مدخل إلى
إهداء:
إلى الفداء حتى المنتهى
إلى "عائشة الهودلي"2
إلى أرواح آيات وسناء3
إلى أرواح عبير وروان
4
شهيدتا استباحة الأمة العربية على أيدي الأمريكان
والصهاينة.
إلى أرواح شهيدتا عدوان "غيوم الخريف" الغادر على
"بيت حانون"، غزة، نوفمبر
20065.
توطئة
تستهدف الدراسة الحالية
إعادة النظر
في استشراف مستقبل الوطن العربي
في سياق اللحظة الراهنة من تاريخ الأمة العربية.
إعادة
النظر؛ تحفظ واجب
لا خلاف على أن بذور المستقبل تزرع في تربة الحاضر
وترتوي من نهر الماضي، ومن
ثم فإن أي استشراف للمسقبل، مهما طال أفقه الزمني،
لا يمكن أن يكون منقطع الصلة
بالحاضر والماضي. وينطبق هذا التحفظ بأجلى صورة
على فعل صوغ الرؤى المستقبلية ذاته،
حيث لا تملك جهود الصياغة، مهما حاولت، أن تفلت من
إسار الحاضر والماضي القريب،
خاصة إن تشبعا بأحداث جسام تحمل تبعات مهمة لموضوع
الاستشراف. وهذه هي حال الحقبة
الراهنة في مسيرة الأمة العربية حيث حملت السنوات
القليلة الماضية منذ مطلع القرن
الحادي والعشرين أحداثا جلل، تصاعدت، وتعاظم
وقعها، حتى الانتهاء من إعداد هذا النص
في منتصف العام 2007، ومثّل كثير منها انكسارات
لطموحات الأمة في الحرية6
والكرامة،
سنأتي على ذكر أهمها فيما يلي،
وإن ومضت بوارق ضوء من معسكر المقاومة،
تحيي
الأمل في إمكان مناهضة الاستبداد والاستباحة في
الوطن العربي. ومن ثم، فمن الطبيعي
أن تلقي هذه الأحداث الجسام بظلالها على الجهد
المقدم هنا، وإن كان الطموح ألا يبقى
الاستشراف سجينا لها.
على العموم، جهد الاستشراف دائما على خطر من أن
يلقي الحاضر والماضي القريب
بظلال ثقال على الرؤية المركبة. والعلاج المنهجي
الناجع لهذا النقص هو المراجعة
الدورية للرؤى الاستشرافية كلما تغيرت الظروف
الابتدائية بما يوجب إعادة النظر في
الرؤى المصاغة سابقا.
والحق أن الجهد الحالي هو مثال على هذا الحرص
المنهجي لتحديث الرؤى
الاستشرافية وتحيينها، وإن طال الأجل مديدا بين
صوغ الرؤية الأولي (مشروع استشراف
مستقبل الأمة العربية) وهذه المراجعة. وقد جرت في
المنطقة، وفي العالم كله، في
الحقبة البينية، مياه كثيرة في مجرى نهر التاريخ،
حتى قد يصعب على البعض إنشاء
الصلة بين الرؤية الأولي وهذا الجهد التحديثي.
وتفسير ذلك يقع في كثرة ما مر من
مياه، بعضها أشبه بالطوفان، في مجرى النهر حتى كاد
المجرى ذاته يعاد نحته من جديد،
وما عاد الأمر يحتمل رفاهية التصحيح على الهوامش،
تلك الرفاهية التي تطيقها جهود
المراجعة على آجال زمنية قصيرة.
هذا العمل إذا هو امتداد لمشروع "استشراف مستقبل
الأمة العربية"
بعد طول
انقطاع،
بما ينفي إمكان التمديد الخطي المباشر للعمل
السابق. بل ينقل النظر في
الموضوع إلى صعيد مغاير يأخذ في الاعتبار ما جرى
من خضم مياه في مجرى نهر التاريخ
في الحقبة الماضية، بما يوجب إعادة النظر
والاستبصار جذريا.
في المنظور الإيجابي، ولضمان مواكبة رؤية المستقبل
المقدمة هنا للتغير في
المنطقة والعالم من حولها، بما يزيد من فرص خدمتها
لغايات الأمة في الحرية
والكرامة، نتمنى أن تجري مراجعة هذا العمل، دوريا
وعلى آجال قصيرة نسبيا، كل خمس
سنوات مرة مثلا، وان تصبح عملية المراجعة الدورية
وسيلة لإعادة الاهتمام في جميع
شرائح الأمة بالقضايا المثارة في استشراف مستقبل
الأمة العربية إلى بؤرة العمل على
درب النهضة في الوطن العربي.
أولا: مقدمات
أ- في الحاجة إلى إعادة النظر
صدرت الطبعة الأولى من "مستقبل الأمة العربية،
التحديات والخيارات" في العام
1988،
أي منذ قرابة عشرين عاما، وقد تغير العالم، وتغيرت
أوضاع الأمة العربية،
جذريا
منذ انتهاء العمل على مشروع الاستشراف بما يوجب
إعادة النظر، جذريا
أيضا، في استخلاصات المشروع.
وحيث انقضى على انتهاء الدراسة الأساس قرابة عقدين
من الزمن، يتوجب البدء من
تحليل لمجمل التطورات، المحلية والعالمية، التي
حلت بالوطن العربي ويقدر أن كان لها
أثر واضح على المسيرة التاريخية للأمة العربية،
وخاصة تلك التي يمكن أن تشكل محددات
لمسارات مستقبلها الآتي. ونقدم فيما يلي
لمحة أولى
عن معالم التغير التي
يتعين أخذها في الاعتبار في إعادة النظر.
1
السياق الإقليمي والعالمي للأمة العربية
تتسارع الأحداث في السياق الإقليمي
والعالمي
للوطن العربي ربما بأسرع
ما كان يمكن تحديث هذا النص في صياغاته المتتالية.
وليس هذا إلا دليلا على
الأهمية الحرجة لهذا السياق الإقليمي والعالمي في
تشكيل مسيرة الأمة
العربية.
وتضرب هذه السمة المحورية في البنية التاريخية
والسياسية للبلدان العربية منذ
قديم. فقد اكتست المنطقة بسبب موقعها الاستراتيجي
وغناها بموارد الوقود الأحفوري،
أهمية استراتيجية لا تبارى في نظر القوى المهيمنة
على الساحة العالمية. وزاد من
أهمية المنطقة في المنظور الاستراتيجي العالمي
استزراع دولة اغتصاب الحق العربي في
حُشاشة7
الوطن
العربي، فلسطين.
ومن ثم فقد حرصت القوى
المهيمنة
على الساحة العالمية، وإن تغيرت مع
الزمن، على ضمان تدفق النفط، بالكميات والأسعار
المناسبة، لصحة الاقتصادات المهيمنة
خارج المنطقة. كما حرصت بعض القوى في الغرب على
ضمان أمن الكيان الصهيوني العنصري
الذي زرعته في قلب المنطقة، عامل فرقة ونزاع
مستمر، وبارجة حربية متقدمة راسية في
المنطقة تستغل لحماية مصالح قوى الهيمنة، بالسلاح
فائق التقدم على باقي المنطقة،
عند الحاجة، وإن تبوأت في بعض الأحيان، مع رسوخ
أقدامها في المنطقة، نتيجة
للانحطاط- الهوان العربي، موقع الشريك المملي على
القوى الأكبر في العالم.
ولم تكتف قوى الهيمنة
العالمية
بالتدخل من الخارج أو عبر إسرائيل، فقد
تدخلت في التشكيل السياسي للمنطقة العربية، بترسيم
الحدود اصطناعا كما يروق لها8
وبدعم
أنظمة الحكم الموالية، أو الطامحة للحكم والتي
سينبع ولائها من قدر غنائمها
المنتظرة على أيدي أولياء النعم. وأسبغت قوى
الهيمنة العالمية دعمها وحمايتها على
أنظمة الحكم الموالية هذه حتى وإن شطت في العسف
والقهر لمواطنيها، انتهاكا صارخا
للقيم الإنسانية التي تتشدق بها قوى الهيمنة، مثل
الحرية وحقوق الإنسان. وبلغ الأمر
مداه بأن أصبحت بعض نظم الحكم في الدول العربية
أكثر ملكية من الملوك، حيث اعتبرت
شرعيتها مستمدة من تأييد قوى الهيمنة العالمية
وليس من التمثيل الشامل والحكم
الشفاف لشعوبها وخضوعها للمساءلة من قبلهم،
فحق عليها أن تعد مغتصبة للسلطة
مستقوية بعدو
من الخارج.
ومن ثم تفاعل تحدي الاستباحة من الخارج، مع خلل
جسيم في نظم الحكم العربية، في
إنتاج مأساة الشعب الفلسطيني من ناحية، وإلي
مرابطة قوات عسكرية أجنبية علي الأرض
العربية بعد عقود من الاستقلال، وإلي معاناة العرب
بعض من أقسى أشكال عنت زمرة من
القوي المهيمنة علي النظام العالمي الراهن وحيد
القطب والذي يمارس تسلطا صارخا علي
منظمة الأمم المتحدة ويقترف ازدواجية فاضحة في
تطبيق المعايير التي يتنادى بها مثل
حقوق الإنسان وأضحت هذه القوي المهيمنة تأخذ
القانون بيدها تدخلا عسكريا سافرا حين
تري في ذلك مصلحة لها دون اعتبار للشرعية الدولية،
أو حتى حقوق الإنسان التي تتشدق
بها. كل هذا يوشك أن يهدر مصداقية المنظمة
الدولية، وقيمة مواثيقها وعهودها، بل
والقانون الدولي ذاته.
وهكذا تبلورت
متلازمة9
الاستبداد في الداخل مع استباحة الأمة العربية من
القوى المهيمنة على
الساحة
العالمية. ونعدها أصل البلاء في كل أدواء البلدان
العربية،
وأساس مسار
الانحطاط- الهوان الراهن،
وفي منافحتها يقع سبيل النهوض في الوطن
العربي.
وقد شهد العقدان الماضيان عديدا من التغيرات
المحورية في السياق الإقليمي
والعالمي لمسيرة الأمة العربية في التاريخ المعاصر
نذكر منها هنا، بإيجاز خاطف
اثنان:
-
أتاحت "الكوكبية"10
فرصا
للتقدم اقتنصها الأقوياء لمصلحتهم، كما انطوت
على مخاطر للضعفاء، لعل أهمها أن أضحت
"العولمة"11
تمثل
الطور الأحدث من الهيمنة الغربية، في الأغلب
على صورة "الأمركة"، استفادة من
الكوكبية.
-
انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة "الكتلة
الاشتراكية" من ثم تبوء الولايات
المتحدة مكانة القوة الوحيدة الأكبر في العالم.
ولعل الأهم هو ماتلاهما من تبعات وتداعيات على
خريطة القوة في العالم، وفي
"
الشرق الأوسط" والمنطقة العربية خاصة، في سياق
حركة التاريخ. ما أدى لى أن
تعج
الساحة العربية بعلامات انحسار وتردٍ وباحتمالات
تناحر في محيطها الإقليمي. ولكن
تبقى الساحة العربية، مع ذلك، واعدة بإمكان النهوض
عبرالمقاومة واحتمال انهيار بنى
الفساد والاستبداد تحت وطأة مغبات الفشل والقهر
القمعي.
هذا بينما تبقي الساحة الإقليمية والدولية، على
الرغم من تلبدها بغيوم
انتهاك حقوق الأمة العربية في الحرية والكرامة،
محملة، حال تجذر نهج المقاومة سبيلا
للنهوض، بتباشير نهوض عربي تآزرا مع بوادر انتفاض
مكونات في هيكل القوى العالمي على
غطرسة القوة الأكبر الراهنة واستباحتها لباقي
العالم من خلال العولمة البربرية
ورديفها الغزو العسكري النشط أو السلبي (من خلال
التواجد العسكري لقوى الهيمنة
عبرالعالم.)
ب-
مساران بديلان لحركة الأمة العربية في التاريخ
نقترح إجمال بدائل مستقبل الأمة العربية في بديلين
رئيسيين، ونقيضان، نسميهما
للإيحاء والإيجاز: "الهوان" و "النهضة".
بديل "الهوان" هو نتيجة إنحطاط دام أطول من سبعة
قرون، ويخشى أن يستمر. هو
مسار، وعاقبة، اطراد الاتجاهات الرئيسية الثاوية
في الواقع العربي الراهن والتي
يمكن تلخيصها في تزاوج الفساد والاستبداد في
الداخل مع استباحة الأمة من الخارج،
بما يفضي إلى سحق السيادة وإهدار الكرامة على
الصعيدين الفردي والجمعي في الوطن
العربي.
وقد امتنع على قرائح العرب، ومن درسوهم، التوصل
إلى تفسير، واف وشاف، لمسببات
مسار الانحطاط/ الهوان هذا، سبيلا أولا لمناهضته.
وزعمنا هنا أن
تضافر آليتا الاستبداد في الداخل، واستباحة الوطن
من الخارج،
هو السبب الأساس في استمرار الانحطاط، ونتيجته
حالة الهوان الراهنة.
