احتفى اللبنانيون بانتخاب العماد ميشال
سليمان، الرئيس الثاني عشر للجمهورية
اللبنانية، بعد ظهر الأحد في 25 أيار/مايو
2008، الذي صادف الذكرى الثامنة لتحرير لبنان
من الاحتلال الإسرائيلي. حاز، وهو الرئيس
التوافقي الذي جرى الإجماع عليه منذ وقت مبكر،
على 118 من أصل 127 نائباً، اقترعوا في جلسة
شهدت للمرة الأولى حضوراً عربياً ودولياً
هاماً. لم يتناول خطاب التنصيب نقاطا خلافية،
بل ركز على ما يشكل إجماعاً. خاصة بعد أن بقيت
سدة الرئاسة فارغة أكثر من ستة أشهر. توجه
الرئيس الجديد للبنانيات واللبنانيين مخاطباً
الحس الوطني ومتحدثاً عن الطاقات الشابة
والمغتربين. كما عرّج على المقاومة والمؤسسات
الدستورية. وتناول العلاقات مع سوريا
والقرارات الدولية، خاصة منها محكمة قتلة
الحريري ومسألة الأسرى في اسرائيل.
ملفات كثيرة تنتظر الرئيس الجديد. ويخشى أن
مواصفاته الشخصية من تحلٍ بالموضوعية والجدية
والنزاهة والهدوء والاعتدال لن تكون كافية
لمواجهة ما ينتظره باحراز نتائج مرضية للجميع.
وإن كان لنا أن نقرأ من
التاريخ أن أشخاصاً استطاعوا الإبحار عكس
التيار ومواجهة الضغوط والكوابح المختلفة
عندما حملوا رؤى تنويرية وقوة إرادة وقناعة
راسخة بضرورة الإصلاح التغيير، نأمل أن يكون
ذلك من نصيب لبنان هذه المرة.
فالأجواء الداخلية ملبدة بالانقسامات السياسية
الحادة، بموازاة أوضاع إقليمية ودولية شديدة
التعقيد. حيث بعد تسمية رئيس الوزراء غير
التوافقي، والاتفاق على توزيع الحقائب
الوزارية، سيبدأ العمل مبدئياً على ترميم
الوحدة الوطنية، وترسيخ الأمن، وتسوية
العلاقات مع سوريا، وتشكيل إجماع حول المحكمة
الدولية، وبعث الحياة في مؤسسات الدولة
والإدارات العامة، وتعيين أعضاء المجلس
الدستوري، ومعالجة الأزمة الاقتصادية والدين
العام والخصخصة.
الأمر الأكثر حساسية في هذه المرحلة العصيبة
هو وضع خطة استراتيجية دفاعية ومعالجة سلاح
المقاومة. ليس وفقاً للاملاءات الخارجية،
وإنما بالتفاهمات. ذلك طالما أن اسرائيل
موجودة على حدود لبنان الجنوبية وتحتفظ بجزء
من أراضيه. كما وتعبر الخط الفاصل وتخترق
سماءه وتمارس العنتريات على شعبه كلما طاب
لها. إضافة إلى أن خروج الكيان الصهيوني من
مزارع شبعا لا يضمن أن يوقف اعتداءاته على
لبنان ويفرمل طموحاته التوسعية.
ما أتاح الانتقال لهذه المرحلة السياسية
الجديدة، بعد اشتباكات الأيام الخوالي في
الشوارع بين اللبنانيين، هو الاتفاق الذي تم
التوقيع عليه في 21 أيار في الدوحة. لقد وضع
حداً لحقبة زمنية امتدت 4 سنوات منذ صيف 2004
واتخاذ القرار 1559، الذي قضى بإخراج القوات
السورية من لبنان في 2005. فدولة قطر، التي
تقف على تقاطع المحورين الأمريكي-الاسرائيلي
والسوري-الإيراني وتحتفظ بعلاقات جيدة مع
الجميع لبنانياً واقليمياً ودولياً، أتاحت
تفكيك تعقيدات الأزمة اللبنانية ووضع ضوابط
للخلافات المحلّية. سر نجاحها يكمن، بخلاف بعض
الدول العربية الكبرى التي دعمت حلولاً
ومبادرات، في عدم انحيازها مع طرف ضد الآخر
وتحوّلها لجزء من المشكلة.
وإلى أن خرج الخبر من الدوحة بأن "المؤامرة
الكبرى التي كانت تستهدف بقاء لبنان ومصيره قد
أحبطت"، وأن الجميع "قد تنازل من أجل لبنان
وليس للطرف الآخر"، كان للعالم أن يشهد خلال
المباحثات تعبيرات مختلفة لصولات وجولات
وتهديدات ومشاكسات، عكستها وسائل الاعلام
المختلفة التي لم تبق على الحياد. معظمها يبرز
تضخم الأنا عند البعض، وعدم قدرة على ضبط
الشحنات الانفعالية، وتلاشي الضوابط
الأخلاقية، واللجوء للغة الأرقام والحسابات
الضيقة على حساب ما هو أسمى من كل ذلك.
