في المنتدى الاقتصادي الدولي الذي عقد في
شرم الشيخ هذا الشهر عاد الرئيس الأمريكي
جورج بوش الابن ليكرر ما
قاله أمام الكنسيت، في نبوءته الغيبية
للذكرى 120 لدولة إسرائيل، حيث لن يكون
هناك إرهاب وقوى شر في المنطقة. وكأنه يرد
على منتقديه ومنهم أقلام غربية وليس فقط
عربية، لجأ إلى السلاح الذي استعمله الغرب
منذ انطلاقته الثقافية والصناعية: "ما
أقوله ليس رؤية أمريكية أو يهودية أو
عربية، وإنما رؤية عالمية". مسكينة هذه
العالمية التي يُزج بأنفها في كل التصرفات
الغربية التي تخجل من أن تسمي الأشياء
باسمها. ما معنى هذه العالمية عندما يتوصل
أحد أهم أصدقاء الدولة العبرية، جاك
أتالي، مستشار الرئيس الفرنسي فرانسوا
ميتران والمشهود له، بعكس الرئيس
الأمريكي، بالقدرة على الاستنباط
الاستراتيجي البعيد الأمد، للقول: "بالسلم
أو بالحرب، إسرائيل كما هي لا مستقبل
لها"؟
في لحظات "اليقين الديمقراطي التوراتي"
هذا الذي هدّم العراق وغاص في المستنقع
الأفغاني وسمّاهما انتصارا، شيطن المخالف
وجمّل المطيع الموافق، نجد من الضروري لنا
كأشخاص وشعوب، الابتعاد عن هذا المنطق
الغوغائي، وتتبع الرموز الكبيرة للفكر
والبحث التي تؤثر الابتعاد عن احتفالية
مشهدية لتطلق سهام النقد على قرابة نصف
قرن من البناء الإيديولوجي داخل الحركة
الصهيونية وخارجها. بناء اكتفى بكتابة
التاريخ العالمي من ثقب قراءة غربية محضة.
هذه القراءة، لم تكن السبب وحسب في جعل
الشك العامل الأول في التكوين الجمعي
للذاكرة العربية تجاه الأمم المتحدة ومجلس
الأمن والدول الغربية، وإنما في وضع
التصور السياسي والاستراتيجي الغربي برمته
في قفص فكرة التآمر على العرب والمسلمين.
فرغم كل طقوس الذكرى الستين، التي سعى
الإعلام الغربي لإعطائها مكانة تذكرنا
بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية،
لم يعد بالإمكان تغطية الخلل البنيوي في
البنية والوظيفة والمشروع الإسرائيلي. وما
دام هناك قوى كبرى في هذا العالم تدعم
استمرار المشروع بما هو وكما هو، فنحن
أمام تحليل جيو سياسي مختل الاتزان يذكرنا
بتعريف الدكتور جمال الأتاسي للبارانويا
حين قال يوما: "هي المهندس الذي يقدم
مشروعا كاملا لبناء الجسر بمعزل عن مجرى
مياه النهر".
في نشوء العالمية:
نشأت العالمية مع ديانات التبشير
وإمبراطوريات التوسع. وقد شكلت في نشأتها
التاريخية، إضافة لكل طموحات تقاسم الجعبة
الثقافية الذاتية مع الآخر أو فرضها عليه،
الغطاء الإيديولوجي للغزو والهيمنة
بالمعاني السياسية والعسكرية والاقتصادية.
فقد تم اكتشاف ثقافة الآخر بعد هذا الفعل
"القبيح" في أقدار البشرية، سواء في
المرأة المسبية التي غزت بيت الغازي أو في
الأمة المشتراة التي طّعمت الأبناء بثقافة
هجينة وفي استثمار "مثقفي" الشعوب
المغلوبة. هذا الفعل نفسه هو الذي خلق
حالة دفاعية عند الثقافات المسودة. فأية
ثقافة أو أخلاق، كما يقول إريك فايل
Eric Weil،
لا تظهر باعتبارها خاصة ما دامت تعاش بكل
بساطة من قبل جماعة من الناس دون الشعور
بالحاجة إلى الدفاع عنها ضد قيم أو معارف
تهدد وجودها. ولحسن الحظ، لم تنجح أية
منظومة فكرية أو دينية لا في إلغاء كل ما
عداها مما أسمته بالكفار أو البرابرة أو
الخوارج أو الهمج أو المتخلفين، ولا في
الانغلاق الكامل على نفسها وعدم التفاعل
مع غيرها.