ومن ثم، فإن الانطلاق نحو النهضة يتطلب، منطقيا،
وفي الأساس، إجهاض هذه
"الدينامية"
من خلال
تأسيس نقيض هذا التضافر الخبيث عبر الإصلاح
السياسي طلبا
للحرية، حرية الوطن والمواطنين جميعا، وإقامة حزمة
من الإصلاح المجتمعي، الواسع وفي
العمق،
ما يكفل القضاء على التعاسة التي يعاني العرب
(جميع مواطني الدول
العربية) بسبب من تكريس مسار الانحطاط وحالة
الهوان الراهنة.
وهذا التوق للتحرر من تزاوج الاستبداد والاستباحة،
للحق، أصيل في الإنتاج
الفكري العربي المعاصر.
ولذا فإن بديل "النهضة" هو، على النقيض من
الانحطاط/الهوان، مسار عملية
تاريخية للانعتاق من إسار الواقع العربي الراهن
وصولا إلى
الحرية، للوطن ولجميع
أبنائه،12
وإلى
الوحدة، سبيلا للنهوض، باعتبارهما عمادا الكرامة
الإنسانية في الوطن العربي.
وليس البديلان، الانحطاط/الهوان، والنهضة،
تاريخيا، من الصنف ذاته. فالهوان
حالة
من الانسحاق الفردي والجمعي، سماتها القعود
والاستكانة، بينما مسيرة
النهضة
عملية مستمرة
من النضال المجتمعي المثابر والمتصاعد دوما، هي
تعبير
بليغ عن عشق أصيل للحرية والكرامة الإنسانية،
يتأجج في جميع أشكال النشاط البشري،
للأفراد والمؤسسات المجتمعية، بلا انقطاع.
صحيح أن مسار الانحطاط/الهوان القائم قد يبعث على
اليأس عند البعض، وعلى
التسليم شبه القدري بسطوة تزاوج الاستبداد في
الداخل والاستباحة من الخارج، ونتائجه
الكارثية على الأمة العربية، وقصر الفعل البشري
تجاهه علي محاولة الاستفادة منه في
منظور فردي قاصر وأناني، يقوم على وهم الخلاص
الفردي، وينتهي في الواقع مؤَسِسا
لاطراد مسار الهوان. وليس من قبيل المبالغة القول
بأن هذا هو الموقف الغالب على
قادة أنظمة الحكم العربية ومن لف لفهم من أساطين
الحكم فيها وسدنتها من المثقفين
والفنيين.
ولكن المؤكد أن
الشعب العربي لم يقبل هذا المصير
التعس بعد، وما فتئ،
بزعامة قادته الصحاح، يقاوم استمراره، ما استطاع
سبيلا، نزوعا إلى مستقبل أفضل.
وليس أدل على ذلك من اضطرار أنظمة حكم االانحطاط/الهوان
القائمة في البلدان العربية
إلى اللجوء لأساليب الإقصاء والتغييب والرشوة،
وإلى القهر السافر عندما لا تكفي هذه
الثلاثية الخبيثة. وما فتئت آلاف مؤلفة من
المواطنين العرب تدفع ثمن المقاومة من
حريتهم وحقوقهم.
ومن ثم، يتعين، في معسكر النضال من أجل النهضة،
تعبيرا عن الإرادة الشعبية
وامتثالا لها، وتمثلا للقيم الإنسانية العليا
للحرية والعدل والكرامة الإنسانية، أن
تتحول معاناة الذل والضعة التي يتجرعها أبناء
الأمة العربية المخلصين في ظل مسار
الهوان الراهن إلى ذخيرة للطموح إلى دحر هذا
المسار، ولامتشاق الفعل المناضل من أجل
إقامة نهضة إنسانية في ربوع الوطن العربي، عبر
تعبئة أفضل ما في الأمة العربية من
طاقات، وتوظيفه بكفاءة في مسيرة تاريخية نهضوية.
وليس هذا التوق جريا وراء وهم أو سراب.
فأغلب الوقائع العظيمة في تاريخ
البشرية بدأت نزوعا فكريا، غالبا ما كان يناهض
واقعا قائما ومهيمنا.
نزوعا يفكك
الواقع ويضع مكوناته الأساسية تحت مبضع النقد، في
منظور نهضوي حاسم.
فقط الأفكار التي تجسدت واقعا معاشا في النهاية،
وجدت قوى فاعلة من بين بني
البشر تعمل من أجلها، على صعيدي الفكر والحركة
الميدانية، باجتهاد ودأب
مستمرين.
ونقترح أن تكون غاية الدراسة الحالية
المساهمة في دفع المسار التاريخي
للأمة العربية بعيدا عن مسار الهوان واقترابا من
مسار النهضة
ما أمكن. هي ليست
إذا مسألة "أكاديمية" بحت بالمعنى الضيق، وان توخت
الرصانة والموضوعية.
ومن ثم فإن هذا العمل لا يتوخي معالجة متوازنة
لبديلي الحد الأقصى، الهوان
والنهضة، هذين بالعمق ذاته والتفصيل نفسه.
يتعين النظر في بديل "الهوان" فقط بما يكفي لتبين
تبعاته الجسام، وليست أقل من
كارثية كما تشي اتجاهات تطورات العقود الأربعة
الماضية، منذ العام 1967 مثلا حين
تسببت أنظمة حكم الهوان- القائمة وقتها، أو تلك
التي كانت نطفا تتخلق في رحم بعض
مشروعات النهضة الوطنية التي أخفقت، في صوغ منظور
مشروع للنهضة كما نفهمها هنا- في
ضياع الضفة الغربية والقدس، ففقدتهما غنيمة سهلة
للدولة العنصرية الغاصبة، وأمست
بعد أربعة عقود كاملة تقدم مبادرات السلام مع
العدو الغاصب متوسلة لاسترجاعهما من
موقف ضعف، وهيهات!
وفي المنظور المستقبلي، تعد مسيرة الانحطاط/
الهوان بعواقب كارثية لعل أخطرها
استعار التناحر المللي والطائفي داخل الأقطار
العربية، وفي محيطها الإقليمي، بحثٍ
وتزيين من المشروع الأمريكي- الصهيوني للمنطقة.
والأجدى أن ينصرف جل الجهد هنا إلى التركيز على
إعمال النظر في فرص تحقق بديل
"النهضة"،
لا سيما إمكان انبثاق مسار النهوض من تداعيات مسار
"الهوان".
ولا يعني هذا أن تستغرق الدراسة في بديل النهضة
كحالة نهائية مثالية أيضا.
فالرحلة هنا بأهمية المقصد.
يفرض هذا التصور التركيز، قدر الطاقة، على
البنى والعمليات المجتمعية
الحاملة، إمكانا، لبذرة إنجاز التحول
المخلِّص،
عبر النضال المجتمعي
اللازم، لمنافحة نظم حكم الاستبداد والفساد
الراهنة التي أسلمت الأمة لمستبيحيها من
قوى الهيمنة في العالم.
وعليه، فإن الهدف الأسمى للدراسة الحالية هو
التركيز على
المسار
التاريخي،
أو للدقة
العملية النضالية التاريخية، الكفيلة،
ابتداء من
الواقع العربي الراهن، بإنجاز التحول عن مسار
الانحطاط/الهوان إلى مسار النهضة.
والتقدير هنا أن الفشل الذريع لمسار الانحطاط/
الهوان في ضمان الكرامة والعزة
للأمة وللناس عامة، سيفضي لا محالة إلى
نقطة انكسار
في هذا المسار الكارثي
يمكن أن تحمل نطفة التحول إلى مسار النهضة سبيلا
إلى عتق الأمة من مصير
الانحطاط/الهوان. ويمكن هنا رصد بديلين.
الأول، أن
تنطلق شرارة انبثاق مسار النهوض من الأقطار
العربية الرازحة تحت
الاحتلال،
العراق وفلسطين، وتلك التي تتجمع فيها سحب معركة
استباحة ضارية وتقوم
فيها قوة مقاومة باسلة وصامدة مثل لبنان13،
حيث
يتكثف تزاوج الاستبداد والاستباحة إلى أقصى حد
قاضيا على حرية الوطن والمواطن سويا،
وجارحا للكرامة الإنسانية، ومستفزا المقاومة
الوطنية المشروعة، ما يقضي باستمرار
وربما اشتداد المقاومة للاحتلال أو المستبيح
الأجنبي، في حروب تحرير تكفلها الشرعة
الدولية لحقوق الإنسان مع ما يمكن أن تفرز، بين
احتمالات أخرى، بعضها خطير ومدمر،
من طاقة للنهوض التحرري في عموم الوطن العربي.
ويشهد على صحة الاحتمال الأخير عمق
الموالاة الشعبية واسعة النطاق، وفي عموم الوطن
العربي، للمقاومة في العراق ولبنان،
خاصة الأخيرة بعد صمودها المشرف في وجه العدوان
الأمريكي الصهيوني الباغي في صيف
2006.
ولا ريب في أن تعثر الاحتلال الأمريكي-البريطاني
للعراق، والإنفلات الأمني
المأساوي هناك في ظل حكومة تتلقي التعليمات من
السفير الأمريكي ولا تملك من أمرها
شيئا يذكر، وخيبة عدوان إسرائيل الفاجر على فلسطين
ولبنان في صيف 2006، وعلى وجه
الخصوص انتصار المقاومة بقيادة حزب الله المظفرة
في الغزوة الأمريكية الصهيونية
الأخيرة للبنان، وصمود حركة "حماس" في مواجهة
الضغوط الهائلة التي أخضعتها لها دولة
الاغتصاب الصهيوني ومناصريها، والتعاطف الشعبي
العارم مع المقاومة، وإن غلت أيديه
أنظمة حكم الهوان، تمثل بدايات واعدة في هذا
الاتجاه.
والبديل الثاني، هو
انهيار نظام الحكم الراهن في واحد أو أكثر من قطر
عربي
محوري
بسبب تداعيات تزاوج الفساد والاستبداد وموالاة قوى
استباحة الأمة
العربية، في أنظمة الحكم الراهنة، أو تحقق بديل
"الخراب الآتي" وفق تقرير "التنمية
الإنسانية العربية" الثالث، ولكن
بحيث يفضي إلى تبلور المشهد المفتتح للإصلاح
السياسي العريض والعميق، تحرير المجتمع المدني.
وهو ليس بالتحول المضمون إلا
إذا استعدت النخب له منذ الآن جديا. فقد ينتهي
بديل "الخراب لآتي" بفوضى عارمة
تستعصي على إعقالها بصورة منظمة وفعالة، وتفضي إلى
خسائر هائلة تمثل الجناية الأكبر
لنظم حكم الانحطاط/ الهوان القائمة حتى بعد
انقضائها.
وليس مشهد الانهيار هذا بمستبعد في أكثر من بلد
عربي مركزي ولنأخذ مثلا
البلدين العربيين الأكبر، في منظورين مختلفين: مصر
والسعودية.
تعد حالة السعودية، وقد يستغرب البعض، مثلا صارخا
على تضافر فساد الحكم مع
الفشل التنموي، والاستنامة للاستباحة، على الرغم
من الوفرة المالية المفرطة.
تتواتر التقديرات بوجود فقر مدقع في مناطق من
المملكة خارج المدن الرئيسية،
ويعاني شبابها، حتى المتعلم منه، معدلات مرتفعة من
البطالة14
ويرزح
تحت وطأة أمراض اجتماعية عدة. كما أدت سيادة الفقه
الوهابي، في ظل حكم الاستبداد،
أن اختُطف الدين الحنيف لمعسكر تأويل إرهابي يرسم
خطوطا للتدين ترفد تدويم سلطة
الاستبداد بالمجتمع ولا تستقيم مع المقاصد الكلية
لشريعة الإسلام، وامتد للأسف إلى
خارج المملكة عبر آليات متعددة مثل غلبة الدور
السعودي، لاسيما في مجال الإعلام،
والهجرة للعمل في البلدان العربية النفطية. ويملأ
حديث الانتقاص من حقوق الإنسان،
خاصة حقوق النساء، في المملكة أرجاء المعمورة.
وفي النهاية فإن التدهور الأمني الذي عصف بالأمان
في البلد في السنوات
الأخيرة، ويعتبره كثيرون بمثابة حرب أهلية منخفضة
الوتيرة، يمثل لا ريب تداعيا
خطيرا في الأمن والرفاه الإنساني ويعبر عن استقطاب
مجتمعي بلغ حد التقاتل.
ومصر هي البلد العربي الأكبر، في أكثر من منظور،
وإن لم تكن بالغة الثراء
بمعيار الوقود الأحفوري أو التراكم المالي، ولكن
مصر اكتسبت قيمتها الريادية في
المنطقة العربية من امتلاكها، خاصة في حقب زمنية
سابقة، لمقومات ما يسمي "القوة
الناعمة" المترتبة على توافر كتلة بشرية كبيرة
ومبدعة، خاصة في مجال اكتساب
المعرفة، بالمعنى الشامل المتضمن للإبداع الأدبي
والفني.
والأهم، في منظور الإصلاح، أن مصر تعد من قبل كثير
من النخب العربية مناط
الأمل في الإصلاح في عموم المنطقة، إن هي صلحت
أحوالها.
