المشهد الأمريكي ودلالاته:
يستمر المشهد الأمريكي بإضفاء الاثارة
وإطلاق موجة من الاجتهادات والتفسيرات
المتضاربة حول الوجهة المحتملة لسياسة
ادارة الرئيس بوش الابن نحو المنطقة في
المتبقي من عهده الثاني والأخير في البيت
الأبيض. ودأبت وسائل الإعلام على اختصار
المسار الأمريكي بمتابعة التركيز على
الكيفية التي سيعالج فيها الملف النووي
الإيراني. وتجري عمليات البحث والتنقيب في
ما يصدر عن الإدارة وكبار المسؤولين من
مواقف وإشارات وتصريحات، علّها تساعد على
الفهم والتحليل والتفسير. ورغم كثافة
المشهد السياسي الأمريكي الراهن حيث
تتقاطع فيه، لا بل تتزاحم معطيات غنية
ومتضاربة، يبقى الاصطفاف في التفسير
والتأويل ثنائي الخيارات: بين من يعتقد أن
الرئيس بوش سيلجأ عاجلاً أم آجلاً للخيار
العسكري ضد طهران، فيما يطلق عليه البعض
خيار الالف غارة جوية وصاروخية على أهداف
إيرانية حيوية ذات صلة مباشرة أو غير
مباشرة بالمشروع النووي، وفي مسعى إجهاضي
أو تأجيلي لبرنامج نووي عسكري إيراني لا
بد أنها تخفيه. ومن يجزم باستبعاد لجوء
الادارة للخيار العسكري لأنها عاجزة وغير
قادرة على تحمل التكلفة الباهظة التي
ستنجم عنه، وتلحق الاضرار الجسيمة بها
وبحلفائها في المنطقة.
معطيات المشهد الأمريكي الناظمة لحركة
الإدارة أو المؤثرة في توجهاتها وخياراتها
يمكن تلخيصها بالتالي:
* رئيس مكابر ومعاند يعتقد بـ "كونية
القيم الأمريكية" وبأنه مفوّض أو مختار من
الله والتاريخ لتعزيز هذه القيم وتعميم
النموذج الأمريكي في المعمورة طوعاً أو
اكراهاً. وسيبقى يتصرف حتى آخر لحظة من
حكمه وكأنه في حالة تأهب دائمة لتنفيذ هذه
المهمة الرسولية. لا يأبه بالكوابح
والضوابط التي باشرت السلطة التشريعية،
التي انتقلت مؤخراً للحزب الديمقراطي،
بممارستها على عهد تحرر منها خلال السنوات
الست المنصرمة، واعتاد على غياب المساءلة
والمحاسبة.
* حزب ديمقراطي له أغلبية بسيطة في
الكونغرس، لا تكفي لفرض إرادته أو
الاستجابة لمطالب الجناح الشعبي الفاعل في
قاعدته الانتخابية من القوى المناهضة
للحرب، لتحقيق الانسحاب الفوري في العراق.
ولكن أغلبية الحزب الديمقراطي كافية
لازعاج الإدارة وممارسة الرقابة والمحاسبة
عليها، ولكنها ليست غالبة لاهوائها أو
راجحة لتجبرها على التراجع وإحداث تعديل
جوهري في توجهاتها. ويناور أبرز مرشحي
الحزب الديمقراطي للرئاسة بين الاستجابة
الفاترة لمبدأ الانسحاب الأمريكي على
مراحل من العراق دون تحديد جدول زمني،
وبين من يدعو لإنسحاب كبير قبل نهاية عام
2008 وتغيير المهمة للتدريب والمساندة.
*لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية
الأمريكية نشهد بداية مبكرة جداً للحملة
الانتخابية، مقرونة بتوفر مروحة واسعة من
الخيارات لدى الحزبين على صعيد المرشحين.