يمكن القول أن الحديث في قيم ومعارف ونظم
تفكير لها طابع العالمية جاء بعد ذلك،
وكان ابن عمل فلسفي وفكري محض. من هنا
صعوبة الحديث عن العالمية في أثينا ميلاد
الفلسفة، وبكين خان بالق التي يتحدث عنها
ماركو بولو، وبغداد ازدهار الحضارة
العربية الإسلامية، وباريس الثورة
الفرنسية، بنفس الطريقة والمفهوم
والمكونات.
لم تحتج البشرية لطويل وقت لاكتشاف أن
العالمي ليس بالضرورة وفقط ما يسمى عند
جماعة بشرية بذلك. إذ أن سيرورة العالمية
Universability
قضية نسبية في الزمان والمكان والمنطلق.
ولعلنا نتحدث عن المفهوم براحة أكبر بكثير
عند تناول الموضوع الذي تتقاسمه الجماعات
البشرية بالفعل. ودون السقوط بالطبع في
منطق "كل الجماعات دون استثناء". ففي حين
يصعب الحديث عن عالمية العلمانية أو
الوحدانية في الثقافات البشرية كافة، رغم
طموح أنصارها للوصول إلى كل إنسان وكل
شعب، نجد النظم الثنائيl’ordre
binaire
قاسما ثقافيا مشتركا في الثقافات التي
نعرفها، رغم هزيمة المانوية التي تبنتها
في صلب اعتقادها. فأية ثقافة لا تخلو حسب
المعطيات البشرية الحالية من المشابه
والمختلف، الواحد والمتعدد، الاستمرارية
والانقطاع، البسيط والمركب، اليسار
واليمين، الحار والبارد، الجاف والرطب،
الثقيل والخفيف، الأعلى والأسفل، الفارغ
والملآن، الثواب والعقاب، الخصوبة والعقم
الخ؟ ويمكننا القول اليوم أن علماء
الألسنية والاتنولوجيا لم يكتشفوا بعد لغة
لا تقيم الفارق بين النحن والآخر.
انزرعت العالمية في الخطاب الثقافي الغربي
لحقوق الإنسان مع فكرة الحق الطبيعي.
وعندما نقول طبيعي، يفترض هذا تنصّب
الحقوق فوق الجنس واللغة والبلد والمعتقد.
وإن أكدت ثقافة عصر التنوير على تعابير
أساسية عالمية الطابع كالحرية والمساواة
والتسامح، فقد تداخل الاستعمار المباشر
والثورة الصناعية ومفهوم الأمن القومي
والسيادة للنحن في استعباد واستغلال
للآخر، وبأحسن الأحوال، تأصلت نظرة تفوق
وحرص على الهيمنة على هذا الآخر
"البدائي" أو "البربري" أو "القاصر".
ومحاولة فرض تصور العتلة الفعلية لهذا
الخطاب، الذي تم توظيفه في إعادة تقسيم
مراكز القوى في العالم بعد الانهيار
المتتابع لإمبراطوريات القرون الوسطى
خاصة. لا ننسى أن إحدى أهم صفات الاستعمار
الأوربي تكمن في تزامن الصراع بين الأمم
الأوربية المتكونة حديثا مع الطموح غير
المحدود عند كل منها للتوسع.
أوربة العائدة لاحتلال مركز العالم بعد
ظلمات القرون الوسطى لم تلبث أن أعطت صفة
العالمية لأهم ما أنتجت. ولم تنج من ذلك
المؤسسات الثقافية أو المدارس الفكرية.
