي " وهذا هو النوع الشائع والغالب وبموجبه تتخلى الدولة
المنضوية عن سيادتها واستقلالها لصالح الدولة الاتحادية، التي تحرص على
إبقاء قضايا الدفاع والقوات المسلحة والامن الوطني والشؤون الخارجية
والعلاقات الدولية والميزانية والموارد الاساسية بيدها، وتترك الشؤون
الاخرى للدول المنضوية (الأقاليم) الى الاتحاد لادارة شؤونها من قبل حكومة
محلية بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية. ورغم ان وحدة سوريا ومصر في
الجمهورية العربية المتحدة كانت إندماجية، الاّ أنها من حيث الاختصاصات
كانت أقرب الى الاتحاد الفيدرالي.
الشكل الثاني
للفيدرالية يتكون نتيجة تنازل أو تخلي السلطة المركزية داخل دولة معينة
لأسباب إدارية أو سياسية لبلد متعدد التراكيب والتشكيلات التاريخية
والادارية والقومية عن جزء من صلاحياتها لحساب حكومات الاقاليم، التي تنشأ
وترتبط بالسلطة الفيدرالية بعلاقات وصلاحيات يحددها الدستور يمكن ان تكون
واسعة او محدودة. وهذا النموذج يكاد يكون نادرا" او قليل الحدوث ولعل مثاله
التجربة العراقية والسودانية حاليا وما تفكر بعض الاوساط في البلدان
العربية بإعتماده تحت باب التخلّص من مركزية الدولة وهيمنتها.
من الامثلة
المهمة على النظام الفيدرالي الولايات المتحدة، حيث تتمتع الولايات الاحدى
والخمسون بصلاحيات واسعة، في حين ان كندا تحدد صلاحيات الولايات فيها وما
عدى ذلك يكون من اختصاصات السلطة الفيدرالية. وأهم سمات الدولة الفيدرالية
هي 1- الوحدة، أي انها دولة واحدة سواء بالسلطة الاتحادية أو بتوزيع
الاختصاصات ، ولها حكومة إتحادية واحدة وجيش واحد وعلاقات دولية واحدة
وميزانية واحدة وعلم واحد وتمثل وطناً واحداً غير قابل للتجزئة الاّ اذا
فكّرت الاطراف المتحدة فك هذا الارتباط. 2- اللامركزية والخصوصية، أي
إحتفاظ الاقاليم والكيانات بشيء من إستقلاليتها في الادارة والتشريع وبنوع
من اللامركزية يتسع او يتقلص حسب التطور التاريخي. 3- المشاركة، وذلك عن
طريق إشراك المركز للاطراف والأقاليم والمحافظات في إتخاذ القرارات وإشباع
هذه الاخيرة بصلاحيات محلية لإدارة شؤونها، بموجب دستور إتحادي يوزع
السلطات بين الاتحاد والاقاليم.
إن مشروع
الدستور الدائم للعراق الذي تم التصويت عليه يوم 15 تشرين الاول (اكتوبر)
2005، أعطى الحق لكل محافظة أو أكثر تكوين اقليم (المادة-116) وأعطى
للاقليم حق وضع دستور له (المادة -117) ولسلطات الأقاليم الحق في ممارسة
السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما أعطاها حق تعديل تطبيق القانون
الاتحادي في الاقاليم في حالة وجود تناقض أو تعارض مع قانون الاقليم
(المادة -118). وفي حال الخلاف بين قانون الاتحاد وقانون الاقليم تكون
الاولوية للاخير (المادة 112). ولعل مثل هذه الاختصاصات هي غير جامعة وتقود
الى التجزئة والتباعد والتنافس غير المشروع، ومثل هذه الصلاحيات هي غير
موجودة في الانظمة الفيدرالية، التي درسناها مع أن هناك بعض القواعد العامة
المشتركة لجميع الفيدراليات تقريباً.