بما يترك باب التوقعات عريضاً على
المفاجآت بمن سيفوز بالسباق الداخلي لدى
الحزبين في الانتخابات التمهيدية. يضفي
هذا الامر على الحملة الانتخابية الرئاسية
بعداً مثيراً وجاذباً لاحتلال مساحة أوسع
من المألوف في التغطية والتركيز الإعلامي،
تجعل من الرئيس بوش أكثر من "بطة عرجاء"
في التسعة شهور الأخيرة من عهده. فمن
المرجح أن يتحول إلى "بطة كسيحة" ورهينة
لحسابات الحزب الجمهوري الانتخابية
الضاغطة، لتجنب اتخاذ مواقف أو أجراءات قد
تهدد فرص مرشح الحزب الجمهوري العتيد في
الفوز. ومع اشتداد الحملة من الربع الأول
من عام 2008، وبداية مرحلة التصفية
الداخلية بين المرشحين من الحزبين، قد
يتحول موقع الرئاسة تدريجياً إلى ما يشبه
وضع رئيس حكومة مستقيلة تقوم بتصريف
الأعمال، بانتظار قدوم الرئيس الجديد.
وسيجبر الرئيس بوش على الدخول في منافسة
غير متكافئة في الإعلام الأمريكي لجذب
الانظار إلى موقعه ومواقفه. مما سيعزز
الانطباع بعجزه ومراوحته في المكان نفسه.
وكان ملفتاً ما أفصح عنه الوف بن شموئيل
روزنر في هآرتس بتاريخ 4 يناير الجاري تحت
عنوان :
المضمون: الصفقة التي ستحاول اسرائيل
تحقيقها: تقليص الاستيطان، مقابل سيطرة
عسكرية طويلة المدى على الضفة.
ولا يوجد غضاضة هنا في الإستشهاد المطول،
توخياً للفائدة:
"حسب ما هو معروف في القدس، فان زيارة
الرئيس الامريكي جورج بوش الى القدس ورام
الله هذا الأسبوع ولدت عندما عرضت عليه
خطة رحلته الى دول الخليج. "لماذا لا أزور
أسرائيل ايضا؟" سأل مساعديه. "لم أكن هناك
منذ تسلمي مهام منصبي". رئيس الوزراء
ايهود اولمرت ورئيس الدولة شمعون بيرس
دعيا بوش للمشاركة في احتفالات يوم
الاستقلال الستين في ايار، والمجيء في
زيارة رسمية تتضمن خطابا في الكنيست مع كل
الاجراءات الرسمية. ولا يزال الطلب قائما،
وفي مكتب رئيس الوزراء يقدرون ويأملون بأن
يلبىَ. وفي هذه الاثناء سيكتفي بوش بزيارة
اقل احتفالية تركز على الفعل السياسي: من
المهم له أن يجند دعم السعوديين والمصريين
للمسيرة السياسية، ولهذا فمن المجدي أن
يلتقي اولمرت وابو مازن في طريقه الى
الخليج الى شرم الشيخ.
كما أن فتى المزرعة الذي يجلس اليوم في
البيت الابيض سيصعد الى الطائرة هذا
الأسبوع ، ولكن ليس في اجازة وليس بدون
وزيرة خارجيته. رحلات جوية كثيرة كهذه
ستكون لهما هذا العام، معا وكل واحد على
انفراد. بوش جاء لزيارة اولى لاسرائيل فور
بداية السنة التي سيتجول فيها في العالم
في صورة متقاعد لا يرتاح. لم تكن هذه
عادته في السنوات السبع الاولى من ولايته،
ولكن في السنة الثامنة سيمضي ساعات اطول
في الجو. سبع دول في الشرق الاوسط في
الرحلة الاولى، في كانون الثاني. افريقيا
في شباط. اوروبا في نيسان – حيث سينعقد
مؤتمر الناتو. اليابان في تموز، حيث
سيجتمع اعضاء الثمانية الكبار. وفي آب
سيسافر بوش الى الصين – لحضور الالعاب
الاولمبية.
