لم أفاجأ عندما بلغني نبأ دخول الأخوين
محمد عمار وعادل العوني في إضراب عن
الطعام احتجاجا على ما يتعرضان له من حصار
يطالهما في أبسط مقومات الحياة، من توفير
لقمة عيش كريمة، ومن تمتع برعاية صحية
مناسبة، ومن توفير لأبسط المقومات لأداء
واجبات الأبوّة والزوجيّة وتكاليفهما...
لم أفاجأ بذلك لأكثر من سبب، بعضها يتعلق
بخصائص الفضاء العمومي في بلادنا، وبعضها
الآخر يتعلق بشخصية الأخوين المضربين...
لم تكن السجون التي استضافت محمد،
والعادل، والآلاف من إخوانهما، سنوات
طويلة رفيقة بهما، ولا لطيفة معهما... ولم
تكن تربيتهما تسمح لهما بالصمت أو الرضى
بالدون والهوان.. لا تلك التربية التي
تلقياها في المساجد وفي دوائر الحركة
الاسلامية، ولا تلك التربية التي تلقياها
في حي إقامتهما: الملاسين...
لم أتشرف بمعرفة العادل معرفة شخصية..
ولكن ما أعرفه عنه حق المعرفة أنه من
الذين قسموا فترة سجنهم شطرين متقاربين:
شطر إقامة 'عادية' وشطر إقامة في 'السيلونات'،
اختيارا منه احتجاجا على مظلمة من
المظالم، أو عقوبة مسلطة من الإدارة على
ما تراه خرقا للتراتيب الإدارية، وما أكثر
التراتيب والإجراءات والبدع الجائرة التي
كانت تتفتق عنها عبقرية إدارات السجون...
كان العادل 'ولد الملاسين'، ابن الحي
الشعبي، الذى يعرف كيف يرد على المظلمة
حين وقوعها... وكان من ثلة الشباب التي
دفعت من أجسادها العارية ومن أعصابها، ومن
صحتها، ما ردّت به خطة كانت تستهدف
الجميع. كان من تلك الطليعة التي سيباركها
الناس، والتاريخ.. وأسأل أن يباركها
المولى سبحانه..
أما محمد فأعرفه جيدا... كان نسيجا وحده،
ونمطا متفردا ضمن الآلاف التي طالتها محنة
السجن من قيادات ومناضلي وأنصار حركة
النهضة. كان شخصية عجيبة، لا يمكن أن تمر
بمكان دون أن تلفت انتباه الجميع مساجين
وأعوان.. كان طيبا حدّ السذاجة.. كان طفلا
تسترضيه كلمة لطيفة، أو لمسة رفيقة. وكان
ماردا جبارا عندما يحس بالإهانة.. وفي كل
الأحوال كان رجلا، لا يتحمل أن يبقى عالة
على أحد... كان من الذين استمروا في حمل
'اسم شهرة'.. مثل كثيرين من أبناء الأحياء
الشعبية، كأحد رواسب مرحلة ما قبل
الإقتراب من مناخات الاسلاميين وأجوائهم.
كان يعشق الرياضة... ويتعصب حتى لأحد
الفرق، تراه في ساحة السجن يطارد –وحيدا-
كرته أو يداعبها بلمسات تذكّر بمهرة
اللاعبين وسط استلطاف وإعجاب دائرة من
مساجين الحق العام... وكان دائم الانشغال
بما سيفعله بعد خروجه من السجن. فكّر في
عشرات المشاريع، وسأل النزلاء عن مقومات
نجاح كل منها، وسجّل كل ذلك في كراسات
عديدة...
-فكر أن يكون صاحب قارب صيد يشتغل فيه
صحبة ابنه...
-وفكر أن يكون مربي نحل، أو أرانب.. أو
بائع سمك، أو خضر، أو غير ذلك...
