احتلت أخبار القاهرة هذا الأسبوع موقعاً متقدماً
في مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية بسبب
الإضراب العام الذي أعلن في أنحاء البلاد يوم
الأحد الماضي 6 ابريل ( نيسان) الحالي. وهذا
الاهتمام يبرره أن ما جرى في مصر كان حدثاً
استثنائياً غير مسبوق بكل المقاييس. سواء في
طبيعته أو وسائله أو مقاصده ورسالته، إذ لم يعد
سراً ان مصر شهدت خلال ال سنتين الأخيرتين على
الأقل حالة من التململ التي أسهمت في إذكائها وطأة
الأعباء المعيشية التي ضربت قطاعات عريضة في
البلد. وكان من جراء ذلك ان البلاد شهدت أكثر من
200 إضراب في العام الأخير أغلبيتها الساحقة وجهت
مطالب إلى الحكومة بزيادة الأجور وتوفير
الاحتياجات الأساسية للناس.
هذه المطالبات التي صدرت أساساً عن العمال
والموظفين أحدثت نقلة نوعية في طبيعة التململ
الحاصل في مصر، ذلك أنها طرحت على المحك واستدعت
إلى الطاولة ملف علاقة السلطة بالمجتمع، ففي حين
أن ما كان مطروحا من قبل ظل يدور في فلك علاقة
السلطة بالنخبة السياسية بالدرجة الأولى.
مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات وإيجارات السكن
واشتداد قسوة الحياة على كثيرين في بلد يسكنه 76
مليوناً من البشر، كان من الطبيعي أن ترتفع درجة
المعاناة مصطحبة معها ارتفاعاً موازياً في درجة
الغضب، وحين انفجرت أزمة نقص الخبز، فإنها استدعت
معها مخزون التوتر والغضب، واستشعر كثيرون ضرورة
توصيل رسالة الاحتجاج إلى السلطة، ذلك أنه ما خطر
ببال أحد يوماً ما ان يواجه الناس أزمة في الحصول
على خبزهم اليومي. ثم ان المشكلة لم تكن في نقص
الخبز، لأن السلطة دأبت على توفير مستلزمات وشراء
احتياجات السوق منه مهما ارتفعت أسعارها، لكن
المشكلة كانت في الفساد الذي استشرى في الأجهزة
التنفيذية على المستوى الأدنى، وأدى إلى بيع
الدقيق في السوق السوداء لأصحاب محال الفطائر
والحلوى، الذين توقفوا عن استيراد احتياجاتهم من
الخارج بسبب ارتفاع أسعارها وفضلوا شراء ما
يحتاجونه من الداخل بعشرة أضعاف ثمنه. كما أن
أرغفة الخبز كانت تباع مخبوزة في السوق السوداء،
ليستخدمها بعض القادرين علفاً للماشية، بدلا من
الأعلاف الأخرى التي ارتفعت أسعارها بدورها.
هذا الفساد الذي انكشف أمره في أزمة الخبز، ومس
سلعة أساسية في حياة الناس كان إعلاناً عن عجز
الأجهزة المحلية عن القيام بواجبها في ضمان توصيل
الخبز للناس. وفي الوقت ذاته فإنه سلط الأضواء على
العجز الذي تعاني منه كل الأجهزة في مختلف مجالات
الإنتاج والخدمات الأخرى ،الأمر الذي أسهم في
مضاعفة معاناة الناس وعذاباتهم. وحين ظهر الأمر
بهذه الصورة وجدت شرائح عديدة في المجتمع تمثل
فئاته المختلفة أنه بات ضرورياً توصيل رسالة
الاحتجاج والغضب إلى السلطة التي يفترض أنها
مسؤولة عن تلك الأجهزة التي قصرت في حق الناس، ولم
تقم بما عليها أن تقوم به. ثمة مؤشرات لفتت
الانتباه في تنظيم الإضراب ومقاصده جدير بالرصد في
مقدمتها ما يلي:
ـ إن الدعوة إليه تمت عبر شبكة الإنترنت والهواتف
النقالة، وهذه هي المرة الأولى في مصر على الأقل
التي تستخدم فيها تقنيات الاتصال الحديثة الخارجة
عن السيطرة في مهمة من هذا القبيل. صحيح أن الصحف
المستقلة والمعارضة تحدثت في الموضوع، ولكن
الهواتف المحمولة بوجه أخص أوصلت خبره إلى كل بيت.
وكل حائز لتلك الهواتف (عددهم 30 مليوناً في مصر).
ـ إن الدعوة إلى الإضراب السلمي الذي يؤيده
القانون والدستور والمواثيق الدولية كانت بمثابة
تأسيس لثقافة اللاعنف، وهذه نقلة نوعية مهمة في
التعبير عن الاحتجاج الذي عادة ما كان يأخذ شكل
المظاهرات الصاخبة التي كثيرا ما انتهت بالصدام مع
عناصر الشرطة بما يترتب على ذلك وقوع إصابات
وعمليات تخريب وعدوان على المال العام، وهو ما
اختلف هذه المرة حيث كان مطلوباً الامتناع عن
ممارسة أنشطة كثيرة والبقاء في البيوت لا أكثر.
