احتضنت مدينة برشلونة من 8 إلى 10 مايو/أيار 2008
الجاري مؤتمرا دوليا كبيرا حول حقوق الإنسان وأفق
التغيير في العالم العربي، وكانت اللجنة العربية
لحقوق الإنسان والتحالف من أجل الحرية والعدالة
والمعهد الكتلاني لحقوق الإنسان واللجنة الوطنية
لحقوق الإنسان قد دعت لهذا المؤتمر هيئات المجتمع
المدني وحقوق الإنسان في العالم العربي وأوربة
ونخبة من الباحثين والمثقفين العرب والأوربيين
والأمريكيين وحضر المؤتمر جمع من الشبيبة المهتمة
بالعلاقة بين التغيير وحقوق الإنسان من عواصم
أوربية مختلفة. قرابة مئة مشارك استمعوا خلال
ثلاثة أيام لمداخلات أساسية حول دور حركة حقوق
الإنسان العربية في عملية التغيير وحماية تعبيراته
المدنية المركزية من رواد الحركات المطلبية في مصر
والمغرب وتونس إلى التعبيرات المنظمة سياسية
وثقافية وحقوقية، إلى مكونات السلطة الرابعة
الجديدة من فضائيات وأنترنيت، إلى الكوادر الفكرية
النقدية التي تحاول استنباط الرؤى الاستراتيجية
للمشاركة والتغيير.
افتتح المؤتمر الأستاذ عبد الرؤوف الوزاني
بالترحيب وتوضيح الغاية من هذا المشروع الطويل
الذي لن ينتهي بعد ثلاثة أيام بل على العكس ستكون
انطلاقته الفعلية. بعدها ترأس الأستاذ أحمد الشيخ
رئيس تحرير الجزيرة الجلسة الأولى وتحدث فيه
الاقتصادي الإسباني لوي سباستيان والمفكر السوري
هيثم مناع. تناول سيباستيان إشكاليات العولمة
ونتائجها المباشرة وغير المباشرة على مشروعات
التنمية الموجودة أو المطلوبة في العالم العربي
مبينا الآثار الكارثية للوضع الدولي الجديد على
الوضع الاقتصادي في العالم العربي وتأثير ذلك على
الطبقات الوسطى والقوى العاملة الأساسية.
طرح هيثم مناع في مداخلته حول التشخيص والآفاق
جملة أسئلة منها: كيف يمكن التصدي للدولة الأمنية
والدولة السالبة؟ كيف يمكن إقامة الجسور بين
التحرك الميداني ومناضلي حقوق الإنسان؟ كيف يمكن
الدفاع عن عالمية إنسانية في مواجهة نظرة غربية
مركزية خلقت شرخا أساسيا في الستين التي يحتفل بها
البعض ذكرى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والبعض
ذكرى لدولة تقوم على أسس دينية قومية لا عقلانية
وشعوب تسميها ستين النكبة؟ كيف يمكن
مواجهة حالة طوارئ معولمة وشاملة
وأيضا مزمنة،
الأمر الذي
يعني انتعاش سرطاني لكل إيديولوجيات الطوارئ، أي
الإيديولوجيات
التي توظف الأزمة وتعيش منها بأسوأ ما للكلمة من
معان بالحديث عن المقاومة السلمية المدنية واللا
عنف باعتباره الوسيلة الأرقى للخروج من الأنموذج
الاستبدادي التسلطي للحكم؟ .
كيف يمكن الرد على
ما يحدث من تعزيز وتقوية وشائج التمييز والاختلاف
باعتبارها مادة لصراع
قومي أو ديني أو حضاري، فيما يؤدي بالضرورة إلى
اختزال الرد على عنجهية القوة
بعنجهية الخطبة وحقد السلاح بسلاح الحقد، والموت
المحدّث بضرورة
اغتيال الحداثة المسببة للموت؟ كيف يمكن الانتقال
من استراتيجية المواجهة الصلفة على نمط "فاست فود"
المفروضة من الأعلى والخارج، ببناء مدني للمناعة
الذاتية المجتمعية للتخلص من الركوص الغريزي
للبربرية في العقول وفي الحقول؟ هذه الأسئلة التي
حاول مناع الرد عليها وفتح بها حوارا واسعا يؤكد
على ضرورة الخروج من منطق "الأمنستي ووتش" ألى
منطق الحقوق الستة الأساسية (سياسية واقتصادية
ومدنية واجتماعية وثقافية وبيئية) لكي نكون في صلب
نكبة الجوع والفشل التنموي ومنظومة الفساد وغياب
الحريات وضرب المجتمع المدني، عوضا أن نختزل إلى
مجرد مداومين في محكمة أمن الدولة هنا وأسرار سجن
الحاير هناك؟ مداخلات
المفكر العربي المصري نادر فرجاني حول الأزمة
الحالية بين الديمقراطية والحامل الاجتماعي
للتغيير من جهة، بين منظمات حقوق الإنسان وعمال
المحلة الكبرى من جهة ثانية، القدرة المجتمعية
الدائمة رغم كل ظروف القمع والبطش والبلطجة على
إفراز قيادات جديدة مبدعة كما كان في السادس من
أبريل في مصر، وضرورة استيعاب منظمات حقوق الإنسان
ذات المصداقية لهذه الدروس لتكون صمام الحماية
والوقاية لكل رواد التغيير. الباحث الأمريكي جيمس
بول تناول موضوعة الحرب على الإرهاب وخطرها على
السلم العالمي والأهلي آخذا أنموذج العراق وفي نفس
الحيز، تقدم الباحث والناشط الكردي العراقي صلاح
عزيز بدراسة عن أوضاع الفضاء غير الحكومي في
العراق ومهماته، معطيا أمثلة مستنبطة من تجربته
وتجربة عدة منظمات عاملة في الميدان. دافيد بونديا،
أستاذ القانون في جامعة برشلونة التي استضافت كلية
الحقوق فيها المؤتمر طرح تساؤلات هامة ومركزية حول
دور العلاقة البناءة بين طرفي المتوسط في بناء
الديمقراطية. واعتبر أن شعبا كالشعب الإسباني خرج
حديثا من الدكتاتورية يمكن أن يكون قادرا وقابلا
للشراكة والعمل من أجل الانتقال في العالم العربي
لأنه مازال يحمل الذاكرة المؤلمة لتجربة فرانكو
والتجربة الانتقالية السلمية للخلاص منها. منصف
المرزوقي، المفكر العربي التونسي كان متألقا في
القدرة على ربط الحقوق الاقتصادية بالحقوق
السياسية، واستراتيجية حركة حقوق الإنسان
باستراتيجيات التحول الديمقراطي. السياسي ليس
المدنس والحقوقي ليس المقدس، الممارسة هي الحكم
والتداخل أكثر من كبير في عالم لم تنجز به أوليات
دولة قانون جديرة بالتسمية.