لقد ذهب مشروع
الدستور الى ابعد من ذلك حين دعا الى تأسيس مكاتب للاقاليم والمحافظات في
السفارات والبعثات الدبلوماسية لمتابعة الشؤون الثقافية والاجتماعية
والانمائية، وهو ما لا نجده في أي نوع من انواع الفيدرالية على المستوى
الدولي، سوى الايحاء بالاستقلالية والانقسام لاحقا. وحدد المشروع اختصاصات
حكومة الاقليم "بكل ما تتطلبه ادارة الاقليم، وبوجه خاص إنشاء وتنظيم قوى
الامن الداخلي كالشرطة والامن وحرس الاقليم" (المادة-118 كذلك)، وهو ما كان
يمكن تحديده للتنسيق مع الحكومة الاتحادية، لضمان وحدة الولاء بدلا من
توزيعه على هذا النحو.
وقد جنح
الدستور بعيدا في الحديث عن صلاحيات الاقاليم حيث إمتدت الى الثروة النفطية
وتوزيعها وإدارتها، خصوصاً الحقول التي سيتم استثمارها أي الى الثروة التي
لم تستخرج بعد. وتنازعت الأعمال التحضيرية عوامل جذب وشد وكبح وإنفلات
بخصوص الثروة المائية والثقافية بما فيها الآثار والمخطوطات والمسكوكات
وغيرها يضاف الى ذلك امتداد سلطات الاقاليم الى الفضاء الجوي، الذي يمكن
اعتباره من اختصاصات الأقاليم طالما لم يتم النص عليه في اطار سلطات
الاتحاد، ما يجعل هناك رغبات واسعة للتشبث بالمزيد من الاستقلالية أو
الخصوصية، التي تؤدي في نهاية المطاف الى نوع من التباعد وربما الانفصالية.
ولعل صلاحياتً
كهذه تشي بالتشظي والتفتيت والتحول من دولة واحدة متحدة أو إتحادية الى
كانتونات ومناطقيات وطوائف، حيث تتقدم الهوية الجزئية المحلية الضيقة
الفئوية او المذهبية أو الاثنية على حساب الهوية العراقية الجامعة والموحدة
الكبيرة التي تقوم على اساس المواطنة والمساواة.
لقد مرّ على
التجربة الفيدرالية العالمية عشرات بل مئات السنين وتطورت ببطئ شديد وبحسب
ظروف وحاجات كل بلد. ولم تكن الفيدرالية استحقاقا انتخابيا (آنيا")، بل هي
استحقاق تاريخي وطني يعبر عن درجة تطور المجتمع والدولة ونظامها السياسي في
ظروف طبيعية وسلمية في الغالب وعلى اساس وحدة وطنية بالاتحاد او بتوزيع
الصلاحيات وتقاسمها وظيفيا، وليس في ظروف احتلال وحرب أهلية وقتل على
الهوية وجثث مقطوعة الرؤوس ومجهولة الهوية وضحايا يصل عددهم يومياً منذ
أشهر الى أكثر من 120 شهيداً بحسب إحصاءات الامم المتحدة.
الفيدرالية
إذاً ليست صفقة سياسية بين قائمتين فائزتين ، يتم "التخادم" بينهما عن طريق
تنازلات متبادلة في أوضاع ملتبسة ومعقدة وبوجود الاحتلال، وفي جمعية وطنية
انتقالية أو برلمان هو نتيجة انتخابات يشوبها الكثير من نقاط الضعف ونقص
الشرعية.
أما الفيدرالية
الخاصة باقليم كردستان، فلا تزال تثير جدلاً واسعاً ومشروعاً حول حدود
وصلاحيات الاقليم وسقف مطالبه فيما يتعلق بكيان ووحدة وهوية الدولة
العراقية ومستقبلها، على أنه منذ إقرار الدستور العراقي الجمهوري الاول عام
1958" شراكة العرب والاكراد في الوطن العراقي " ثم ما اكده بيان 11 اذار
(مارس) العام 1970 بشأن حقوق الاكراد العادلة والمشروعة في " الحكم
الذاتي"، أصبح هناك خزين ثقافي وقانوني واداري وسياسي تطور تدريجياً الى
شبه اجماع من طرف الحركة الوطنية بمعظم تياراتها تقريباً، مفادها
"الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان".
