من الأمور المثيرة للدهشة أن
الكلام الذي يتردد في انحاء العالم حول
مخاطر التغيرات المناخية وأزمة الغذاء,
لانكاد نلمس له صدي يذكر في مصر, برغم
اننا لانملك ترف التردد في الموضوع.
(1) بنجلاديش أعلنت الطواريء ورفعت شعار
البطاطس هي الحل, اذ تبنت الحكومة حملة
تعبئة واسعة النطاق, كان عنوانها:
فكروا في البطاطس ـ ازرعوا البطاطس ـ
تناولوا البطاطس, وكانت بداية الحملة
مهرجانا اقيم قبل شهر في العاصمة دكا,
اعقبته مهرجانات اخري في انحاء البلاد,
شارك فيها كبار المسئولين والمثقفين,
وروجت لها وسائل الاعلام المختلفة, وفي
الوقت ذاته قررت الحكومة تقديم البطاطس
بدلا من الارز لقواتها المسلحة التي تضم
نصف مليون شخص.
بنجلاديش ليست وحيدة في ذلك, فقد لجأت
إلي البطاطس ايضا الدول الاسيوية الرئيسية
التي تستهلك كميات هائلة من الارز, وفي
المقدمة منها الهند والصين, كما سارت
علي ذات الدرب بعض دول امريكا اللاتينية
والدول الافريقية الواقعة جنوب الصحراء,
بل ان الامم المتحدة حين ادركت ان ذلك
يشكل احد حلول ازمة النقص في الارز وبقية
المحاصيل, فانها أعلنت العام
الحالي2008 عاما دوليا للبطاطس, لكي
تشجع الدول علي زراعتها, لتحتل مكانتها
علي قمة الهرم الغذائي للفقراء, متقدمة
علي الأرز والقمح والذرة.
في العدد الأخير من مجلة نيوزويك10-6
تقرير عن بعض مظاهر التغير في السلوك
الغذائي التي ظهرت في عدة دول, بسبب
الازمة الراهنة, ففي الولايات المتحدة
ذاتها تحول البعض إلي اللحوم المعلبة التي
زادت مبيعاتها بنسبة10% خلال الأشهر
الثلاثة الأخيرة, بعدما ارتفعت أسعار
اللحوم الطازجة, وفي اليابان ألغت أغلب
المدارس لحم الابقار في وجبة الغداء,
ليحل محلها الدجاج ولحم الخنزير الأرخص,
وفي الهند اصبحت عائلات الطبقة المتوسطة
تتناول اللحوم مرة واحدة في الاسبوع,
اما الفقراء فقد اصبحوا يكتفون بالارز
وانواع الفلفل والملح, وفي الفلبين تحول
الناس عن الارز وأقبلوا علي تعاطي البطاطس
والنباتات الأخري الشبيهة, وفي جنوب
افريقيا لم يعد الفقراء يطمحون لأبعد من
اكل رءوس الدجاج وأرجلها وقوانصها
الممزوجة بالاعشاب البرية.
(2) لا أعرف إلي اي مدي يسهم تغير نمط
الاستهلاك في حل ازمة الغذاء الذي شح
وارتفعت أسعاره, لكن الذي أعرفه ان
الأمر في مصر مختلف كثيرا, بل اشد
تعقيدا, فضلا عن أن انماط الاستهلاك
تغيرت في أوساط الطبقات المتوسطة
والفقيرة, وماحدث في الهند وجنوب
افريقيا مثلا له نظيره عندنا, وقد سبق
ان ذكرت في مقالة سابقة ان بعض الفقراء
اصبحوا يأكلون الفئران, كما نشرت الصحف
المصرية ان بعض الجزارين لجأوا إلي ذبح
لحوم الحمير, الأمر الذي أثار جدلا بين
العلماء حول ما اذا كان ذلك اللحم حلالا
ام حراما.
حرج الموقف في مصر يتمثل فيما يلي:
* انها تعتمد في غذائها الاساسي علي
الاستيراد من الخارج, وأذكر هنا بما
اشرت إليه في الاسبوع الماضي من ان مصر
تستورد80% من احتياجاتها من الذرة
و90% من زيوت الطعام, و50% من القمح
والدقيق والفول و33% من السكر و98% من
العدس.وجه الحرج في هذه النقطة لايكمن
فقط في الاعتماد علي الاستيراد في توفير
تلك المستلزمات, ولكن الأهم من ذلك ان
هذه الحبوب قد يتعذر استيرادها ايضا في ظل
التوسع المستمر في تحويل المحاصيل إلي
مصدر للوقود, بعد ارتفاع أسعار
النفط.
