"اضربني إن شئت، لكن اسمعني فقط".
فرانسيس بيكون
لا يضير الثقافة أن تعيش باستمرار أزمة تجديد
وإبداع، انسجاماً مع وظيفتها المزدوجة: الإنتاج
وإعادة الإنتاج من جهة، والسعي، من جهة أخرى، إلى
التواصل الحضاري مع مخزون المعارف الإنسانية عبر
رفدها والأخذ منها بوصفها منتجات تاريخية وخلاصة
تجارب بشرية لا مجرد معطى تراكمي كمي. هذا المخاض
الطبيعي المرافق لقلق البحث عن الذات وتجاوزها
يقودها إلى مزدلف ثانٍ هو التأسيس لتلاقح ثقافي
حقيقي، قوامه الحوار والنقد وتوجيه الخطاب إلى
الجميع ومن أجل الجميع دون خوف من الاحتكاك
المباشر بالآخر المختلف، الذي يشكل المرآة الأولى
لحقيقتنا المفترضة. بهذا المعنى، وليس وحده، يمكن
للمثاقفة والنقد أن يكونا مهمازاً إضافياً يحفزِّ
الحوامل الثقافية كي تكون قادرة على مواكبة
التغيرات في شتى الميادين، الفكرية والفلسفية
والسياسية والأدبية والفنية والإعلامية وما إلى
ذلك. أما أزمات التقوقع والنكوص إلى الوراء والبحث
عن التماثل، وهي سمات معادية لمفهوم الثقافة،
وتكاد تشكل الملامح الأساسية لثقافتنا العربية على
مدى عقود، فلا يمكن أن تصل بنا إلى أي شيء سوى
العودة إلى نقطة الصفر.
حين يجري الحديث عن مفهوم الثقافة بوجه عام، كما
اصطلح عليه، نكون حيال مفهوم كوني شامل لا يرتبط
بمكان جغرافي على وجه التحديد، بقدر ارتباطه
بدلالته النوعية، من حيث الفعل الإبداعي والدور
التغييري. كذا الحال بخصوص المثقف العام، بغض
النظر عن الحقل الذي يمارس فيه نشاطه الفعلي،
المندرج في صلب دوره التاريخي. ولكن هذا المفهوم
يصبح أكثر تعقيداً وتبايناً، ما إن نتحول به إلى
الملموس والعياني.
ما من شك في أن تناول وضع المثقف لا يستقيم من
دون التعرُّض، التفصيلي أحياناً، لطبيعة المناخ
السائد والملامح العامة التي تشكل الإطار الموضوعي
المحيط بالثقافة والمثقفين. ففي المنطقة العربية،
وهي محور هذه المقاربة، يعتبر الحديث عن فكرة
مواكبة التطورات الآن ـ وهي خطوة لابد منها
لاحقاًـ قفزةً في الفراغ، أو هروباً إلى الأمام،
ما دامت طرائق تفكيرنا تنتمي في معظمها إلى عهود
تجاوزها الواقع بأشواط، وعربتنا الفكرية
والأيديولوجية ما تزال تقودها قوى متنابذة الخطط
والأهداف والوسائل، فيما عربتنا السياسية تئن في
الممرات الوعرة لما قبل الحرب الباردة أو إبانها.
إن هذا السير المعاكس لاتجاه التاريخ قد أحال
المواطنين في ظل أنظمتنا "الوطنية" إلى حطام، وفي
أحسن الأحوال، إلى رعايا تقلصت همومهم وطموحاتهم
إلى أدنى المكتسبات الإنسانية: الإحساس بالحرية،
الشعور بالمواطنة، التمتع بحق التعبير والانتماء،
وهي البديهيات الأولى في دساتير العالم أجمع.
إن المفرزات الثقافية، في كل زمان ومكان، هي نتاج
تاريخي لما يطرحه الواقع من توافقات وصراعات طبقية
وأيديولوجية وسياسية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار
أيضاً النمط السائد في المجتمعات العربية، وما
ينطوي عليه من خليط غير متجانس لعلاقات إنتاج
بدائية ورقِّية وإقطاعية ورأسمالية و"اشتراكية"،
فقد نحظى بتصوُّر أولي عن الأسباب التي جعلت
المكونات الثقافية في المنطقة العربية على هذه
الدرجة من الالتباس والتشابك والتنازع والتعقيد.
