سيّدي الرئيس .... السادة المستشارين،
لقد عهد إليكم الفصل في القضايا العشرة
المعروضة عليكم والمرفوعة في حقّ نخبة أو
قل عيّنة من المواطنين التونسيّين
المسكونين بهاجس احترام الشرعيّة في هذه
البلاد و لذلك فهم يطعنون في الأمر
الترتيبيّ عدد 629 الصّادر عن رئيس السلطة
التنفيذيّة يوم 03 أفريل 2002 لدعوة
الناخبين للاستفتاء في مشروع التحوير
الدستوريّ.
ونحن وكما جاء في عريضة الدّعوى ننسب إلى
هذا الأمر الترتيبيّ عدد 629 مطاعن ثلاثة
هي خرق القانون والانحراف بالسلطة و عدم
الاختصاص للأسباب و طبق المستندات المثبتة
بعريضة الدّعوى وبتقريرنا الإسهابيّ
المقدّم لكم في 30 ماي 2008.
ونحن لا نرى حاجة إلى إعادة شرح المطاعن
فهي واضحة للعيان و تتلخّص في أنّ الجهة
التي أصدرت الأمر الترتيبيّ المطعون فيه (
رئيس الجمهوريّة ) كانت في عجلة من أمرها
و لفرط حرصها على إجراء الاستفتاء و
الحصول على نتيجته في أقرب وقت ربّما
اختارت حتى دوس قوانين البلاد. وذلك
بإسناد نفسها تلقائيّا صلاحيّة تنظيم
الاستفتاء من ألفها إلى يائها حال أنّ هذه
المسألة من أخصّ اختصاص السلطة التشريعيّة
( البرلمان ) طبق فصول الدّستور و
المجلـّة الانتخابيّة لتعلـّقها بالحريّات
العامّة و المشاركة السياسيّة.
صحيح أنّ المجلـّة الانتخابيّة كانت خالية
في سنة 2002 من الأحكام المتعلـّقة
بالحملة التفسيريّة للاستفتاء ومن يشارك
فيها و طبق أيّ شروط و صحيح أنّها لم تكن
تتضمّن أيّة إشارة إلى طريقة التصويت وفرز
الأصوات و طريقة احتسابها مثلما فصـّلت في
خصوص انتخاب مجلس النواب ورئيس الجمهوريّة
أو حتى الانتخابات البلديّة.
لكنّ خلوّ المجلـّة الانتخابيّة لسنة 2002
عن مثل هذه المواضيع لا يعطي مطلقا و من
الناحية القانونيّة الصّرفة لرئيس
الجمهوريّة صلاحيّة سدّ هذا الفراغ لينتصب
مشرّعا مغتصبا لاختصاص لا يعود له أصلا
سيّما أنّ رئيس الجمهوريّة الحاليّ هو
المستفيد الأوّل من هذا الاستفتاء و لذلك
فقد حلّ بنفسه محلّ البرلمان لينظـّم
استفتاء 2002 طبق اختياراته و مشيئته
ليحصل على نتيجة 99.99% و ذلك في خرق واضح
للقانون و في انحراف واضح بالسلطة لأنّ
الحرص على احترام القانون لو وقع كان
يتطلـّب من رئيس الجمهوريّة أن يبادر بعرض
مشروع قانون على مجلس النوّاب لإتمام
المجلـّة الانتخابيّة و ملئ الفراغ
الموجود فيها بخصوص تنظيم الاستفتاء ثمّ
إصدار أمر ترتيبيّ بعد ذلك لدعوة الناخبين
للاستفتاء. لكن من الواضح أنّ العجلة و
الرّغبة في الإسراع في الاستفتاء و الحصول
على نتيجته المخطّط لها مسبّقا كانت
تتفوّق على الواجب المحمول على رئيس
الجمهوريّة في احترام قوانين البلاد.
وإنّنا لا نريد سيّدي الرّئيس التبسّط في
بيان التـّأثير الحاسم في طريقة تنظيم
الاستفتاء الواقعة بالأمر المطعون فيه على
نتيجة الـ 99.98% المتحصّل عليها لكن ما
نودّ لفت النـّظر إليه بل أنّ ما نشدّد
عليه هو أنّه و بعد إجراء الاستفتاء في 26
ماي 2002 و بعد الحصول على النتيجة المراد
تحقيقها قامت السلطة فعليّا بعد أكثر من
سنة بتدارك الفراغ الموجود بالمجلـّة
الانتخابيّة فوقع إتمامها بالقانون
الأساسيّ عدد 58 المؤرّخ في 4 أوت 2003
فأضافت لها فصول منظـّمة للاستفتاء و يكفي
الاطـّلاع عليها للوقوف على أنّها كانت
تتعلـّق بنفس المواضيع التي تناولها الأمر
الترتيبيّ المطعون فيه وفي ذلك دليل قاطع
لا يقبل الجدل على أنّ الأمر الترتيبيّ
كان خارقا للقانون بشكل صارخ ممّا يجعل
شرعيّته منعدمة و جميع الأعمال المترتـّبة
عنه باطلة بدءا باستفتاء 26 ماي 2002 و
نتيجته وصولا إلى التحوير الدستوريّ و ما
ترتـّب عنه من تجديد ولاية رئيس
الجمهوريّة الحاليّ في سنة 2004 فضلا عن
سنة 2009 و بطلان الحصانة القضائيّة
المسندة له كبطلان إحداث مجلس المستشارين
وغيرها من التنظيمات المحدثة على قاعدة
الاستفتاء المذكور و كلّ ذلك من الناحية
القانونيّة الصّرفة وبقطع النـّظر عن
الأوجه السلبيّة أو الإيجابيّة الأخرى
لاستفتاء 26 ماي 2002.
