في أواخر سبعينات القرن الماضي كتبت مقالا
في جريدة الرأي التونسية – وكانت يومها
لسان حال المعارضة الديمقراطية والحقوقية-
أثارت ردودا طيلة أشهر كاملة إلى درجة أن
موضوعها كاد أن يصبح عنصرا قارا في
الجريدة.*
كان عنوان المقال: لماذا نحن متخلفون؟ مما
أدى بالبعض إلى إدانة الصيغة "
الاستفزازية" للسؤال .
لكنني لم أقصد أبدا استفزاز أحد ،مثلما لا
أقصد اليوم - والتهمة نفسها تلاحقني -مثل
هذا الشيء عبر ما أطرح من أسئلة وما أقدم
من أجوبة.
أذكر استغرابي للصدى الهائل الذي لقيه
المقال وكنت آخر من توقعه .ربما كان السبب
في بساطة الطرح أو وضوحه ، أو صراحته ، أو
قطعه مع الأجوبة التي تعطى له عادة دون
تكلف عناء تفكيك عناصر المشكل.
المهمّ أن النقاش الواسع،
والمعمق أحيانا ،الذي أثاره المقال، كان
بحد ذاته ظاهرة صحية تبشر بكل خير لأنه
ينبئ ببداية التعافي من المرض.
بطبيعة الحال تباينت الردود ومسحت كل
الطيف الممكن من التبريرات ، هذا عندما لم
يتمّ إنكار الظاهرة نفسها والدخول في
مهاترة حول مقاييس التقدم والتخلف، وكيف
أننا في الواقع متقدمون بقيمنا الروحية
على الغرب المادي الخ.
ربما كره البعض- وأعتقد اليوم أنهم كانوا
على حق-ما تضمنه المقال من جلد للذات ومن
وسخرية مريرة من الشعب والأمة ، ومن
تقريع ولوم وغضب.
أعيد اليوم قراءة نفس المقال وفي جرابي
ربع قرن من التجربة السياسية والحقوقية ،
وما لا يحصى من ساعات القراءة والتفكير في
الموضوع والنقاش حوله مع العرب وغير
العرب، لأكتشف أن السؤال كان فعلا في محله
...أما الإجابة عليه
فكانت جد
سطحية .
يعرف كل الكتاب والباحثون قاعدة أنه لا
أشق على النفس من إعادة قراءة ما كتب
الإنسان قبل سنين.هو يكتشف عادة السذاجة
التي كان يتخبط فيها وضبابية أفكاره وحجم
الأخطاء التي ارتكبها ...والسؤال الذي
يلاحقه أثناء هذه المراجعة المزعجة ما
قيمة كتاباتي الآن إذا كنت
سأقرئها بعد عشر سنوات لأصاب بنفس الإحباط
الذي أشعر به وأنا اقرأ ما كتبت في العشر
سنوات الماضية.
وحيث أنه لا حلّ لهذه الإشكالية، فسأواصل
نصي هذا قائلا أنني لا أعرف كيف ستكون
أفكاري بعد سنوات ، لكن ما أنا واثق منه
أنني لو أعدت كتابة مقال" لماذا نحن
متخلفون؟" لجاء ردي جد مختلف
---------------
* يمكن الإطلاع عليه في كتابي "لماذا ستطأ
الأقدام العربية ارض المريخ " – الموقع
عما كتبت سنة 1979.
كانت إجابتي عن السؤال آنذاك تتمحور
بالأساس حول مقارنة بين أخلاقنا
وأخلاقهم-هم أهل الرقي والتقدم- وبيت
القصيد أننا أمة ذهبت لأن أخلاقها ذهبت
.أما المتقدمون فحافظوا أو طوروا الأخلاق
التي فقدناها مثل الانضباط وحب العمل
المتقن والنظافة وحس المواطنة الخ.وبالطبع
لمّحت لوزر الاستبداد دون استطراد كبير،
فلا وضعية الجريدة ولا وضعيتي كمعيد شاب
في كلية الطب كانت تسمح بالتوغل كثيرا في
حقل الألغام هذا.
صحيح أنني لا زلت مؤمنا بدور الأخلاق في
نهوض الأمم وأفولها ، لكنني انتبهت باكرا
أن هذا العامل نتيجة لا سببا...وأن عليّ
أن أحدّد بدقة أكبر المتهم الرئيسي وعدم
التوقف عند الكومبارس.
وبالطبع كان المرشح للإدانة جاهزا تحت
الطلب وأنا في خضم معترك الحياة السياسية
والحقوقية التونسية والعربية . كنت , ولا
أزال إلى حد كبير، أعزو تخلفنا لنظامنا
السياسي الاستبدادي ، حتى وإن قبلت بشيء
من الامتعاض، أنه ليس سوى مرآة الاستبداد
المتغلغل فينا دينا وثقافة وعائلة وتربية
و أننا لا ننتج النظام الاستبدادي إلا
لأننا مجتمع استبدادي محوره الإنسان
الاستبدادي .هذا الإنسان ليس الدكتاتور
فقط وإنما الأب والمربي ورئيس القسم
والشرطي في الشارع والمثقف ،دون أن ننسى
المكانة المتميزة في القائمة للمعارض
الحقوقي والديمقراطي عدو الاستبداد خارج
بيته وعمله وحامل لواءه في تعامله مع أقرب
الناس إليه.
هذا ما أدى بي إلى البحث عن " السبب" في
الثقافة العربية والإسلامية رغم شدة
الانتباه للفخ المنصوب عند الدخول في هذا
الطريق ، والمتمثل من جهة في إبراء ذمة
الاستبداد السياسي ومن جهة أخرى في
التسليم بأن التخلف والاستبداد قضاء وقدر
بما أن الثقافة لا تتغير بانقلاب أو
بانتخاب ، وإنما هي كلكل بالغ الثقل لا
يتزحزح قيد أنملة إلا بالعقود والأحقاب.