يُضاف إلى ذلك كله الدور المركزي الذي لعبته
الدولة على طول الخط في سياق نشوئها وتطورها
واستقرارها النسبي، وصولاً إلى مآلها الراهن، بغض
النظر عما إذا كانت راعية، ولو عرضياً، لهذه
المكونات أم رادعة لها.
ففي العالم العربي، ولدى الحديث عن الدولة،
سواء بشكلها القديم أم الحديث، يصح الربط،
تاريخياً وراهناً، بين الثقافة والسلطة، ليس فقط
لجهة سعي هذه الأخيرة إلى تأسيس أدوات سيطرتها
وبالتالي شرعيتها، ومن ثم تأطيرها في صلب بُناها
ومؤسساتها بهدف إحكام الهيمنة والاستقرار ـ لأن كل
سلطة تسعى إلى ذلك ـ بل لأنها احتكرت الحقل
الثقافي والسياسي، وحتى الاقتصادي (في الأنظمة
الجمهورية خاصة)، وبالتالي تحكَّمت بثنائية العصا
والجزرة، أو ثلاثية الخوف والمصلحة والتأثير
الأيديولوجي، كي تحول دون أي إنتاج مستقل ذا طابع
تأسيسي وتراكمي، وفي أي مجال كان. ومن بين وسائلها
لتحقيق ذلك، لجأت إلى المثقفين بوصفهم الفئة
الأقدر على أداء هذه الوظيفة من داخل "قوام
الدولة" والأجدر بالتعبير عن المصالح السياسية
والطبقية المحددة، لتحيلهم إلى محترفين
أيديولوجيين بامتياز، أو، حسب تعبير بولنتزاس، إلى
"مستوى مرتزقة الدولة". وهذا ما جعل المثقفين
اللاسلطويين، من مستقلين ومعارضين، في أحسن
الأحوال، منتجين لثقافة استهلاكية، دفاعية أو
هجومية. ومع تشديد الحصار على هؤلاء، اضطر الكثير
منهم إما إلى الاستقالة الكلية أو الهجرة أو
المناورة على تخوم السقف المتاح أو التحليق في
فضاء أبعد ما يكون عن متطلبات الواقع.
قد يبدو التذكير بالبديهيات نافلاً، كالقول
مثلاً بوجود ثلاثة أنماط من المثقفين: مثقف السلطة
والمثقف المعارض والمثقف المسقل، بغض النظر عن مدى
تطابق التسمية مع الواقع أو الانزياحات الطفيفة
التي قد تطرأ على وظيفة كل منهم. إلا أن هذا
التمييز ضروري، على الأقل من زاوية الصراع الدائر
بين هؤلاء، والإشكالية العميقة التي يعكسها هذا
الصراع على مجمل الأداء الثقافي في مجتمعاتنا،
خصوصاً ما يحدثه من قطع متكرر في الصيرورة
التراكمية للإنتاج المعرفي. والسؤال المطروح هو
كيف تسير هذه المعادلة الصراعية على أرض الواقع،
وما التربة التي تعتاش بها؟ وثمة سؤال اشتقاقي:
كيف يؤدي المثقف الشمولي المستقل دوره في ظل مناخ
أقل ما يُقال عنه أنه لا ديمقراطي (بالتوصيف
السلبي)، واستبدادي بالمعنى المليء للعبارة.
