ما فتئت كلمة الديموقراطية، ومنذ أن توجت
أمريكا زعيمة وقطبا أوحدا في العالم بعد
انهيار المنظومة السوفياتية، تمارس أثر
السحر على عقول وألسنة الكثير في العالم
وبشكل خاص في وطننا العربي.
لقد استنفرت أمريكا، وبالتساوق مع استنفار
أساطيلها وجيوشها في المنطقة العربية "لدمقرطتها"
على طريقة ما فعلت مع الهنود الحمر، أقلام
جيش الكتبة اللبراليين المحدثين شرحا
وتأصيلا لمنجزات هذا الجيش الأمريكي
العظيم.
وبالتوازي مع غزوها العسكري انطلقت
المحطات التلفيزيونية والإذاعية والصحف
المتلبرلة أمريكيا، وتعددت البرامج
المتنوعة للتنظير لمستقبل أمريكي زاهر،
ودأبت تنظم اللقاءات مع السياسيين
العراقيين اللذين قدموا مع قوات الاحتلال
على ظهور دباباته ومع اللذين ينتظرون
دورهم في الركوب، ومع جيش من مؤيدي هذه
الطريقة من الدمقرطة لا يدري المرء كيف
ظهروا وأين كانوا يختبؤون طوال الفترة
السابقة. بل أصبحت هذه المحطات والإذاعات
والصحف منابرا لكل معاد لأي منهج قومي
عروبي أو اشتراكي أو لأي شيء له علاقة
بفكر التحرر أو المقاومة. المهم أن يكون
من مؤيدي أمريكا و"دمقرطتها"، بل إن
العديد من الأحزاب العربية التي قضت سنوات
طويلة من وجودها في صفوف المعارضة تنظّر
ضد أمريكا وأنظمة أمريكا المستبدة تقاطرت
لعقد مؤتمراتها لتغيير أسمائها واختزال
برامجها لتساير سحر المرحلة وهوس تعبيرها
إلى كلمة واحدة هي الديموقراطية، للدرجة
التي تحولت معها هذه الكلمة في برامجهم من
معناها كطريقة للحكم السياسي ووسيلة
للحوار بين فرقاء متشابهة أومتباينة
لمجتمع ما او بين مجتمعات مختلفة، إلى
مفهوم مستقل بذاته بل مفهوم التهم كل
المفاهيم الأخرى حتى يخال المرء أن
الديموقراطية ستفسر لنا كل الظواهر،
وستحدد هويتنا الاجتماعية من خلال تنضدنا
بالنسبة لها وحولها، بل ستحدد هويتنا
الحضارية والفكرية وولائاتنا الطبقية
والسياسية.هذه الكلمة الساحرة "الديموقراطية"،
إنها المفهوم الذي سعى منظري الامبريالية
بربطها عضويا بنظامها الراسمالي التي حاول
منظروها التأسيس لنهاية التاريخ عند
تخومها.
منذ نهاية القرن الماضي ومطلع الحالي
والحديث جاري من قبل منظري الامبراطورية
الأمريكية عن المشاريع الديموقراطية ولزوم
تعميمها عالميا أو عولميا حتى كادت المبرر
الاخلاقي الوحيد في دواعيهم للغزو
الامريكي العسكري هنا وهناك (طبعا إلى
جانب هدف أمن إسرائيل)، بعد ان انهارت كل
المبررات والدواعي الاخرى.