وسواء تعلق الأمر بالبنى التحتية للثقافة
(المؤسسات التعليمية والتخصص) أو التيارات
الفكرية، لم تضع أي من المدارس الفكرية
الكبرى، في القرن التاسع عشر ومطلع القرن
العشرين، "بداهة" عالميتها موضع شك. احتاج
الأمر لزمن قبل وضع عالمية مفاهيم مركزية
في الفكر الأوربي على مشرحة النقد: مفهوم
الصراع الطبقي عند ماركس وانجلز، الأسرة
الصغيرة النواة عند علماء الانثروبولوجيا،
أو عقدة أوديب عند فرويد، كم من المفاهيم
احتاج لزمن قبل أن يصبح موضع تنقيب وبحث
جديين داخل أو خارج حدود "الكنائس"
الفكرية الحديثة، كم من الوقت احتاج علماء
الإناسة من أجل وضع كلمة الشعوب البدائية
بين قوسين؟ كم عقد زمني مرّ قبل وضع فكرة
الحقوق الطبيعية على طاولة البحث، خاصة
عند ارتباط مفهوم الأنسنة الغربي أكثر
فأكثر بالتاريخ والاجتماع البشريين،
وبالتالي دخول الاكتساب والتحول والتكيف
والاغتناء بين الثقافي في صلب تعريف
الحقوق الإنسانية.
من العدمية برأينا الحديث عن عالم الزي
الموحد واللغة الموحدة والمطعم الواحد
والفن الوحيد النغم باسم العالمية، مهما
كانت خصائلها. فدراسة النفس والفرد تظهر
مدى اختلاف الأفراد، وبالتالي صعوبة
معالجة المرض نفسه بالطريقة ذاتها عند
شخصين من بيئة واحدة. فكيف الحال في
اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي والفضاء
الثقافي؟
يحلو للصديق منصف المرزوقي أن يكرر دون
ملل أو كلل بأن الخصوصية لا تقابل
بالعالمية وإنما بخصوصية أخرى. هذه
الواقعة بحد ذاتها تسمح لخصوصية راقية بأن
تتسامى للعالمية أو تكون قابلة لها، هكذا
فعلت كلمة الصفر التي عبرت القارات من
الحساب الهندي إلى الجبر العربي فالتشفير
الأوربي والرقمية الأمريكية. من جهة
ثانية، ليست العالمية معطى إيجابيا
باستمرار. فكما يمكن أن يكون التعذيب معطى
عالمي، يمكن لمناهضته أن تكون عالمية، وإن
وجد علماء الاجتماع في القبيلة معطى
عالميا، فليس بالإمكان وصف قبيلة تميم أو
طي بالعالمية. وبنفس القياس، يمكن للحلم
اليهودي القومي أن يكون وعدا من إله أو
حكومة، لكن هذا الإله ليس بالضرورة إله
يعترف عليه ستة مليارات إنسان، كما أن هذه
الحكومة لا تمثل إلا بلدها في مكان وزمان
محددين. أيضا يمكن لمشروع دولة يهودية في
فلسطين أن يتقاطع مع مصالح الدول الغربية
الكبرى، بوجود قاعدة استيطانية مرهونة
بالضرورة لمصالح الغرب وإن بدت متحكمة بمن
يستعملها. لكن لا يمكن لهذا المشروع أن
يكون علبة حلويات تقدم هدية لشعب فلسطين،
فيخرج مرحبا بعصابات الهاجانا وشتيرن؟ أما
مفهوم الأمر الواقع، فلم يكن في التاريخ
كذلك إلا عند إبادة الآخر الفيزيائية
والثقافية. والآخر هنا ليس فقط الفلسطيني،
بل صورة متعددة للطابع المقدس لفلسطين
تتعدى اليهودية إلى المسيحية والإسلام.
هذا إذا لم نتحدث عن تراث مشترك للبشرية
لا يمكن اختزاله بأي حال من الأحوال في
دولة يهودية.
بتعبير آخر، خرج المشروع الصهيوني من
العالم اليهودي إلى العالم الغربي في أتون
الحرب العالمية الأولى. وتمكنت مجموعات
الضغط الصهيونية من الحصول على وعد
بريطاني بقيام وطن قومي لليهود في فلسطين
في 1917. لكن مجرد طرح مشروع الدولة
اليهودية على الأمم المتحدة لكسب تأييدها
يعني أن الأمم المتحدة لم تعد طرفا عالميا
بل طرفا يقرأ العالم قراءة غربية محضة، ثم
يعتبر هذه القراءة قراءة عالمية بالقوة لا
بالعدالة. من هنا سجلت ستينية ولادة
إسرائيل احتفالية شمالية ونكبة جنوبية.