الإسلام كان في محور النقاش أكثر من مرة وفي أكثر
من مداخلة، دولورس برامون من جامعة برشلونة قدمت
مداخلة هامة حول ضرورة رفض الأحكام المسبقة
للتعامل مع أي دين وأخذت مثال الإسلام، الدكتور
محمد هيثم الخياط من كبار مستشاري منظمة الصحة
العالمية قدم مداخلة رائعة حول مفهوم الإنسان في
الإسلام والتصور الإسلامي للأقليات والمرأة
والدولة والمجتمع، علق عليه أحد الخبراء الإسبان
بالقول، "ما زلتم تتحدثون عن غياب أشخاص مثل
الإمام عبده والأفغاني وثمة باحثين موسوعيين مثل
الخياط بينكم". وقدمت المناضلة النسوية اليمنية
سعاد القدسي صورة عن أوضاع المرأة العربية. كذلك
قدم الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس المسمى بوريث
فلسفة التنوير بحثا متميزا عن الغرب والعالم
العربي وضح فيه كيف تؤدي سياسة مقاومة الغرب
للطاقات الحية والمشاريع الديمقراطية المحلية في
العالم العربي، وبحثه باستمرار عن من يتبعه لا من
يشاركه، إلى نشوء اتجاهات متطرفة لا يمكن إلا أن
تكون نقمة على العالمين معا.
وضعت مداخلة النائب في الكنيست الإسرائيلي المحامي
سعيد نفاع الأصبع على الجرح في كل ما يسم الحقوق
الثقافية اليوم، والتي لم ترتق للأسف، بسبب
تغييبها من منظومة التفكير الحقوقية لدول كبرى مثل
الولايات المتحدة إلى حقوق قابلة للترجمة
القانونية. الأمر الذي يفسح المجال للدولة العبرية
بتأميم الحق الثقافي ومحاصرة الثقافة
بالإيديولوجيا وإدخال قضايا التمييز وانتهاكات
الحقوق في وظيفة الدولة وبنيتها وتصورها لنفسها
وما يسمى بأسباب أمنها. أي اعتبار انتهاك الحقوق
الإنسانية شرطا من شروط استمرار الكيان السياسي
الإسرائيلي.
وقد خصص المؤتمر جلسة لحرية التعبير بعد استشراس
وزراء الإعلام العرب في وثيقتهم المشهورة على هذا
الهامش الذي صعد من الورق للفضاء ومن مراقبة
التشويش السمعي للشبكة العنكبوتية فصار بمثابة
الكابوس لأنظمة اعتادت إسكات أي صوت يخالف نعيقها.
وقد تحدث في هذه الجلسة الدكتورة حياة الحويك
والأستاذ عبد الباري عطوان، وقد أشار المتحدثان
والحضور إلى الحملة الشرسة من الداخل ومن الخارج
لتكميم الأفواه، مع إعطاء أمثلة لإسكات كل من
يخالف. وقد حذر أكثر من متدخل في النقاش بعد ذلك
من ما سمي الاتفاق الإعلامي الأمني السعودي القطري
والذي لا يختلف عن وثيقة الإعلام العربية السيئة
الذكر لأن
وفي كلمة الختام، ومحاولة الرد على سؤال ما السبيل
لإيجاد جسم لهذه الروح المنبئة بوجود إمكانية
حقيقية لمشروع يضاد هذه الوضعية التي ولدت حالة من
الاحتقان و اليأس والإحباط وجعلت زهرة المجتمعات
العربية وهم الشباب يركبون دون تردد قوارب الموت
أو يرتمون في أحضان التطرف ليحولهم إلى قنابل
بشرية.
خرج المجتمعون بضرورة وجود لجنة متابعة دولية من
خيرة المشاركين والغائبين حرصا على استمرار
المبادرة التأسيسية لشبكة مدنية فاعلة تضع نصب
عينيها الملامح التالية :
-
الحوار النقدي والبناء الذي يضع كرامة الإنسان
وحماية محيطه شرطا مشتركا متحررا من الحسابات
الإيديولوجية والمصلحية المباشرة والضيقة.
-
الشراكة الواعية بضرورة التعاون خدمة لمصير
مشترك بعيد عن الإملاءات والأستاذية.
-
تجسيد الشراكة في شبكة فعلية حية قادرة على
التصدي للتحديات المستجدة وتحديد أفق النضال
على المدى المتوسط والبعيد وليس فقط المدى
القريب.
محمد سلام - برشلونة