ويتيح التوافر النسبي الأكبر للمعلومات، وقرب
الكاتب منها، فرصة للتعمق في
حالة مصر قليلا.
بداية، تتفاعل في مصر تبعات تزاوج الاستبداد
والفساد بما ينذر بعواقب وخيمة
قريبة. فنتيجة لاستيلاء قلة على مقاليد القوة
(السلطة والثروة) تهمل مصالح الغالبية
الساحقة من عامة الناس
ولا يحمي النظام إلا مصالح الثلة المهيمنة15
ولو على
حساب السواد الأعظم من المصريين. ومن ثم تأتى
استشراء للفقر والبطالة وتفاقم سوء
توزيع الدخل والثروة بما ينطوي على استعار
الاستقطاب المجتمعي بصورة شبه يومية.
يعاني المصريون كل هذا الشقاء على الرغم أن الدولة
قد استفادت من تدفقات هائلة
من المعونات الخارجية في العقود الثلاثة الماضية،
تقدرها بعض المصادر بما يقارب 150
مليار دولار.
كل هذا ناهيك عن اطراد انتهاك حقوق الإنسان
والتضييق على الحريات العامة في ظل
الحكم بقانون الطوارئ لما يزيد عن ربع قرن.
وفي مجال الامتثال لجهود استباحة المنطقة من قوى
الهيمنة العالمية، يعد نظام
الحكم في مصر الأكثر انصياعا، بل مبادرا.
هذه إذن هي بعض
تجليات جدل فساد الحكم- الفشل التنموي في البلدين
العربيين
الأكبر، من منظورين مختلفين. كل منهما مهم في حد
ذاته، ولكن مغزى المثلين معا
للمنطقة كلها بالغ الدلالة.
حيث يمكن للناظر المدقق أن يرى في حال كل بلد عربي
تقريبا تنويعة على مزيج من حال البلدين العربيين
الأكبر هذين. ونسوق هذه المؤشرات
للتدليل على أن انهيار أنظمة حكم الهوان القائمة
في أكثر من بلد عربي ليس بعيدا عن
التصديق.
أما بالنسبة لسبيل
التحول عن مسار الهوان، وصولا لمسيرة النهضة،
فالتقدير، نهاية، أن
المحرك الأساس للتحول من الهوان إلى النهضة سيكون
الإصلاح
السياسي، الواسع والعميق، المؤسس لمجتمع الحرية
والحكم الصالح في الأقطار العربية
وعلى صعيد الوطن العربي بكامله. على أن تتضافر
معه، في التوقيتات المناسبة، باقي
عناصر الإصلاح المجتمعي اللازمة لتكامل الإصلاح
المؤسس لمسار النهضة
ج- الأفق الزمني للنظر
لعل العام 2050- وهو العام الذي تخطط الصين لتتحول
فيه إلى القوة الأكبر في
العالم، وقد يتحقق أملها قبل ذلك الحين- يصبح أكثر
مناسبة لعملية التحديث المقترحة.
فليس من المقبول ألا تطمح الأمة العربية لموقع مهم
على خريطة القوى الأكبر في
العالم في المدى الزمني الذي تطمح الصين لأن تكون
فيه القوة
الأكبر
فقد كان
الوطن العربي، بالمقاييس التنموية المعتادة، أفضل
حالا من الصين عند منتصف القرن
العشرين، ولكن عقودا خمس تباعد فيها المساران
انتهت والصين مرشحة لموقع القوة
الأكبر في العالم بينما تهاون الحكام العرب فهان
الوطن العربي.
ولا شك في أن العام 2050 يبدو الآن شديد البعد،
ولا خلاف في أن الرؤية تغيم
كلما طال أفق الاستشراف. وحيث يقع التركيز في هذه
الدراسة على إمكان
التحول
من مسار الهوان الراهن إلى مسيرة النهوض، فمن
المنطقي أن يقع التركيز هنا على
الشروط الابتدائية، والمراحل الأولى،
لهذا التحول التاريخي والتي نتعشم،
وعلينا أن نعمل بجد، لكي تتحقق في أقرب
الآجال، في المنظور التاريخي، وليس
سقف 2025 في هذه الحالة ببعيد، راجع الملحق (1) عن
تحول أسبانيا إلى الديمقراطيةو
الذي استغق في مراحله الحاسمة بضع أعوام قليلة.
وفي التجربة المعاصرة أيضا أن سقوط الحكم
"الشيوعي" في بولندا، على ضراوة
المعركة، استغرق أقل من عقد من الزمان. وتمتد
الأحداث الفارقة هنا من إضرابات ساحات
بناء السفن في جدانسك" (أغسطس 1980)؛ إلى نزع
الشرعية عن حركة "التضامن" (ديسمبر
1981)؛
وصولا إلى بدء مفاوضات المائدة المستديرة (فبراير
1989)؛ وانتهاء بإعادة
الشرعية إلى "التضامن" (إبريل 1989)؛ وفوز مرشحيها
بجميع مقاعد البرلمان، عدا واحد،
في انتخابات يونيو 1989.
إلا أن القضاء المبرم على تداعيات مسار الهوان
الحال في البلدان العربية من
الفداحة بحيث تتطلب مهاما جساما تستغرق آجالا على
صعيد الإصلاح المجتمعي الشامل في
الوطن العربي، حتى حين تتحقق شروطه الابتدائية من
بدء الإصلاح السياسي الشامل
والعميق، الذي قد يستغرق تمامه هو ذاته ردحا من
الزمن غير قصير. ومن ثم يصبح تحديد
نقطة زمنية نهائية لمسيرة الأمة العربية المرغوبة
من قبيل المرجع الزمني للغاية
النهائية، أي
اكتمال مسار النهوض،
مسألة سديمية. فهو، أي اكتمال النهوض، في
حقيقة الأمر
غاية نهائية يسعى إليها دائما وربما لا تدرك أبدا،
هدفا دائب
التحرك.
ومن ثم فقد يبدو العام 2050 حتى أقرب من اللازم.
والمجدي في جميع الأحوال هو أن تلقى المراحل
الأولى من الإصلاح المؤسس لمسار
النهضة عناية أوفر في تدارس الإصلاح المنشود، وفي
العمل من أجله. فمنطق الفعل
التاريخي أن
التوالي تتكشف عن البدايات.
د- سعياً وراء التراكم المعرفي
تعاني الجماعة الفكرية العربية من سوءة قلة
التراكم المعرفي.
على النقيض، تحيل صياغات وثائق المشروع الحالي إلى
بعض من أهم مضامين تقرير
"التنمية
الإنسانية العربية"، خاصة تلك التي أنشأها كاتب
النص الحالي بداية، وتبني
عليها، وتدعو لتجاوزها. وليس من غرابة لعدة أسباب.
أهمها أن تقرير "التنمية الإنسانية العربية" قدم
عبر إصدارات أربع متتالية
(2002- 2006)
ما اعتبره واضعو التقرير مشروعا فكريا متكاملا
لنهضة إنسانية في الوطن
العربي من إبداع عربي يتميز بصدوره عن فريق مستقل،
ضخم وشديد التنوع من الباحثين
والمفكرين العرب، من منظور نقدي رصين.
و"التقرير"، فوق ذلك، هو العمل الأكثر انتشارا
بامتيازعن المنطقة العربية، في
المنطقة وخارجها، حيث انتشرت منه ملايين النسخ
بلغات ثلاث، العربية والإنجليزية
والفرنسية، أساسا من خلال موقع برنامج الأمم
المتحدة الإنمائي على الإنترنت، حيث
يمكن الحصول على التقرير باللغة العربية مجانا،
مما ساعد على "إنزال" مئات الألوف
من نسخ التقرير في بلدان عربية يستحيل أن يدخلها
التقرير مطبوعا.
كما أن هناك، من ناحية أخرى، تقاطعا واضحا بين
فريقي التقرير والمشروع الحالي،
حيث كان الكاتب الرئيسي
للنص الحالي، باعتباره المؤلف الرئيسي لتقرير
"التنمية
الإنسانية العربية"، يتولى الصياغة النهائية للإصدارات
الأربع
للتقرير،
بما في ذلك أجزائه التي كتب مسودتها الأولى أحد
أعضاء الفريق المركزي
للتقرير.
فحيث استهدف تقرير "التنمية الإنسانية العربية"
المساهمة الفكرية في صياغة
مشروع للنهضة الإنسانية في الوطن العربي، كان من
الضروري، تفاديا لسوءة قلة التراكم
المعرفي في البلدان العربية، أن يمعن الكاتب
الرئيسي للعمل الحالي النظر في مضامين
تقرير "التنمية الإنسانية العربية" مع إخضاعها
للفحص والتمحيص، وتطويرها بما يخدم
غاية النص الراهن.
غير أن غياب مؤسسات رسمية أو بين-حكومية عن رعاية
المشروع الحالي، يسمح بقدر
من الجسارة في التحليل والتناول، مطلوب لدعم فرص
تبلور مسار النهوض، لم تكن لتتاح
لتقرير "التنمية الإنسانية العربية".
فعلى الرغم من تنصل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
القاطع من محتوي تقرير
"التنمية
الإنسانية العربية" في صدر كل مجلد، وفي تصدير
رؤسائه له، وعلى الرغم أيضا
من هامش الحرية غير المسبوق في وثيقة تصدر عن
منظمة من منظمات الأمم المتحدة، تشكل
الدول مجلس إدارتها، والذي تمكن فريق التقرير من
انتزاعه بجهد مضن ومطرد. على الرغم
من كل ذلك كان حرص موظفي الأمم المتحدة، وبرنامج
الأمم المتحدة الإنمائي على وجه
الخصوص- وقل منهم من اجتمعت له خصال الكفاءة
والاستقامة- على ألا يثير مضمون
التقرير حفيظة إسرائيل أو الولايات المتحدة، أو
الدول العربية المؤثرة، مثار نزاع
مستمر بين الفريق، خاصة المؤلف الرئيسي،
والموظفين، لا سيما في المرحلة النهائية
لإقرار التقرير للصدور عن برنامج الأمم المتحدة
الإنمائي. وقد تصاعد هذا النزاع مع
ذيوع التقرير واستقرار أهميته، حتى كاد الكاتب أن
ينأى بنفسه عن التقرير الرابع
أكثر من مرة. وقد بلغ الأمر منتهاه في التقرير
الرابع، حيث استغل رئيس برنامج الأمم
المتحدة الإنمائي الحالي (2006) تصديره للتعبير عن
انتقاد مبطن للتقرير
وأسلوبه.
ولهذا كان اعتقاد كاتب هذه السطور دائما أن الموطن
الأنسب لعمل يتوخي المساهمة
في صوغ مشروع للنهضة الإنسانية في الوطن العربي،
هو منظمة عربية مستقلة ملتزمة
بقضية النهضة في الوطن العربي. ولا يتناقض هذا
الاعتقاد مع حقيقة أن صدور تقرير
"التنمية
الإنسانية العربية" عن منظمة من منظمات الأمم
المتحدة، بالتعاون مع منظمات
عربية متخصصة، خاصة في البدايات وفي الحقبة
الزمنية التي صدر فيها، حمل ميزات
مؤكدة. و"ما لا يدرك كله...
ولكن "السقوط النهائي" لمنظمة الأمم المتحدة في
أزمة الغزو الأمريكي الصهيوني
للبنان في صيف 2006، وافتضاح كونها، وبوجه خاص
مجلس الأمن، تابعا مؤسسيا خانعا
للإدارة الأمريكية، ومن ثم لدولة اغتصاب الحق
العربي العنصرية في فلسطين، إضافة إلى
الفشل الذريع للنظام الإقليمي العربي الرسمي في
تناول الأزمة ذاتها، كما في سابقات
لها، استوجب أن تتحول المساهمة الفكرية في صياغة
مشروع النهضة في الوطن العربي إلى
منصة فكرية أوفر استقلالا، وأبلغ التزاما بنهضة
الأمة العربية، من منظمة من منظمات
الأمم المتحدة أو منظمات دول عربية.
والواقع أنه، في منظور التراكم المعرفي،
يمثل البناء على مضامين تقارير
"التنمية
الإنسانية العربية" الأربع في العمل الحالي إضافة
نوعية للمكتبة
العربية،
حيث تتكامل
لأول مرة
في النص الراهن مكونات المشروع الفكري
للنهضة الإنسانية في الوطن العربي الموزعة على
التقارير الأربع، وتُتجاوز بصورة
متسقة في تشكيل مسار النهوض في الوطن العربي،
وبتناول يحمل جرعة من الجسارة
والانتماء العربي ما كان يمكن أن تظهر في تقارير
ترعاها إحدى منظمات الأمم المتحدة،
لكونها منظمة دولية تشكل الحكومات عضويتها، بما في
ذلك حكومتي الولايات المتحدة
ودولة اغتصاب الحق العربي في فلسطين.
هـ- مجموعة البلدان العربية، بين التباين والتجانس
عيب على صياغات سابقة للنص الحالي، كما على تقرير
"التنمية الإنسانية العربية"
قبله، الميل إلى التعامل مع مجموعة البلدان
العربية المنضوية تحت جامعة الدول
العربية على أنها كل متجانس رغم وجود فروق مهمة
بينها.
