يوم الجمعة 11 أبريل منعنا - أكثر من أربعين من
أساتذة الجامعات والشخصيات العامة - من زيارة
أهلنا المضارين من تجاوزات الشرطة في المحلة
الكبري ومن إبداء التعاطف الإنساني والوطني الواجب
تجاههم. احتجزنا علي قارعة الطريق لأكثر من أربع
ساعات، ممنوعين من الحركة في أي اتجاه، محاطين
بضباط أمن الدولة والبلطجية التابعين لهم،
واختطفوا مفاتيح سيارة واحدة من الزميلات أستاذة
بكلية الطب، جامعة القاهرة، في فعل قرصنة سافر قام
به ضابط كبير في زيه الرسمي وأنكره تكرارا، وكذبا،
ضباط أمن الدولة، ووظفوا الشاحنات الضخمة لسد
الطريق علي سياراتنا. وهكذ اعتقلنا ضابط بأمن
الدولة عنوة، أخذ يدعي مرارا أنه ليس إلا منفذا
لأوامر "تأتيه من أعلي"! فانتهك حقنا الدستوري في
حرية التنقل عنوة دون أي سند من القانون.
لقد أصبحت مصر حقا دولة للقهر البوليسي الغاشم،
أداته قوي البطش (الأمن سابقا)، وغرضه الآن عزل
المحلة عن شعب مصر، إخفاء للجريمة الشنعاء التي
ارتكبوها هناك، وتأديبا للمدينة الباسلة، كما صرحت
بعض قيادات البطش المنفلتة بلا حياء أو ذرة من
خجل.
فليسامحنا أهلنا في المحلة علي فشل هذه المحاولة،
ولكن لن نتسامح نحن ولا التاريخ مع من كان السبب.
و" الجايات أكثر من الرايحات" كما يقول المثل
العامي.
إلا أنه طوال الساعات الأربع التي احتجزنا فيها
علي قارعة الطريق، كانت تلح علينا مجموعة أفكار.
أولا: من يحكم مصر الآن؟
في أي دولة يمكن لضابط أمن دولة نكرة، لم يكن حتي
يحمل بطاقة هوية رسمية، أو لم يشأ أن يظهرها رغم
طلبنا المتكرر، أن يحجر علي حرية قرابة أربعين من
الشخصيات العامة في مصر ولبعضهم قيمة وقامات
عالمية بكل معني الكلمة دون إبداء أي أسباب
قانونية.
واضح أن هذا يمكن أن يحدث فقط في دولة للقهر
البوليسي الباطش الذي لا يحكمه قانون أو قضاء،
وإنما يتحكم فيها كلها، جهاز أمن الدولة المسخر
لحماية الحكم التسلطي. ومن أسف أن مصرنا الحبيبة
قد تدهورت إلي مثل هذه الدولة المسخ التي يتحكم
فيها جهاز بطش أرعن، بالحرية وبالوطن. فكل شواهد
الأيام الأخيرة تشير إلي أن القضاء، خاصة النيابة،
لم يعد لها الهيبة والاحترام الواجبان في دولة
القانون. فأمن الدولة امتنع عن تنفيذ قرارات
للنيابة بالإفراج عن مواطنين جري التحقيق معهم.
وفي واقعة مشهورة، أفرج الأمن عن صحفي أمريكي
التقط صور الأحداث في المحلة الكبري، بينما رفض
الإفراج عن مترجمه المصري رغم أن النيابة أخلت
سبيليهما، هما الاثنان في اللحظة نفسها. وكأنما
الجنسية المصرية أصبحت في حد ذاتها جريمة في مصر.
وفي واقعة أخري امتنع أمن الدولة عن تنفيذ تصريح
بالزيارة من المحامي العام لاثنين من أساتذة
الجامعات الأجلاء، بزيارة أستاذ زميل لهما محتجز
بسجن المرج، وهو في حد ذاته أمر مشين لمن أمر
باحتجاز أستاذ جامعي ذي سمعة دولية رهن التحقيق.
في كل هذه الحالات المشينة، كان رجل الشرطة المكلف
بتنفيذ المهمة القذرة، حبس المصري والإفراج عن
الأمريكي، أو منع زيارة الأستاذ الجامعي، يتعلل
معتذرا بأن اوامر جاءت "من فوق". فقد أصبحت قيادات
أمن الدولة بمثابة "أبانا الذي في السماوات" يخضع
كل شيء لمشيئته، وليس من راد لقضائه. ويقال أن أحد
قمم أمن الدولة يدير معركة المحلة الكبري ضد عموم
الشعب المصري من استراحة شركة الغزل بالمدينة.
ثانيا: ماذا يخفون بحصار المحلة الكبري
لماذا هذا الحصار الخانق علي المحلة الكبري الذي
يذكر بحصار دولة اغتصاب الحق العربي في فلسطين
لغزة؟
عقاب المحلة علي الجسارة والبسالة أمر علي رأس
أولويات جهاز البطش المهيمن علي مصر، لاشك.