لن يكون الرئيس الاول الذي يختار التجول
في السنة الثامنة لولايته. هذا اختيار
طبيعي جدا، حين يضعف في الساحة الداخلية
والبؤرة تنتقل الى المعركة على الخلافة.
ليست واشنطن في بؤرة النشاط، بل نيوهامشير،
حيث ستجرى الانتخابات التمهيدية الاسبوع
القادم، قبل يوم من انطلاق بوش في رحلته –
وبعد ذلك جنوب كارولاينا، نفادا، فلوريدا،
وفي الصيف كولورادو ومينسوتا حيث سينعقد
المؤتمران الحزبيان. الرئيس الامريكي يبقى
ذا صلة في السنة الاخيرة لولايته، سنة
الاوزة العرجاء، ولا سيما عند الحديث عن
السياسة الخارجية.
من القدس يبدو بوش كزعيم شديد القدرة، هو
وحده يمكنه ان يحرك المسيرة السياسية من
جمودها وفرض النظام في المنطقة. من امريكا
يبدو كمن كان، كرئيس قراراته تثير أقل
فأقل من الاهتمام. الوصفان صحيحان. رئيس
امريكي ضعيف هو الزعيم الاهم في العالم.
ولكن قدرته على الاقناع محدودة، مثلما عرف
سلف بوش بيل كلينتون في جهوده للحظة
الاخيرة لتحقيق سلام بين ايهود براك وياسر
عرفات.
الارتباك عنوان المرحلة
لم يكد يجف حبر بيان التفاهم الفلسطيني ـ
الإسرائيلي الذي انتزعه الرئيس بوش بشق
النفس في آخر لحظة قبيل افتتاحه لمهرجان
أنابوليس، حتى افتضح أمر ارتباك الإدارة
وحدود قدرتها على استثمار المشهد
الاحتفالي المتقن، لتبرير استدعاء 16 دولة
عربية مع جامعتهم (التي لا تتذكر الإدارة
وجودها إلا عند الحاجة لتوظفيها في تسويق
أجندتها عربياً) لتقديم فروض الولاء
والطاعة والاستعداد الجدي للتطبيع مع
الكيان الصهيوني. مقابل وعود معسولة
باطلاق عملية تفاوضية على المسار
الفلسطيني حول هدف "دولة فلسطينية
افتراضية أو مؤقتة" (ربما في كوكب
المريخ).
فلقد سحبت مشروع بيان رئاسي قدمته عبر
مندوبها في الأمم المتحدة، لإضفاء مسحة
دولية بإضافة ختم صوري للأمم المتحدة على
أنابوليس. وكشفت عن جوهر ما يمكن ان تفعله
ميدانياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة،
فيما تبقى لها من الوقت الضائع. حيث عينت
جنرالاً كان مسرح عملياته في أوروبا
وأفغانستان، بدلاً من منسق "خبير" في شؤون
المنطقة. لقد عدنا للمقاربة الأمنية
وبوابة "محاربة الارهاب الفلسطيني" مدخلاً
وشرطاً واختباراً للافراج عن خارطة طريق
غطاها غبار التجاهل ولونتها دماء ودموع
الضحايا الفلسطينيين، على مذبح التفاوض
المزعوم تسفكها الآلة الحربية الصهيونية
دون رادع.
وهكذا عاد سراب الدولة الفلسطينية ينسج
بمراوغات الاتحاد الأوروبي عبر الديماغوجي
الأول طوني بلير. الذي وجد ضالته بمنصب
يؤمن له السياحة المجانية، ويبقيه في
دائرة الضوء الذي اعتاد على بريقه، حين
كان يخدم بجدارة كوزير خارجية احتياطي
متنقل ورديف لإدارة بوش (حتى لا نصفه
بالشائع عنه) عندما كان رئيساً للوزراء في
بريطانيا. ويساعده الجنرال الأمريكي
المراقب لمهمة جنرال ميداني أمريكي آخر
دايتون، يسهر على بناء الاجهزة الأمنية
للسلطة الفلسطينية. اذاً يعود التفاوض
الفلسطيني ـ الإسرائيلي إلى مربع
الاختبارات الأمنية للجانب الفلسطيني،
مضافاً إليه امتحان السلطة الفلسطينية على
مدى استعدادها للتوغل في مهمة قذرة لإشعال
فتنة فلسطينية داخلية، أو تواطؤ أمني
مساعد في تصفية ناشطي ما تبقى من الجسم
الفلسطيني المقاوم.