وقد اجتهدنا في الصياغة الحالية لإبراز أوجه
التفارق بين البلدان العربية في
التحليل والرؤية، عندما يكون للتباين أثر مهم، وقد
بلغنا حد دراسة الحالة للبلدين
العربيين الأكبر، حين كان ذلك يدعم منطق النص،
فيما سبق من هذا لقسم. ولكن سعينا
الأساس كان دوما للتركيز على القواسم المشتركة بين
مجمل البلدان العربية من دون غض
الطرف عن الفروق القائمة بينها وإبرازها متى ما
كانت جوهرية للتحليل أو الرؤية
المستقبلية. كما أشرنا إلى احتمال التفاوت بين
البلدان العربية في الالتحاق بمسيرة
النهوض حال قيامها، قرب نهاية القسم الحالي.
غير أن الفروق بين البلدان العربية التي يشار
إليها عادة تمثل استبطانا للفكر
التنموي التقليدي الذي يتجاوزه مفهومنا
للحرية/التنمية الإنسانية والذي ينقل معايير
التنمية إلى مصاف الكرامة الإنسانية عوضا عن
المؤشرات النقدية والمالية التي تسيطر
على فكر "التنمية الاقتصادية". على مؤشر الناتج
للفرد مثلا تقوم فروق صارخة بين
البلدان العربية لا تقل عن مدى التفاوت في هذا
المؤشر على صعيد العالم كله، لأن
المجوعة العربية تضم، وفق معيار الوفرة لمالية،
بعض من أغنى دول العالم، وبعضا من
أفقرها. أما على مؤشرات التنمية الإنسانية، ولنأخذ
مدى التمتع بالحرية والحكم
الصالح مثلا، نجد أن الفروق بين البلدان العربية
تقل كثيرا، وإن لم تختف.
ويتبدى تجانس البلدان العربية في مطلع القرن
الحادي و العشرين جليا، مرة أخرى،
بالقياس على غايات مشروع النهضة
المقدم هنا، فالبلدان العربية كلها بعيدة عن
هذه الغايات الطموح، كل البعد. إذ من منظور هذه
الغايات الباسقات، تتكأكا البلدان
العربية عند درك سحيق بحيث يصعب التمييز بينها.
الأهم، من الناحية المبدئية، أن
المغالاة
في التركيز على الفروق التي
تقوم بين البلدان العربية إذكاء للفرقة التي نرى
فيها واحدا من أهم أسباب ضعف
المنطقة العربية، خاصة في المعترك العالمي، وأقوى
مبررات استباحتها من الخارج. وقد
كان الخيار المبدئي هنا دعم وحدة هذه البقعة من
العالم، التي يجمع بلدانها الكثير
مما لا تحظى به مناطق أخرى في العالم لكنها توحدت
وصولا للقوة والمنعة، مثل أوربا.
من ثم، فإن التأكيد على
الوحدة في مواجهة الفروق، وعلى الرغم منها،
سبيلا لنهضة إنسانية في الوطن العربي، هو موقف
مبدئي
قصدي
لهذا العمل.
ومعاداة هذا الموقف تنطوي، في تقدير الكاتب، ولو
باستدعاء أكاديمية مدرسية ساذجة،
ولو من دون قصد أو روية، على تدويم الفرقة
والاستضعاف في جميع البلدان العربية.
ثانيا: مسيرة الإصلاح السياسي المؤهلة للتحول إلى
مجتمع الحرية
والحكم الصالح
تمهيد
أسلفنا أن الإصلاح السياسي، الواسع والعميق،
المؤسس لمجتمع الحرية والحكم
الصالح، هو في تقديرنا، المحور الرئيس للتحول عن
مسار الهوان، وصولا لمسار النهضة
في الوطن العربي.
ويتعين البدء بالتأكيد على أن الواقع العربي بالغ
التعقيد، لأسباب داخلية
وخارجية في آن واحد، وعلى أن المستقبل العربي،
ابتداء من الوقت الراهن، يكتنفه، رغم
وضوح الغايات المبتغاة في مسيرة النهضة، غموض شديد.
ومن ثم فإن القصد هنا هو
وضع بدايات سبل لتجاوز مسار الهوان، على صورة خطوط
عريضة وحسب، على جدول أعمال القوى الحية في
المجتمعات العربية لتنظر ما هي فاعلة
بشأنها.
والأمل أن إثارة القضايا الرئيسية المحددة لمسار
الإصلاح الهادف لإقامة مجتمع
الحرية والحكم الصالح، متضافرا مع محاور الإصلاح
المجتمعي المكملة له، سيؤهلها
للنقاش الجاد في البلدان العربية. والمرجو أن يفضي
هذا النقاش إلى حفز عملية إبداع
مجتمعي يشارك فيه مجمل القوى الحية في البلدان
العربية لصوغ طريقها الخاص إلى مجتمع
الحرية والحكم الصالح، باعتباره مكونا رئيسيا
للتحول عن مسار الهوان، إقامة للنهضة
في الوطن العربي.
بعد وضع بعض اللبنات المفهومية، يبدأ هذا الجزء
باستخلاص القسمات الجوهرية
لنسق الحكم الراهن، تمهيدا منطقيا للتطرق لتصور
بديل نقيض لمستقبل الحرية والحكم،
في البلدان العربية، مع التطرق إلى تصور "مثالي"
لتتالي مشاهد الإصلاح على مسيرة
للتحول من "الهوان" إلى "النهضة" في الوطن العربي.
ويمكن، من حيث المبدأ، تصور عدد كبير من متتاليات
مشاهد مسيرة التحول من
الانحطاط/الهوان إلى النهضة في الوطن العربي، وليس
التصور المقدم هنا إلا واحدا
منها، روعي فيه، قدر الطاقة، الاتساق مع بواعث
مسار النهضة ومتطلباته، في حدود
المعرفة المتاحة.
وعليه فإن المسار الفعلي للتحول التاريخي المرجو،
حال توافر شروطه، قد يمثل
تنويعة على المتتالية المقدمة هنا. كما يتعين
مقاربة التصور المقدم هنا بالمنطق
التخطيطي المنفتح على المراجعة والتصحيح، وفق
تفاعل القوى المجتمعية في البلدان
العربية معه، أو توافر معرفة أفضل، وفي جميع
الأحوال للتواؤم مع مجريات الأحداث على
أرض الواقع.
المؤكد على أي حال أن التصور المقدم فيما يلي
ليس تنبؤا
بمستقبل
المنطقة العربية.
أ- معالم نسق حكم متكامل يؤسس دولة عصرية عمادها
الحرية والعدل، ويحقق
العزة والمنعة للأمة العربية.
معمار نسق الحكم المطلوب
في
المفهوم- الغاية: الحرية/التنمية الإنسانية
(1)
مفهوم الحرية: ينتظم على ثلاثة مستويات
متضافرة:
الفرد/ المجتمع/
الوطن
"أ
"
الفرد: ضمان
الاحترام التام للحريات المدنية والسياسية، على أن
يكمله القضاء على جميع أشكال الانتقاص من الكرامة
البشرية
مثل الجهل والفقر
والمرض والظلم.
فالحرية الفردية لا تكتمل إلا بالعدل والاحترام
البات للكرامة
الإنسانية.
"ب"
المجتمع:
ضمان مجال عام حر وفسيح تشغله منظمات المجتمع
المدني،
بالمعنى الواسع شرط أصيل للحكم الصالح، وصيانة
كاملة لحريات وحقوق الجماعات
والثقافات الفرعية (الأقليات) صنو للكرامة
الإنسانية.
"ج"
الوطن:
ضمان التحرر الوطني وتقرير المصير، في الوطن
العربي
بكامله16.
وعليه، فإن أي انتهاك على أي من هذه المستويات
الثلاثة يمثل انتقاصا من الحرية
بمفهومها الشامل المتبنى هنا.
يوسف إدريس- مسرحية "الفرافير"
"ألم
اقل لكم أن الزعم بقهر الإنسان من أجل رفعة الوطن
كذب لا يستقيم وأن هوان
الإنسان لا بد وأن يجر هوان الوطن"
المصدر: (بهاء طاهر، 1993، 197)
هذا المفهوم الشامل للحرية
يضمن الحرية الفردية والعدل الاجتماعي17
كليهما
ويغطي
جميع
مجالات
منظومة القانون الدولي لحقوق الإنسان18،
الذي
يحمي حقوق الإنسان الفرد والشعوب، ويضم على
المستوى الفردي، على وجه التحديد، حقوق
الإنسان المدنية والسياسية، كما الحقوق الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية.
ومثل غيره من المكونات المفهومية المقدمة في هذا
العمل، فإن مفهوم الحرية
المقترح لا يتعدى كونه زادا لفكر القوى المجتمعية
الحية في البلدان العربية ينتظر
أن تنضجه بالفكر والتمحيص بما يخدم مسيرة النهضة
في الوطن العربي.
وبوجه عام فإن الحرية، بهذا المعنى الشامل، تكافئ
التنمية الإنسانية في
تعريفنا.
وتقوم
عملية
التنمية الإنسانية المنشودة على بناء القدرات
البشرية
للناس كافة، خاصة القدرات البشرية الأساس، في
التمتع بالصحة، بالمعنى الإيجابي
الشامل؛ واكتساب المعرفة مدى الحياة من خلال أشكال
التعليم راقي النوعية، أولا.
وثانيا، على توظيف القدرات البشرية في جميع مجالات
النشاط البشري، في الإنتاج وفي
النشاط المجتمعي والسياسة. بما يضمن، نهاية، تمتع
البشر كافة بأعلى مستوى ممكن من
الرفاه الإنساني. ويستهدف هذا النمط من التنمية
القضاء على العلات المجتمعية التي
أفرزها نمط التنمية القاصر الراهن من انتشار
البطالة والفقر بين عامة الناس، مع
تعاظم الثراء الفاحش لقلة تقترن بالثلة المسيطرة
على مقاليد السلطة، مما أدى إلى
تفاقم سوء توزيع الدخل والثروة، ومن ثم القوة، في
المجتمع واستشراء الفساد.
ويتطلب قيام نمط التنمية الإنسانية هذا، على خلاف
ما انتهى إليه الأمر في ظل
نظام الحكم الراهن وتحت ضغوط قوى الهيمنة
العالمية، أن تتولى دولة، قادرة وفعالة،
في ظل نسق للحكم المؤسسي الصالح، مسئولية قيادة
مسيرة التنمية، وصولا للحرية،
بالمفهوم سالف الذكر، ومن ثم يتعين أن تجري
التنمية الإنسانية مستقلة عن الانضواء
تحت مصالح أي قوى مهيمنة في النظام العالمي، وإلا
تعطل ضمان الحرية على مستوى
الوطن.
(2)
تتطلب حماية الحرية وتعزيزها، قيام
نسق من الحكم الصالح
يتميز
بالسمات التالية:
-
يحمى الحرية؛ فأي انتقاص من الحرية، بالمعنى
المقدم أعلاه، وعلى أي من مستويات
التعريف الثلاثة، يعنى عدم صلاح الحكم حتى لو
قامت مؤسسات أو عمليات "ديمقراطية" في
الشكل، مثل انتخابات أو مجالس تشريعية، مدارة
من قبل قلة.
-
تمثيل الشعب بكامله، عبر انتخابات دورية، حرة
ونزيهة، من خلال.
-
مؤسسات تتسم بالشفافية والافصاح والمساءلة
أمام الناس عامة.
-
في ظل قانون حام للحرية والكرامة الإنسانية.
-
يقوم عليه قضاء مستقل قطعا، نزيه، كفء، ومنصف.
مثل هذا النسق من الحكم يضمن حقوق المواطنة غير
منقوصة للمواطنين كافة، كما
يضمن التداول السلمي للسلطة.
ويقوم التنظيم المجتمعي السليم المساند لنسق الحكم
الصالح هذا على تضافر
قطاعات ثلاثة:
-
الدولة بسلطاتها الثلاث: التشريعية والقضائية
والتنفيذية، مع تحقق شروط الفصل
والتوازن بينها، وخضوعها جميعا للمساءلة.
-
قطاع إنتاجي (يزاوج بين الملكية الخاصة
والعامة لوسائل الإنتاج) قوي ومتنام
باطراد، كفء ومضبوط مجتمعيا باعتبارات الكفاءة
والمصلحة العامة، خاصة العدالة
الاجتماعية.
-
مجال عام19
فسيح وحر
ومستقل عن سلطة الدولة، يشغله مجتمع مدني،
بالمعنى الواسع، يشمل المجتمعين المدني
والسياسي بالتعريفات التقليدية- قادر وفعال
ومخلص من شوائب المجتمع المدني الحالي
التي يسهم في إنتاجها مناخ حبس الحرية وفساد
الحكم الراهن، وإمكان التأثر بأنظمة
الحكم وقوى الهيمنة في العالم من خلال التمويل.
ويسهم هذا التنظيم المجتمعي، في ظل مقومات نسق
الحكم الصالح، في القضاء على
الفساد، والوفاء بحاجات الناس، وحماية مسيرة
الإصلاح وصولا للنهضة.