الديموقراطية تلك الكلمة الشعار الذي غلفت
به البربرية الامبريالية ممارساتها لتعميم
قيم العالم الحر على العالم حتى باتت تأخذ
في المهرجانات التي يعقدها الرئيس جورج
بوش الذي قربت نهاية ولايته شكل الكرنفال،
أو سوق الهال. فما هي الحقيقة في سوق هال
"الديموقراطية" هذا؟؟
إن دراسة تحليلية لصيرورة وسيرورة تطور
المجتمعات الغربية الأوربية ونظامها
السياسي، وإلقاء نظرة عامة على النظريات
الاجتماعية السياسية التي انطلق وينطلق
منها تصور المواطن الأوربي لطبيعة مفهوم
أو شعار الديموقراطية وأشكالها ومساقات
مؤسساتها، و دراسة علاقتها التاريخية مع
اللبرالية وشعارات حق المواطنة والمجتمع
المدني والقوى المنادية بالعدالة
الإجتماعية والمساواة والحقوق الإقتصادية
عبر أنظمة مختلفة من تطور البنية
الرأسمالية الغربية وكيف تطورت هذه وتلك
وسادت في اوربا، وبإلقاء نظرة لتجليات
ممارسة الأنظمة الديموقراطية الغربية في
العصر الحالي واستخدام شعار الديموقراطية
كأداة للسياسة الخارجية لهذه الدول ورصد
عدم المساواة من خلال التبادل الغير
متكافيء بين هذه الدول في المركز ودول
الأطراف يدعونا إلى إعمال التفكير قبل
التقرير لما سيكون عليه مواقف الأطراف مما
يحدث في وطننا العربي.
لقد أوفى العديد من الكتبة والمفكرين
والباحثين العرب موضوع التمييز بين
اللبرالية والديموقراطية، وانطلاقا من
مراجعتهم للعلاقة الديالكتيكية بين آلية
تطور اللبرالية والديموقراطية في عملية
صيرورتهما في التشكيلة الأوربية يتبين أن
كثيرا من الأوقات وخاصة في الفترات
اللاحقة من تاريخ تطور الثورة البرجوازية
انقلبت البورجوازية مرارا على إنجازات
الثورة في مجال الحريات الفردية والعامة
عبر مراحل تطورها عندما كانت تتعارض مع
مبدأ الربح، الهدف الوحيد الذي كان وراء
السعي الحثيث للراسمالية، بل إن الدولة
البورجوازية قد سعت في المرحلة الثالثة من
تطور اللبرالية في الغرب أن تحول مبدأ
الحرية الذي يعتبر من المكونات الأساسية
للمجتمع المدني الذي تبلور عبر صيرورة
معقدة وطويلة في ظل الوصول إلى الإتفاق
على العقد الإجتماعي المبرم إلى نهج
لإضطهاد الطبقة العاملة في مرحلة إدارتها
للسوق وأصبح شعارها:"دعه يعمل دعه يمر"،
والذي كان تعبيرا عن مبدأ عدم التدخل وحق
الإختلاف والمنافسة والمزاحمة الراسمالية
المتسق مع متطلبات سيطرة الطبقة
الرأسمالية، أصبح وسيلة لسحق الأغلبية في
المجتمع التي كانت نظريا تتمتع بكل الحقوق
القانونية من ترشيح وانتخاب.
ولكن
صيرورة التطور الاجتماعي في ظل سيطرة
البورجوازيين على السوق من سلع ومال،
واضطرار الأغلبية المسحوقة إلى بيع قوة
عملها التي لا تملك سواها لكي تتحصل على
قوت يومها، قد حولها إلى مجرد قطيع لا حول
له ولا قوة عبر لهاثها وراء لقمة عيشها
بسبب الإستغلال الكبير من قبل الطبقة
البورجوازية وبسبب المزيد من التفاوت
الإجتماعي لصالح هذه الطبقة البورجوازية.
وسيطر أصحاب المصانع والبنوك والعقارات
الكبيرة على قواعد اللعبة الديموقراطية
فصارت الحرية من ملكيتهم الخاصة، وأصبحت
ذريعة لتدخل الدولة في صياغة الرأي العام
للمشاركة في الإنتخابات البرلمانية
لانتخاب ممثلين الشعب، وقصرت مفهوم الحرية
والممارسة الديموقراطية إلى مجرد صندوق
اقتراع ونسبة أصوات، والتمويه لدى العمال
و عوائلهم أنها تعويض لإعادة إنتاج قوتهم
في ظل الفائض الكبير لقوة العمل المطروحة
بالسوق نتيجة لسياسة الأتمتة، لطرحها
بالسوق لحين الحاجة إليها.