لم تكتف حكومة أولمرت بالضغط لسحب ختم
الأمم المتحدة عن أنابوليس. بل نسفت أية
أوهام أو آمال قد علقت بأذهان السذج حول
إنجاح عملية الاطلاق الاحتفالية للتفاوض،
حين أصّرت على توسيع المستوطنات المحيطة
بالقدس. وما كادت إدارة بوش تعبر عن تلعثم
فاضح في خطابها، لتبرير عجزها عن تجميد
اندفاعات أولمرت الساعي لصيانة مركزه
المهتز بالفضائح الداخلية، عشية موعد
منتظر للفضيحة الكبرى بالكشف عن تقرير
"التقصير الأخطر" الجديد للجنة فينوغراد،
حول الفشل الذريع في حرب لبنان العدوانية
تموز 2006، حتى صدر التقدير القومي
للاستخبارات القومية الأمريكية حول "نوايا
إيران وقدراتها النووية" مثيراً زوبعة
إعلامية وسياسية امريكية، أقليمية،
وعالمية، لم تهدأ آثارها بعد. ما أحرج
إدارة بوش وأخرجها مهرولة إلى عقد مؤتمر
صحفي على عجل. في محاولة شبه يائسة لحصر
الاضرار التي لحقت بها، من جراء تكذيب
التقرير لمزاعمها خلال السنوات الأربع
الماضية حول الملف النووي الإيراني. ما
أحرج الرئيس بوش ونائبه وفريق الحرب في
إدارته، هو ذهاب التقرير في نقطته الأولى
إلى الاستنتاج بأن المخابرات الأمريكية
"تقدر بدرجة عالية من الثقة ان طهران قد
اوقفت في خريف عام 2003 برنامجها السري
للاسلحة النووية".
الضحية الأكبر لتقرير الاستخبارات: حلف
المعتدلين
لقد بدّد تقرير الاستخبارات في لحظات ما
بنته الإدارة في سنوات، من تعبئة مشحونة
بنبرة التهديد والتلويح بالخيار العسكري
ضد طهران، بذريعة أنها تخفي برنامجاً
سرياً لتطوير السلاح النووي. فجأة لم تعد
حتى إجراءات التفاهم بالضغوط، وترتيبات
وقرارات العزل السياسي والدبلوماسي
والعقوبات الاقتصادية على طهران، محل
تقدير واعتبار وتقبل من قبل العديد من
الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وفي
مقدمتهم الصين وروسيا. لقد منحت
الاستخبارات الأمريكية ذخيرة إضافية لقوى
كانت تتحفظ على نهج واشنطن المتشدد حيال
طهران، تساعدها في عرقلة أي توجهات إضافية
لتشديد العقوبات الاقتصادية.
تقرير الاستخبارات جعل وكالة الطاقة
الذرية ورئيسها البرادعي في مأمن ولو مؤقت
من الحقد الجارف عليه، بسبب مواقفه
المهنية حيال الملف النووي الإيراني.
ومنحه فسحة للتصرف بمسؤولية دون ضغوط
وتهديدات وحملات إعلامية موجهة ومركزة
ليخضع بالكامل لرغبات إدارة بوش
وتعليماتها.
