في الذكرى الخامسة لسقوط بغداد تحضرني ابيات
للشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش استلهمها،
وهو القائل:
" نيرون مات ولم تمت روما، بعينيّها تقاتل!...
وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل...!".
وجدت في هذه ألابيات عزاءا كبيرا ويقينا يطمئنني
على مستقبل العراق وشعبه رغم القتل والدمار
والحروب التي طالت الشجر والحجر والانسان والتاريخ
في ذلك البلد الموغل في العراقة، مهد الحضارة
الانسانية الذي علم البشرية الكتابة والقراءة
واخترع الأبجدية والعجلة....نعم اخترع الأبجدية
والعجلة، الاختراعين الأهم والأعظم في تاريخ
البشرية.
في خضم هذه الأفكار تعود بيّ الذاكرة الى العام
2001 بكثير من الحنين وعجلات السيارة تنهب الأرض
ملتهمة الطريق الى مدينة بغداد عاصمة العراق
المحاصر للتضامن معه وقد مر على حصاره آنذاك سنين
طوال.
عراق العام 2001 كان محاصرا مجوعا، تلاميذه
ينقصهم أقلام الرصاص بأمر من الأمم المتحدة،
ومستشفياته تشكو نقص الأدوية والمستلزمات وأطفاله
المرضى ضحايا اليورانيوم المخضب يظهر عليهم الضعف
والهزال ويقرأ في عيونهم البؤس والشقاء. هذا كله
في عراق يعتبر من أغنى بلاد الدنيا في موارده
البشرية المتنوعة وثرواته الطبيعية. ولكنه كان
برغم الحصار والحكم الشمولي الغير طائفي متماسكا
آمنا وموحدا.
في ربيع 2003 بدأت القوات الأمريكية وحلفائها من
عرب وافرنج بقطف ثمار الحصار والتجويع الطويل
لتسقط بغداد فريسة سهلة في ايدي الغزاة من كل صنف
ولون، وليقال ان بغداد لم تقاتل عندما وقف الغزاة
امام اسوارها وهي انتظرت "المخلّصين"-كما قيل-
ليمنحوها الحرية والديموقراطية والرخاء، وقيل ايضا
انها ستستقبلهم بالورود والرياحين...ولكن هيهات!
منذ ذلك التاريخ مرّت خمس سنوات من التآمر الداخلي
والخارجي والقتل والنهب والخيانة والارهاب
والتطهير العرقي والحروب الطائفية والتهجير
الداخلي والخارجي وقتل العلماء وتدمير البنية
التحتية البشرية والمادية ومحاولات التقسيم ورهن
ثروات البلد وأرضه للغزاة من كل صنف
ولون....وبغداد تقاتل!
رغم ذلك كله بغداد تقاتل......! ليس بعينيّها فقط
كما قال شاعرنا بل بنار ابنائها وتصميمهم على
تحرير وطنهم من رجس الغزاة ومن جاؤوا على ظهور
دباباتهم. لم يكن أحدا ليصدق ان بغداد ستفشل مشروع
الاحتلال وتجعله باهض الثمن ماديا وبشريا، وتهدد
سطوة ومركز الدولة الأعظم في التاريخ وتغرقها في
وحله وفي جحيم ناره، وتسقط هيبتها وتظهر زيف
ادعاءاتها بحماية الديموقراطية والحرية في العالم.
بدأ الغزو بكذبة كبيرة ملفقة من قبل دهاقنة
السياسة والتآمر في الادارة الأمريكية وحلفائهم في
تل أبيب وغيرها. اما نهاية الاحتلال فنجزم انها
ستكون مدويّة وصادقة هذه المرة وسوف تشهد المنطقة
العربية نهاية ابشع احتلال شهدته المنطقة منذ
احتلال فلسطين.
اليوم الذي سيعود فيه العراق حرا سيدا عربيا
انسانيا ليس ببعيد، وسوف يعيد بناء نفسه بنفسه،
ويسيطر مجددا على ثرواته وخيراته ويعيد اللحمة
والوحدة الى مكونات مجتمعه ويداوي جراحه في زمن
قصير سوف يدهش الجميع، وبجهود ابنائه الخلّص الذين
أجبر قسم كبير منهم على اللجوء الى المنافي
العربية والأجنبية. الشعب العراقي بكل شرائحه
ومكوناته الدينية والعرقية هومن أكثر شعوب المنطقة
علما وثقافة ورقيا وسوف يعود أطفاله مجددا الى
مدارس حديثة كما كان الحال دائما، ليعيد جيل جديد
بناء ما خربه الغزاة والمتآمرون والسّراق الذين
تكاثروا عليه خلال خمس سنوات من جحيم الغزو الذي
تسبب في صراع طائفي مقيت لم يعرف العراق ولا
المنطقة مثيل له من قبل.
ونحن هنا لا نحلم ولا نبحر في الوهم بل نستند الى
وقائع وذاكرة لا تخون ونقول ان تراجع الغزاة سوف
يشمل ساحات أخرى في الوطن العربي. فمن ساحة
الفردوس البغدادية التي أريد لها ان تكون عنوانا
مدّويا لشرق أوسط جديد تقوده الولايات المتحدة
وربيبتها اسرائيل الى المنطقة الخضراء المحاصرة في
قلب بغداد حيث تستحكم ادارة الاحتلال وأعوانها
عبرة لمن يبحث عنها. ومن وادي الحجر في جنوب لبنان
حيث عربات الرب "الميركافا" تشتعل فيها النيران
وتدك بالقذائف الخارقة للدروع درسا لمن يرغب في
التعلم. أما صمود غزة التي تدافع عن نفسها ضد
"المحرقة" بلحمها العاري وبأمعاء اطفالها الخاوية
صابرة على تآمر ذوي القربى ايضا تلخيصا مفيدا
لحكاية وجع قديم متجدد. فهل نحتاج الى أدلة أخرى
لنقتنع ان تطلعات شعوب المنطقة للحرية والانعتاق
من رجس التبعية والاحتلال والدكتاتورية سوف تتكلل
بالنجاح طال الزمان او قصر، وان غدا لناظره لقريب.
لذلك كله نقول ستنتصر بغداد وستتطهر بماء دجلة
وتغسل أقدامها التي لوثها أعدائها الذين لن يطولوا
قامتها لأنهم مغول العصر العابرون اما هي فباقية
ما بقي الزمان تحرس أمجاد بني العباس وشرائع
حمورابي وأبجدية مسمارية عمرها سبعة آلاف عام
...رغماعن "بوش" ومحافظيه الجدد الذين يجهلون
التاريخ وهم معذورون، فهم لا تاريخ لهم.
برلماني ألماني سابق