فبعد إقرار
دستور 16 تموز (يوليو) العام 1970 كون العراق يتألف من قوميتين رئيستين هما
العربية والكردية وصدور قانون الحكم الذاتي العام 1974، أصبح هناك كيان
كردي اقليمي اداري وسياسي وقانوني خصوصاً بوجود مجلسين تنفيذي وتشريعي،
إستمرّا حتى آواخر العام 1991، حين سحبت الحكومة العراقية إداراتها ومؤسسات
الدولة وماليتها من المنطقة الكردية التي تمتعت بشيء من الاستقلال شبه
التام عن المركز، وأجرت إنتخابات عام 1992 لإختيار برلمان كردستاني، وهو
الذي تبنّى بالاجماع قراراً بالاتحاد الفيدرالي في 4 تشرين الاول (اكتوبر)
من العام نفسه.
أخلص الى
القول إن الفيدرالية الكردية هي واقع فعلي اداري وسياسي وقانوني خصوصاً في
ظل تطبيقات مضى عليها اكثر من عقد ونيف من الزمن، وثقافة سياسية لتيارات
الحركة الوطنية العراقية الواسعة،
التي إعترفت بحقوق الاكراد تاريخياً، وخصوصاً لجهة حكم انفسهم بأنفسهم
وتلبية حقوقهم القومية والسياسية والثقافية، فضلا عن مشاركتهم في القرارات
التي تتخذها السلطة المركزية او الاتحادية في حالة اقرار النظام الفيدرالي،
الذي يتطلب ظروفا طبيعية وسلمية وبعيداً عن الاحتلال وفي ظل توافق
المكوّنات المختلفة.
اما الحديث
عن فيدراليات على أساس النسيج الطائفي أو المظلومية، فإنه سيكون أقرب الى
التمديد لا التحديد والى التشتيت لا التوحيد
خصوصاً وان هذه
الاطروحات التي تتخذ من المذهبية عكازاً يغيب عنها ان لها قواسم مشتركة
اكثر وثوقاً مع جميع عرب العراق مما لها مع غيرهم أساسها: اللغة (العروبة)
والدين (الاسلام) والهوية (الوطنية) والمواطنة (الجنسية العراقية ) فضلاً
عن التاريخ الواحد والمزاج الموحد والمصالح المشتركة.
المصادر والهوامش
(1)
انظر محاضرة للباحث في مركز آل البيت الاسلامي، بعنوان: " القضية الكردية
في الفكر السياسي العراقي"، لندن،31/5/1992، كذلك قارن : عبد الحسين شعبان،
صحيفة الحياة، حلقتان، 2 و3 آب (اغسطس) 1992، ومقالة ثالثة بعنوان "
الفيدرالية وحق تقرير المصير- جدل الحاضر والمستقبل" ، الملف العراقي،
العدد 15، آذار (مارس) 1993.انظر كذلك: كتابنا" عاصفة على بلاد الشمس" دار
الكنوز الادبية، بيروت، 1994، ص 202-223، انظر كذلك: محاضرة بعنوان " جدلية
العلاقات العربية- الكردية" اربيل، كردستان، العراق، ايلول (سبتمبر) 2004،
ومقالة في صحيفة النهار بعنوان "الفيدرالية العراقية بين التشطير والتأطير"
منشورة في موقع الحوار المتمدن، العدد 1353، 20/10/2005،
(2)
قارن: عبد الرزاق الحسني- تاريخ الوزارت العراقية، عشرة اجزاء، ج 1، بغداد،
1957، ص 16 وما بعدها.
(3)
انظر : المصدر السابق، قارن كذلك: عبد الحسين شعبان- عاصفة على بلاد الشمس،
بيروت، دار الكنوز الادبية، 1994، ص 204 و262 .