وتقرير الاستخبارات برّأ ولو مرحلياً ساحة
الرئيس الإيراني، وعزز موقفه داخلياً تجاه
المحاولات المتكررة لوضعه في قفص الدفاع
عن ركوب مركب المغامرة والتهور في معالجة
الملف النووي. لكن الأمر الأكثر إيذاءاً
لنهج الإدارة ومخططاتها في المنطقة هو
تصدع وإنفراط التحالف الذي سعت لنسجه
عربياً، تحت مسمى حلف المعتدلين، لتحقيق
ما يمكن تسميته باجماع استراتيجي جديد ضد
طهران، تكون فيه الدول العربية منخرطة في
تحالف غير معلن مع الكيان الصهيوني،
وتفاهم ضمني مع تركيا، برعاية أمريكية على
المستوى الأقليمي. ذلك في محاولة لتقليص
التمدد أو النفوذ الإيراني الفعلي أو
المزعوم وتهيئة المناخ الملائم لتقبل
اللجوء للخيار العسكري وتبعاته.
لم تكن مصادفة أن نجد أحمدي نجاد في مقعد
الضيف الرئيسي الوحيد ولأول مرة كرئيس
لإيران في دورة مجلس التعاون الخليجي
الاخيرة في قطر. وليس مصادفة أيضاً ان تتم
دعوة الرئيس الإيراني لتأدية مناسك الحج
هذا العام. بالطبع إدارة بوش لا تزال
تكابر وتعاند وتتجاهل الحقائق وتتصرف وكأن
سياستها في المنطقة وتجاه إيران تحظى
بالتأييد والاعجاب والاستعداد للانخراط في
أي مغامرة عسكرية جديدة قد ترغب في
ركوبها. وكان ملفتاً استمرار الإدارة عبر
وزير الدفاغ غيتس (غير المحسوب على
المحافظين الجدد) في ترويج الحاجة إلى
مظلة دفاع صاروخي لدول مجلس التعاون خلال
مشاركته في مؤتمر البحرين الأخير، حول
الأمن لدرء ما يعتبره الخطر الإيراني
المحدق. بالطبع قد يكون الأمر مجرد
استمرار في سياسة التخويف "بالفزاعة"
الإيرانية لتبرير المزيد من المشتريات
والصفقات العسكرية الأمريكية لدول الخليج
العربية. ولكنه يبقى ركناً تستند إليه
الإدارة في إبقاء خيار التهديد بالضربة
العسكرية قائماً.
تعددت التفسيرات ولكن النتيجة إبعاد شبح
الحرب
حاول البعض تقديم تفسيرات متنوعة لصدور
تقرير الاستخبارات وتوقيته. وبغض النظر عن
الدوافع الكامنة، فهي التعبير عن صراع خفي
ولكنه مزمن، كان في صلب التجربة
الأمريكية، وظهر للعلن بين السلطة
التنفيذية المدنية والمؤسسة العسكرية التي
تخضع عادة لإمرة الأولى. أو استقواء
الاستخبارات بغلبة الحزب الديمقراطي في
السلطة التشريعية، لممارسة رقابة على
السلطة التنفيذية وإستغلال هذه الرقابة
والمحاسبة لتبرئة ساحتها مما علق بها من
اتهامات طالت مصداقيتها ودورها في تقديم
تقارير استخبارية مفبركة حول أسلحة الدمار
الشامل المزعومة للعراق لتبرير شن الحرب
العدوانية الأمريكية عام 2003. فإن الثابت
هو شبه إجماع لدى المعلقين على أن التقرير
يهدئ من المخاوف حيال احتمالات حرب
أمريكية وشيكة على إيران ويضع العقبات
أمام الخيار العسكري أن لم يلغيه كلياً.