ب: مركزية العدل في الحضارة العربية الإسلامية
يتفق عدد هام من أهل الشريعة الإسلامية وأنصار
الشرعة الدولية لحقوق الإنسان
على الانطلاق من مبدأ مركزي مفاده أن
الأصل في فكرة العدل هو تأسيس شرعية
الاجتماع البشري،
أي انتظام الاجتماع البشري حول مبدأ يضمن توزيع
وتداول الثروة
والسلطة السياسية بين الناس وفق معايير إجرائية
وقيم خلقية تنسجم ومعايير العدل
وقيمه في المجتمع. من هذا المنطلق، يمكن القول أن
مبدأ العدل يشكل أس الشرعية التي
هي رأس المال المعنوي الضروري لتوافق النسق
السياسي مع القيم العليا للمجتمع
وغاياته التي يدافع عنها من جهة، وضمان تماسك
الاجتماع البشري ونمائه وازدهاره
وتجدده في التاريخ من جهة ثانية. فلا يقوم اجتماع
دون أمثولة للعدل تعطي الشرعية
للنظام السياسي والتماسك والقوة للجماعة في ظل
التكوين السياسي الذي يحتضنها.
والعدل هو، لاريب، مع المساواة، من القيم
الإنسانية العليا التي
يشترك فيها
الإسلام مع المسيحية.
فقد جاء في أعمال الرسل "وكان جميع الذين آمنوا
جماعة
واحدة، يجعلون كل شيء مشتركا بينهم، يبيعون
أملاكهم وأموالهم، ويتقاسمون الثمن على
قدر احتياج كل منهم ?" (إنجيل مرقس 2: 44-45).
ويقول الرب في نبوءة إرميا: " ويل
لمن يبني بيته بغير عدل، وعلياته بغير حق، ?"
(22:13). وهكذا فإن "العهدان القديم
والجديد يتلاقيان في الدعوة إلى الحق ورفع الظلم"
(يوسف مونس،2007). وتوجه الكنيسة
الكاثوليكية، على وجه الخصوص، رعاياها إلى طريقة
حياة تتوخى إعمال العدل والسعي
لإقامة مجتمع العدالة والسلام.
ج: في فكر التحرر- الانعتاق
العتق، لغة، هو الخروج من الرق، مكافئا للتحرر.
ويحمل "العتق" أيضا معاني الفوز والكرامة (عتق
الفرس= كرُم وسَبق) والإصلاح
(عَتَق
المال= أصلحه) والنجابة (المعجم الوسيط، مجمع
اللغة العربية). وفي الحديث:
"عتق
من النار".
ويا له من مصدر ثلاثي عبقري يجمع كثيرا من
المضامين الإيجابية المتوخاة في
مشروع للنهضة.
ويتطلب التحرر أو الانعتاق حتما مقاومة بني القهر
الراهنة، داخلية كانت أو
خارجية.
ويعلى فيلسوف المقاومة الألماني20
"فيختة"
من شأن
عملية التحرير
بالمقولة الشهيرة "أن تكون حرا ليس شيئا، أما أن
تصبح
حرا فهذا هو الفردوس ذاته".
1-
الحرية والتحرر في التراث العربي- الإسلامي
"يعرض
علينا التاريخ العربي والإسلامي في التجربة
الواقعية والممارسة العملية
وجوهاً متعددة لمسألة الحرية، بمضامينها التي
ننسبها إلى الأزمنة الحديثة، قد لا
تكون تجسيداً لمنظومة فكرية أو إيديولوجية متكاملة
بقدر ما هي تجسيد لمتطلبات
إنسانية حيوية مباشرة.
فقد عبّرت الحرية السياسية عن مطامحها باتخاذ موقف
"المعارضة"، وذلك بنبـذ
مبـدأ الطاعة لأولي الأمر وربطه بالنص الذي يقرر
أنه "لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق ". وأنفذت الأمر بوسائل مختلفة: النصح،
والنقد، والعمل السري، والتقية،
والعصيان والمقاتلة أو الثورة. والرموز هنا كثيرة
: ثورة القراء، الفتنة الكبرى،
حركة الخوارج، حركات الزنج والقرامطة، نشاط "اخوان
الصفاء" السري، والانقلاب
العباسي" (عن: فهمي جدعان، 2004).
النضال
ضد الاستبداد والظلم لدى المعتزلة:
سعى المعتزلة إلى إعلاء مفهوم "الإنسان الفاعل
الذي تناط به عملية تغيير
المجتمع ومقاومة الظلم والباطل، من خلال تأكيد
حرية الإنسان وقدرته على الفعل
ومسؤوليته عن أفعاله، في مقابل أهل الجبر الذين
ركزوا على تكريس الموقف السلبي
للإنسان في عملية التغيير، وكانت سلبيتهم مؤازرة
مباشرة وتعاون وثيق مع المستبدين
والظالمين المغتصبين لحرية الشعوب،?" (أحمد عرفات
القاضي، 2007، 84). فأظهر صفات
الإنسان عند المعتزلة أنه "حيّ مريد" (نفسه، 86)
ومن ثم كان موقف المعتزلة برفض الانضواء تحت لواء
السلطة المستبدة ومقاومتها
"تجسيدا
لفكر نظري آمن به عمرو بن عبيد21
ورفاقه
عن قناعة، وسعوا إلى تطبيقه في حياتهم عن طريق
تقرير قدرة الإنسان وحريته في
أعماله، ضد الجبرية وغيرها من الأفكار التي تعد
تكريسا للاستبداد والظلم" والذي أدى
إلى تفشي الفساد في الأمة (نفسه، 72). وما أشبه
الليلة بالبارحة!
وينطلق فكر المقاومة عند المعتزلة من تبنيهم مبدأ
"الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر"22
الذي
رفعه المعتزلة إلى منزلة الأصول الاعتقادية،
وسعيهم إلى تغيير المجتمع، من خلال
محورين:
"-
رفض الظلم والإنكار على الحكام الظلمة ومقاومتهم
والدعوة إلى الخروج
عليهم.
-
إعداد الجماهير من خلال مقاومة فكر الجبر الذي
يكرس الاستبداد ويعد تكأة
للحاكم وسندا له. ومن هنا التأكيد على حرية
الإنسان كشخصية مستقلة لها دور إيجابي
وفعال في تغيير الواقع ومقاومة الأفكار الضالة
والمحرفة والتي تتناقض مع طبيعة
الإسلام كدين جاء لمقاومة الباطل وتغيير المنكر
والثورة على الفساد والمفسدين"
(نفسه،
73).
ومن هنا كان موقفهم الرافض من خلفاء بني أمية
باعتبارهم
"مغتصبين
للسلطة23
وملوك،
وليس
خلفاء
شرعيين
تم اختارهم من قبل أهل الحل والعقد،
كممثلين
للشعب،
وحقيقة الأمر أن موقف المعتزلة من بني أمية يصل
إلى درجة الإجماع في ما
بينهم على رفضهم وحجب الثقة عنهم كمستبدين قفزوا
إلى السلطة بصورة غير شرعية، وهذا
ما اتفق عليه جميع رجال المعتزلة في جميع الطبقات
والعصور. ولم يشذ من هذا الموقف
سوى موقفهم من عمر بن عبد العزيز، ويزيد الناقص،
الذي لقبوه بالكامل" (نفسه،
78)
وتبلورت رؤيتهم السياسية في الوقوف ضد اغتصاب
السلطة، والتصدي للحكام الغاصبين
لها، وتجسيد هذا المبدأ عمليا بالمشاركة في الثورة
على الحكام الذين اغتصبوا الحق
من أهله (نفسه، 74).
وما أحوجنا إلى تمثل المعتزلة اليوم، فكرا وفعلا!
ثورة الإمام الحسين
"كانت?
ثورة تكشف الزيف، وتنهض إلى تصحيح الانحراف وتقويم
الارتداد، وتجعل
حق تغيير السلطان الجائر شرعيا، أو واجبا ينبغي
على المسلم أن يؤديه.
وقد خاطب الإمام الحسين المسلمين، فقال، مشرعا
للتغيير "من رأى سلطانا جائرا،
مستحلا لحرم الله، ناكثا بعهد الله، مخالفا لسنة
رسول الله فلم يغير بفعل ولا قول،
كان حقا على الله أن يدخله مدخله""
المصدر (عبد المجيد زراقط، 2007، 100-101)
2-الحرية
والتحرر في الفكر الغربي
تحمل الحرية "إرادة حرة تقف رافضة لكل ما هو غير
قادر على التعايش مع هذه
الحرية"، كما أن "الذات الواعية بذاتها هي القادرة
على إحداث فعل الحرية، وفعل
الحرية يتحرك في صورة ديناميكية تجعل من الإرادة
الحرة إرادة قادرة على التمرد ومن
ثم إحداث فعل المقاومة" (محمد المجتبي عثمان،2007،
47، 55-56)
ففي اليونان القديمة انتفت الحقوق، فالعبد بلا حق،
ولكن هذه الحركة الإقصائية
لم تكن لتقضي على وعي الفرد بذاته وبوعي الفرد
بفرديته، بإرادته التي لا تحكمها
الإرادة العليا، وإنما تحكمها ذاتها، فكانت ثورة
العبيد التي قادها "سبرتاكوس"،
فالإرادة تكون داخل الروح" (نفسه،47)
ويجعل "ألبير كامو" من التمرد "سلوكا حتميا
وضروريا في حالة توافر الإطلاع
والشعور بالحقوق، فالحق هو المطلوب" حتى يكافئ
"كامو" بين المتمرد والمواطن، وبين
المواطن والمقاوم (المرجع نفسه).
ولم ير "كانط" في "الانتفاض على الطاغية وخلعه عن
عرشه افتراء عليه" (نفسه،
51).
وبينما يؤسس الفكر الليبرالي لمفاهيم الحرية
والديمقراطية لا يولي عناية كبيرة
لعملية التحرر من القهر. وليس من غرابة حيث نشأ
الفكر اليبرالي في ديمقراطيات
مستقرة أو في طور التشكل إيجابيا. ولكن لايخلو
الأمر من إشارات ذات دلالة في
الكتابات الأحدث نسبيا عن ديناميات القهر وتدويمه،
لها رجع صدى في الأوضاع الراهنة
في البلدان العربية.
فينتقد " برلين" أنظمة الحكم الأبوية، لأنها مهما
كانت كريمة أو عقلانية، تميل
إلى معاملة غالبية البشركقصر، أو قليلي المسؤولية،
ناقصي النضج، حتى لا يستحقون
الحرية في المستقبل القريب، أي، حقيقة، لا
يسحقونها على الإطلاق. وهذه سياسة لا
تقوم على أساس علمي أو منطقي، بل على تصور ممعن في
الخطأ عن الحاجة البشرية الأعلى،
أي الحرية.
ففي غياب الحرية تسود المجتمع الوسطية الرديئة،
والإمّعات.
ويحذر من أن ينجح الطاغية، أو أعوانه المستترين،
في حفز رعاياه على التعامي عن
رغباتهم الأصلية واحتضان نمط الحياة الذي يتيحه
لهم. إذ في هذه الحالة يكون قد نجح
في تزييف شعورهم بالحرية (برلين، بالإنجليزية،
1969، المقدمة و 140)
3-
الثورة في الفكر الماركسي
رغم تحفظنا على مواءمة التحليل الطبقي التقليدي
لأحوال البلدان العربية، يبقى
الفكر الماركسي بين أهم ينابيع فكر الثورة والتحرر.
وتشمل
أسباب
الثورة الشيوعية عند "ماركس": الاستغلال
والاغتراب، الناجم
عنهما الشعور بالظلم، الأزمات الاقتصادية،
والتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات
الإنتاج. وتفضي الثورة إلى قيام المجتمع الشيوعي
الذي يكفل للأفراد التحقق الكامل
لذواتهم، بما يحقق في الوقت ذاته صالح الجماعة.
وتقوم
عملية
الثورة على
محوري تبلور الوعي الطبقي ومختلف أشكال الصراع
الطبقي.
وتشير كتابات ماركس إلى أن اعتبار الدولة ظالمة
يمثل بداية طريق زوالها.
ويساعد على هذا المصير المحتوم أن فكرة الحكم
الديمقراطي تكتسب قوة هائلة تستعصي
على المقاومة، حتى بين الطبقات الحاكمة. وهكذا
تمثل فكرة العدالة في ارتباطها
بالتوق إلى الحكم الصالح، قوة دافعة للثوار كما هي
سبب لتدهور الروح المعنوية
للحكام.
وتمثلت ضرورة الثورة لدى ماركس في استحالة التخلص
من "الطبقة الحاكمة" بأي
طريقة أخرى من ناحية، وفي أن الطبقة الثائرة تؤهل
نفسها من خلال الثورة للخلاص من
مساوئ إرث الماضي ولتأهيل نفسها لتشييد المجتمع
الجديد.
وتفاوت موقف ماركس من استغلال المؤسسات السياسية
القائمة في الثورة. فكان
معارضا له في حالة النظم التسلطية، وقابلا إن كان
النظام ديمقراطيا بحق. وهو موقف
سليم.