هذه السياسة نفسها وهذا النهج هو الذي
أدّى في مرحلة تاريخية معينة إلى صعود
القوى المتطرفة من الراسمالية ذات الدعاوى
الأيديولوجية للبرالية إلى سدة الدولة
وراحت تسوم الأغلبية من المجتمع، الذين
يعتمدون لعيشهم على بيع قوة عملهم، سوء
العذاب، وتتبع شتى أنواع الاستغلال ناكثة
بكل عهودها السابقة والوعود التي قطعتها
في بناء المجتمع المدني بقدر أكبر من
الديموقراطية والحرية (إن ما تقوم به
الأنظمة الرأسمالية في الوقت الحاضر من سن
قوانين لاستباحة خصوصيات المواطنين تحت
حجة مقاومة الإرهاب لخير دليل)، وعملت عبر
ايديولوجيتها اللبرالية على تقوية دولتها
بانتهاج سياسة اقتصادية راسمالية متوحشة
بتنفيذ بيروقراطيتها الإدارية، وليس عبر
تقوية دعائم أسس المجتمع المدني بل
بالانقضاض قدر ما تستطيع على الديموقراطية
الحقة التي تعني أول ما تعني اعتراف
بالفرد ككائن مستقل، واعتراف بالشعوب
وحريتها وخصوصيتها الثقافية مهما اختلفت
عن بعضها في حضاراتها ورؤيتها للحياة،
الديموقراطية الحقة التي تعترف بالجماهير،
بالكتل الكبيرة التي أهملت على مرّ
التاريخ من قبل هذه القوى الرأسمالية التي
تحولت إلى الاستعمار في القارات العالمية،
وعلينا أن نسعى أن تتحول إلى ذات تاريخية
وسياسية فاعلة. إن اللبرالية كحركة سياسية
واجتماعية اقتصادية، والتي تطورت في اوربا
تاريخيا كحركة لطبقة وسطى ميسورة من خلال
نهج النخبة، سريعا ما تحولت إلى فاشية
ونازية عنصرية خصوصا في فترة الأزمات.
نستنتج مما سبق أنه ليس من الضروري وليس
تحصيل حاصل أن تكون الديموقراطية تطورا
حتميا للبرالية، بل إنه في بعض الأحيان
يكون بينهما علاقة تناسب عكسي، ولا يمكن
تحقيق الديموقراطية في دولة ما أو مجتمع
ما دون تحقق العدالة الإجتماعية، بالرغم
من الاعتراف أن اللبرالية هي التي توفر
فرص وضع الديموقراطية موضع التنفيذ، ولكن
الديموقراطية وحدها القادرة على تحقيق
النموذج اللبرالي الأمثل.
إن العلاقة العكسية بين الديموقراطية
واللبرالية والانقلاب المستمر عليها وعلى
مباديء الحرية الحقة من قبل البورجوازي هو
الذي جعلها تبدو أحايين كثيرة رذيلة من
وجهة نظر الماركسيين عبر صيرورة تطور
المجتمع والدولة، وهو الذي دفع منظريها
الأوائل للتفكير بديموقراطية بديلة أسموها
بالديموقراطية الشعبية والتي حاولوا من
خلال اسمها جعلها أكثر تعبيرا عن مصالح
المضطهدين، على الرغم من كل التحفظات
المثارة ضدها و فشل التجربة السوفياتية
ومعسكرها المطبقة لهذا الشعار وتحوله
لديها عبر تطورها إلى شكل من أشكال
الإستبداد، لكنه لا ينفي حسن النوايا.
بإلقاء نظرة تاريخية لتطور النظم
الديموقراطية في اوربا منذ عهد اليونان
ومرورا بالنظم السياسية التي توالت عليها
في القرنين السابع عشر والثامن عشر
كبريطانيا مثلا والصراع بين القوات
الملكية والفئات البورجوازية هناك، وفي
نفس السياق ما حدث عهد الثورة الفرنسية
والأمريكية وصولا للعصر الحديث وتقسيم
العالم الحديث إلى مركز وأطراف وبعد أن
تبلورت لدى هذا الغرب فكرة الديموقراطية
وثقافتها، وتنال هذا القدر الوافر من
التداول، أخذ هذا العالم الغربي يجعل من
الأطراف العالمية الأخرى كولونيالا له من
خلال شنه حروبا عليه انتصر بها وظفر فوثق
وقدم نفسه على أنه الوحيد الذي ينفرد
بامتلاك ثقافة كونية راقية وحقيقية وأن
الثقافات العالمية الأخرى متخلفة وبدائية
متوحشة تعيش خارج التاريخ ومن مهمات الغرب
إعادة تحضيرها وتخليصها من تخلفها
وبداوتها ودينها.