(4)
يعتبر القانون الاساسي للمملكة العراقية الذي صدر في العام 1925 هو الدستور
الدائم الوحيد للعراق وقد حكم هذا الدستور العراق نحو 33 عاماً وقد اُبطِلَ
مفعوله بعد ثورة 14 تموز(يوليو) 1958، وصدر الدستور الموقت الاول بدلاً عنه
في 27 تموز(يوليو) 1958 الذي إستبدل بقانون المجلس الوطني عام 1963 ثم
بدستور موقت آخر عام 1964 وهذا الاخير ألغيَ بعد انقلاب 17 تموز(يوليو)
1968 وصدر دستور موقت آخر في ايلول(سبتمبر) 1968 ثم صدر دستور موقت جديد في
16 تموز(يوليو) 1970 وحكم هذا الدستور البلاد نحو 33 عاما أيضاً الى ان
اطيح بالنظام السابق، وصدر بعد الاحتلال قانون ادارة الدولة الانتقالي في 8
آذار (مارس) 2004، ثم صدر الدستور العراقي الدائم بعد الاستفتاء عليه في 15
تشرين الاول (اكتوبر) 2005، انظر: عبد الحسين شعبان- اشكاليات الدستور
العراقي الموقت، الحقوق الفردية والهياكل السياسية، مركز الدراسات
السياسية والاستراتيجية (بالاهرام)، كراسات استراتيجية العدد 140، حزيران
(يونيو)2004. أنظر كذلك: " العراق- الدولة والدستور: من الاحتلال الى
الاحتلال" دار المحروسة، القاهرة، 2004.
(5)
قارن: عبد الكريم الأزري- مشكلة الحكم في العراق، لندن، 1991، ص 343-344
انظر كذلك: حسن العلوي- الشيعة والدولة القومية في العراق، مطبوعات (CEDI)،
فرنسا، 1989، ص149-194. ولعل تهجير نحو نصف مليون مواطن عراقي خلال عشية
الحرب العراقية- الايرانية وخلالها 1980-1988خصوصاً بصدور القرار 666 في 7
أيار (مايو) 1980، الذي تم بموجبه إسقاط الجنسية ومصادرة الحقوق.
(6)
قارن: لازاريف- الكرد وكردستان، عوامل تشكيل القضية، 1987، منشورات الحزب
الاشتراكي الكردستاني. قارن كذلك: بافي ريزان- الاتفاقيات والمواثيق
الدولية حول حقوق الانسان والمسألة الكردية، كانون الاول(ديسمبر) 1985، ص
18.
(7)
قارن: مقالتينا في مجلة الحرية العددان 87 ( 1162) و96 (1171) في
21/10/1984 و23/12/1984 بعنوان "المسألة القومية الكردية والحزب الشيوعي
العراقي" والثانية بعنوان " القضية الكردية والحرب العراقية- الايرانية".
(8)
حديث خاص مع الدكتور محمود عثمان، أحد الزعامات الكردية في العام 1993
و1995 لندن. كذلك: مقابلة خاصة مع الدكتور عثمان في مجلة الوسط، اللندنية
(أواسط التسعينات)، وقد قدّم الدكتور عثمان نقداً جريئاً لملف العلاقات،
كما فعلت بعض القيادات الكردية في فترة سابقة.
(9)
المصدر السابق رقم (7).
(10)
انظر: الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك –العراق)، طريق الحركة التحررية
الكردية، وثيقة اقرها المؤتمر التاسع للحزب، تشرين الثاني(نوفمبر) 1979،ص
80 وما بعدها.
(11)
انظر: تقرير مستر بايك، منشورات الاتحاد الوطني الكردستاني، دمشق 1977.
(12)
عبد الحسين شعبان – عاصفة على بلاد الشمس، مصدر سابق ، ص 208 وما بعدها
(13)
انظر: بافي ريزان، المصدر السابق، ص 16-17
(14)
انظر: عبد الحسين شعبان- عاصفة على بلاد الشمس، مصدر سابق، ص 264: انظر
كذلك نص الدستور العراقي المؤقت الصادر في 16 تموز (يوليو) 1970،
(15)
انظر: البيان والبرنامج السياسي لحزب الدعوة الاسلامي، لندن، آذار (مارس)
1992، ص 56-58. وكذلك قانون الاقاليم الصادر عن البرلمان العراقي 2006.