لم يكن يستنكف من أي شغل يمكن أن يدر عليه
الفلس الحلال، ويقيه شر الخصاصة، وذل
الإرتهان للناس. كان يريد أن يكون ملكا (King)
كما هو اسم شهرته، وكان يريد أن ينقذ ولي
عهده: محمد، ابن محمد، ابن محمد، أو محمد
الثالث (كما يتسمى أبناء الملوك) من
متاهات التشرد. لم تكن أحلامه لعالم ما
بعد السجن تتجاوز ذلك...
لم يجد العادل، ولا محمد في الظروف ما
يساعد على تحقيق هذه الأحلام البسيطة..
فالتجآ لأسلوب يعرفانه جيدا: إن لم يكن من
سبيل لحياة كريمة، فلا أقل من موت
مشرّف... أما الصمت فلا يعني غير استمرار
المظالم... لا يمكن لأحد أن يدعي أن
المضربين قد ركبا مركبا لا يعرفانه... فقد
خبرا الإمتناع عن الطعام عشرات المرات،
وأصبح هذا الشكل من الاحتجاج لهما صديقا
وملجأً...
محمد، المرح، الفكه، طيب المعشر، الذى
يضحك من أي شيء، يمكن أن يصبح شخصا لا
يعرفه أحد، ولا يثنيه عن طريقه شيء... في
أحد الإضرابات، في سجن الهوارب، طالت
معاناته أسابيع... أصبح 'الأسمر المسرار'
في وزن عصفور، لم يمتنع عن الطعام فقط،
امتنع أيضا عن الماء، ولو وجد سبيلا
للإمتناع عن الهواء لفعل...
هذا هو السياق الشخصي لإضراب الأخوين...
أما السياق العام لهذا الإضراب فهو
التالي:
ذلك أنه مما غدا مميزا للساحة التونسية من
أشكال نضالية اعتماد اسلوب اضراب الجوع في
مسائل تهم أفرادا أو مجموعات صغيرة، أو
تهم مسائل تتعلق بالوضع السياسي في البلاد
عموما...
للمراقبين أن يقرروا إن كان الأمر يتعلق
بقدرتنا الخارقة على ابتكار الأشكال
النضالية الطريفة، أم أن أشكالا نضالية
سجنية تكتسح الساحة... ولكن المؤكد أن
اعتماد هذه الوسيلة –التونسية- يؤشر على
حجم القهر الذى ينهش المتضررين، فيقايضون
أجسادهم، أو لنقل حياتهم، مقابل الحصول
على مطالب بسيطة، وإن عز الحصول على تلك
المطالب، فلا أقل من التعبير عن رفض وضع
لا يشرّف المتسبب فيه، ولا يعفي الضحية من
البحث عن سبيل للحصول على حقوقها... كما
أن اعتماد هذه الوسيلة يعني من جهة أخرى
انسداد الآفاق أمام أشكال أخرى، أو غياب
الأذن التي تسمع، فتتفاعل، فتستجيب، أو
عدم وضوح الصورة عند الجهات التي يمكن أن
ترفع المظالم...
*****
الإضراب الذى شرع فيه سجينان سياسيان
سابقان يثير الحديث عن ملف يشمل الآلاف،
ويمس جوانب حياتية أساسية، وقليلا ما يتم
الإنتباه إليه، والإشارة له، والتحرك من
أجله في شموله وتعدد أبعاده...
الساحة التونسية المستقلة والمعارضة تركز
على الملف السياسي، باعتبار حقوق المواطنة
هي أحد المداخل السياسية لكل إصلاح
ونهضة.. ولكن هناك ملف آخر لا يقل أهمية،
يتنامى الإنتباه إليه، والتفاعل معه، وإن
بحجم لا يزال ضعيفا، وهو ما يتعلق بالحقوق
الأساسية للإنسان، بما هو إنسان... لا
أقصد به الملف الإجتماعي الذى يتكاثر
ضحاياه يوما بعد يوم، باعتبار انتمائهم
الفئوي، والذى يعبر عن نفسه بصيغ من
التململ والإحتجاج مختلفة، وإنما أقصد
ضحايا مظالم وسياسات تستهدفها باعتبار
تجرّئها على التعبير عن أفكارها ومواقفها،
واختلافها عن السائد، وبالتحديد عن
الرسمي...