ويتطلب بزوغ الثورة أن يقتنص العمال، وحلفائهم،
السلطة السياسية، الأمر الذي
يتطلب بدوره أن يتوافر لدى العمال الحافز للإمساك
بالسلطة وألا تستطيع الطبقة
الحاكمة قمعهم بالقوة. ويتوافر الحافز نتيجة
الإحباط والتعاسة التي يعاني العمال
تحت الطبقة الحاكمة، والاعتقاد بإمكان إقامة
المجتمع الشيوعي وبأنه أفضل من الواقع
الراهن بكثير.
وتتأتى ظروف مواتية للثورة مثلا عند اقتران هزيمة
عسكرية بمصاعب اقتصادية
شديدة بما يفضي إلى انهيار الإرادة والقدرة على
المقاومة في الطبقات الحاكمة. كما
يمكن أن تلعب الحروب الثورية- التحررية دورا مهما
في قيام الثورة.
إلا أن الثورة تنطوي على تكاليف وآلام، خاصة في
مراحلها الأولى، ومن ثم تقوم
فقط عندما يسود الإحباط ويعم اليأس من الوضع
الراهن. وعليه فإن مساوئ الرأسمالية
تولد القوة الحافزة على الثورة عندما تترافق مع
الفاقة والتعاسة بحيث يصح القول بأن
العمال لن يخسروا إلا أغلالهم.
لكن يمكن أن يؤدي الخطأ في التقدير إلى ثورة
مبتسرة قوامها محاولة الاستيلاء
على السلطة قبل أن تنضج الظروف الموضوعية للثورة.
والخطر الثاني الذي يتهدد الثورة الشيوعية هو
الإجهاض من خلال إصلاحات
فوقية تتوخي نزع فتيل الثورة.
(إلستر،
بالإنجليزية،1986،428-446،
528-531)
4-
العنف، ومقاومة القهر والاستباحة
نقطة البدء عند "فرانتز فانون" هي أن القضاء على
الاستعمار ظاهرة عنيفة
بامتياز ولا يمكن أن تجري خلسة، فالنضال ضد
الاستعمار ينطوي على تغيير أساسي في
الأفراد المنضوين فيه. ولكن فانون ينتهي بأن تقدم
الإنسانية يتطلب الإبداع
والابتكار لنقل البشرية إلى مصاف أوفر إنسانية
فيما بعد الحضارة الغربية المهيمنة.
وليس التحدي أقل من ابتداع مفاهيم جديدة، بل
وإنسان جديد. (فانون،
بالإنجليزية،1961)
وهكذا، رغم أن العنف، عند فانون، مكون لازم للنضال
من أجل عالم إنساني، فليس
العنف هو الذي يقيم مجتمعا مخلصا من الاستغلال.
فالعنف ذاته ينتقص من الإنسانية،
ويعطل عزيمة المقهورين. الأهم هو الفعل النضالي
الذي يقوم به المقهورون لإضفاء
الإنسانية على أوضاع تهدرها (ماكورو، بالإنجليزية،
2005).
ولكن "فانون" يلاحظ أن إعلاء اللاعنف لم ينتشر في
الغرب خلال القرون التي
ارتكب فيها الغرب أبلغ أشكال العنف ضراوة ضد البشر
في العالم الثالث، ولكن فقط
عندما بدأ المقهورون تنظيم مقاومة فعالة، أحيانا
عنيفة، للاستغلال الإمبريالي، مما
يضع دعوة اللاعنف هذه في صف الإبقاء على الأوضاع
الراهنة الجائرة (جاندولفو،
بالإنجليزية، 2004).
ويؤكد "ماركيوز"على ضرورة العنف، حتى المسلح، لا
سيما على صورة حرب العصابات،
لنضال التحرير،
نظرا "لاستحالة تحالف أي برجوازية ليبرالية مع
المستضعفين كقيادة
لنضالهم التحرري. بل الأرجح أن قوى الهيمنة ستلجأ
لأساليب، وأسلحة، متزايدة
الفعالية للقهر، كما ستقوي بنى الاستبداد المحلية
من خلال المعونة المتعاظمة من
المركز الإمبريالي" (ماركيوز بالإنجليزية، 1969،
83-84) وهي نبوءات تحققت في
المنطقة العربية.
وتتيح إسهامات الفيلسوف اللاتيني "إجناسيو
إلاكوريا"24
استبصارات مهمة في طبيعة العنف وجدل القهر-
التحرر. (جاندولفو، بالإنجليزية،
2004)
ونقطة البدء عنده هي "إذا كانت المطالب العادلة
للمقهورين تقابل بالعنف الزائد
من القاهرين، ليس فقط تكرارا، ولكن عبر أجيال
متعاقبة، فماذا يبقي للمقهورين من
خيار إلا اللجوء للعنف، حتى المسلح".
ويفرق "إلاكوريا" بين ثلاثة أصناف من العنف:
البنيوي- المؤسسي،
والقمعي-الإرهابي، والثوري. في الأول تتشكل بنية
النظام المجتمعي ومؤسساته بحيث
تفرض على الغالبية الساحقة من السكان العيش في
فاقة يائسة تهدد حياتهم ذاتها طوال
الوقت. وهذا هو أشد أنواع العنف فظاظة ولا
إنسانية، لأنه متجذر في البنية المجتمعية
ولا يُسمح بالفكاك منه من دون إصلاح جذري للبنى
المجتمعية لا يتأتي هينا.
ويقوم الصنف الثاني على القمع المنهجي والمستمر
لغالبية الناس. في البداية،
تستعمل وسائل تبدو في الظاهر غير عنيفة في مجال
صناعة الإيديولجيا، مثل المؤسسات
الدينية و التعليمية ووسائل الإعلام لضمان وداعة
الناس. ولكن عندما تظهر قلة فعالية
هذا الصنف من العنف"الرفيق"، لا تتورع الأقلية
الممسكة بمقاليد القوة عن اللجوء
لأشكال من القمع أشد عنفا بحجة حماية "الأمن
القومي" كواجهة خداعة لأمن البنى
المجتمعية الجائرة وأجهزتها السياسية القمعية.
هذان الصنفان من العنف: البنيوي- المؤسسي،
والقمعي-الإرهابي، يستفزان، ولا
غرابة، الصنف الثالث، أي العنف الثوري. حين يصبح
العنف الثوري الاستجابة
الحتمية
لصنفي العنف الأشد منه ضراوة، ذلك العنف المتمثل
في الصنفين الأول
والثاني، والذي
يحول
دون أي وسيلة
سلمية وفعالة
للقضاء على القهر
والخلل البنيوي الذي ينتج الفاقة والتعاسة بل
ويهدد الحياة ذاتها.
ومع ذلك فإن "إلاكوريا" كان يرى أن العنف شر- وإن
كانت هناك درجات من الشر-
وأن أصنافا من العنف يمكن أن تعد مشروعة، بل حتى
مطلوبة، كوسائل لمقاومة صنوف أشد
ضراوة من العنف. فالسلم أحد "الطيّبات" المبتغاة
بالتأكيد ولكنه ليس الطيّبة
الأعلى.
ومن ثم، فإن المطالبة بنبذ العنف والتمسك بالحلول
السلمية يتعين أن تركز على
العنف الأولي، أي المنشئ لصنوف العنف الأخرى.
فالمطالبة بالسلم يجب ان تقع على
المطالبة بالقضاء على العنفين البنيوي والقمعي،
وليس على العنف الثوري الذي يفضي
الصنفان الأولين إليه حتما.
هكذا فقط يمكن أن تتفادى المطالبة بنبذ العنف أن
تشكل ستارا لتدويم العنفين
البنيوي والقمعي من خلال الإبقاء على الوضع الراهن
أيا كان جوره.
فتقدم البشرية يتطلب أن يصبح نصيبا متزايدا من
الناس، وصولا إلى الجميع نهاية،
حرا ليحقق ذات كل منهم وصالح مجتمعه. ومن ثم، فإن
تقدم البشرية يعني في الأساس
تحرير البشر، وهي المسؤولية الأساس لبني البشر
جميعا تجاه الإنسانية. وهذه هي
الطيبة الأعلى عند "إلاكوريا"، حتى أعلى من السلم
ونبذ العنف.
وألا يتعين أن يكون هذا موقف البشر كافة؟
5-
لاهوت التحرير
يشكل "لاهوت التحرير" تجربة إنسانية ثرية وظفت
الدين لتحرير المقهورين في
أمريكا اللاتينية. ويمكن استدعاء عناصر من هذا
التزاوج المبدع في ضوء صعود دور
الحركات الإسلامية في مقاومة الاستبداد والاستباحة
في الوطن العربي، مع التحفظ
الواجب مبدئيا على أنه ليس هناك كهانة، ولا كنيسة،
في الإسلام لا سيما في المذهب
السني الأكثر شيوعا في المنطقة العربية.
ولكن حتى في السياق المسيحي، كان مصطلح " لاهوت"
يقتصر على النظريات الفلسفية
المتصلة بطبيعة الله حتى قامت، على أيدي رجال دين
كاثوليك، من السود في الولايات
المتحدة، ثم في أمريكا اللاتينية، ثورة في
المفاهيم وضعت الإنسان قبل النص الديني،
مستهدفة التحرر من الفقر والقهر، وأدت، نهاية،
خاصة مع تجاوز منابعه الأمريكية إلى
أفريقيا وآسيا، إلى إطلاق مصطلح "لاهوت" على كل ما
يتصل بالشأن الديني عامة بحيث
صار أقرب إلى الفقه في الإسلام، ويتعدى المسيحية.
فصار مصطلح "لاهوت التحرير" على
الخصوص يعني
البعد الديني لقضايا حرية
الإنسان والعدالة.
ودعا
لاهوتيو التحرير إلى
مسيرة للتحرر من القهر والظلم تقودها الأديان
للناس عامة.
هنا الحرية لا تقوم على رفض الدين بل على التحالف
البنّاء معه.
وحيث نرى أن تأسيس النهضة في الوطن العربي يتطلب
حفز وإثابة الاجتهاد الفقهي
المستنير الكفيل بإقامة صلح متين بين
المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية،
والتي لا تخرج عن القيم الإنسانية العليا: الحرية
والعدل والمساواة، من جانب،
ومقومات النهضة من اكتساب المعرفة والحرية والحكم
الصالح من جانب ثان. وحيث إن "لا
كهنوت في الإسلام"، فإنه يجمُل أن يتجاوز الاجتهاد
الفقهي في الوطن العربي إسارَ
المؤسسات الدينية القائمة، وشخوصها، إلى أن يصبح
حقا واجبا على كل مسلم عالم وقادر
على التفقه في شؤون دينه. وهو عين ما ذهب إليه
الإمام "محمد عبده" منذ عقود
خلت.
"لكل
مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من
كلام رسوله، بدون توسيط
أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك أن
يحصل من سبله ما يؤهله للفهم كقواعد
اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال العرب
خاصة في زمان البعثة? فليس في
الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من
الوجوه" (محمد عبده، 1999،
50)
ويمكن رصد بدايات في اتجاه التجديد الإسلامي
تستلهم لاهوت التحرير مثل إعلاء
"جمال
البنا" لمقولة "الإنسان قبل الأديان" في حركة
"الإحياء الإسلامي"، وتنبيه د.
حسن حنفي على ضرورة البدء من مقاصد الشريعة تفاديا
لجمود فهم الإسلام.
ويؤكد "حسن حنفي"، مثلا، على فكرة محورية لأفق
التحرر في الوطن العربي في
تقديري: "أن المقاومة لا تكون إلا على مفهوم
الجبهة الوطنية المتحدة و "الجمع بين
الفِرق" وليس "الفرق بين الفرق"، التعددية على
مستوى النظر والواحدية على مستوى
العمل. الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد. وقد
قامت الحركة الوطنية في فيتنام
وكوبا على هذا التصور. وكانت كل مقاومات الاحتلال
جبهات وطنية متحدة، في فرنسا
أثناء الاحتلال النازي، وفي الجزائر أثناء حرب
التحرير ? ففي العمل يتوحد النظر"
(حسن
حنفي، 2007، 36).
رابعا: في دواعي التداول الأول للسلطة في البلدان
العربية، وبدائل المستقبل
العربي
تحقق في بعض البلدان العربية تداول على رأس السلطة
دون تغيير في هيكل القوة أو
أسلوب ممارستها، وأحيانا على صورة تحويل جمهوريات
إلى عائلات ملكية عن طريق توريث
قمة السلطة للأبناء. ولا يرقى مثل هذا التداول
الشكلي لمفهومنا لتداول السلطة هنا،
الذي يشترط
إعادة توزيع القوة لمصلحة عامة الناس وإقامة حكم
مؤسسي
صالح.
فقد تم في المنطقة العربية تداول السلطة، أحيانا
بدون تغيير يذكر في طبيعة
نظام الحكم، بأساليب تتراوح بين انقلاب القصر
(قطر، والبحرين) أو وراثة القصر
(سورية).