وبعد أن نصبت المعارضة، احتجاجاً على ادارة
الأمور بمعزل عنها، الخيام وسط بيروت في ساحتي
رياض الصلح والشهداء خلال 538 يوماً، احتاجت
لساعات لتطويها بعد الاتفاق. ثم زرعت مكانها
الزهور كفأل خير على مستقبل لبنان. لكن ليت
الزهور تضمد الجراح المثخنة التي عمقتها ليس
فقط الحروب، وإنما ما كان مسببها. أي تنميط
الإنسان ضمن طوائف ومذاهب وتأليبها على بعضها.
الأمر الذي راكم وبرر عند البعض التعصب
والطائفية والعنصرية والتفوق الجيني اللبناني
وكل أشكال الانكماش على الذات. وكما في كل مرة
تعصف الأزمات بلبنان، تتكرر مشاهد نبذ الآخر
القريب، والتعنت في قبول تسويات أو في إيجاد
تفاهمات، واللجوء لأطراف خارجية مختلفة
لمساندتها.
إن كانت هذه التسوية لا تبدو أكثر من مرحلية،
فلأنها لم تعالج بشكل ناجع تراكم أزمات امتدت
في الزمن. فما زالت الصيغة التوافقية في العيش
المشترك بين الطوائف المختلفة لم تتغير. صحيح
أن اتفاق الدوحة حقق مطلب الموالاة بسط سيادة
الدولة على كامل الأراضي، وعدم استخدام سلاح
المقاومة في تحقيق اهداف سياسية، وتشكيل حكومة
وحدة وطنية مع نصف المقاعد زائد واحد. كما
وأكد على أسقاط القرارات بإقالة مدير أمن
المطار ونزع شبكة اتصالات حزب الله. وأقر
الثلث الضامن أو المعطل للمعارضة، التي تشكّل
بعد انتخاب الرئيس التوافقي من خارج قوى
الموالاة، وبعد الاتفاق على قانون انتخابي
جديد. لكنه أعطى دفعاً جديداً للبناء الطائفي،
ووزناً للزعامات السياسية التقليدية
والمعادلات الطائفية والمناطقية. وذلك على
أساس الميثاق الذي قام عليه لبنان منذ
استقلاله والذي تسبب في أزمات داخلية وتدخّلات
خارجية متكررة.
لقد توقف الأمر إذن على تقاسم حصص ومواقع
فئوية في المؤسستين التنفيذية والتشريعية
ومكاسب شخصية وترضيات مالية سخية. دون التوصل
لتفاهم على برنامج سياسي وطني يشمل القضايا
المسؤولة عن الاهتزازات الأمنية والسياسية
المتكررة في لبنان. كان من المنتظر من طبقة
سياسية وضعت البلاد على حافة الهاوية أن تغفر
لذنوبها، بإقرار لبنات الدولة المدنية الحديثة
التي تتعامل مع أبنائها كمواطنين، وليس من
منطلق انتمائهم لطائفة أو مذهب.
في هذا السياق، من الطبيعي أن لا يهلل البعض
للقانون الانتخابي الجديد. فهو فصّل بعض
المناطق بموجب أقضيتها، كقضاء صيدا، ودمج بعض
الأقضية الأخرى بدائرة واحدة، وقسّم بيروت
بدلاً من
إبقائها موحدة. كما سعى لاحتكار التمثيل
الطائفي، والأخذ برأي الغالبية البرلمانية،
ومراعاة التركيبة المعتادة في إطار تحالفات
آنية. ذلك دون الالتفات للأطراف الأخرى
الغائبة عن طاولة الحوار أو الاهتمام بالتمثيل
الديمقراطي لكل ألوان الطيف اللبنانية. لم
يلتفت هذا التقسيم الطائفي والمذهبي للوحدة
الوطنية. وكان من شأنه أن ألغى التمازج
الديمغرافي بين أبناء بيروت والطوائف
الإسلامية والمسيحية بمن فيهم الأرمن. من هنا
دفع المشروع المدني ثمن السلام الأهلي في عودة
للخلف، حتى في قراءة اتفاق الطائف. فهذا
الأخير نص على وجوب إجراء الانتخابات على أساس
المحافظة كدائرة انتخابية، بانتظار أن يصبح
لبنان دائرة انتخابية واحدة.
وهكذا بعد المعجزة التي حصلت في اتفاق اللحظة
الأخيرة، لنا أن نتساءل عن الوطن في ظل تقاسم
قياداته الحصص والمقاعد؟ عن حقوق الشعب
اللبناني ضمن الضجيج المتعب لأنا الزعامات
المتضخم الذي يطغي على أنّات تستصرخ الضمائر؟
هل هو الخوف على الذات من آخر يبدو كمن يهدد
هذه الذات ويحرمها طمأنينتها؟ هل مجرد اختلاف
المرجعيات وتباعد المصالح والرؤى كفيل بشق
الصفوف والجر للاحتراب والتسبب بضحايا أبرياء
وتأجيج نذر حرب تطحن الجميع بنيرانها؟ على هذا
يراهن من يذكي نار الفتنة ويستعمله بدهاء
لتحقيق مآربه. لذا بات من الضروري الاسراع
بنزع فتيل التعصب والطائفية من النصوص قبل
نزعها من النفوس. كون هذه الأخيرة تتطلب وقتاً
وجهداً تثقيفياً وتربوياً قد يمتد لزمن.
*نشر في صحيفة البديل المصرية في 10-06-2008