إذا كانت الحرية هي الملاذ الطبيعي للإبداع،
فإن الطغيان مقصلته الغاشمة. ولكن، على هذه الصراط
الفاصلة ثمة مساحة محفوفة بخطري تبرئة الذات أو
جلدها. فمن الوجهة الموضوعية يمكننا القول، بلا
تحفظ، إن بيئتنا العربية مثقلة بغير قليل من
القيود الاستبدادية التاريخية، المخضرمة والراهنة،
الفكرية والسياسية والأيديولوجية، وبتركة مماثلة
من مكونات التعصب والفقر والتخلف وروح التلقي
والإذعان. ومردُّ ذلك هو أن جميع السلطات، الدينية
والدنيوية على اختلافها، التقليدية منها
والمستحدثة، توارثت تربة خصبة لتنمية الأفكار
اللاعقلانية، بل الكابحة للعقل، والمؤبدة للمألوف،
والمطلقة، وغير القابلة للنقض. أفكار تسعى إلى
تهميش الكائن البشري وتحويله إلى مجرد أداة في
أيدي نخبة متسلطة.وفي ظل بيئة كهذه وجد المثقف
المستقل نفسه عاجزاً في معظم الأحيان عن التفرغ
لذاته المنتِجة والتفكير بصوت مسموع، ناهيكم عن
إيصال خطابه إلى شرائح واسعة من المجتمع. وفي خضم
هذه المعركة الاستنزافية وجد نفسه هدفاً سهلاً
ودريئة مثلى لاختبار أسلحة المثقف السلطوي
والأيديولوجي والديني والحزبي والطائفي (المعارض
والمؤيد)، فكان الحلقة الأضعف دائماً بسبب توافر
خصومِه على أدوات ومؤسسات وبنى تنظيمية وسياسية
واجتماعية وأيديولوجية وإعلامية يكاد، بحكم
استقلاله، لا يمتلك أياً منها. إنه محط اتهام
دائم، ووحده المعني بتبرئة ساحته وتحديد موقعه من
ثنائيات لا تحول ولا تزول: الوطنية أم الخيانة،
الديكتاتورية أم الديمقراطية، الدفاع عن الهوية أم
الاستلاب للآخر، السلطة أم المعارضة، الانكفاء على
الذات أم الاندماج غير المشروط، التقليد أم
التجديد. كلها باختصار عناوين لخياري التكفير أو
الاستتابة! كما لو أن المثقف في منطقتنا العربية
محكوم إلى ما لانهاية بالتعايش مع ثنائيات كهذه،
بحيث أنه كلما تجنَّب واحدة برزت أمامه أخرى لتزجه
في انزياح آخر، قسري أو طوعي، بعيدٍ كل البعد عما
يشكل الأولويات العامة لدوره الراهن والتاريخي
تجاه المجتمع، الذي يشهد بدوره تداعياً تدريجياً
في أسس بنائه الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي
بحيث أفقده روح التفاعل ناهيكم عن الفعل.
هذه الثقافة اللاعقلانية الفتاكة، بكل
صلاحياتها وإمكانياتها، لا تكف عن تحصين سلطتها
بمتاريس الانغلاق الفكري والديماغوجيا والدروع
العقائدية غير القابلة للاختراق. يضاف إلى ذلك ما
أنتجته أنظمة الحكم ـ خاصة في بلدان الطوق ـ من
بدع سلطوية بدأت بدساتير انتقائية ولم تنتهِ عند
المحاكم والقوانين الاستثنائية والأحكام العرفية
وفرض حالة الطوارئ والرقابة، والشد على المِعى،
بذريعة الأخطار الخارجية والصراع مع الكيان
الصهيوني، وباسم تحرير الأرض، وتحقيق الوحدة
العربية، وما إلى ذلك. فبدلاً من إطلاق طاقات
المثقف والمواطن عموماً، وتعزيز إرادة المواجهة
والاندماج الوطني، أحكمت أنشوطة الاستبداد
والاستغلال السياسي والاقتصادي حول أعناق
مواطنيها. ومع إدراكها لأهمية تأميم الحقل الثقافي
العام وتسخيره لخدمتها، كما وتزويد آلتها بالشحم
والزيت الضروريين لاستمرارها، فقد سعت السلطة إلى
تحشيد طواقم من المثقفين من منابع أيديولوجية
وفكرية وسياسية مختلفة تحت مظلتها. ولعل هذا ما
تنبهت إليه كل الأنظمة العربية بلا استثناء عبر