وفي حالة أصبحت مثالا،استخدم الانقلاب العسكري،
الذي كان يظن كثيرون أن
دوره ربما قد انتهى إلى الأبد، لتداول السلطة قسرا
(موريتانيا، 2005). ولكن أهدى
انقلاب موريتانيا مفاجأة سارة للأمة العربية حين
أوفى قٌادته بوعدهم بإقامة
انتخابات نيابية ورئاسية في مدى عامين. وأقيمت
الانتخابات التي شهد لها الجميع
بالنزاهة في موعدها وانتخب مجلس تشريعي، ثم رئيس
مدني، في مارس 2007. وعليه، صارت
موريتانيا علما على تداول السلطة في الوطن العربي
صوب نسق للحكم الصالح من خلال
انقلاب عسكري خير.
وفي حالة أخرى بالغة الأهمية تم تداول السلطة، من
حيث المبدأ على الأقل، في
فلسطين من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وإن فتحت
أبواب الجحيم على الحكومة الشرعية
المنتخبة من قوى البغي في الداخل والخارج على حد
سواء. مما
يحيي الأمل في إمكان
تداول السلطة سلميا وديمقراطيا في المحيط العربي،
حين تتوافر شروطه.
ويدلل المثلان على ضعف مقولة ضرورة أن يأتي المثل
على الإصلاح من بلاد المركز
التقليدية مثل مصر والسعودية. فالحالتان اليتيمتان
للتداول السلمي والفعال للسلطة
في التاريخ المعاصر في المنطقة العربية شرفّتا
اثنان من البلدان العربية الصغيرة
نسبيا.
وقد لا يثور خلاف على أن أنظمة الحكم القائمة في
البلدان العربية قد فشلت،
ذريعا، في الوفاء بطموحات الشعب العربي في النماء
والأمن والتحرر، وقد قدمنا فيما
سبق تدليلا على تخريب أنظمة الحكم القائمة في
البلدان العربية للحرية/التنمية
الإنسانية، كما نعرّفها، خاصة في حالة البلدين
العربيين الأكبر، في منظوري الوفرة
المالية والطاقات البشرية. وإن قامت فروق بين بلد
عربي وآخر في هذا الصدد فهي فروق
في الدرجة فقط وليس في الصنف.
أ- الفشل في مضمار التنمية الإنسانية
فصام
التنمية في الوطن العربي؛ بين نضج الفكر وبؤس
الممارسة
شهد العام 2007 مفارقة صارخة، تصل حد الفصام
المرضي، بين نضج الفكر التنموي
المتاح من ناحية، وبؤس الممارسة، من ناحية أخرى،
يفضي إلى شقاء الشعب العربي، لا
براء منه إلا عبر إصلاح سياسي واسع وعميق، ينعكس
في استراتيجية لتصحيح المسار
التنموي في البلدان العربية.
فهناك نضج في الفكر التنموي، يصحح أخطاء جسيمة
سابقة، على صعيد العالم.
وهناك مشروع فكري حتى أرقي من إبداع عربي، فأين
الواقع العربي من هذا النضج
الفكري؟
هنا يصح تذكر مقولة الإمام على: "ما أكثر العبر
وما أقل الاعتبار".
لقد فشلت السلطة الحاكمة في التنمية بأي معيار
خليق بالقرن الحادي والعشرين
يفي بإلحاق العرب بالحالات الأرقى من تطور
البشرية، بالأخص على معياري المعرفة
والحرية.
ويتبدى الفشل التنموي أساسا في ضعف اكتساب القدرات
البشرية، حتى القدرتان
الأساس في العيش حياة مديدة وصحية، بالمعنى
الإيجابي الشامل25،
واكتساب
المعرفة طوال الحياة؛ وفي قلة توظيف القدرات
البشرية العربية في مجالات النشاط
البشري، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وهذان
هما محورا التنمية الإنسانية كعملية
تغيير مجتمعي، ولدرجات أشد في حالة النساء. ولا
غرابة أن يترتب على وهن عملية
التنمية الإنسانية تردي مستوى النمو الاقتصادي،
ناهيك عن الرفاه الإنساني، على مصاف
الكرامة الإنسانية، في البلدان العربية (تقريرا
"التنمية الإنسانية العربية"، 2002،
2003).
وفي منظور توظيف القدرات البشرية فشلت أنظمة الحكم
الراهنة في تفعيل مساهمة
البشر في مختلف مجالات النشاط البشري. فمعدلات
البطالة في المنطقة العربية تربو على
ثلاثة أمثال المعدل العالمي، وتتصاعد، وتزيد عن
المتوسط كثيرا بين الشباب والنساء،
خاصة المتعلمين منهم. ويعني حل مشكل البطالة-
الفقر المستفحل في البلدان العربية
خلق عشرات الملايين من فرص العمل
الجيد
خلال سنوات قليلة. والعمل الجيد يوظف
قدرات الفرد ومهاراته، في ظل ظروف إنسانية، ويحقق
كسبا يضمن الوفاء بالاحتياجات على
مستوى إنساني كريم. والبلدان العربية تبدو جد
بعيدة عن بداية جادة على هذا
الدرب.
وبسبب تهميش المشاركة السياسية وخنق المجال العام،
فقد فشلت أنظمة الحكم
الراهنة أيضا في توظيف القدرات البشرية للعرب في
مضماري الاجتماع والسياسة.
وليس غريبا والأمر كذلك، بالإضافة إلى استشراء
الفساد أن فشلت أنظمة الحكم
الراهنة في ترقية إنتاجية البشر في البلدان
العربية، فبقيت مساهمة العرب في إنتاج
مقومات الرفاه الإنساني متدنية، والمنطقة على
العموم متخلفة حتى بمعايير التنمية
الاقتصادية الضيقة.
فمجمل
الناتج المحلى الإجمالي للبلدان العربية لا يتعدى
مثيله في أسبانيا أو هولندا مثلا، وبفرض استمرار
معدلات النمو في الناتج المحلى
الإجمالي للفرد التي سادت الربع الأخير من القرن
العشرين، يقدر أن المواطن العربي
سينتظر 140 عاما حتى يضاعف دخله.
وفي المنظور الأوسع لإمكانيات التقدم الاقتصادي،
فشلت الأنظمة الراهنة في
توظيف العائدات المالية الضخمة الناجمة عن استنضاب
النفط في البلدان العربية، على
الرغم من الطفرة الضخمة في العائدات بعد تصحيح
الأسعار في منتصف سبعينيات القرن
العشرين.
وفي مطالع القرن الحادي والعشرين تغمر البلدان
العربية النفطية طفرة مالية
جديدة بسبب ارتفاع أسعار النفط نتيجة لإساءة تصرف
الإدارة الأمريكية الحالية في
المنطقة والعالم، فقد بدأت بهدف التحكم في أسواق
النفط وانتهت بجنوح سعر النفط
للارتفاع باطراد. وسيكون مدى نجاح أنظمة الحكم
العربية في توظيف هذه الطفرة المالية
الأحدث في رفع وتيرة الأداء الاقتصادي في عموم
المنطقة، معيارا مهما لمدى صلاح هذه
الأنظمة من زاوية قدرتها على خدمة غرض الإنماء
الاقتصادي، ولكن الخبرة حتى الآن،
للأسف، غير مشجعة.
فعلى الرغم من تعافي معدل النمو الاقتصادي في
المنطقة العربية منذ مطلع القرن
الحادي والعشرين، استجابة لارتفاع سعر النفط في
السوق العالمي، إلا أنه لم يتجاوز
مجرد التضخم المالي لدى بعض البلدان العربية فلم
يقترن بتعاظم البنية الإنتاجية أو
برقي الطاقات التقانية المحلية، ولم يخلق فرص عمل
على نطاق يكفي لمكافحة فعالة
لمشكل البطالة- الفقر المزمن، أو رقي في الرفاه
الإنساني، ما يذكرنا بالتفرقة
البليغة بين الشحم والورم في الشعر العربي.
كما قد استفحل عديد من الظواهر الكارثية الأخرى.
فتفشي في بعض البلدان العربية حالة مرضية من
اللهاث وراء ما سمي زورا
وبهتانا بالاستثمار الأجنبي،
الذي يأخذ في الأغلب شكل بيع المشروعات العامة
التي قامت الدولة على بنائها في الماضي، ويصل في
أحيان حد بيع أرض الوطن ذاتها
وبأثمان بخس.
ودار كل هذا في سياق من
استشراء الفساد
بسبب تزاوج الثروة والسلطة في
البلدان العربية وغياب الإصلاح المؤسسي ومعايير
الحكم الصالح الكفيلة بصيانة المال
والصالح العام.
وجدير بالتذكر هنا الحجم الهائل للفساد الذي يطال
عشرات المليارات في الدول
العربية الغنية مثل السعودية والجزائر، ويتسبب في
قتل الآلاف من البشر في حوادث
الفساد والإهمال المحمي رسميا في مصر.
وساهم في استشراء الفساد توافر موارد مالية ضخمة
للسلطات الحاكمة في البلدان
العربية، نفطية وغير نفطية، لا تخضع لمراقبة أو
محاسبة صارمة كما تقضي أنظمة الحكم
الصالح.
واطرد هروب صنوف رأس المال من البلدان العربية إلى
الخارج، فتعاظمت الأموال
والكفاءات العربية الهاربة إلى بلدان الغرب، بينما
تعاني البلدان العربية عجزا
مزريا في مجالي الاستثمار المحلي وفي البحث
والتطوير التقاني كليهما.
في النهاية يبقى
وهن التعاون العربي
من أشد أدواء التنمية استفحالا في
الوطن العربي، ومن أهم الأمثلة هي غياب سوق قومي
للعمل، كفء وفعال يمكن أن يحقق
مصلحة جميع المنتمين إليه، بلدانا وأفرادا. وسيبقى
نجاح الاتحاد الأوربي في الوصول
لمرحلة التكامل، على قلة مقوماته بالمقارنة
بالمنطقة العربية، وقد بلغ عدد أعضائه
أخيرا 27 بلدا يضمون قرابة النصف مليار نسمة،
تذكرة مؤلمة بتداعي الترتيبات
المؤسسية للتعاون العربي القائمة.
هذا على مستوى السقف الأدني لمفهوم التنمية، حيث
تجلب السياسات الراهنة
ألوانا من الشقاء لغالبية الشعب العربي.
أما إذا نتقلنا إلى السقف الأعلى،
التنمية باعتبارها الحرية،
ففشل
الدول العربية في التنمية أجلى من أن يذكر، ألخصه
في تسمية المسار الراهن بمسار
هوان الأمة، شاملا هوان الوطن والمواطنين جميعا.
ب- الفشل في مضمار السياسة
يطرد حبس الحرية في البلدان العربية من قبل أنظمة
حكم الفساد والاستبداد،
وتتواصل استباحة الأمة من قوى الهيمنة العالمية
المتحالفة معها. كما أضحى إدعاء
الإصلاح مجرد ستار تجميلي يسدل على تفاقم القهر
والاستباحة.
يكفي أن زاد احتلال العراق في مطلع القرن الحادي
والعشرين، على الاحتلال
العنصري التوسعي الغاصب لفلسطين، وأن أعادت أنظمة
حكم في دول عربية القوات العسكرية
الأجنبية لتدنس الأرض العربية بعد عقود من
الاستقلال الذي ناضلت من أجله الشعوب
العربية.
كثيرا ما قيل في بلدان عربية، خاصة على ألسنة
"فقهاء السلاطين"، أن الحرية
يتعين أن تنتظر توافر الخبز، بمعنى إشباع الحاجات
الأساسية للبشر، ولكن
معادلة
"الخبز
قبل الحرية" انتهت إلى افتقاد عامة العرب إلى
"الخبز" والحرية
كليهما.
على الصعيد السياسي، تركزت القوة في أنظمة الحكم
العربية في أيدي قلة تمسك
بمقاليد القوة بوجهيها المال والسلطة. بينما أقصي
السواد الأعظم من الناس عن اتخاذ
القرار. فانحصر اتخاذ القرار المجتمعي في خدمة
مصالح القلة المتنفذة بينما أُخضع
السواد الأعظم من الناس للإفقار والتهميش. ويستدعي
ذلك الشكل من توزيع القوة واتخاذ
القرار، وهي سمات جوهرية لنسق الحكم الراهن،
استشراء المحسوبية والفساد حفاظا على
مصالح القوة المتنفذة. ويرتبط به إجرائيا تسخير
إعلام الدعاية والرأي الواحد وتعليم
التلقين المفقد للقدرات النقدية والملكات
الإبداعية، والتضييق على الحريات وخنق
المجال العام. وتتغول كذلك السلطة التنفيذية،
وبخاصة أجهزة أمن النظام، على مؤسسات
الدولة التي غالبا ما تصبح شكلا تجميليا خلوا من
أي مضمون فعلي. وينتج عن هذه
التوليفة وأد المعارضة في مهدها، أي في العقول،
وعقاب الفعل المعارض مهما صغر.
نتيجة لكل ذلك، يستشري تزاوج الاستبداد والفساد في
الحياة العامة، ويسود بين
الناس شعور عام باليأس من صلاح الأحوال.
ويغر عمد مثل نظم الحكم هذه أن يلجأ الناس، ولا
غرابة، للعزوف عن اجتراح
السياسة، خاصة في القنوات الرسمية لأنظمة الحكم
الراهنة، تقية وحرصا على إشباع
حاجاتهم الأساسية التي يطرد تعذر الوفاء بها على
مستوى لائق كما أسلفنا. ولكن يغيب
عن هؤلاء عبرة التاريخ والتي تتلخص في أن مثل
أنظمة الحكم هذه يتأصل فيها عدم
الاستقرار26.