وفي غياب الإحصاءات الدقيقة فإنه لا
يمكننا أن ندرك هول الكارثة التي تشوّه
صورة البلاد، وتمس من سمعتها...
ولكن لمحاولة تلمس حدود الصورة، وتخومها،
يمكننا أن نتساءل:
-كم من الإطارات أنفقت عليها المجموعة
الوطنية بسخاء، فبادلتها سخاء بسخاء،
فتميزت تحصيلا معرفيا، وكفاءة مهنية،
ونزاهة إدارية، هُمِّشت بقصد، فحُرمت
البلاد من علمها وكفاءتها، وإخلاصها
وحماسها... كم من الأساتذة والجامعيين
والمهندسين والموظفين السامين ينفق الواحد
منهم يومه أمام 'نصبة' لبيع الخضر، لعله
يوفر ما يقارب الكفاف... بالتأكيد لا
يتعلق الأمر بحالات قليلة، ولا بعشرات،
ولا بمئات... إننا أمام ملف يشمل بالتأكيد
الآلاف.
لا يتعلق الأمر بمسألة تربوية,, تخص
التفضيل بين المهن، إذ الأصل أن الرزق كله
طيب ما دام حلالا-وهؤلاء يتحرون الحلال في
مكاسبهم- ولا يتعلق الأمر فقط بسياسة
إذلال نفسي، إذ ما أصعب أن يجد المرء نفسه
بعد أن جرب الإكرام والوجاهة في مهنة
تناسب تحصيله وما أنفق فيه من جهد، ما
أصعب أن يجد نفسه في شغل يوصف عند الناس
بالوضاعة، ولا يوفر مع ذلك لا الإستقرار
النفسي، ولا الكفاية المادية...
لا يتعلق الأمر بهذا، ولا بذاك فقط...
وإنما يتعلق أيضا بما يمكن أن نسميه
إهدارا للموارد العامة. فحينما يحرم الرجل
المناسب والكفؤ مما يناسبه ويتماشى مع
كفاءته عقابا له عن قناعاته ومواقفه،
فإننا نجد أنفسنا بالضبط أمام تبديد
للثروات العمومية...
هذا ملف يشمل في نفس الوقت التهميش
الاجتماعي، والإذلال النفسي، وإهدار
الثروات العمومية، ومن أوجه الإذلال
النفسي التابعة له أن يحرم الآلاف من
إثبات صفاتهم العلمية في بطاقات هوياتهم،
لتثبت بدل مما أنفقوا في سبيله أعمارا
وأموالا وعرقا، صفة أخرى ترمز لهذا
التهميش الاجتماعي: عامل يومي، أو عاطل عن
العمل...
-وكم من التونسيين يجدون أنفسهم محرومين
من التنقل داخل بلدهم، بين مدينة ومدينة،
فيحرم المرء من متابعة علاج يأمره به
الطبيب، ويحرم من مواكبة مناسبات عائلية
بدعوى المراقبة الإدارية.
-وكم من التونسيين يجدون أنفسهم مجبرين
على الوقوف المذل أمام مراكز الأمن لتسجيل
الحضور.. مرت بهذه الطريق عشرات الآلاف من
التونسيين، ولا يزال المئات يعانون هذه
العقوبة المذلة...
-وكم من التونسيين يحرمون وأهليهم من
تلقي علاج مناسب، بعد أن أنهكت السجون
منهم الأبدان والأرواح، يعانون موتا بطيئا
أقسى على النفس مما عانوا في السجون، إذ
كان لها هناك على الأقل عزاء التّعلل
بفقدان الحرية، أما الآن فهي تحرم من
العلاج في حالة توهم بالحرية...