رغم التقرير فالصفقة بعيدة ومستبعدة
البعض نظر للتقرير بعين الشك والريبة
باعتباره خدعة بارعة مدبرة بتواطؤ بين
أجهزة الاستخبارات والإدارة لتوفير غطاء
لتراجعها المرتقب عن إعتماد الخيار
العسكري ضد طهران، تمهيداً لفتح الباب
أمام إبرام صفقة أقليمية واسعة تؤدي إلى
التفاهم الأمريكي ـ الإيراني على كل نقاط
الخلاف والتجاذب بينهما، من لبنان إلى
فلسطين إلى العراق. إضافة إلى معالجة
هادئة للملف النووي وتجميد العقوبات
الاقتصادية على طريق إلغائها. كما تم
الأشارة إلى أن التقرير يدخل في باب
"الحرب النفسية المتقنة لتقديم معلومات
مضللة" يمكن تفسيرها في مختلف الاتجاهات.
خاصة وأن التقرير يشير في نقاطه الأخرى
إلى "ترجيح ان تتمكن إيران من امتلاك
التقنية لانتاج اليورانيوم العالي التخصيب
والضروري لانتاج السلاح النووي في الفترة
ما بين 2010 ـ 2015. ولكن قد تتمكن من ذلك
بدرجة معتدلة الثقة في أواخر عام 2009....
ولا تستطيع الاستخبارات الحكم بثقة كافية
إذا كانت طهران ستستمر في وقف برنامجها
النووي التسليحي السري إلى ما لانهاية ...
أي انها قد تحتفظ بخيارات تدفعها إلى
الاسراع في تجديد برنامجها عندما ترى
الوقت مناسباً".
إستنفاذ فائض القوة العسكري خارج نطاق
خيار التدمير
لن يفيدنا كثيراً التوغل في غابة البحث عن
الدوافع الكامنة وراء صدور تقرير
الاستخبارات الأخير وتوقيته. فالحرج
والضرر بسمعة الإدارة وموقفها قد تحقق.
ولن يستطيع الرئيس بوش ردع البروقراطية
الأمريكية، عنصر الديمومة للمؤسسات
الأمريكية، من ممارسة أشكال التمرد، أو
صون المواقع الثابتة في الجسم البيروقراطي
(غير التنفيذي). فالإدارات تأتي وترحل
والجسم البيروقراطي قائم ومستمر. وغالباً
ما يكون هو العجلة المحركة لكل الإدارات،
رغم التعيينات السياسية على رأس الجسم.
يساعد هذه البيروقراطية استعادة قدر من
التوازن بين السلطات، بعد 7 سنوات مارس
فيها بوش وتشيني نوعاً من الحكم
الامبراطوري المطلق، تحت مظلة الحاجة للرد
على هجمات الحادي عشر من سبتمبر ومنع
تكرارها.
في تقديري لا يحتاج المرء لجهد كبير
لقراءة "فنجان" هذه الإدارة. لم نكن بحاجة
إلى صدور تقرير الاستخبارات الأخير
لنستنتج استبعاد احتمال اللجوء للخيار
العسكري الأمريكي ضد إيران، تضمنه تقديرنا
السابق للموقف الذي وزعه مركز الجزيرة
للدراسات منذ 7 شهور. فإننا ندعو إلى
التمهل والتروي في الوصول إلى استنتاجات
حول استعداد هذه الإدارة أو قدرتها على
الدخول في ترتبيات أو صفقات شاملة.
هذه الإدارة استنفذت كل رصيدها من توظيف
فائض القوة العسكرية لتنفيذ مشروعها
الامبراطوري بالهيمنة، وهي أعجز من أن
تحرز نجاحـات ميدانية يعتد بها بالقـوة
العسكرية. وهاهي تسوّق لما يسمى "بصحوة"
الانبار في العراق على أنها نجاح متميز
لاستراتيجيتها العسكرية الجديدة بزيادة
القوات مؤخراً، أو ما اصطلح على تسميته
بالوثبة "Surge
". بينما يعرف القاصي والداني أن الوضع
الأمني لا يزال خارج السيطرة في العراق،
والمقاومة لا تزال تلحق الخسائر وتقوم
بعمليات يومية ضد قوات الاحتلال
والمتعاونين معها. وما الصحوة المزعومة
إلا غفلة في حضن المحتل للحصول على
المخصصات المالية أو الرشوة التي توزعها
القوات الأمريكية لشراء الولاء ولو
المؤقت. كي يكون هناك من هو جاهز لالتقاط
الصور الباسمة التذكارية مع رموز الاحتلال
وأعوانه. أنها "صحوة" عابرة وملتسبة، إذ
لا يصحو ضمير المرء من أثقال ذنوب اقترفها
بالتلكؤ في الدفاع عن الشعب والوطن، ليقع
في أثقال ذنوب أشد على الضمير الحي عندما
يغفو في حضن المحتل ويتلقى رشوة التعامل
معه.