(16)
تعتبر مواقف الحزب الشيوعي متقدمة نظرياً في معالجة القضية الكردية كما انه
قدّم تضحيات كبيرة دفاعاً عن حقوق الشعب الكردي وساهم على المستوى الدولي
في التعريف بالقضية الكردية، على رغم ان بعض مواقفه العملية كانت قد تأثرت
أيام حكم عبد الكريم قاسم او خلال سنوات التحالف والجبهة مع حزب البعث
1973-1978. انظر: برنامج الحزب الشيوعي العراقي ونظامه الداخلي، المؤتمر
الوطني الثاني، ايلول (سبتمبر) 1970، بيروت، منشورات صحيفة النداء، 1970، ص
99 – 103. انظر كذلك: وثائق المؤتمر الوطني الرابع للحزب 10-15 تشرين
الثاني ( نوفمبر) 1985، ص 295- 298. انظر كذلك: وثائق المؤتمر الخامس
للحزب، تشرين الثاني (نوفمبر) 1993.
(17)
احتل الموضوع الكردي مكانة خاصة في الاعلام العالمي وفي الموقف الدولي،
خصوصاً بعد ان تمت الاشارة اليه في القرار 688، الصادر عن مجلس الامن
الدولي في 5 نيسان(ابريل) 1991 . والجدير بالذكر ان هذا القرار كان قد صدر
بعد القرار 687 بيومين الذي اعتُبر ( ابو القرارات) خصوصاً وانه فرض عقوبات
دولية رغم انتهاء الحرب، وإستمرّت حتى الحرب على العراق واحتلاله عام 2003.
(18)
انظر: عبد الحسين شعبان – محاضرة في أربيل، بعنوان " جدلية العلاقات
العربية- الكردية"، جمعية الصداقة العربية- الكردية، ايلول (سبتمبر)2004.
(19)
جدير بالذكر ان هناك شخصيات عربية وكردية ساهمت في تأسيس عدد من الجمعيات
للصداقة العربية – الكردية في عدد من البلدان العربية، إضافة الى كردستان
العراق. وكان الشخصية الكردية المعروفة صلاح بدر الدين قد اعتمد منسقاً
لهذه الجمعيات وبادر الى عقد عدد من المؤتمرات سواءً في اطار رابطة كاوا
التي يترأسها او في غيرها، ومنها مؤتمر الحوار العربي – الكردي في اربيل،
ايلول (سبتمبر) 2004.
(20)
قارن: رونالد ل. واتس- الانظمة الفيدرالية، منتدى الاتحادات الفيدرالية،
طبعة خاصة، 2006 وقد أجرى الباحث دراسة شملت 12 إتحاداً فيدرالياً معاصراً،
حيث وقع اختياره على اربع فئات من الاتحادات الفيدرالية: الفئة الاولى،
الاتحادات الفيدرالية في مجتمعات صناعية متقدمة مثل الولايات المتحدة
الامريكية 1789 وسويسرا 1848 وكندا 1867 واستراليا 1901 والنمسا 1920
وألمانيا 1949. أما الفئة الثانية فشملت اتحادين فيدراليين في آسيا هي
الهند 1950 وماليزيا 1963، وشملت الفئة الثالثة اتحادين نشأا حديثاً في دول
متقدمة مثل بلجيكا 1993 واسبانيا 1978، أما الفئة الرابعة فقد ضمت دولتين
هما: تشيكوسلوفاكيا (التي انقسمت الى جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاكيا
في 1993 باتفاق مخملي وباكستان.
نشرت هذه
المادة تحت عنوان" العراق والفيدرالية " في ملف جنة كردستان.. في جحيم
العراق، مجلة معلومات ، المركز العربي للمعلومات ، العدد 40 ، آذار/مارس
2007
C.A. DROITS HUMAINS -5 Rue
Gambetta - 92240 Malakoff - France
Phone: (33-1) 4092-1588 * Fax:
(33-1) 4654-1913 *
Email:
achr@noos.fr
http://www.achr.nu
عودة إلى الرئيسة |