ثم تبين لي يوما أن منهجية البحث عن السبب
الوحيد أو الرئيسي لتخلفنا منهجية عقيمة.
أعتقد أن الفضل في ذلك راجع لتكويني
الطبي. ففي الطب نحن لا نقول بوجود "سبب"
لسرطان الرئة مثلا، وإنما أنه يظهر نتيجة
تضافر جملة من العوامل نسميها عوامل
الخطورة
Risk factors
شاء سوء الطالع أن تتجمع عند نفس الشخص.
وبخصوص هذا السرطان كنت أفسر للطلبة أنه
لا بد لظهور المرض من عامل خطورة هيكلي
هو خلل في المورثات أو الجينات يضعف
مقاومة الجسم للخلايا السرطانية ويقلل من
قدرة التخلص منها ،و عامل خطورة رئيسي
هو التدخين وعوامل خطورة مسهلة
مثل التلوث،أو أمراض رئوية سابقة وربما
حتى الحالة النفسية للمريض.
المهم في هذه النظرة أنه لا بد من تواجد
العوامل كلها لظهور المرض. فمن الممكن أن
يدخن المرء طيلة حياته ولا يصاب بالسرطان
لأن جهازه المناعي يقضي على الخلايا
السرطانية حالما تنشأ .من الممكن أن يكون
هناك تلوث ولا يظهر المرض ، ومن الممكن أن
يكون هناك خلل هيكلي في مستوى المورثات ،
لكن دون تدخين لا مجال للإصابة.
الثابت أن مثل هذه المنهجية أقدر على
تحليل وفهم كل الظواهر المعقدة سواء كانت
من ميدان البيولوجيا أو من ميدان الحياة
الاجتماعية من وهم السبب الواحد واليتيم
الذي يؤدي حتما للظاهرة.
معنى هذا أن التخلف (الاقتصادي والاجتماعي
والسياسي والثقافي والعلمي والتقني الذي
نعيش عليه إلى اليوم، بالنسبة لأمم الغرب
والشرق الأقصى)، هو ضرورة نتيجة تشابك
جملة من الأسباب البالغة التعقيد
والترابط.
هكذا أصبح الهاجس طيلة السنوات الأخيرة
اكتشاف العوامل المسهلة والعامل الرئيسي
وخاصة العامل الهيكلي و وضع نموذج
لتفاعلها في إطار الشبكة المعقدة التي أدت
إلى كارثة من مظاهرها أن أمة بثلاثمائة
مليون نسمة تطبع من الكتب أقل ما تطبعه
بلجيكا بملايينها العشرة ، لكنها تضرب
الرقم القياسي في نسبة الأمية و السجناء
السياسيين بين الأمم الكبرى.
*
لنبدأ بالعوامل المسهلة ويمكن
تعريفها بأنها كل العوامل التاريخية
، الاقتصادية الاجتماعية أو الثقافية التي
يؤدي وجودها لإعطاء دفع كبير للظاهرة أو
لاستفحالها أو لتأخير التغلب عليها ، لكن
غيابها لا يلغي الظاهرة الموجودة بصفة
مستقلة عنها نظرا لفعل قوى أخرى.
سأكتفي هنا بالإشارة لبعضها ، علما وأنني
أتقدم بها في شكل فرضيات يمكن لأهل
الاختصاص قبولها أو رفضها ، على قاعدة
أبحاث علمية ذات منهجية متينة.
ولنبدأ بتفحص العامل الخارجي
( الاستعمار والإمبريالية والصهيونية)
وهو الذي يعتبره الكثير منا مبتدأ الخبر
ومنتهاه. لا بد هنا من تذكير المتعلقين
بهذا العامل كالسبب الرئيسي لوضعنا بأن
العدوان الخارجي على مجتمع ،أو على جسم،
مزدوج التأثير.حيث يمكن أن يكون نعمة
مثلما يمكن أن يكون نقمة.
فالجسم فإذا هاجمته جرثومة فتاكة وجهازه
المناعي يعمل بجدارة ،لا يتعرض إلا لمرض
عابر يعطيه مزيدا من المناعة في المستقبل
. أما إذا كان ضعيفا قبل العدوان ، فإن
عملية رفع التحدي قد تستحيل أو تأخذ وقتا
طويلا ينهك فيه الجسم أشد الإنهاك.
أنظر البيتين التاليين للشاعر الأندلسي
عداتي لهم علي فضل ومنة فلا أذهب
الله عني الأعاديا
هم بحثوا في زلتي فاجتنبتها وهم
نافسوني فاكتسبت المعاليا.
من الواضح أن صاحبنا لا يخشى أعداءه بل
ويطلب من الله أن يكثر منهم حتى يضعوا
دوما الإصبع على زلاته فيسارع لها
بالتصحيح ويكتسب قوة جديدة...كل هذا لأنه
كان في وضع ميزان قوى مع أعدائهم يسمح له
باستعمالهم لصالحه هو.
لكن وضعنا في مواجهة العدوان الخارجي لم
يكن وضع هذا الشاعر. لقد كان ضعفنا السابق
للعدوان من العمق بحيث لم يكن يسمح برفع
التحدي إلا بعد زمن طويل . لذلك لم يكن
هذا العدوان نعمة وإنما نقمة. القضية إذن
سواء، تعلق الأمر بالصعيد البيولوجي ،أو
النفسي، أو الاجتماعي في ميزان القوى عند
المنازلة. مما يعني أن لاستعمار لم يكن
سبب تخلفنا وإنما نتيجته ، وكان من جهة
أخرى سبب استفاقتنا.