تمكن الغرب من بسط نفوذه وهيمنته وثقافته
على سائر الثقافات البشرية الأخرى عبر
الحروب والتدمير والتشويه لأصحاب الثقافات
الأخرى في العالم الغير غربي عبر المرحلة
الامبريالية من تطور الراسمالية مما أدى
إلى نشوء وتشكيل حركات التحرر فيها كرد
فعل طبيعي للتصدي لها، وانتشار الأفكار
الثورية ومؤيديها في العالم لنصرة
المظلومين وحق الثقافات الأخرى في العيش
وأن البشرية قادرة أن تبني علاقات أفضل
فيما بين شعوبها على مبدأ الندية والتكافؤ
بالرغم من الثقافات المختلفة التي تسودها.
وعلى هذا الأساس انبنى مبدأ التعددية
الثقافية والحضارية و طرأت تحولات هامة
على مفهوم الثقافة باتجاه الديموقراطية
وليس عبر نظريات عنصرية تحت ذرائع صراع
الحضارات والثقافات والأديان.
إن التناقض سيبقى قائما بين اللبرالية
والديموقراطية وستبقى العلاقة عدائية في
ظل النظام الدولي الحالي وفي ظل التناقضات
القائمة بين دول المركز الراسمالي ودول
الجنوب وفي ظل العلاقات الدولية القائمة
والتبادل الغير ديموقراطي والغير متكافيء
الذي يتم على حساب الدول الفقيرة.
ما علاقة كل ما تقدم بحاضرنا العربي
وقضاياه الراهنة؟ وماذا نجد إن عدنا إلى
بدايات التاريخ الحديث وألقينا نظرة سريعة
على محاولات النهضة العربية الأولى بداية
القرن العشرين حقبة محمد علي، والفكر
العربي من خلال إطلالته على التجربة
الغربية في حينه ورصد التحولات
الديموقراطية المبكرة مرورا بتجارب ما بين
الحربين العالمييتين مرورا بالتجربة
الناصرية؟
إن فشل محاولة النهضة العربية الأولى جرى
بسبب الحصار الذي فرضه الامبريال الغربي
في حينه بزعامة فرنسا وبريطانيا على تجربة
محمد علي ومحاولاته للتوسع إلى بلاد الشام
على حساب الدولة العثمانية المتهالكة
واجهاضها وما بذلتا من إعاقة لتأخير تطور
البنية الطبيعي فيها عبر النزعة
الإمبريالية في بحثها عن الأسواق ونهب
الثروات من خلال إقامة علاقة التبعية
وترسيخها وما بذلته من جهود لتفتيت
المنطقة العربية في حينه وعلى أساس ما بات
يعرف من اتفاقية سايكس بيكو إلى أقطار
تحتوي على كل مقومات التفجر والتشذي
الداخلي إلى أصغر المكونات الإثنية أو
الطائفية أو حتى القبلية.