-وكم من التونسيين يحرمون وأهليهم وحتى
أقاربهم من جوازات السفر... (للتمثيل فقط،
سلمت زوجتي ملفا للحصول على هذه الوثيقة
منذ ما يقارب الثلاثة أشهر، وبالتحديد منذ
يوم 12 افريل 2008 ولم تتسلمها لحد الآن
رغم مراجعتها المتكررة للجهات المعنية).
-وكم منهم يحرم من السفر رغم توفر الوثائق
الضرورية...
-وكم منهم يحرمون من العودة الى أوطانهم
بعد أن طحنتهم الغربة والحنين عقودا من
الزمان... مات من مات من أحبابهم وما
ألقوا عليه نظرة أخيرة، ولا شيعوا جنازته،
ولا وقفوا مترحمين على قبره...
وتزوج من تزوج، وولد من ولد، وحرموا من
مشاركة أهليهم لهو الصيف وجد الشتاء...
آلاف مؤلفة، بعضهم غادر البلاد في قوة
الشباب وهو يطرق الآن أبواب الشيخوخة...
وبعضهم غادرها جنينا وهو يداعب الآن
أطفاله، وبعضهم لا يعرف تونس إلا من خلال
رواية الآباء والأجداد.
أبناء حركة النهضة ومناصروها هم أكثر
ضحايا هذا الملف الثقيل... غير أن هناك
مئات الضحايا من غيرهم، إذ يحرم العديد من
قدماء المساجين من اليسار والقوميين لحد
اليوم من حقوقهم السياسية والمدنية، بعد
محاكمات مضت عليها الآن أكثر من ثلاثة
عقود...
ليجرأ من يشاء على وضع كشّاف لهذا الملف
الرهيب، بالأسماء والتواريخ والأحداث، ولن
يكون هذا الكشّاف مريحا لأحد... لا للسلطة
الحاكمة، ولا حتى للضحايا، إذ سيُسألون:
أما وجدتم من سبيل لرفع المظالم عنكم؟
*****
هذا الملف سياسي في سياقاته، بمعنى أن
الأوضاع والمناخات التي ولّدته هي أوضاع
ومناخات ودواع سياسية، ولكن يجب ألا
يُسيّس، أي أنه لا يجب أن يكون موضوع
مقايضة أو مساومة، لأنه يتعلق بحقوق
أفراد، وإن تجاوزت أعدادهم الآلاف.
لا يجوز لأحد أن يفقد الثقة في قدرة
التونسيين على التعامل بحكمة مع كل
الملفات مهما بلغت درجة تعقّدها... ولذلك
فالمأمول أن يفهم إضراب الأخوين في سياقه
الفردي الخاص، وفي سياق أعم منه باعتباره
نوعا من الإشارة الحمراء لأوضاع تعقدت
وتعفنت ولم يعد بمستطاع أحد من الضحايا
تحملها، ولم يعد بإمكان سمعة البلاد أيضا
أن تتحملها...
والمأمول أيضا أن تُفصل مثل هذه الملفات
عن سياق السياسة، أي عن علاقة السلطة
بالمعارضة وبالحركة الإسلامية، وأن تجد
بالتالي التفهم المطلوب لمعالجتها، فتكون
هذه الإشارة الحمراء قد آتت أكلها، فتجنب
آلاف المقهورين اللجوء الى مثل ما لجأ
إليه العادل ومحمد من وسائل، إن لم تأت
بنتيجة ملموسة، فإنها على الأقل تحقق راحة
الضمير بالخروج عن مواطن الصمت الذى قد
يكون أحيانا إخلادا الى الأرض، وتزكية لما
لا يمكن أن يُزكّى...
الأخوان محمد والعادل: صبرا جميلا ووفقكما
الله...
سوسة، 2
-07-
2008
(المصدر: موقع نهضة إنفو (أوروبا) بتاريخ
4 جويلية 2008)
|