* ان النمو السكاني في مصر تزايد بمعدلات
عالية نسبيا, فتعداد السكان حاليا اصبح
علي ابواب الثمانين مليون نسمة, وكانت
الوثائق الرسمية تشير إلي ان مصر ستصل إلي
هذا الرقم في عام2017 ولكن الأمر اختلف
تماما الآن, واصبحت التقديرات الرسمية
تتحدث عن100 مليون نسمة في مصر مع حلول
سنة2025.
* ان فرصة التوسع الزراعي في مصر
محدودة, فاذا كنا نزرع الآن نحو8
ملايين فدان من الأرض خلال50 سنة لم تزد
الرقعة الزراعية في مصر سوي ثلاثة ملايين
فدان فقط فان طبيعة التربة المصرية
الجافة86% منها شديدة الجفاف والقدر
المتوافر من مياه النيل, لايسمحان
بزيادة المساحة المزروعة لأكثر من ثلاثة
ملايين فدان أخري بحلول عام2017, ذلك ان
مصر تحصل الآن علي55,5 مليار متر مكعب
من المياه وزراعة11 مليون فدان تحتاج
لاكثر من مليار متر مكعب من المياه,
الأمر الذي يعني ان علي مصر في هذه الحالة
ان تبذل جهدا خاصا لتوفير المياه
المطلوبة, وهذا الكلام ليس من عندي,
ولكنه رأي الدكتور اسماعيل عبدالجليل رئيس
مركز بحوث الصحراء.
* الدكتور مصطفي طلبة خبير البيئة
العالمي ووزير البحث العلمي الاسبق له
اكثر من ملاحظة مهمة في السياق الذي نحن
بصدده, فهو يذكر ان مستقبل مياه النيل
ذاتها يحتاج إلي دراسة تحسم ما اذا كانت
تلك المياه في ظل التغيرات المناخية
الراهنة ستزيد أو تنقص, فهناك من يقول
بأنها ستزيد بنسبة30% وهناك من يقول
انها ستقل بنسبة70% وهو يرجح الرأي
الثاني بسبب ثبوت تغير كميات الامطار في
منابع النيل, لكنه يدعو إلي ضرورة حسم
هذا الأمر من جانب العلماء المختصين.
* في رأي الدكتور طلبة ايضا ان عوامل
النحر ستؤدي إلي فقدان دلتا النيل لنسبة
تتراوح بين12 و15% من مساحتها خلال
الفترة ما بين الـ25 و30 سنة
القادمة, كما ان الدراسات والتوقعات
الدولية والمحلية اعربت عن القلق الشديد
علي المناطق الساحلية الواقعة تحت سطح
البحر, المهددة بالغرق في حالة ارتفاع
سطح البحر بسبب التغيرات المناخية, وقد
تحدث تقرير التنمية البشرية
لعام2008/2007 عن انه ما لم تتخذ
الاحتياطات اللازمة, فانه بحلول
عام2020 يمكن ان يؤدي ارتفاع مياه البحر
إلي غرق نحو4500 كيلو متر مربع من اخصب
اراضي الدلتا, يعيش فيها الآن ستة
ملايين شخص تقريبا.
(3) هذه القصة يرويها الدكتور مصطفي كمال
طلبة: في عام1958 حين قررت مصر بناء
السد العالي شكلت لجنة لبحث الآثار التي
ستصيب التربة المصرية نتيجة لذلك وبعد
الدراسات المستفيضة انتهي الخبراء إلي ان
اخطر تلك الآثار يتمثل في نقص الطمي ونحر
الدلتا وزحف مياه البحر تحت سواحلها
الشمالية, واقترحت اللجنة انشاء مصدات
للامواج امام بعض سواحل الدلتا, ولكن
محدودية الموارد المالية حالت دون تنفيذ
الاقتراح, لان تكلفة الكيلو متر من
المصدات كانت مليون دولار وقتذاك بعد13
عاما, وفي عام1971 حين تولي الدكتور
طلبة وزارة البحث العلمي, طرح الموضوع
مجددا خصوصا ان تجليات النحر قد ظهرت
فعلا, ولكن تبين ان تكلفة الكيلو متر
الواحد وصلت إلي مائة مليون دولار, وهو
ما كان سببا في صرف النظر عن المشروع مرة
أخري.
ما يثير الانتباه في هذا الصدد انه في وقت
لاحق تم انفاق مئات الملايين لانشاء
الطريق الساحلي الدولي في شمال الدلتا,
دون أن يؤخذ في الاعتبار تأثير ارتفاع سطح
البحر عليه, أو علي مشروعات التنمية
المقامة علي جانبيه, لان ذلك كله مهدد
بالغرق اذا ما هاجمته مياه البحر.