تحقيق أسطورة عمرها أكثر من ألفي سنة
(العام القادم في أورشليم) على حساب طموح
شعب ينتظر التحرر من الاستعمار البريطاني
ليشهد ابتلاع وجوده السياسي والثقافي
والاقتصادي والمجتمعي بآن.
كيف تطالب أوربة، التي اعتادت مدنها
القروسطية إغلاق أبواب الغيتو اليهودي قبل
وقت العشاء، الفلاح الفلسطيني بتفهم
المحرقة وهو في فوهة الحريق؟ كيف يطالب
المثقف الأوربي الآخر العربي القبول بدولة
دينية وهو يناضل صبح مساء لتأكيد الهوية
العلمانية للدولة في أوربة؟ كيف يطالب
الحزب الاشتراكي واليساري الأوربي
التقدميين العرب باستيعاب المشروع العنصري
الصهيوني وهم يعدون إعلانا لمناهضة
العنصرية في أوربة؟ باختصار، كيف يطالب
الغرب، المنتج للقراءة المعاصرة للقانون
الإنساني الدولي، بانتاج اللاجئين
والمبعدين والمشردين بقرار من الأمم
المتحدة انتزع منهم أكثر من 60 بالمئة من
أرضهم، وسلاح بريطاني سمح للعصابات
الصهيونية بأخذ أكثر من 79 بالمئة من هذه
الأراضي؟
هل يمكن انطلاقا من القراءة الغربية
للتاريخ أن نتوصل لحل عادل وشامل في
المنطقة؟ هل يمكن لكيان سياسي شرقي
المتوسط أن يعتبر مرجعيته الأولى في
الشبيه الغربي عوضا عن ثقافة الجار وضرورة
بناء الجسور الضرورية للتعايش البشري مع
الجوار؟ هل يمكن لأي شعب في أية منطقة أن
يعتمد لأمد طويل على البعيد من أجل
السيطرة على القريب؟ أو أن يعتمد باستمرار
سياسة البحث عن الأقوى من أجل ضمان التفوق
على المحيط؟ أو جعل تفتيت وأضعاف كل خطر
مفترض أو محتمل من دول الجوار وجوار دول
الجوار سياسة ثابتة للدولة؟ أليست فكرة
الإضعاف الدائم للفلسطيني بكل الوسائل
اللا أخلاقية والتدميرية في صلب تعريف
الإبادة الجماعية؟ ثم هل يمكن نسخ التجربة
الأمريكية مع السكان الأصليين في القرن
الواحد والعشرين؟ وهل يمكن بعد سياسة
التحطيم المنهجي للحجر والشجر والبشر في
المناطق الفلسطينية المحتلة فتح صفحة
جديدة مع القادم اليهودي إلى المنطقة ؟
كل هذه الأسئلة لا تسمح العنجهية
الإسرائيلية اليوم لنفسها بالاستماع لها.
وفي الوقت نفسه، لا يقوم العالم الغربي في
غمارها بدور يمكن أن يساعد الإسرائيلي على
النظر لأبعد من أنفه. فلا ورقة حسن سلوك
رسمية ولا اتفاقية أمنية ولا سفارات ولا
مساعدات مالية للحكومات "المعتدلة" يمكن
أن تؤسس لسلام. بعد ثلاثين سنة من اتفاقية
كامب ديفيد، يدخل الإسرائيلي مصر وأمله أن
لا يعرف المصري جنسيته في شوارع المدينة.
وبعد ثلاثين سنة من نهاية الحرب العالمية
الثانية قام الاتحاد الأوربي. فهل يمكن
الحديث عن نهاية حرب وانتهاء حالة عداء في
هذه الحالة وتلك؟
لقد أسست الدول الغربية الكبرى لشرخ كبير
في مفهوم العالمية عندما وقفت مسبقا في
المعسكر الإسرائيلي في تصورها وتعاملها
ومعالجتها للقضية الفلسطينية. لم تتمتلك
القدرة على الارتقاء بخصوصيتها إلى عالمية
موضوعية وعقلانية، لذا وضعت خنجرا في صدر
أية مقاربة عالمية عادلة لوضع حد للصراع
على فلسطين.
------------
مفكر عربي من سورية، نشرت في الجزيرة نت
في 21/5/2008