عقود طويلة من الزمن، وخاصة ما بعد مرحلة
الاستقلال، فنصَّبت نفسها الخصم والحكم، ورب
النعمة والنقمة في آن معاً؛ منتحلة بإتقان شخصية
بروكست ـ قاطع الطريق ـ كي تفصِّل قاماتنا، من
المهد إلى اللحد، على قدِّ سريرها المعياري. ومن
خلال تسييسها لكل شيء، وتحكمها بكل جوانب الحياة
بدءاً من دوائر النفوس وصولاً إلى قراءة الفاتحة
أو الوقوف دقيقة صمت على أرواح موتانا، أصبح
المرور بحقل الألغام السياسي والأيديولوجي
إلزامياً بالنسبة للجميع، المثقف وسواه، أياً كانت
القضية التي يتم تناولها. وبحكم تقليص هامش
المناورة لديه، وفي ظل غياب المظلة القانونية
للمواطنة، شرع ينكفئ إلى تخوم الحفاظ على السلامة،
أو اللوذ بحماية جهة ما، سلطة أو حزب أو طائفة أو
عشيرة أو حتى عائلة. وقد تكفي إطلالة سريعة على
النتاج الثقافي العربي الراهن كي تظهر لنا مدى
حيادية المثقف ومجافاته للواقع وابتعاده عن مقاربة
المشكلات الأكثر إلحاحاً، ولجوئه إلى قضايا قد لا
ترضي خصومه، لكنها في المقابل، قد لا تثير
حفيظتهم، فتكفيه بذلك شر القتال. فليتحدث ما شاء
له عن التاريخ البعيد والفكر المجرد والأدب والفن
والمسرح والسينما والآثار والتكنولوجيا شريطة
الاكتفاء بالعموميات وتجنب التخصيص والأسماء
والمقاربات التهويشية. وليكتب بحرية عن العولمة
والغرب والبيئة والتلوث وإلغاء ديون دول الجنوب،
وليؤيد الجماعات المناهضة للحرب. وهكذا، مع تضافر
الضغوط الأمنية والسياسية والاقتصادية والنفسية،
توصل المثقف العربي إلى معرفة هوامشه "الإبداعية"
الدنيا، مخلصاً لرقابته الذاتية، ومدركاً متى
يتقدم ومتى يتراجع، ومتى يتوقف متحولاً إلى شاهد
بلا شهادة كلما تعلق الأمر بالتابوات السياسية
والدينية والاجتماعية .
تلك، باختصار، بعض الأسباب العامة، الموضوعية
أساساً، لأزمة المثقف والثقافة في المنطقة
العربية. فإذا كنا قادرين، نظرياً على الأقل، أن
نضع تلك التركة الثقيلة وحامليها في قفص الاتهام،
يجدر بنا أيضاً تحديد حجم المسؤولية الذاتية التي
يتحملها مثقفونا على مستوى الفكر والممارسة. وذلك
خدمةً لهدفين في آن واحد: تجنُّب وهم الرضا عن
النفس أو تبرئتها، وتبيان حقيقة ما لنا وما علينا،
بعيداً عن الجلد المجاني للذات. فإن كانت السلطات
الحاكمة قد سارت على النحو المشار إليه في تأسيس
مشروعها وترسيخ سيطرتها وتسيير مجتمعاتها ضمن مثلث
الخوف والمصلحة والأيديولوجيا بكل ما تطلبه ذلك من
قوى وإمكانيات سياسية وثقافية وأيديولوجية وأمنية،
ما الذي فعلته النخب الثقافية خارج دائرة السلطة،
وبأية طرائق وأدوات خاضت معركتها الإبداعية؟
لا أدري إن كنا نجرؤ على الاعتراف أولاً بأن
فئة قليلة جداً من المثقفين العرب نأوا بأنفسهم عن
التقرُّب من أي حاكم عربي، وبأن قلة منهم دخلوا
عالم الفكر والثقافة عموماً دون المرور عبر
القوالب المسبقة الأيديولوجية أو السياسية، وبذلك
اكتسبت هذه الفئة بحق سمة الاستقلال والتحرر
والشمول. أما القسم الأكبر منهم فقد تحدَّر من
منابت أصولية، دينية أو ماركسية أو قومية،
وأحياناً متداخلة، وكان بالتالي عرضة للتجاذبات
والاصطفافات. ومع تسارع الموجة الأخيرة
للديمقراطية التي تلت نهاية الحرب الباردة، وما
رافقها من هزات أيديولوجية وسياسية، تخلخلت الكثير
من القناعات التي كان يحملها هؤلاء المثقفون.