سيّدي الرّئيس ... حضارات المستشارين ،
أنا أقدّر جسامة الرّهانات التي تطرحها
هذه القضايا العشرة. لكنّ هذه الرّهانات
ذات طبيعة سياسيّة في المقام الأوّل و هو
أمر يجب ألاّ تهتمّ به أصلا هذه المحكمة
التي تنحصر مهمّتها في البوصلة القانونيّة
دون سواها للنّطق بالقانون في عدم شرعيّة
الأمر عدد 629 و إلغائه و إلغاء جميع
النتائج المترتـّبة عنه لما في ذلك من
انتصار للقانون و الحقّ و للشرعيّة و هي
لعمري مسؤوليّة تاريخيّة نحسب أنّ المحكمة
الإداريّة ستكون كعادتها في صدارة من
سينهض بها.
لكن أيّها السّادة لا يفوتني تأكيدا
لأهميّة هذه القضايا و للمسؤوليّة
التاريخيّة المحمولة على هذه الدّائرة أن
أشير إلى بعض المؤشـّرات غير المطمئنة
بصراحة في التعامل السابق مع هذه القضايا:
- ذلك أنّ كلّ واحد من المنوّبين
محمد الطالبي و محمد محفوظ و الطاهر
الشايب و علي تنجال وشكري يعقوب و مختار
اليحياوي و نزيهة رجيبة و سهام بن سدرين
قد رفع قضيّته في 04 جويلية 2002 لكنّ
الرّئيس الأوّل للمحكمة الإداريّة لم يقم
وقتها بإحالتها إلى الدّائرة الاستئنافيّة
المختصّة بل أحالها إلى الدّائرة
الابتدائيّة الأولى حيث بقيت هناك عامين
كاملين من 13 جويلية 2002 إلى 12 جويلية
2004 تاريخ إرجاع الملفـّات إلى الرّئيس
الأوّل.
- أنّ القضايا بقيت لدى الرّئيس
الأوّل دون مبرّر من 12 جويلية 2004 إلى
19 أفريل 2008 لمّا تقرّر إسناد كلّ واحدة
منها عدد و إحالتها إلى هذه الدّائرة و
بذلك تكون هذه القضايا قد بقيت في سبات
عميق لدى كتابة الرّئيس الأوّل مدّة تزيد
عن الخمسة سنوات و تسعة أشهر ( من تاريخ
رفعها في 02 جويلية 2002 إلى تاريخ
إحالتها على الدّائرة المختصّة في 19
أفريل 2008 ) لم نقف فيها كلسان دفاع
مكتوفي الأيدي بل قدّمنا ستـّة عشرة
تذكيرا فيها للرّئيس الأوّل للمحكمة
الإداريّة و قدّمنا تظلـّما منذ سنة 2002
إلى المفوّضية العليا لحقوق الإنسان و إلى
مجلس حقوق الإنسان بعده كما سجّلنا شكوى
في سنة 2006 بالدّولة التونسيّة لدى
المحكمة الإفريقيّة لحقوق الإنسان و
الشـّعوب مستندين في ذلك على حقّ كلّ واحد
من المنوّبين في أن يقع النـّظر في
قضيّته.
والحقيقة أنّنا و منذ أفريل 2008 وصلتنا
تأكيدات من مجلس حقوق الإنسان بجينيف و من
المحكمة الإفريقيّة أنّ الدّولة التونسيّة
وعدت بالنـّظر في هذه الدّعاوي فكانت
مفاجأة سارّة تلك التي تلقيّناها يوم 24
ماي 2008 بتعيين هذه القضايا للمرافعة
لهذا اليوم بعد إحالتها على الدّائرة
الاستئنافيّة المختصّة وإسنادها أعدادا.
لكن ما شدّ انتباهنا بوجه خاصّ عند
اطـّلاعنا على ملفـّات القضايا يوم أمس
بكتابة هذه الدّائرة هو السّرعة القياسيّة
بل الخارقة لعادات هذه المحكمة في
الإجراءات المتـّخذة بشأن هذه القضايا.
فهذه الدّائرة تعهّدت بالملفّ يوم 19
أفريل 2008 و بمجرّد ذلك عيّنتم يا سيّدي
الرّئيس يوم 22 أفريل 2008 مستشارة مقرّرة
مهمّتها حسب الفصل 44 من قانون المحكمة
التحقيق في القضيّة و تفحّص مستنداتها و
توجيه المراسلات إلى الأطراف بما كان
يفترض أن يقع توجيه عريضة كلّ دعوى إلى
الإدارة و تلقـّي جوابها و عرضه علينا
للردّ إلى غير ذلك من أعمال التحقيق. لكنّ
المدهش حتى لا أقول شيء آخر أنّ السيّدة
المستشارة المقرّرة لم تقم بأيّ شيء ممّا
ذكر فلا هي وجّهت للوزير الأوّل مذكـّرة
الطـّعن ولا نبّهت عليه للجواب و كأنّه لا
وجود لأيّ نزاع.
