بالتأكيد ليس متروك الفالح هو اسجين
الوحيد بين سجناء الرأي والمعتقلين الاصلاحيين
في السجون العربية الممتدة على امتداد الوطن
الكبير، وبالتأكيد ليس متروك الفالح المثقف
الوحيد الذي دفع غالياً من حريته واستقرار
حياته ثمناً لطموحه في تحديث مجتمعه وتطوير
بلاده واصلاح الخلل في الواقع الذي يعيشه.
لكن الاستاذ الجامعي المميز، ابن
مدينة سكاكا في منطقة الجوف في شبه الجزيرة
العربية، وصاحب الابحاث القيّمة والدراسات
الشيقة في كل ما يتصل بهموم مجتمعه وامته،
يتميز عن غيره انه لم ينتم الى حزب سياسي
تعتبره سلطات بلاده محظوراً، ولم يؤمن يوماً
بالعنف والتطرف طريقاً لتغيير الاوضاع التي
يعتبرها شاذة، ولم يخرج مرة عن احترام
القوانين والاصول المرعية الاجراء في دولته،
بل اختار كمثقف اصيل اسلوب البحث عن حلول لما
رآه خللاً، وعن اصلاح لما اعتبره فساداً، وعن
تقدم لما شعر به تخلفاً او تأخراً.
حين جمعني به المؤتمر القومي
العربي في اوائل التسعينات وحين زاملته في
امانة المؤتمر القومي بعد عام 1993، وحين
التقتيه في ندوات مركز دراسات الوحدة العربية
وهو احد اعضاء مجلس امنائه، لم تغادر الرصانة
تحليلاته، ولا ابتعدت مواقفه عن الاتزان ، ولم
اسمعه مرة اسير انفعال او ردود افعال، او صاحب
خطاب تخويني او لغة مبتذلة، بل كان متروك يدرك
بعمق ونضج حساسية المعارضة في حياتنا العربية
المطوقة بكل اشكال الاقصاء والغاء الاخر
والتحكم بمصير البلاد والعباد، فكان يصر على
القول انه مثقف اصلاحي وليس سياسياً معارضاً،
وكان همه ان يأكل شعبه العنب لا ان يقتل
الناطور او حتى يشاكسه.
هدوءه بالطبع لم يكن يعني اذعاناً،
واتزانه لم يكن يشي باي قدر من الضعف، وتجنبه
الحدية والاستفزاز في كتاباته لم يكن ليقلّل
ابداً من صلابته وشجاعته، بل كان يدرك ان
مهمته كمثقف تفرض عليه التزامين اولهما البحث
عن الحقيقة وثانيهما الاجهار بما تصل اليه
مباحثه وتأملاته دون ان يخشى في الحق لومة
لائم.
كان متروك الفالح يرفض ثنائية
مفروضة على حياتنا العربية فاما رضوخ لخلل
يطال كل جوانب هذه الحياة او انزلاق الى تطرف
وعنف يدمر المجتمعات والكيانات بحجة الثورة
والاصلاح، لذلك اختار مع كوكبة من زملائه
المثقفين الاصلاحيين اسلوب الكتابة وتوقيع
العرائض واثارة النقاشات العلمية الرصينة.
ومع ذلك لم يتركه اصحاب الشأن
وشأنه، بل عمدوا منذ سنوات الى مطاردته،
وسجنه، ومنعه من السفر، بل الى سجنه من جديد،
دون ان يدركوا ان مثل هذه الاساليب لن ترهب من
رفض طيلة حياته كل اشكال الارهاب، ولن تسكت من
كان دائما يرى في الساكت عن الحق شيطاناً
اخرساً.
في خضم الاضطراب السياسي والامني
والاجتماعي والفكري الذي يعصف بامتنا منذ
عقود، تشكل تجربة متروك الفالح شمعة مضيئة لن
تقدر كل رياح العسف على اطفائها، ويتوهج
اسلوبه الجامع بين هدوء الخطاب وصلابة الموقف،
بين علمية النهج وشجاعة الاداء، ويتحول نهجه
الى قدوة لدعاة الاصلاح والتحديث والتطوير،
ولمن يريدون ان يقيموا توازناً بين مجتمعاتهم
والحكومات، لان مثل هذا التوازن هو ضمانة
الاستقرار والتقدم، كما هو السلاح الافعل في
مواجهة كل التحديات خارجية ام داخلية، سياسية
ام اقتصادية ام اجتماعية، ام بشكل خاص تحديات
امنية.
قد لا تستطيع كل بيانات التضامن مع
متروك الفالح ان تطلق سراحه، بل قد تكون سبباً
في اطالة امد الاعتقال، كما في مرات سابقة، لا
سيما لدى اصحاب قرار يتحكم النزق وقصر النظر
بقراراتهم، وقد لا يستطيع كل اهل الثقافة
والفكر وحقوق الانسان ان يرفعوا الظلم عن واحد
من كبار مثقفينا ومفكرينا ودعاة حقوق الانسان،
ولكن احداً لا يستطيع ان يمنع ابناء امتنا
عموماً، وابناء الجزيرة خصوصاً، من ان يقرأوا
لمتروك مقالاً او بحثاً او دراسة من تلك التي
نشرها في كبريات المجلات واصدرها في امهات
الكتب.
حينها ستتحول افكار الفالح الى بذار
تغرس في ارضنا الطيبة، فيتنفس السجين الصعداء
لان افكاره تتجول بحرية بين عقول الناس رغم
ظلام السجن المخيم عليه.
ففي النهاية ليس المثقف الا افكاراً،
لا يخسر حريته ما دامت افكاره تتحرك بحرية، بل
لا يخسر حتى حياته ما دامت كلماته حية في قلوب
الناس وضمائرهم ووجدانهم.
الحرية لابي خولة وعامر وضرار ولكل سجين رأي
او موقف.