العامل المسهل الثاني الذي قلما ننتبه
لخطورته هو هيكلية العائلة
.
إن
نظرية*
Todd
Emmanuel
( والتي أخذها عن أعمال المؤرخ
Freederic le play)
عن تأثيرها في صياغة المجتمعات، جديرة بكل
اهتمام حيث تعطينا مفتاحا إضافيا لفهم
ظاهرة تخلفنا.
مثلا ، ما السرّ في حيوية الرأسمالية في
إنجلترا ومحافظة الرأسمالية في ألمانيا في
القرن التاسع عشر والحال أن الظروف
التكنولوجية والاقتصادية والتطور العلمي
واحدة؟ لا يكتشف الباحث إلا فرقا هو
تركيبة العائلة المختلفة في البلدين. ففي
بريطانيا ترمي العائلة بأبنائها الذكور
منذ القرن السابع عشر إلى الشارع حال بلوغ
المراهقة وليتدبروا أمرهم . هذا ما أعطى
أجيالا من المغامرين في كل الميادين
يتميزون بحس المبادرة والتعويل على الذات
والتنافس الشديد من أجل البقاء. أما في
ألمانيا فالأب شمس يجب على الأفلاك أن
تدور حوله إلى وفاته مثلما هو الحال في
بلداننا. هكذا يورث الأب مصانعه لابنه
المنصاع له إلى آخر حياته . هذا وضع لا
يدفع كثيرا على المغامرة والتجديد. وقس
على نفس المنوال في كل المجالات. معنى هذا
أن تركيبة معينة للعائلة تخلق مجتمعا
وأفرادا لهم جملة من الخصائص السلبية أو
الإيجابية لا توجد في مجتمعات أخرى
لاختلاف تركيبة ونفسية العائلة. فهذه
الأخيرة هي التي تخلق، أو تسهل، أو تحثّ
على تبني مواقف وتصرفات مثل الاستقلالية
أو التبعية، التجديد أو المحافظة،
ومن هذا المنظور يمكن القول أن العائلة
العربية آلة رهيبة لإنتاج نوعين من البشر:
الخانعين أو المتمردين، والجنس الأول هو
الغالب. فالدكتاتور الصغير المسمى في
اللغة ( وليس الأمر من قبيل الصدفة رب
العائلة) يعدّ أطفاله للانخراط بسهولة في
منظومة الدكتاتور الكبير القابع على هرم
الدولة والساهر عبر جهازها الأيدولوجي
،على بث صورة لله وكأنه الدكتاتور الأكبر
الذي يجب أن تنتظم علاقتنا معه على نفس
الأسس التي ربتنا عليها العائلة والدولة:
الخوف والطاعة في مقابل الرضا والمكافأة.
ومثل هذه العائلة لا تنتج إلا نادرا الشخص
الواثق من نفسه ، المستقل بقراره ،
المغامر والمبادر الذي هو أساس كل تجديد
وكل تقدم.
ثمة عامل مسهل أخير أعتقد أنه لعب دورا
هو التسمم الأيدولوجي بالأفكار
الخطرة .
إن سهولة الوقوع في التخلف وصعوبة الخروج
منه رهن أيضا بما ننتج من المستوى الرمزي
-----------
*Emmanuel
Todd la troisième planète – Seuil –
Paris 1980
والمعنوي، فالتقدم بمفهومه الشامل هو
الإنتاج الكثيف والجيد والمتواصل لمجموعة
بشرية من المواد والأفكار والتنظيم
والقيم والفنّ.
من هذا المنظار يمكن القول أننا لم ننتج
في القرنين الأخيرين شيئا يستحق الذكر، لا
بالنسبة للغرب ولا بالنسبة للتراث، الذي
أصبحنا نتعيش عليه كاليتيم على الوقف .
هكذا أخرّنا بالجدب والاجترار تحرّرنا
وعمّقنا تبعيتنا حتى بعد التحرر السياسي
من الاستعمار بإنتاج فكر ما زال بتشخيصه
التبسيطي للأزمة وحلوله السحرية جزءا من
المشكلة لا جزءا من الحل.
ولو دققنا في هذه العوامل المسهلة
لاكتشفنا صلتها الوثيقة بالاستبداد
السياسي الذي يمكن اعتباره في نموذجنا
السبب الرئيسي.
ربما يجب أن اعترف هنا بما أدين له لبعض
المفكرين الذين أناروا لي السبيل والذي
لولاهم لبقيت أتخبط في الظلمات أو اتبع
سرابا .
ما من شك أن أقربهم إلى روحي وعقلي هو
الكواكبي الذي علّمنا نحن العرب والمسلمين
منذ أكثر من قرن كل ما يجب أن نعلم عن
هذه العاهة والآفة ... لكننا لم نتعلم منه
شيئا.
أذكر أنني قلت يوما ممازحا أخا عزيزا
أنه إذا كان تلميذ ماركس في العقيدة وابن
سينا في الطب وأدورنو في السياسة، فإنني
تلميذ ابن عربي في العقيدة والرازي في
الطب والكواكبي في السياسة. لكن رغم شدة
إعجابي بالرجل ومحاولاتي المتواضعة لتحديث
أفكاره والنضال الذي لم ولن ينتهي يوما ضد
الاستبداد ، فإنني أنحى اليوم للتقليل
من دوره في ظاهرة التخلف.