الأمر الذي انعكس لدى العديد منهم في تبني رؤى
انتقائية جديدة، بديلة عن تلك التي تم تجاوزها على
نحو سلبي، دون ما يكفي من النقد، وهذا ما جعلها في
الغالب الأعم أفكاراً وسيطة وظرفية. وبالتالي لم
يكن مستغرباً أن نشهد الكثير من المواقف التي تنم
عن ازدواجية، أو تناقض صارخ يتجلى في الحنين إلى
الإخلاص النفسي لممارسة القتاعات القديمة
(عملياً)، والتردد الخجول في التعبير عن الآراء
الجديدة (نظرياً). وإلا ما معنى أن يكون المثقف
قادراً على إبراز آرائه ومواقفه بوضوح ـ وهذا حقه
الطبيعي بل واجبه أيضاً ـ حيال الانتهاكات
الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية مثلاً لحقوق
الإنسان،
بينما يندفع بكل حميَّته القومية أو الوطنية أو
الدينية للدفاع عن نظام عربي له باع طويل في
ممارسة هذه الخروقات. ما معنى أن يستجير مثقف ما
من نظامه السياسي بنظام سياسي عربي آخر ربما أكثر
سوءاً! ما معنى ألاً تكون تلك القناعة النظرية
بالديمقراطية مقترنة عملياً بثقافة الحوار؟ ما
معنى أن يوظف كل قدراته النقدية في مواجهة الخصوم
وتخوينهم وإخراجهم عن صراط العقل، في حين يكتفي
بغض الطرف أو ممارسة النقد الخجول بأنصاف الحقيقة
وأرباعها حين يتعلق الأمر بأقاربه السياسيين أو
الأيديولوجيين؟ ما معنى هذا الانسياق المتسرع وراء
فكرة صراع الحضارات أو الأديان، التي تروج لها ثلة
من محطمي الحضارة، من الغرب والشرق؟ أعتقد أننا
ورثنا الكثير من سمات الأنظمة التي وُليَّت وتوالت
علينا، وربما استخدمنا أسلحتها ذاتها في محطات
مختلفة لحل الخلافات في ما بيننا أو مع الآخرين.
فآثرنا محاورة الأشخاص بدلاً من الأفكار، واحتكمنا
إلى الصراع اللاعقلاني وتناحر المصالح بدلاً من
لغة العقل والتوافق.
إن غياب العقل النقدي، وتجنب طرح القضايا
والأسئلة الإشكالية، والانجراف وراء الصراعات
الهامشية، والممانعة إزاء الجديد، إن لم نقل
مقارعته، تعتبر كلها سمات أساسية للثقافة
التدميرية. وما من شك في أن تغيير الأفكار الكبيرة
والقناعات أمر في غاية الصعوبة، لسبب بسيط هو أنه
يخلخل طمأنينتنا التي اعتدناها، ويجعلنا أكثر
هشاشة حيال ما درجنا على الإيمان به. وأسمِّيه
إيماناً لأنه يوحي لنا بالثبات والاستقرار وامتلاك
الحقيقة، ويوصلنا بالتالي إلى المزيد من التكلس
والانغلاق. وما نشهده حالياً من تفاقم في التعصُّب
والتطرف والتسلط الأيديولوجي، في أي حقل كان،
وأياً كانت الجهة التي تفرزها، سلطة أم معارضة أم
ما بينهما، تعبر بشدة عن أزمة الفكر الحر، وعن
التداعي الجزئي أو الكلي للرؤى الشمولية التي
اختُبرت وسادت في المراحل السابقة، وعن الانزياحات
السياسية الخطيرة، وعن الجوع التاريخي إلى الإحساس
بالهوية والانتماء والندِّية، مع كل ما يفترضه ذلك
من محاولات استدعاء الماضي والتشبث به. وإلا كيف
يمكن تفسير نكوص الكثير من الماركسيين والعلمانيين
والقوميين والإسلاميين تباعاً إلى تبني اتجاهات
جديدة، ليبرالية أو قومية أو شوفينية أو قطرية
ضيقة أو إسلامية مغالية هي الأخرى؟ إن هوة سحيقة
تفصلنا الآن عن عوالمنا الإنسانية الطبيعية، وهوة
أخرى أوسع تفصلنا عن عوالم المعرفة والعلوم
والتكنولوجيا التي سبقتنا إليها مجتمعات كثيرة.