وبحصول الأقطار العربية تباعا على
الإستقلال السياسي الشكلي بعد أن سعت قوى
الاحتكار بقوة لربطها بها كولونياليا
باستجلاب فئات اجتماعية عميلة لها تستأثر
في الحكم والثروة والسوق لتؤمن مصالحها،
أصبحت مسرحا لانقلابات عسكرية طوال عقدي
الخمسينات والستينات، وانقسم الوطن العربي
لنوعين من الكولونياليات : ملكيات الأسر
الحاكمة وملكيات العسكر التي اتفق على
تسميتها جمهوريات. ودأبت هذه الامبرياليات
بعد أن ورثتها الأمريكية منها كقوى مهيمنة
الهيمنة عليها على حماية هذه الأنظمة من
خلال تفصيل الدساتير الخاصة للإستفتاء
والمستفتى له عبر العمل بقانون الطواريء
ومحاكم التفتيش وأمن الدولة والعسكرية
والميدانية وغيرها، وتحول الجيش إلى جانب
الأجهزة الأمنية إلى ضامن لاستمرار الحكم
وبات جيشا للدفاع عن النظام وليس عن
الحدود من خلال تدريبات وتشكيلات خاصة
تقوم أمريكا بتمويل معظمها. فصودرت
الحريات وأنشئت في معظم الملكيات جبهات من
الأحزاب كراكوزات لزوم الديكور، فمنعت
وقتلت السياسة وزج بكل المعارضين في
السجون ولجأ من وفرته يد البطش إلى النشاط
السري وغابت بهذا العلنية، فتبادل السجين
والسجان الأدوار في لعبة الإقصاء وأصبحوا
رهائن الدائرة المغلقة التي لا مخرج منها
سوى بإعادة السياسة إلى المجتمع، إذ لا
يمكن العمل بالسياسة تحت الأرض كما وصف
البعض، لأنه لا ينتعش تحت الأرض سوى
الظلام وقوى الظلام والعنف، بل إن في ظل
هذه الشروط القمعية تموت مقومات النهضة
والدفاع عن الأرض والأوطان. فعندما تمنع
السلطة الحاكمة شرعنة العمل السياسي وتجبر
معارضتها على الحياة السرية وذيولها تكون
بهذا قد فرضت عليها العمل السياسي بشروطها
التي تفضي إلى التماهي بها فيما يخص
انتفاء فسحة الحرية لديها.
وفيما يخص العلاقات الاجتماعية والسياسية
فيما بين التجمعات والأحزاب والدول
العربية سادت السياسات القطرية على حساب
السياسات القومية الجامعة وتم الفصل
التعسفي بين الشأن القومي والشأن القطري
(وتوفر لذلك منظروه) من خلال سياسة عدم
التدخل في الشؤون الداخلية لكل منهما،
ومنع وإعاقة أي نشاط شعبي يتجاوز الحدود
المتعسفة بل الدفع لدى النشاط السياسي في
حدود كل قطر لجعله الوطن النهائي، وفي ظل
غياب محاولات بناء مؤسسات مجتمع مدني
تحولت المؤسسة الأمنية والعسكرية إلى أهم
قطاع في الدولة وأكبر مستهلك للثروة
القومية والموازنات لضمان ولائها ولحماية
الإنقلابيين الكولونياليين وتأبيدهم في
السلطة لدرجة فقدان الأمل بتغييرهم إلا
عبر الموت بالأحزمة النسفة والسيارات
الملغمة أو القوى الخارجية محاكاة للنموذج
العراقي واللبناني والصومالي.
وبناء عليه يطرح السؤال التالي:هل أن
الضغوط الخارجية (الأمريكية بشكل خاص)
قادرة (أو راغبة)على إقامة أنظمة
ديموقراطية في العالم العربي؟؟
لو جلنا سريعا على تاريخ تشكل
الإمبراطوريات القديمة منذ الاسكندر
الأكبر، مرورا بالامبراطورية الرومانية
إلى الامبراطوريات الاسلامية، لوجدنا أن
أهم مقوماتها في بناء سلطتها هو الميل نحو
توحيد العالم، وأن السمة الاساسية التي
قام عليها مبدأ التوحيد هذا هو مبدأ
المساواة بين سكان أراضي هذه الامبراطورية
في السراء والضراء فكان يمكن أن يكون
القيصر من رجال المناطق الأخرى، وكانت
تقوم العلاقات البينية على أساس التعدد
والإختلاف والفروق، فأين أمريكا كمثال
لآخر الامبراطوريات من هذا وهي تلبس ثوب
الامبريالية المعولمة؟
لقد تشكلت الولايات المتحدة كدولة ومجتمع
عبر ذبح السكان الأصليين، الهنود الحمر،
وبنت عمارتها الداخلية بتأسيس العلاقة
البينية بين مواطنيها بناءا على الاستعباد
والاستقصاء والعنصرية. فلقد تشكلت كأمة في
الأساس بناءا على نظريتها العنصرية قوامها
الأنكلوسكسون عرقا وبروتستانت دينا (ومن
هنا يمكن فهم موقفها في تأييد ودعم عنصرية
الكيان الصهيوني)، ولم تمنح بطاقة دخول
ناديها إلا لمن قبل ثقافتها وعاش أسلوبها
الأمريكي. كان على الهنود الحمر أن يتخلوا
عن هنديتهم، وعلى السود ذوي الأصل
الأفريقي من مواطنيها أن يتخلوا عن سحنتهم
السوداء لكي ليتساووا بالحقوق، ولقد حوت
حدود هذه الدولة أعتى أنواع قوانين الفصل
العنصري عبر التاريخ قبل أن يلغى بفعل
نضال حركة عريضة قادها مارتن لوثر كنج
باسم السود ضد الفصل العنصري. وعندما فكرت
هذه الدولة التمدد خارج حدودها في المحيط
القريب منها، (في حديقتها الخلفية كما
تدعي) إلى أمريكا الجنوبية واللاتينية
لوراثة الامبراطوريات القديمة ارتكبت
المجازر وأنشأت جزر الموز.