حتى لا يخطأ فهمي أو يقال أنني أتناقض هنا
مع ما هو مكتوب لاحقا، أسارع للتوضيح
بالقول أنني أعتبر الاستبداد عاملا بالغ
الأهمية . لكنه يأتي بعيدا وراء ما أسميه
العامل الهيكلي الذي أدين باكتشافه لباحث
، لا يمكن لمثقف أو صانع قرار يريد مواكبة
أفكار هذا العصر، أن يجهل نظرياته هو
الكاتب الأمريكي
Jared Diamond *
إنه من الصعب جدا تلخيص أفكار بالجدة
والطرافة والعمق والشمولية كالتي تتدافع
في هذه الكتب الثلاثة ، لكن الأمر ضروري
لأفسر ما أعنيه بعامل الخطورة الهيكلي
لتخلفنا.
---------------------------
*
قد يكون من النافع جدّا ترك كل ما لديك من
نصوص تنتظر تفرغك، وتأجيل قراءة الجرائد
والمجلات، وحتى مشاهدة الجزيرة ،
إلى أن تنتهي من الكتب الثلاثة:
-The Rise and fall of the third
Chimpanzee
-Guns , Germs and steel
-Collapse: How societies choose to fail
or survive
)Vintage
publications -2005(
الطريف في الأمر أن هذا العامل الأول،
والأخطر، والأهم ،ومنطلق كل الشيء، كان
واضحا أمام عينيّ مثلما كان
ولا يزال
واضحا للجميع ...لكن بداهته هي التي
جعلته مخفيا على بصر بلا بصيرة.المرة
المقبلة التي ترى فيها على شاشة
التلفزيون، في نشرة الأخبار الجوية، صورة
الأرض من الفضاء، توقف لحظة عند مقارنة
خاطفة بين خضرة الأراضي في الغرب وصفرتها
الموحشة على امتداد الوطن العربي. سترى
هذا العامل الهيكلي يخطف الأبصار منذ وجدت
مثل هذه الصورة.
والآن عودة للنظرية التي ستعطينا مفتاح
قراءتها.
يبدأ
Jared Diamond
تفكيره
بإلقاء سؤال شبيه بالذي ألقيته على نفسي
وعلى قرائي في نهاية السبعينات : لماذا
تقدم الغرب وتخلف أهل غينيا الجديدة ؟
لماذا لم يحتل هنود أمريكا الجنوبية
أسبانيا في القرن السادس عشر والعكس هو
الذي حصل؟
يتخلص الرجل من قصة التفوق الحضاري و حتى
البيولوجي للغربيين بكثير من الازدراء
استنادا إلى حجتين . الأولى هي أن أطفال
البدائيين في غينيا الجديدة يتعلمون قيادة
الطائرات بنفس سهولة أطفال البرجوازيين
البيض. والثانية ،وهي الأهم، أن الغرب، لو
كان لديه تفوق عرقي، لكان دوما متفوقا
لكن العكس هو الذي يثبته التاريخ .فقد بقي
في آخر القافلة تسعة أعشار تاريخ الحضارة
الإنسانية.
يتطلب توضيح النقطة التذكير بأن الحضارة
*بدأت منذ عشرة آلاف سنة، تحديدا في منطقة
الهلال الخصيب ،وذلك باكتشاف الزراعة. لكن
هذه الأخيرة لم تصل بريطانيا إلا في
الألفين وخمسمائة سنة الأخيرة. إن كل ما
يقال عن الحضارة الإغريقية والرومانية
تهويل وتضخيم لإخفاء حجم وعمق التخلف
الغربي . فكاتدرائيات العصور الوسطى كانت
لتكريم ديانة من الشرق قضت على الأديان
المحلية . وفي نفس السياق بقي الغرب يتعيش
على ديانات وعلوم الشرق الأوسط
وتكنولوجيا الصين إلى انطلاق نهضته.
والأهم من هذا كله أنه ما كان يدخل عصر
الزراعة أصلا لولا نباتات وحيوانات
----------
*
يستعمل الباحث كلمة الحضارة بمفهوم
عالم الاجتماع ألفين طوفلر أي التكنولوجيا
المتميزة التي تميز حقبة من التاريخ و /أو
تقطع مع تكنولوجيا عصر سابق مما ينجر عنه
تحول جذري في التنظيم الاجتماعي والسياسي
والأفكار والقيم . هكذا يتحدث طوفلر عن
الحضارة الزراعية وعن الحضارة الصناعية ،
علما وأنه يقصد بالثقافة الجزء الأيدولوجي
للحضارة ومختلف التنويعات التي يأخذها عند
مختلف الأمم التي تعيش في ظل نفس الحضارة
. و تنبأ ألفين طوفلر في بداية السبعينات
بظهور حضارة جديدة هي الحضارة الإعلامية.
وقد عملت على الفكرة في كتابي دع وطني
يستيقظ ( على الموقع) مقترحا تقسيم تاريخ
البشرية إلى أربع حضارات : الأولى ( الجني
والقنص ودامت مئات الآلاف من السنين ،
والثانية ( الزراعية ودامت عشرة آلاف سنة)
والثالثة الصناعية ودامت قرنان) والرابعة
( الإعلامية التي نحن في بدايتها)
وتقنيات الشرق القديم. لذلك يؤكّد
Jared Diamond
أن الغرب بقي إلى حوالي 1600 بعد المسيح
أكثر مناطق العالم المتحضر القديم (أورو
آسيا و شمال إفريقيا)...تخلفا وتبعية.
أنه كان عالمه الثالث يتعيش على تقنيات
وأفكار ومواد العالم المتقدم كما هو الحال
اليوم لكن في علاقة معاكسة
السؤال الآن لماذا تقدم الهلال الخصيب ثم
الصين على الغرب ؟ هل لوجود جينات تفوّق
عند أهل الشرق القديم كانت معدومة عند
الأوروبيين ؟ طبعا لا . فالقفزة النوعية
التي حققتها إنسانية الشرق القديم باكتشاف
الزراعة، كانت نتيجة توفر المحيط على
عوامل نجاح هذه الطريقة الجديدة في ضمان
لقمة العيش.