ومنع "فيروس المحلة" النضالي الجسور من الانتقال
لباقي البلد هاجس آخر لجهاز البطش الذي لا يحمي
إلا الحكم التسلطي، ونجاح الإضراب العام الأول في
6 أبريل، والنجاح الأكبرالمتوقع في 4 مايو، يقض
مضاجع أعمدة الحكم التسلطي وعبيدهم في جهاز البطش،
بالحرية والوطن.
لكن التفسير الأهم في تقديري هو أن جهاز البطش هذا
قد ارتكب جريمة شنعاء في المحلة الكبري، ويريد
بالحصاروالترويع للمحلة ولعامة الشرفاء في هذا
البلد، أن يخفي الأدلة التي تتقاطر معلومات قليلة
عن هولها عبر بسالة بعض الإعلاميين الوطنيين. ولو
كان في هذه البلد رئيس جمهوري منتخب شرعيا بحق
لأمر فورا بتحقيق مستقل. ولو كان في مصر مجلس شعب
محترم لكان قد شكل فورا لجنة برلمانية لتقصي
الحقائق. ولكن ليس لمصر إلا الله، وشعبها الوفي
الأبي، فليس لديها لا هذا ولا ذاك. الأول علي وجه
التحديد يعلم أن تحقيقا نزيها سينتهي لامحالة
بتوجيه الاتهام له مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
والثاني لا يمثل شعب مصر، وإنما هو أداة طيعة في
يد السلطة التنفيذية، أي رأس الدولة وحكومتها
الباهتة، ومن ثم أصبح يخضع بطبيعة الأمور لتحكم
جهاز أمن الدولة.
وليقدر القارئ هول الجريمة الي ارتكبت في المحلة
الكبري، تجمع الروايات الموثوق بها عن بدايات
العنف في المحلة، علي أن شرارة اندلاع العنف بدأت
بواقعة سيدة عجوز أطلقت صيحة جزع ولوم لرأس الدولة
علي الارتفاع الجنوني في الأسعار، وهو حقها
دستوريا وعدليا، فما كان من ضباط البطش إلا أن
أمروا جنودهم المساكين بالانقضاض عليها، فأوسعوها
ضربا بربريا، وأي خسة وأي نذالة تلك. ومن ثم بدأ
العراك بمحاولة بعض الشباب إنقاذ العجوز المسكينة
من قبضة الباطشين. بعدها انطلق غول جهاز البطش في
المحلة الكبري يطلق القنابل المسيلة للدموع
والرصاص المطاطي وحتي الرصاص الحي، الذي يقتصر
حمله علي أسلحة الضباط، حتي وقع القتلي وعشرات
الجرحي. ولم يكتف فألقي القبض علي المئات ليس فقط
من أهالي المحلة، ومن بينهم المصابين الذين قيدوا
إلي أسرتهم في المستشفيات، بل أيضا من بين من حاول
التعاطف معهم، ألا وهي الجريمة الأخطر في نظر جهاز
البطش، فنقل صورة أمينة عن الجريمة ضد الإنسانية
التي ارتكبها جهاز البطش في المحلة الكبري، وكأنها
قوات الاحتلال الإسرائيلي تعربد في إحدي مدن
فلسطين المحتلة، ثم تحاول فرض التعتيم الإعلامي
علي جرائمها.
ثالثا: التشبه بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين
يبدو أن العلاقات الوثيقة بين الحكم التسلطي في
مصر ودولة اغتصاب فلسطين تتعدي مجرد المواءمة
السياسية لاجتذاب أرضي قوي الهيمنة العالمي
والإقليمية عن نظام حكم تسلطي مكروه من شعبه.
يظهر أن عمد الحكم التسلطي في مصر، خاصة في
السلطة التنفيذية الممسوخة جهاز بطش مطلق اليد،
معجبون إعجابا شديدا بنمط الاحتلال الإسرائيلي إلي
حدالتمثل والتقليد الأعمي. لن يدهشني أن نسمع
قريبا عن قطع التيار الكهربائي، أو وقف الإمدادات
الغذائية عن المحلة حتي تتأدب، كما هدد مدير أمن
الغربية. ويباشر فعلا "أبانا الجالس في استراحة
شركة الغزل".
لكن عموم الشعب المصري يعلم قطعا أن سبيل الحرية
والكرامة في مصر، رهن بتصاعد العصيان للحكم
التسلطي، وأنه كلما امتد العصيان المدني سارع
الحكم التسلطي إلي تقديم التنازلات. ولا فضل لهم،
فهذه " التنازلات" هي في الواقع من قبيل إعادة
الحقوق المغتصبة لأصحابها. لكن لا بد من انتزاع
الحقوق المغتصبة من بين براثن مغتصبيها. ولن
يستطيعوا ارتكاب الجرائم ذاتها في 4 مايو، حيث
سيرقي الحس الشعبي، في الجولة الثانية للإضراب
العام، إلي تفويت الفرصة علي جهاز البطش لافتعال
العنف والتخريب كما حدث في المحلة الكبري. ولن
يتمكن الحكم التسلطي من حصار آلاف المدن والقري
المصرية، وسيخيب في النهاية، كما خاب مثله الأعلي،
دولة إسرائيل العنصرية المارقة
عن البديل المصرية