ومنذ مطلع القرن العشرين ولغاية آخر
محاولاتها في فنزويلا مؤخرا كان لها تاريخ
طويل في دعم الانقلابات العسكرية وإقامة
أعتى أنواع الديكتاتوريات المنقلبة على
التجارب الديموقراطية في جميع أصقاع
العالم: هكذا تحاول هذه الامبراطورية
الأمريكية الحديثة بسط نفوذها في العالم،
علاقات استراتيجية مع كل الدول التي تعتمد
التمييز العنصري كأيديولوجيا (سابقا جنوب
أفريقيا وحاليا الكيان الصهيوني)،
والانظمة الدكتاتورية، وعلاقات توتر
واستغلال مع الشعوب الفقيرة والدول التي
تصبح مارقة إن وجدت من الضروري الدفاع عن
مصالحها ومصالح شعوبها. واستنادا على ذلك
نسأل هل يمكن أن تنقل أمريكا أو تساعد في
نقل البلاد العربية من الأنظمة القمعية،
والتي هي من صنيعتها وحليفتها على مدار
نصف قرن، إلى الأنظمة الديموقراطية ؟
الجواب هو استحالة لتناقض جوهري يكمن في
طبيعة القوى المسيطرة على مقاليد الحكم في
الإدارة الأمريكية مع كل نهج يؤدي إلى
ممارسة ديموقراطية داخليا ودوليا.
ففي ظل قيادة هذه الإدارة للعالم الحر كما
تدعي فإن العالم اليوم وعبر سوقه المتوحشة
يعاني من أسوأ كارثة بيئية وغذائية وأمنية
في إطار نظام تبادل غير متكافيء لا مثيل
له بالتاريخ يزداد في ظلّه فقر الفقراء
وتبعية الدول الفقيرة تبعية من خلال
الانخراط والانصياع لعلاقات السوق
العولمية المتسقة بالشعارات اليمينية
لأيديولوجيا المحافظين الجدد في امريكا.
فالامبراطورية الأمريكية تسعى للسيطرة من
خلال الإخضاع وليس الحرية وإبداء الرأي،
ومن يخالف يقطع رأسه، وما استخفافها
بالشرعية الدولية، ودعمها للممارسات
العدوانية العنصرية الصهيونية وتأكيدها
الدائم لدعم إجراءاته ضد الشعب الفلسطيني
الأعزل، وما اقترفته وتقترفه في العراق
وأفغانستان والصومال والسودان وغيرها،
وحصارها لكل التجارب الديموقراطية في
أمريكا الجنوبية واللاتينية المناهضة
والمعارضة لسياسة الاستغلال الفظيعة التي
تتبعها، إلا دليلا على عنصريتها وعدائها
الشديد للديموقراطية والحرية وحقوق
الإنسان.
إن خطاب الديموقراطية ومحاولات الدفع
للإصلاح من قبل الإدارة الامريكية يتناقض
جذريا مع استراتيجيتها وسياستها الممارسة
في المنطقة، وافتقار المصداقية لسياستها
في العالم عموما وفي المنطقة خصوصا لا
يساعد على بناء الديموقراطية في المنطقة
ولا يدفع للثقة في طرحها. إن تطبيق مبدأ
المساواة هو شرط ضروري في العلاقات
الدولية وبناء التحالفات فيما بينها.