يقول الباحث أن ما كانت تتميز به منطقة
الهلال الخصيبة آنذاك هو وجود نباتات مثل
القمح والذرة تنبت بسهولة وأمكن بسرعة فهم
كل إمكانياتها. كذلك وفّر المحيط أجناسا
من الحيوانات هي البقر والغنم والماعز
والخنزير( ثم لاحقا الجمل والحصان والدجاج
) وهي الهدايا الملكية التي لولاها
لاستحالت القفزة النوعية.فبديهي أن مثل
هذه الحيوانات كانت توفر البروتينات
الضرورية عبر اللحم والحليب وكذلك الصوف
والجلد ناهيك عن دورها في حمل الأثقال
والحرث.
هنا يقوم Jared
Diamond
بمقارنة بين ما وفره محيط الهلال الخصيب
مع ما وفره محيط أمريكا الجنوبية أو غينيا
الجديدة ، أو أفريقيا ليكتشف نفس القانون
: فقر مثل هذا المحيط بالنباتات الصالحة
للزراعة وبالحيوانات القابلة للترويض. ففي
خصوص أفريقيا جنوب الصحراء، لم يكن ممكنا
زرع القمح الذي يحتاج لأمطار في الشتاء
بينما الأمطار هناك لا تكون إلا صيفا.
كذلك لم يكن بقدرة الصيادين ترويض الفيل
ووحيد القرن والغزال ،لأن الحيوانات
القابلة للترويض تخضع لشروط مدققة منها
المسالمة ،والتوالد في الأسر، وسرعة
النمو، وكلها شروط معدومة عند هذه
الحيوانات. كذلك الأمر في أمريكا الجنوبية
أو غينيا الجديدة حيث لا توجد إلا نباتات
قليلة وذات مردود ضعيف وحيوان أو اثنان
على أكثر تقدير للترويض. لهذا انطلقت
الزراعة في منطقة الهلال الخصيب قبل غيرها
من المناطق مما أعطاها سبقا كبيرا في كل
المجالات.
وحتى نفهم تبعات اكتشاف الزراعة لنتذكر أن
المجموعات البدائية التي تعيش على الجني
والقنص مضطرة للحركة طول الوقت، وبالتالي
أعجز عن تحمل أعباء عدد كبير من الأطفال
الصغار الذين يعيقون تقدمها. هذا ما
يجعلها تحد من عدد أفرادها وخاصة من
الأطفال فلا يزيد حجم المجموعة عن ثلاثين
شخصا. مما يعني أن بشرية الحضارة الأولى
كانت مؤلفة من مجوعات صغيرة متحركة طول
الوقت ولا هم لها غير قوت اليوم. انظر
الآن للتبعات الهائلة للزراعة. هي تسمح
،بل تجبر على الاستقرار في قرى. هي تسمح
بوجود عدد أكبر للأطفال.هي تسمح بتغذية
مختصين مهمتهم حفظ الأرض من غزو أهل الجني
والقنص، أو تعهد الحيوانات أو عدّ المحصول
وتوزيعه ،أو التنسيق بين مختلف المهام ،
أو تعهد أحسن العلاقات الدبلوماسية
الممكنة مع السماء التي يأتي منها المطر
الخ ...ها قد وضعت كل أسس الحضارة
بحسناتها وسيئاتها.
الظاهرة الثانية الهامة الأخرى التي تسمح
بها الثورة الجديدة هي التكاثر المتصاعد
.والقاعدة أن تجاوز سقف معين يؤدي إلى
تجمعات سياسية تنطلق من القرية- القبيلة
إلى التجمعات الأوسع فإلى الوطن وصولا
إلى الإمبراطورية المتعددة الأعراق .من
البديهي أنه كلما تكاثر العدد كلما تكاثر
المختصون ، كلما زاد الإنتاج ليس فقط من
المواد الغذائية وإنما أيضا من الأفكار
والقوانين والقيم والفنّ والتقنيات. من
منا فهم مغزى الفارق الديمغرافي الهائل
بين غرب أوروبا وبين المغرب العربي، أو
أفريقيا، عشية انطلاق الاستعمار في القرن
التاسع عشر؟
لنتذكر أن الرشيد كان يفاخر بالتوجه
للسحابة : أمطري أينما شئت فسيأتيني خراجك
مما يعني أن الزراعة هي التي كانت مصدر
ثروة الدولة لا التجارة أو ما يوفره
الغزو.
ثمة فكرة هامة أخرى يدافع عنها الباحث وهي
أن الحضارة تنتشر على خط شرق –غرب بسهولة
أكبر من انتشارها على خط شمال جنوب. هكذا
أمكن لحضارة الهلال الخصيب أن تغزو الصين
شرقا وأن تغزو أوروبا غربا ، لأن هذه
المناطق موجودة في نفس المنطقة المناخية
ويمكن لنباتات وحيوانات الهلال الخصيب أن
تتأقلم فيها بسهولة. لكن التنقل من الشمال
إلى الجنوب معضلة أمامها حيث هناك صحراء
قاحلة للاختراق ثم مناطق استوائية تكثر
فيها الأوبئة ومن ثمة التأخير الهائل
لوصول الزراعة وقلة مردودها مما جعل بشر
تلك المناطق يحافظون لأطول فترة ممكنة على
حياة الجني والقنص وربما كانوا يحافظون
عليها إلى اليوم لولا غزو " المتحضرين"
الذين فاضت بهم مناطقهم.