صحيح أن الأيديولوجيا لا تزول إلا بزوال كافة
أشكال الصراع عامة، ولكن الصحيح أيضاً أن أي رؤية
أو مقاربة تقوم على حساب الآخر إنما تجهض نزعتها
الإنسانية بالدرجة الأولى، وحينئذ لن تكون معنية
بما تسببه، عن وعي أو بلا وعي، من تدمير للفكر
والفن والأدب والأخلاق والسياسة والمجتمع. ذلك أن
جوهر التعصُّب يستند إلى فكرة الخطر الخارجي،
الحقيقي وغالباً المزعوم، الذي يفترض التخندق
والتحشيد والتمترس وإعداد العدة للتخلص من ذلك
الخصم مرة وإلى الأبد، ولكن فقط ليحل محله خصم آخر
مفترض وهكذا دواليك. فإذا كانت الأفكار الخلافية
ضرورة بنيوية للتفاعل المثمر بين المنتجات الفكرية
والثقافية والسياسية والأخلاقية للبشر، فإن
التماثل الفكري وغياب التواصل بين الأفكار ووهم
احتكار الحقائق لا يورِّث سوى الروح القطيعية
والبهتان على حساب الذات المستقلة الفاعلة، بل وفي
الضد معها. إن الأفكار والأوهام والأيديولوجيات،
كما البشر، لها من قابلية الموت ما يماثلها من
قدرة على الحياة والتوالد. وليس ثمة ما يمكن
اعتباره رؤى مستقلة ومكتفية بذاتها سوى تلك التي
تستمد طغيانها وشرعيتها من استسلامنا العقلي
وانغلاقنا على الشك والسؤال والمعرفة، أو من
تواطؤنا الضمني الناجم عن ضعفنا في التصدي
لظلاميتها وعتوها. إن الافتقار إلى الروابط
العقلانية بين أفراد المجتمع بكل انتماءاتهم يعد
نتيجة مباشرة للتفكك الاجتماعي والتهميش وروح
الخلاص الفردي التي تفرزها الدولة
التسلطية. فهي تطلق شبح الخوف بديلاً عن مظلة
القانون، والمحسوبيات بدل الكفاءة، والانضواء بدل
الانتماء الحر الواعي، ثم لتأتي النزعات المتطرفة،
القومية والمذهبية والطائفية والحزبية والفئوية
لتطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى من روابط اجتماعية
عامة.
ثمة خلل من نوع آخر، يتميز به معظم المثقفين في
المنطقة العربية، سواء في علاقتهم البينية أم في
خطابهم العام؛ ويتجلى هذا الخلل في مستويات ثلاثة:
أولها غياب الخطط بعيدة المدى، والاكتفاء في أغلب
الأحوال بخطط عامة، ضبابية، رد فعلية، مماثلة لتلك
الخمسية المتصدِّعة التي تنتجها الأنظمة بحكم
العادة. وثانيها المنهج التعميمي والتعليمي المجرد
واللاتاريخي الذي يكاد يثمر نفوراً أكثر منه
تقبلاً، من جرَّاء افتقاده للملمس والنكهة والأثر
الاجتماعي والمعرفي، والتحفظ بوصفه مزية احترام
العقل. وثالثها نزعة قسر الواقع، وهي سمة نخبوية
بامتياز، وأقصد هنا الميل البنيوي إلى خلق واقع
ذهني، يستجيب فقط للتصورات والأوهام أو الأفكار
المستنسَخة. وعلى الرغم من ارتباط هذه النزعة
بالحلم والرغبة، والبراغماتية الذاتية أحياناً،
إلا أنها تعتبر خللاً معرفياً في الجوهر. فعلاقة
الفكر بالفكر، رغم أهميتها النقدية، لا يمكن أن
تشكل وحدها مقياساً لصلاحية أفكارنا أو عدمها، لأن
جدلية الفكر ـ الممارسة هي المحك النهائي لهذه
الأفكار. وعلى مسُن صخرة الممارسة ـ الواقع يمكن
للرؤى والأفكار أن تُشحذ وتُشذَب أو تَمَّحي
ليُعاد إنتاجها من جديد.