ـ إن الدعوة خرجت من عمق المجتمع وليس من أحزابه
الشرعية أو جماعاته السياسية الأخرى. فالذين
توافقوا عليها وأطلقوها كانوا مجموعات صغيرة من
العمال والموظفين والمثقفين، وهي الشرائح التي
تبدو أكثر التصاقاً بالواقع وتفاعلا مع هموم
الناس. وكان ذلك واضحاً في التجاوب الشعبي السريع
واسع النطاق مع النداء الذي أطلقوه حيث ما كان
للجماهير أن تتلقف دعوة من هذا القيل وتتفاعل
معها، برغم صدورها عن جهات محدودة الحضور في
الخريطة السياسية المصرية إلا إذا أدركت أنها عبرت
عن نبضها ومست وتراً حساساً لديها.
ـ كان واضحاً في الذين وجهوا الدعوة إلى الإضراب
أنهم من نسيج مغاير عن ذلك الذي خبرناه في الساحة
السياسية المص رية، أعني أنهم تجاوزوا انتماءاتهم
الدينية والفئوية والجهوية وتنادوا إليه بصفتهم
مواطنين مصريين فقط يعيشون هماً واحداً، ويتطلعون
لأن يعيشوا بكرامة في بلد يعرفون جيداً أنه يستحق
وضعاً أفضل مما هو عليه الآن.
ـ كان واضحاً أيضاً أن الذين تنادوا إلى الإضراب
لم يحددوا وسيلة لنقل أصواتهم وتوصيلها إلى كل من
يهمه الأمر، سوى أن يقوموا بذلك بأنفسهم، إما بسبب
عدم اطمئنانهم إلى أن القنوات المتاحة جيدة
التوصيل لرسالتهم، أو لإدراكهم أن قنوات التوصيل
المقترحة مسدودة أمامهم.
ـ لم يكن الإضراب ضد النظام القائم في مصر، ولكن
دعاته طالبوا النظام بأداء أفضل من جانبه، وهذا
فرق يتعين الانتباه إليه، وأزمة الخبز التي عرضنا
لها تعد نموذجا لذلك؛ فالسلطة وفرت مستلزمات
إنتاجه، ولكن الأداء السيئ للحلقات الوسيطة هو
الذي تسبب في الأزمة، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن
رسالة الإضراب تضمنت دعوة لإصلاح الأوضاع وليس
الانقلاب عليها.
في مقام آخر قلت إن نقطة الضعف الوحيدة في الإضراب
إن الذين دعوا إليه كانوا من الفئات غير المعروفة
في المجتمع المصري، وهؤلاء كانوا صادقين في
التعبير عن التململ الموجود في المجتمع. فضلا عن
أنه لم تكن لديهم «أجندة» سياسية خاصة، إلا أن
هؤلاء تحولوا إلى جسم كبير بلا رأس، له حضوره
وشعبيته وتلك ميزة لا ريب. لكنها قد تتحول إلى عيب
لأنها تفتح الباب لاختطاف الجهد من قبل أي قوة
أخرى منظمة تملك الرأس ولا يتوافر لها الجسم.
ـ أخيراً ثمة سؤال مثار حول ما إذا كان الإضراب قد
نجح أو فشل. وهو تقييم اختلفت فيه تقديرات
«الموالاة والمعارضة» إذا استخدمنا المصطلح
الشائع؛ فالأولون يؤكدون أنه فشل، ويدللون على ذلك
بعرض صور تسجيل تزاحم المواطنين في بعض المصالح
الحكومية واكتمال أعداد التلاميذ في المدارس.
ومنابر المعارضة تؤكد العكس، وتستعرض صوراً لعديد
من الدوائر والمدارس والجامعات التي قل حضورها أو
غابوا، وكان كل من الطرفين صادقاً لأنه في بلد وصل
تعداد سكانه إلى 76 مليون نسمة، فإن أحدا لا يتوقع
أن يضرب الجميع، وإنما من الطبيعي والمفهوم أن
يحضر البعض في أماكن بذاتها وأن يغيب آخرون عن
أماكن أخرى.
ـ لا أكاد أجد مبرراً لاستمرار الجدل حول الفشل
والنجاح في الإضراب، لأن هناك أكثر من حقيقة يصعب
الاختلاف حولها، أولها إن الإضراب أعلن رسالة
الاحتجاج الشعبي وعدم الرضى، وأن الرسالة وصلت إلى
كل من يهمه الأمر في داخل مصر وخارجها. الحقيقة
الثانية إن نهج الاحتجاج السلمي الذي انتهجه
الداعون إلى الإضراب مما يستحق أن نحتفي به، ونعرب
عن تقديرنا له آملين بأن يتحول إلى ثقافة للجميع
تجنب مجتمعاتنا ويلات العنف وشروره، وهذه مسؤولية
السلطات المختصة في كل قطر، التي يتعين عليها أن
تشجع هذا السلوك المتحضر فتحترمه وتحرسه، لا أن
تبادر إلى مصادرته وقمعه أو معاقبة المشاركين فيه.