السؤال داخل السؤال وقد انقلبت الآية :
لماذا تقدم الغرب فجأة طيلة الخمسة قرون
الأخيرة ليدخل الشرق القديم والصين في
منطقة الظل؟هل لأن جينات التفوق العرقي
التي كانت نائمة في كروكوزومات
الأنجلوساكسون تحركت فجأة ؟ هل لأن جينات
التفوق العرقي التي عملت آلاف السنين عند
أهل الشرق القديم ومصر والصين انطفأت بعد
أن أصابها الإرهاق. طبعا لا .
لنتابعه وهو يحلل سبب تفوق الغرب على
العالم العربي الإسلامي ، وينصح هنا
باستحضار صورة القمر الصناعي للأرض.
تأملوا الفرق بين أوروبا ومنطقتنا :
الأولى خضراء تنبئ بوجود الماء والكلأ
والأراضي الخصبة والثانية صحاري قاحلة ليس
عليها إلا خط محتشم من الخضرة قرب الشواطئ
أو على ضفاف النيل ودجلة والفرات. كل
السرّ في هذه الصورة . من جهة أرض خصبة
معطاء مكّنت البشر الذين فوقها من العيش
والتكاثر وإفراز الثروة والمختصين الذي
أعدوا بأبحاثهم ومشاريعهم لتحسين الآلات
التي كانت الزراعة بحاجة إليها مرحلة
الثورة الصناعية . وفي المواجهة أرض فقيرة
لا تغذي إلا شعوبا أقل عددا وأكثر فقرا
وأعجز من تجهيز الأساطيل الضخمة وتحمّل
تكلفة البعثات العلمية والعسكرية خارج
حدودها.
تسألون لكن هذه الأرض كانت مهد الحضارة .
هنا يذكر
Jared Diamond
أن المنطقة العربية والإسلامية التي
نعرفها اليوم ليست الأرض التي عرفها
الأوائل . هذه أرض عجوز فقدت طوال آلاف
السنين باقتلاع الأشجار المكثف والتصحّر
وتزايد ملوحة الأرض وارتفاع درجة الحرارة
كل نظارتها . فالشرق القديم مثل شمال
أفريقيا شيء لا علاقة له بهذه الأراضي
الجدباء التي يمكن اعتبارها بقايا
كارثة بيئية بطيئة تطورت على امتداد
آلاف السنين
قد تعترض على هذا التفسير بالقول أن الصين
على خارطة الأرض لا تقل خضرة عن أراضي
أوروبا ومع هذا سقطت هي الأخرى في
السباق*.
هنا يدخل
Jared Diamond
العنصر الثاني للتخلف. من يعلم منا أن
تاريخ البشرية تأرجح في نهاية القرن
الخامس عشر وأنه كان بوسعه أن يشهد احتلال
الصين للغرب وسطو الصينيين على
مجوهراتقصر اللوفر وبكنجهام، وأننا ربما
كنا نتخاصم اليوم مع عقدتنا تجاه التفوق
الصيني لا الغربي.
ففي بداية القرن الخامس عشر قررت الصين
التوجه لما وراء البحار بأغراض التجارة
خاصة لكن أيضا لتوسيع مجال نفوذها السياسي
والثقافي .ولأن ثروتها وعدد سكانها ،
المرتبط بحجم الأراضي الزراعية ، كان يسمح
لها بذلك،فإنها استطاعت في وقت من الأوقات
تجهيز أسطول يعدّ أحيانا
ثلاثمائة قطعة ،وصل شواطئ أفريقيا
الساحلية واخذ الجزية من دول منطقة بحر
العرب والمحيط الهندي واحتل عسكريا جزيرة
سيلان ( سري لانكا). آنذاك كان الغرب لا
يتوفر إلا على بعض البوارج المعزولة لبعض
المغامرين وأعجز من قدرة التعرض للقوة
البحرية العظمى للعصر.
فما بين 1405 و1433 قاد أميرال الأسطول
الصيني "شنج هي " ( وكان مسلما) سبعة
بعثات عسكرية وتجارية وسياسية. ثمة من
يقول أنها وصلت رأس الرجاء الصالح وربما
دخلت الأطلسي . لكن لا أدلة على الأمر.
فجأة انسحبت هذه القوة الجبارة ودمرت
البواخر وسنت الصين في نهاية القرن الخامس
عشر قانونا يحظر بناء السفن وخروج
الصينيين من بلدهم .هذا ما سبّب حسب
مؤرخين مثل
Jhon
Fairbanks و Joseph levinson
توقف التطور العلمي والتكنولوجي للصين .
كيف حدث أمر غريب كهذا؟السبب هو تغير
النظام في البلاط الصيني وسقوطه بيدي
مجموعة من المحافظين والشوفينيين ترفض
الخروج إلى العالم الرحب وتفضل التقوقع
داخل حدود الصين، بل وذهبت لحدّ طمس
روايات رحلات "شنج هي " الذي أنهى بقية
حياته منبوذا. هكذا بجرة قلم من إمبراطور
غبي انكفأت الصين على نفسها وتركت
المحيطات للمغامرين الغربيين بانتظار وصول
تجار الأفيون الإنجليز ثم قوّات
الاحتلال.
أمر كهذا،يقول الباحث ،كان مستحيل الوقوع
في الغرب،حيث لا قدرة لشخص واحد على تغيير
مجرى
-------------
* لننتبه أيضا لكون خضرة المناطق
الاستوائية في أفريقيا ليست خضرة الأراضي
الزراعية الخصبة والمراعي الدسمة وإنما
خضرة مناطق غابية غير صالحة للزراعة
والرعي ومنطقة أمراض بالغة الانتشار مثل
الملاريا ومرض النوم وبقية الأمراض
الاستوائية التي شكلت ولا تزال عائقا
هائلا للتقدم.