الأكثر مدعاة للدهشة, والحيرة ايضا ان
الحكومة المصرية اعلنت في عام1997 عن
وثيقة مصر للقرن الحادي والعشرين التي
حددت استراتيجية للتنمية الشاملة خلال
العشرين سنة التالية حتي سنة2017 وجاءت
الوثيقة في200 صفحة مدعمة بالخرائط
والرسوم البيانية, وتضمنت معالم التنمية
المنشودة في جميع المجالات, وقدرت تكلفة
مشروعاتها بمائة مليار جنيه, وفي المجال
الزراعي تحدثت الوثيقة عن اضافة1,9
مليون فدان إلي الاراضي الزراعية, من
خلال اقامة دلتا جديدة والخروج من الوادي
الضيق, الذي ينحشر فيه ملايين
المصريين, ويمثل5,5% من مساحة
الارض, بحيث تتسع مساحة الحيز المعمور
في نهاية الخطة لتمثل25% من مساحة
البلاد.
تحدثت الوثيقة مثلا عن زراعة400 الف
فدان في سيناء, اعتمادا علي مياه ترعة
السلام التي وصلت إلي سيناء عبر اربع
سحارات أو انفاق أقيمت تحت قناة السويس,
في عملية انشائية ضخمة, وكان التقدير
المبدئي أن استصلاح تلك المساحة سيتم خلال
اربع سنوات, بتكلفة703 ملايين جنيه,
ولكن بطء التنفيذ وخروج الدكتور كمال
الجنزوري من الوزارة خلال اقل من عامين
بعد اعلان الوثيقة ادي إلي تعثر خطي
المشروع, ومن ثم ارتفعت تكلفة تنفيذه
من703 ملايين إلي ثلاثة مليارات جنيه,
زادت بعد ذلك إلي اربعة, وحين تم تعويم
الجنيه وصلت التكلفة إلي مايعادل6
مليارات جنيه, ولم يكن مفاجئا بعد ذلك
ان يجمد المشروع, وان تطوي صفحة وثيقة
القرن الحادي والعشرين, بعدما انفق علي
بنيتها الاساسية خلال الخمس عشرة سنة
السابقة أكثر من700 مليون جنيه إلي ان
فوجئنا بعد ذلك اننا دخلنا في القرن
الحادي والعشرين, وتعين علينا ان نفعل
شيئا لانقاذ مصر من مخاطر المستقبل الذي
لم يعد بعيدا.
(4)لانملك ترف البكاء طويلا علي الفرص
التي ضاعت, ولامفر من ان نجيب علي
السؤال: ما العمل الآن؟ ألقيت السؤال
علي مسامع الخبراء الذين تحدثت اليهم,
ووجدتهم متفقين علي عدة أمور في مقدمتها
مايلي:
* ان انقاذ الموقف يتطلب ارادة جادة
ومسئولة تتبني رؤية لاتتأثر بتغير
الحكومات أو التقلبات السياسية, وهو ما
فعلته الدول التي نهضت مثل الهند وماليزيا
وكوريا الجنوبية.
* ان الرؤية أو الاستراتيجية المطلوبة
ينبغي ان يضعها فريق من أهل العلم من
مختلف التخصصات ذات الصلة, وعلي هؤلاء
ان يبحثوا العديد من الأمور المختلف
عليها, مثل طبيعة المخاطر التي تهدد
دلتا النيل, واحتمالات تأثر كمية مياه
النيل بالزيادة أو النقصان خلال السنوات
المقبلة, وتأثير ذلك علي امكانات التوسع
الزراعي, ومدي الاعتماد علي المصادر
الأخري الامطار والمياه الجوفية في توفير
المياه اللازمة للتوسع المنشود.
* البحث العلمي ينبغي ان يكون حاضرا بقوة
في المشهد لتحقيق الاستفادة القصوي من
المياه المتاحة, وتحسين سلالات المحاصيل
وتحديد الزراعات ذات الأولوية, ومدي
ملاءمة المحاصيل للتربة, التي تختلف في
توشكي عنها في الدلتا مثلا, ومعالجة
مشكلة تزايد الملوحة في الاراضي..
الخ.
* ان مصر ينبغي ان تفكر بشكل جاد في
التعاون مع الجيران للاسهام في حل مشكلة
الأمن الغذائي, واذا كانت الصين قد لجأت
إلي شراء الاراضي الزراعية في السودان,
وهو ما لجأت إليه بعض دول الخليج التي
استثمرت جانبا من اموالها في المشروعات
الزراعية في بعض دول القارة الأخري,
فمصر مؤهلة بجدارة لان تدخل هذا المجال,
مستثمرة موقعها الجغرافي, وامكاناتها
البشرية الخبيرة, في حين ان لدي الآخرين
التربة والمياه.
لست أشك في ان فتح الملف يمكن ان يثري
المناقشة بافكار اخري مهمة, لكن الأهم
ان يبقي مفتوحا وان نتحرك وبسرعة قبل ان
تقع الفأس في الرأس, لاننا بصدد ازمة
لاتجدي فيها قرارات اللحظة الأخيرة.
صحيفة الأهرام المصريه 17 يونيو
2008
|
|