سنجتر الوقت إذا سردنا علاقة الفكر العربي
ومن بينه اليسار خاصة بمسميات
الديموقراطية واللبرالية التي كانت
بالإجمال تتبنى التفسير السوفياتي
للمفهومين. ولكن هذا الاعتراف لا يمنع من
الإقرار أنه قد توفر على الرغم من ذلك بعض
المفكرين الماركسيين الذين حاولوا إنتاجا
فكريا جديدا أمثال سمير أمين والياس مرقص
وياسين الحافظ وبرهان غليون وسلامة كيلة
وعادل سمارة والذين اتفقوا على أن
الديموقراطية الحقيقية هي التخطي الجدلي
للبرالية، وأن الديموقراطية في ترابط عكسي
مع اللبرالية، وأنه لا يمكن تحقيق
الديموقراطية إلا في دولة تحققت العدالة
الاجتماعية فيها وتخلت عن نموذج الدولة
اللبرالية.
إن ما طرحه المفكر الياس مرقص مبكرا على
المفكرين والمثقفين العرب في البحث عن
اسباب التخلف العربي عن الركب العالمي و
الولوج إلى النظام الديموقراطي، ونقد
الفقه والوعي الماركسي السائد واعتماده
الديالكتيك كمنهج متعارض مع المنهج الوضعي
لهو سابقة لليسار العربي في فهم التعارض
بين اللبرالية والديموقراطية وعلاقتهما
بالتاريخ العربي الحاضر وبواقعه وقضاياه،
لقد ادعى أنه لا يمكننا فهم تاريخنا
المعاصر بدون الديالكتيك بوصفه نتاج
المعرفة البشرية عبر صيرورة تطور الأفكار
العالمية، وهذا يقتضي التخلص والتحرر من
المنهج الوضعي.
تصر اللبرالية الامريكية ومناصروها في
العالم وفي منطقتنا على استمرارية صلاحية
تطبيق النهج اللبرالي في منطقتنا بناء على
الإيمان بمقولة نهاية الايديولوجيا
والتاريخ عند النظام الرأسمالي بل تدعو
إلى "صراع الحضارات" وتصر على تعويم
علاقات السوق عولميا بآليات التوسع
الامبريالي والتبادل الغير متكافيء عبر
خطاب لبرالي معادي للعلاقات الديموقراطية
على مستوى العلاقات الدولية واحترام حقوق
الانسان وحرية الشعوب وبذل الجهود لحماية
كوكبنا من الهلاك والتقلبات المناخية بسبب
ثقب الأوزون وتجارب السلاح النووي.
إن على قوى اليسار الديموقراطي العربي
وغير العربي في المنطقة ـ إذا أرادت تخطي
المأزق الذي تحاول الامبراطورية الامريكية
خنقنا فيه من خلال تعويم ايديولوجيتها
اللبرالية الجديدة القائمة على مبدأ الفرد
فقط وتجاهل الجماعة، والقائمة على مبدأ
النفعية الآنية ضد التقدم، للسيطرة على
مقدرات المنطقة ونهب ثرواتها ـ الكشف عن
الروابط المنطقية بين الديموقراطية
والمجتمع المدني من أجل وضع الديموقراطية
في سياق مشروع نهضوي عربي ذي أبعاد
اشتراكية.
إن الفرق لجوهري وأساسي بين ما تطرحه قوى
اليسار الديموقراطي النهضوي، وبين ما
تطرحه الأنظمة الكولونيالية العربية أو
القوى اللبرالية الجديدة أو المتلبرلة
حديثا. إنه الطرح الثوري الذي يضع
الديموقراطية تحت تأثير الفاعلية السياسية
اجتماعيا لتنتج حياة مجتمعية سياسية ناهضة
وممارسة يومية فاعلة على أساس منهج
ديالكتيكي وصيرورة منطقية لعقل حاضرنا
وواقعنا لنتمكن من استقراء مقومات النهوض
الحقيقية.
عن كنعان النشرة الألكترونية، 16حزيران
(يونيو) 2008
|