التاريخ . فأوروبا بحكم التضاريس الجبلية
والمضائق البحرية والأنهر الجبارة، كانت
مقسمة
إلى دول متنافسة وهذا التنافس بينها كان
عامل قوة للكل .أضف أن قوة النبلاء والكنيسة
ثم البرجوازية التي انتهت إلى فرض النظام
الديمقراطي الذي يسمح بحركية وديناميكية
أكبر للمجتمع .لهذا لم يكن بوسع قرار
سياسي واحد ن يعطل أمة بأكملها، بينما
كان الأمر ممكنا في الصين الموحدة
والواقعة في قبضة الاستبداد... والدليل
على ذلك وقوعه.
والآن يمكننا تلخيص الوضعية العامة
كالتالي إلى موفى 1600:
1-استطاعت أوروبا وخاصة الغربية، أن تدمج
،لا فقط نباتات وحيوانات الشرق القديم،
وإنما كل الايدولوجيا ( الدين ، العلوم ،
القيم) التي تبلورت فيه منذ آلاف
السنين..أضف إلى هذا تمكنها من تكنولوجيا
الصين المتقدمة( صناعة الحرير والبرسلين
والورق والمطبعة والبارود والبوصلة)...أضف
إلى هذا توفّرها على أخصب الأراضي وأجودها
للزراعة وتربية الماشية ...أضف إلى هذا
ضربة الحظ التي تكاد تشبه المعجزة، وهي
توقّف زحف الأساطيل الصينية القوية نحو
الغرب، ثم تبخرها فجأة من كل بحار الشرق
تاركة المجال مفتوحا للأساطيل الغربية
لتتقدم بعيدا دون أن تطلق رصاصة واحدة.
2-كانت الصين تملك كل مقومات القوة من
أراضي زراعية شاسعة وتكنولوجيا متقدمة ،
لكنها كانت معاقة بنظامها السياسي الذي
فوّت عليها فرصة التحكم في العالم أو على
الأقل لعب دور كان سيغير جرى التاريخ.
3- كان الخاسر الأكبر العالم العربي
–الإسلامي لأنه كان يتوفر على معوّقين
هائلين: أراضي جدباء ونظام سياسي أجدب
. من جهة ضعف رصيده من الأراضي الزراعية
نظرا للكارثة البيئية البطيئة وتبعات
الأمر ( فقر المجتمعات وفقر الدول وضعفها
، وقلة النمو الديمغرافي، وقلة المختصين،
وداخلهم ندرة الشخصيات الفذة القادرة على
قيادة النقلات النوعية في كل الميادين).
ومن جهة أخرى هذه الآفة والعاهة التي
نسميها الاستبداد والتي لم تعد الثروة في
عهد الأراضي الخصبة قادرة على التغطية على
عيوبه.
*
هذه إذن نظرة
Jared Diamond
للتاريخ
وتفسيره لسبب تخلفنا وتقدم الغرب. لا أدري
إلى أي مدى ستثير النظرية انتقادات هذا
وذاك. حتى وإن كنت واثقا أن في هذه
المقولات أخذ ورد ،فإنني أعتبر أن الطرح (
مستوى ومنهجية) هو أخصب ما يوجد حاليا في
السوق الفكرية .
أنبّه من سيناقشون الرجل من بلداننا
بضرورة التسلح بقدر هائل من المعرفة في
ميادين بعيدة عادة عن تكوين المؤرخين ،مثل
البيولوجيا ،وعلم المناخ، والجيولوجيا،
واللسانيات ،وتاريخ النباتات والحيوانات،
وحتى علم الطيور الذي هو اختصاصه الأول.
وبانتظار الحجج التي قد تهدم تصور الباحث
، شريطة أن تكون من ميدان العلم لا من
ميدان الأيدولوجيا، فإنني سأستعمل نظرياته
المنعشة للفكر والروح بالتركيز على ما
تعنيه بالنسبة إلينا.
لنبدأ بتقسيم ملاحظاتنا حسب منهجية الخبر
الطيب والخبر السيئ
أما الخبر الطيب الذي تحمله فهو أننا
نستطيع الآن التخلص من عقدة الذنب التي
حملناها عقودا ونحن نشعر بأننا قصرنا في
حق أنفسنا وحق آبائنا وحق أحفادنا .
إنني مقتنع اليوم بأننا أفرطنا على أنفسنا
وظلمنا شعوبنا ،وحتى حكامنا، لأننا في
الواقع، كنا ولا نزال ضحايا ظروف قاهرة
تجاوزت إرادتنا. بل لا استبعد أننا قدمنا
على مر القرون الأخيرة مجهودات جبارة
لمواصلة البقاء في ظروف متزايدة الصعوبة ،
سواء تعلق الأمر بضغط المحط المتزايد
الفقر أو بضغط الغزو الخارجي. على حال
فالنتيجة لكل هذا أننا لا زلنا شعوبا
بالغة الحيوية وتبحث بإصرار متزايد على
منافذ للخروج من تخلف مرحلي وليس قدرا
محتوما.
ثمة أيضا خبر طيب آخر ، لمن يريد تجاوز
عقدا لا طائل من ورائها ، هو أننا نستطيع
اليوم التخلص من عقدة النقص تجاه الغرب.
ما يظهره
Jared Diamond
أن التفوق الأوروبي لم يكن لا نتيجة تفوق
عرقي أو ثقافي وإنما تضافر جملة من
العوامل الموضوعية . وللرجل أحكام بالغة
القسوة والصرامة حول أداء الغرب في الخمس
قرون الأخيرة *، خاصة في علاقته مع الشعوب
الأخرى ، علما وأنه ينظر لكثير من شعوب ما
يسمى بالعالم الثالث بنفس النظرة الصارمة
عندما يتعلق الأمر بالمسئولية في تدمير
البيئة. معنى هذا أن الغربيين ليسوا ،لا
أشباه الآدميين الذين وصفهم ابن فضلون في
رحلته الشهيرة ،وليسوا "السوبرمانات"
الذين يوهمون به أنفسهم ونجحوا أحيانا في
إيهامنا به . هم بشر مثلنا عانوا آلاف
السنين من التخلف ثم حالفهم الحظ بضعة
قرون . لكن عصر هيمنتهم بدأ بالأفول .