الممر الاجباري: خطاب الصورة ونصف خطوات
التفاهم
هذه الإدارة مهووسة باتقان تغطية عجزها
وفشلها، وتوظيف موقع ووزن وإمكانيات
السلطة والرئاسة في تزيين وتجميل الصورة
التي تحل مكان خطاب اللغة القاصر والوقائع
المريرة والعنيدة. لنتذكر كيف خاطر بوش
وقطع آلاف الاميال ليهبط بطائرته تحت جناح
التسلل في قاعدة صحراوية عراقية معزولة.
لينتزع الصورة مع زعيم الصحوة الذي لم
يهنأ طويلاً باستثمار المصافحة الودودة مع
الرئيس بوش، حيث لاحقته لعنة اللقاء وأودت
بحياته. ولنتذكر المشهد الاحتفالي المتقن
في مهرجان أنابوليس الخطابي. هذه الإدارة
لا تعترف بأن مشروعها للعالم والمنطقة،
المتمثل بتحويل القرن الواحد والعشرين أو
نصفه إلى زمن أمريكي جديد ومهيمن، يعاني
من حالة تراجع وإنكفاء استراتيجي بعد
انكشافه وهزيمته في ميادين التماس
الساخنة. ويجهد الرئيس بوش وكبار معاونيه
على أظهار قتالهم التراجعي لتخفيف وطأة
الاندحار وتأجيل السقوط إلى الهاوية،
وكأنه هجمات تكتيكية ناجحة تبشر بالنصر
الأكيد. يبدو بالفعل أن الرئيس بوش ومن
يؤيد سياسته في غفوة أوغفلة تحجب عنهم
رؤية الواقع على حقيقته. ويتحفز الآن
للقيام بجولة تفقدية على مستعمراته
الفعلية والافتراضية في الوطن العربي في
رحلة وداعية ستكون مشحنة بخطاب الصورة
الذي ينشده. هو يخشى أن يقبض التاريخ الذي
لا يرحم عليه، ويحاكمه بقسوة وبشاعة على
ما اقترفت يداه. رغم أوهامه حول إنصاف
لاحق قد يجزيه بعض كتاب التاريخ
والمذكرات.
لذلك يتمسك بغزو المستقبل من الآن بصورة
طاغية من الحاضر، سيتقن دون شك مدبريه في
تزويقها. حيث يتحلق حوله أدوات مشروعه
المهزوم من لبنان إلى العراق مروراً
بفلسطين وافغانستان والصومال والسودان...
ببدلاتهم الانيقة وابتساماتهم العريضة
أمام الكاميرا. فالعم سام قادم، ولكن بعد
أن تغادر طائرته المكان سيقبض حلفاؤه
وأدواته على الريح والصورة التذكارية.
فأقصى ما يستطيع انجازه هو بيانات نصف
تفاهم على نصف تهدئة، على نصف حل ونصف
انسحاب، ونصف ابتسامة على نصف صحوة، ونصف
غفوة في نصف محطة. والمؤسف أن اكثر من نصف
الكرة الارضية، بما فيها أكثر من نصف
الوطن العربي، ارتضى الغفلة أو الانتظار
في مقاعد المتفرجين حتى إشعار آخر.
* تنشر بالتعاون مع مركز الجزيرة للدراسات
باحث
ومحلل في شؤون الامن القومي**
|