بل أكثر من ذلك أيّها السّادة فقد أرجعت
المستشارة المقرّرة المحترمة الملفّ إليكم
يا سيّدي الرّئيس على حالته يوم 14 ماي
2008 فأحلتموه طبق الإجراءات في نفس اليوم
إلى الرّئيس الأوّل لهذه المحكمة لتكليف
مندوب دولة يتولـّى إعداد ملحوظات كتابيّة
تظرف بالملفّ طبق الفصول 22 و 49 و 66
لكنّ الرّئيس الأوّل تخلـّى عن هذا
الإجراء و أرجع لكم الملفّ يوم 14 ماي
2008 أيضا لتعيين القضيّة للمرافعة ...
هكذا دون أيّ إجراء آخر فكانت جلسة
اليوم.
فماذا وراء الأكمّة يا ترى ؟ إذ من غير
المتوقـّع أن يكون نزاع من شاكلة ما هو
مطروح عليكم اليوم يجابه بمثل هذا الإحجام
عن القيام بالإجراءات. فهل كان ذلك مردّه
الاستعجال أيضا والرّغبة في الفصل في ظرف
شهرين لتدارك سبات الخمسة سنوات والتسعة
أشهر ؟
ليس لدينا يا سيّدي الرّئيس جوابا محدّدا
و لا نريد سبق الأحداث لكنّنا نجزم بأنّ
الحلّ القانونيّ لهذه القضايا العشرة واضح
و جليّ فخرق رئيس الجمهوريّة للمجلـّة
الانتخابيّة و للدّستور في الأمر المطعون
فيه هو محلّ إجماع المختصّين في القانون
الإداريّ و أنّ انحرافه بالسّلطة ماثل
للعيان كوضوح اغتصابه اختصاص ليس له أصلا
و بالاستناد إلى ذلك يمكننا أن نفسّر عدم
توجيه مذكّرات الدّعوى إلى الإدارة و بذلك
أيضا تفسّر عدم ردّ الإدارة عنها كعدم
تعيين مندوب دولة.
سيّدي الرّئيس ... حضارات المستشارين، لقد
تناولنا في تقريرنا المقدّم إليكم في 30
ماي 2008 كلّ هذه المواضيع و نحن نتمسّك
بهذا التقرير و نطلب الحكم بمقتضاه مع
علمنا بصعوبة المهمّة. و هنا أرى لزاما
عليّ الرّجوع إلى ما ذكرنا بشأن
المسؤوليّة التاريخيّة فأنتم ستفصلون في
هذا النّزاع على ضوء ملفّ خال من أعمال
التحقيق ومن ملحوظات مندوب الدّولة التي
من مهامّه حسب الفصل 22 الدّفاع عن
المصلحة العامّة و لسنا ندري أيّ ملفّ
أهمّ من هذه القضايا تكون فيها الحاجة
أشدّ إلى ملحوظات مندوب الدّولة و من ثمّة
تأتّى المسؤوليّة التاريخيّة المحمولة
عليكم عند الفصل في هذا النّزاع الذي
سيحظى باهتمام خاصّ داخل تونس و خارجها
فمهما كان حكمكم سواءا كان برفض الدّعوى
أو بقبولها فأنّ ما ستستندون إليه و
التـّعليل الذي ستصيغونه لحكمكم سيكون
مرجعا و محلّ دراسة و تمحيص من طرف طلبة
الجامعات و المختصّين في القانون. كما أنّ
حكمكم سيكون بمثابة وضع هذه المحكمة
الإداريّة على المحكّ في تطبيق القانون
بالتجرّد و الموضوعيّة ليس فقط في مواجهة
المقرّرات الإداريّة الصادرة عن الوزراء
كما ثبت ذلك في السّابق بل حتى في مواجهة
الأوامر الترتيبيّة الصادرة عن رأس
السّلطة نفسها.
إنّكم يا سيدّي الرّئيس ... حضارات
المستشارين، إزاء أوّل طعن مرفوع ضدّ أمر
ترتيبيّ صادر عن رئيس الجمهوريّة و بذلك
فإنّ حكمكم في هذه القضايا سيرسم طريق
المستقبل لهذه المحكمة التي بحكم معاشرتي
لأحكامها من موقع اختصاصي و تدريسي
للنّزاعات الإداريّة بالجامعة أستطيع أن
أقول بأنّها مفخرة قضائيّة و أنّها صمّام
أمان للشرعيّة القانونيّة للقرارات
الصادرة عن الوزراء فعسى أن تكون كذلك
أيضا في تعاملها مع الأوامر الترتيبيّة
الصّادرة عن رأس الدّولة و لكم الشكر
الجزيل
10 -06- 2008
|