في نفس السياق نستطيع أن نرمي إلى المزبلة
بعقد التفوق تجاه من هم أكثر منا تخلفا
مثل الأفارقة .
لأن تخلفهم، مثل تعثرنا ،مثل تفوق
الغربيين/ قضية لا علاقة لها لا بالجينات
ولا بالثقافة وإنما بما يوفره المحيط .
ماذا الآن عن الخبر السيئ ؟
إنه يكمن في اكتشاف التعقيد الهائل للمرض
الذي نريد الشفاء منه.
---------
* من أهم مؤشرات نضجنا أن نرى يوما مثل
هذه الأحكام القاسية يصدرها مؤرخونا على
كبرى أخطائنا وخطايانا مثل العبودية أو
مسائل أخرى ، بكل موضوعية ونزاهة دون أن
يصلبوا على قارعة الطريق من قبل المعقدين
والمزايدين وكل أصناف الخادعين والمخدوعين
الذين أفرزهم التخلف السياسي والأخلاقي
والفكري .
قلت أنني اقتنعت باكرا بضحالة فكرة لما
"ذهبت أخلاقنا- أو ديننا- ذهبنا" ثم
تعلقت طويلا بالاستبداد كعامل أساسي .لكن
الرجل فتح عينيّ على العامل الهيكلي
الذي كان يعمي الأبصار أي
الكارثة البيئية البطيئة، التي دمرت
بالرعي المفرط والاستعمال المكثف للأراضي
النادرة والتصحر وشح الأمطار، البنية
الأساسية لكل وجود إنساني.
هكذا استقامت الشبكة السببية التي بحثت
عنها ربع قرن وتختزل في الإجابة التالية:
نحن متخلفون بالمقارنة مع أمم أخرى اتخذت
مقياسا نظرا : لضحالة إنتاجنا من
المواد والأفكار والقيم والقوانين
والفنون التي ترفع من مستوى الإنسان
نتيجة تضافر عوامل بالغة التشابك والتعقيد
والقدم ،أهمها
- الكارثة البيئية البطيئة التي دمرت
قاعدة إنتاج الثروة المادية الشيء الذي
أدى إلى نقص في عدد السكان والمختصين وفقر
الدولة
- التنظيم السياسي الفاسد للاستبداد
-كل هذا في ظل تنظيم للعائلة يشلّ
الطاقات وسطوة الفكر المتحجر، ثم التدخل
الأجنبي.
انظر الآن لخصوماتنا السياسية حول كيفية
الخروج من التخلف. إنها خصومة العميان في
الأسطورة الهندية الذين طلب منهم تحديد
طبيعة الفيل ، فالذي لمس خرطومه قال الفيل
خرطوم والذي لمس نابه قال الفيل ناب،
والذي لمس ذيله اختزل الفيل في الذيل.
كذلك نفعل اليوم فالإسلامي لا يرى إلا
غياب القيم والديمقراطي غياب الحرية
والليبرالي غياب المبادرة
الاقتصادية...وفي كل الأحوال لا أحد يرى
البيئة.
إن الحل نظريا هو تأهيل البيئة +النظام
الديمقراطي+قيم العروبة والإسلام +إطلاق
كل أشكال المبادرة الاقتصادية والثقافية
والاجتماعية +التغيير الجذري في العائلة
عبر دمقرطتها بتغيير وضع المرأة + التهام
كل ما يصدر في الغرب والشرق من إنجازات في
كل الميادين + تكوين أكبر عدد ممكن من
المختصين وتشجيعهم .
المشكلة أن سياسة واضحة المعالم بعيدة
المدى تدمج الدولة والمجتمع والأشخاص في
نفس المجهود الجماعي الجبار أصعب ما
يكون.
كيف يمكن أن ننسق بين جملة العوامل والحال
أن أصحابها عقائديون متناحرون والكل
مقتنع أن سببه هو السبب الهيكلي والبقية
روافد؟
الأهم من هذا أن العامل الهيكلي الذي
يتوقف عليه كل شيء لم يعد اليوم محليا .
هو خطر يهدد العالم بأسره ،والمرجّح أن
تتفاقم مصاعبنا معه شأننا في هذا شأن
الشعوب الأخرى ونحن مقدمون على تغير مناخي
لا يتوقع منه إلا تزايد الصعوبات. الثابت
أنه إذا قرّرنا مواجهة هذا العامل فحن
سنواجهه مع العالم كله أي مع الغرب لا
ضده.
و من أهم عوامل التأخير في وضع القطار على
السكة أيضا الضباب الفكري الذي نتخبط
داخله منذ البداية، بقصور التحليل،
ونزعتنا للتبسيط، وقلة المعلومات
الموضوعية ،وجهل بالتاريخ الحقيقي
وانغماسنا في تاريخ أسطوري قصير المدى،
وتسممنا بالصراخ الأيدولوجي...الشيء الذي
جعلنا نجرب الحل الفاشل بعد الحل الفاشل
وندور في نفس الحلقة المفرغة إلى اليوم.
القضية إذن ليست سوء النية ، لأن حسنها
عند كل الأطراف التي تصارعت بينها ولا
تزال، هو المأساة داخل المأساة، وإنما
أننا نجرب أدوية بسيطة على مرض معقد فلا
نشفي المريض وإنما نزيده أحيانا علة
إضافية.