أعتقد أن أمام المثقف العربي، كي ما يستعيد
دوره الحقيقي، مهمات متعددة وشديدة التعقيد. قد
يكون أولها تجاه الذات؛ الأمر الذي يقتضي النأي
بنفسه عن مغريات الكسب والشهرة والترف الثقافي
وتعدد الكارات والهيمنة، واعترافه بتحمل قسط من
المسؤولية إزاء التردي الثقافي العام، وإعادة
تحديد موقعه داخل المجتمع، وانتزاع استقلاله
مجدداً بعيداً ما أمكن عن علاقات التبعية ـ
السيطرة، متخطياً حدود الخطاب السياسي
والأيديولوجي لكل من السلطة والمعارضة، كما وإعادة
النظر في الكثير من المفاهيم المنتَجة التي فقدت
محتواها لكثافة استخدامها على نحو مشوه: القومية
ومسألة الأقليات، الوطنية، المواطنة وحقوق
الإنسان، الإصلاح، الديمقراطية، المساواة،
العدالة. ففي عصر العولمة، الذي يشهد انتشاراً
واسعاً للمؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية
المتجاوزة للحدود القومية، وتوالداً للمنظمات غير
الحكومية وجماعات الضغط، وما يرافق ذلك من تآكل
تدريجي أو انحسار في دور الدول القومية وحضورها،
وتزايد الاحتكاكات على حواف السيادة الوطنية، يكاد
يكون طبيعياً أن يرى المثقف العربي نفسه ضمن هذه
اللوحة العالمية، ولكن لا مستغرقاً كلياً ولا
منفصلاً كلياً. وفي هذا السياق سيجد نفسه ملزماً
بخوض صراعات شتى، ومع أطراف عديدة، وسيكون معنياً
بنزع قشرة القداسة عن الكثير من مكونات الموروث
الثقافي، بحس نقدي لا تطهري، بغية "تحطيم
الأيقونات" وإعادة الاعتبار للرؤى العقلانية التي
تفتح الباب واسعاً أمام التنافس بين الآراء،
وتدافع عن حقها في الوجود، لصالح ثقافة مجتمعية
مشتركة. إن الانحياز للعلم والمعرفة والحقائق
الموضوعية لم يكن يوماً متناقضاً مع الخصوصية،
التي يمجدها الكثيرون، إلا بمقدار طغيان هذه
الأخيرة على وجداننا وتحولها إلى رمز مقدس،
ونزوعها إلى الانغلاق وعجزها عن توكيد صلاحيتها
الفعلية والممانعة والخوف الشديدين حيال الانفتاح.
وإذا كان السعي إلى الخروج من هذه الأزمة يعني
إنتاج ثقافة وذاكرة ثقافية بديلة وتعميمها، وتوفير
بيئة ملائمة أيضاً، فإن ذلك يتطلب جهداً خاصاً،
فردياً وجمعياً على السواء، ويستلزم حواراً
ديمقراطياً متواصلاً بين حَمَلَة الثقافة أنفسهم
أولاً وبين هؤلاء والمثقف السياسي والقوى السياسية
ثانياً وبين المراكز والمؤسسات الفكرية المستقلة
ثالثاً. كما يحتاج إلى إعادة النظر في الأدوات
والوسائل المتوفرة والبحث عن أخرى جديدة وممكنة،
والتركيز على مراكز الأبحاث، والدراسات التخصصية،
وعلمانية النظام التعليمي ومجانيته، والجامعات،
والمنتديات الثقافية، ومنظمات المجتمع المدني
الثقافية والحقوقية، ووسائل الإعلام... وللشروع
بهذه المهام، لابد من الاعتراف المتبادل بين جميع
أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير، وتوكيد الرغبة
في التواصل والتعاون، وبحسب إدوار سعيد، "بناء
حقول من التعايش بدلاً من المعارك".
عباس عباس
سوريا