وهي لا
يمكن أن تدوم خاصة في مواجهة سخط الناس المتزايد
والذي وإن كٌبت طويلا لا يمكن أن
يقمع إلى الأبد. بل إن كبته يؤجج نيران الاحتجاج
الشعبي، ولو بعد حين.
وعلى الصعيد الدولي، فشلت السلطة في البلدان
العربية كذلك في توحيد الإرادة
العربية ومن ثم فشلت في حماية الحقوق العربية في
المعترك الدولي، وفي ضمان وجود
كريم للعرب في عالم الألفية الثالثة من موقع منعة
واقتدار، في نظام عالمي جائر لا
يعتد بالضعفاء، والفرقة في الحالة العربية على وجه
التحديد صنو الضعف والهامشية
نظرا لموقع " الشرق الأوسط" الاستراتيجي في
المخططات الإمبريالية الأمريكية.
نتيجة لكل هذا، فشلت السلطة في البلدان العربية،
على الصعيدين القطري والقومي،
في تحرير الأرض العربية، بل زاد في عهدها على
احتلال فلسطين احتلال العراق، ويا
للعار بمساعدة أنظمة حكم عربية أباحت أرضها
وأجواءها منصات لانطلاق قوات الغزو
والعدوان، وأوشك لبنان أن يقع فريسة لنفوذ أجنبي
متعاظم، وأعادت حكومات عربية القوى
العسكرية الأجنبية إلى أن تدنس الأرض العربية بعد
عقود من الاستقلال.
وفي مواجهة هذه الأحداث الجسام، لم يحر النظام
الإقليمي العربي، أو دوله،
جوابا شافيا ولم تستطع الأنظمة العربية عقد قمة
للدفاع عن لبنان في مواجهة العدوان
الصهيوني في صيف 2006 كما تداعت لحماية الكويت في
صيف 1990، حتى بدا أن قرار عقد
القمة العربية يتخذ فعلا في واشنطون العاصمة وتل
أبيب وليس في عواصم العروبة
المدعاة.
ومع ذلك تخترق ستر الهوان القاتمة ومضات الضوء
الباهرة التي يطلقها صمود
المقاومة
الباسلة في لبنان وفلسطين والعراق. ومن بشاراتها
أن ستفرز الأمة
زعاماتها الصُحاح من أتون المقاومة.
فقط مثل هذه الزعامات يمكن أن تنجو
بالأمة من قاع الهوان، الذي تكرسه القيادات
الرسمية الراهنة، إلى الإبحار في محيط
النهضة الفسيح.
في النهاية، نتيجة لقهر الناس وإقصائهم من العملية
السياسية، لم تعد السلطة في
البلدان العربية تستمد الشرعية، كما ينبغي، من دعم
مواطنيها، حتى ولو لمجرد
الاحتجاج به في مواجهة القوى الإقليمية والدولية
العاتية التي تمثل أخطارا محيقة
بالحاضر وبالمستقبل العربي كليهما.
فاعتمدت سلطات عربية تاريخيا على الدعم من الخارج.
ماليا على صورة قروض
ومساعدات، وسياسيا، بل وعسكريا، في مواجهة أخطار
خارجية تحيق بالوطن وحتى داخلية
تحيق بنظام الحكم كما يتصورون. وكان أن انتقص هذا
الاعتماد من السيادة الوطنية
نتيجة لرهن القرار الوطني برغبات، قوى خارجية،
وأحيانا بمخططاتها، التي لا تخدم إلا
مصالحها. ولم يقتصر ذلك التهاون على المجال
الاقتصادي بل امتد إلى المجالين الأمني،
في الداخل والخارج كليهما، والعقائدي.
والعبرة لنا في بحث بدائل مستقبل الأمة العربية أن
النضال من أجل الحرية
بمفهومها الشامل المتبنى هنا هو فعلا سبيل النهضة
في هذه المنطقة من العالم من خلال
مقاومة الاستبداد والاستباحة سويا.
على وجه التحديد،
فيما يتصل بمستوى
التحرر الوطني من مفهوم الحرية، فإن سبيل نواله هو
مقاومة جميع أشكال استباحة الأمة
خاصة من الصهيونية وأنصارها وأذنابها.
ولا تقتصر جهود إعادة تشكيل المنطقة من خارجها على
القهر عسكريا. فنشهد الآن
فعلا محموما، من قبل الإدارة الأمريكية على وجه
الخصوص، لتحوير النسق التعليمي
ومنظومة الإعلام في البلدان العربية، بحجة أنها
تحض على ما تسميه "الإرهاب"، لتصب
في مشروعها للمنطقة بتخليصها من أي مضمون وطني أو
تحرري. حتى وصل الأمر بالرئيس
الأمريكي حد التفكير في ضرب قناة "الجزيرة"
باعتبارها وسيلة إعلام مارقة.
وامتد ذلك الجهد إلى العمل على تغيير مناهج
التعليم، في العراق وغيرها من
البلدان العربية في منظور "الأمن والاستقرار" كما
تتصوره الإدارة الأمريكية
الحالية. وامتد ذلك الجهد بخاصة إلى تلك المواد
المتعلقة بالتاريخ، والتربية
الوطنية والتربية الإسلامية، ما يدل على أنه مشروع
يستهدف تغيير الهوية، وتبديل
نظرة المرء لذاته وقراءته لتاريخه، في محاولة
لتدجين الشخصية العربية وتطويعها، وفق
مفاهيم مفروضة من خارج المجتمع العربي. وقد شمل
"التطوير" القادم من الخارج تغيير
لغة التدريس في جامعات وطنية من العربية إلى اللغة
الإنجليزية، وانكماش اللغة
العربية وتدريسها، حتى أن قسم اللغة العربية في
جامعة عربية عتيدة ضُم إلى وحدة
التراث والتاريخ، وأصبح جميع التعليم العالي في
ذلك البلد تقريبا باللغة
الإنجليزية.
والمغزي الجوهري لواقع التدخل "الإصلاحي" من
الخارج هو أن
استعصاء أنظمة
الحكم في المنطقة على الإصلاح الجاد من الداخل، مع
قابلية نظم الحكم للاستجابة
للضغط من القوى المهيمنة دوليا، أضحى يغري قوى
مهيمنة في النظام العالمي بمطالبة
السلطات العربية بالإصلاح،
تحض عليها قابلية نظم الحكم العربية للاستجابة
لهذه
الضغوط مع التصميم على الإبقاء على قبضتها على
جوهر الحكم التسلطي (احتكار القوة
والاستبداد في ممارستها)، على ما يشوب هذه
المطالبة من مغارم جلية حيث لا تتوخى هذه
القوى الخارجية إلا مصالحها التي قد لا تخدم أغراض
الشعب العربي، خاصة في منظور
التحرر الوطني.
وفي النهاية، فإن
السلطة القائمة، رغم فشلها الجلي والأكيد، لا تعد
بإصلاح
جوهري من داخلها بحيث يبرز أمل في تجاوز الفشل
الذي تأكد، إلى حال أفضل في
المستقبل. بل هي تفرز باستمرار مقدمات لمستقبل حتى
أسوأ من الكوارث الحالة الراهنة،
من مثيل استباحة تعديل الدساتير للتخديم على
استمرار دعائم الحكم التسلطي الفاسد
الراهن، وتوريث رأس السلطة لسلالة الحكام الحاليين
في أنظمة حكم دفعت الشعوب أثمانا
باهظة لتحولها إلى النظام الجمهوري.
وبهذا تكتمل معضلة أنظمة حكم الاستبداد والفساد
الراهنة في البلدان العربية،
أو بالأحرى معضل التحول إلى النهضة في الوطن
العربي، وتتبدى من ثم الحاجة ماسة
إلى تداول أول للسلطة
بضغط يأتي في الأساس من خارج أنظمة الحكم القائمة،
يصعده باطراد ائتلاف واسع من قوى النهضة في
البلدان العربية27.
ج- بدائل المستقبل العربي
إن استمرار الأوضاع الراهنة، من عجز تنموي يزاوجه
قهر في الداخل واستباحة
للأمة من الخارج، سيفضي لا محالة إلى تعميق
التناقض المجتمعي في البلدان العربية.
وفي غياب آليات
سلمية،
ولكن أيضا
فعالة،
لمكافحة المظالم التي يتمخض
عنها الواقع العربي الراهن، تتزايد فرص الاقتتال
الداخلي في البلدان العربية. وهو
أسوأ مصير يمكن أن تتمخض عنه الحقبة الراهنة في
التاريخ العربي المعاصر. إنه لمصير
تعس يتعين على جميع العرب المخلصين أن يسعوا
جاهدين لتلافيه.
إذ نتيجة لاختلال توزيع القوة، بوجهيها، السلطة
والثروة، يقاسي جل العرب مظالم
جمة على صورة فقر يستشري (بالمعني النقيض للتنمية
الإنسانية الذي يشتمل على وأد
للحرية ، سواء نتيجة للقهر في الداخل أو التدخل
القسري من الخارج، وأقسى صوره
الاحتلال الأجنبي).
والمظالم الناجمة عن توزيع القوة المعوج هذا،
تتدفق بلا هوادة مغذية بحيرة
هائلة من المظالم التي تتحول إلى غضب مكبوت يزاوجه
يأس كاسر نظرا للتضييق على
الحرية وغياب الحكم الصالح. هذه البحيرة يرتفع
منسوبها باطراد ولكن خضم مائها يواجه
سد تقييد الحريات، خاصة الحريات المفتاح للرأي
والتعبير والتنظيم، تحت الحكم
الاستبدادي، ما لا يتيح قنوات
سلمية
ولكن أيضا
فعالة
لدفع المظالم.
وينتهي الأمر أن يقترن الغضب المكبوت المتعاظم
بيأس قاتل يفقد معه المظلومون
الغاضبون أي أمل في مستقبل أفضل، ما قد يلجئهم
لأشكال من الاحتجاج العنيف. فخليط
الغضب واليأس مزيج متفجر يبعد نظر من يلجأ
للاحتجاج العنيف عن أن هدم أعمدة معبد
الوطن بالعنف سيقوضه على رأسه كما على رؤوس
"الأعداء". إلا أن غياب بديل أفضل
للمظلوم اليائس من حل سلمي فعال يرفع لديه العتب-
الحرج عن فعل الاحتجاج العنيف، إن
لم يزينه يأسا.
ولا يفلح في مكافحة مثل هذا الصنف من الاحتجاج
العنيف وصم مرتكبيه بالإرهاب
وتشديد القبضة الأمنية أكثر، وهو الحل الذي تلجأ
له نظم الحكم القهرية دوما نظرا
لأن الحل الجذري يعني الانتقاص من مزايا القلة
المهيمنة نتيجة لإعادة توزيع القوة
بشطريها: السلطة والمال، لمصلحة المستضعفين، خصما
على حساب أصحاب النفوذ. وتَعمى
الأنظار في سياق عقلية السلطة الموصوفة عن أن نهج
التشدد الأمني، وحده، يبقى عقيما
في النهاية وإن حقق نجاحا وقتيا في أحيان.
ولا يلبث السد، الذي يظنه البعض في السلطة واقيا
من غضب الناس، أن تنخر فيه
ثغرات أو ينهار تحت وطأة البحيرة الزاخرة من
المظالم- اليأس فتغرق أرض الصراع
المجتمعي في دوامة من العنف والعنف المضاد تأتي
على الأخضر واليابس.
بناء على كل ما سبق، فإن المستقبل، حال بقاء أنظمة
حكم الهوان الراهنة، لا يشي
إلا بمزيد من الكوارث على ساحات
التنمية والعروبة والإنسانية
في البلدان
العربية. وقد وسم تقرير "التنمية الإنسانية
العربية" الثالث هذه المسيرة بديل
"الخراب
الآتي"،
وهي أس مسار الانحطاط/الهوان في مصطلحنا.
هذه المسيرة، وهذا المسار، آت لا محالة ما اطرد
توزيع القوة والثروة الراهن
بين الفئات المجتمعية المختلفة في البلدان العربية
الذي يركّز القوة السياسية
والثروة- وهما وجهان لعملة واحدة- في أيدي قلة
محدودة. هذا على حين تسقط غالبية
الشعب العربي في وهدة التهميش، بل الاستبعاد،
والإفقار نتيجة لحصولها على نصيب
متناقص باطراد من وسائل القوة في البلدان العربية.
ونرى أن
الأمة العربية تعيش حالة ترقب ومخاض بين نظامي حكم
تاريخيين، الأول
يعاني أزمة خانقة، ويرفض أن يموت إلا قسرا، بينما
الثاني لم يولد بعد.
ويسود
نتيجة لذلك
ترقب رهيب بين العرب ينفتح على بدائل مستقبلية
شتى، جلها كارثي وقليل
منها واعد.
ما يشي بصعوبة استنقاذ مسيرة النهضة من براثن مسار
الهوان الراهن،
من ناحية؛ ويفرض، في المنظور الملتزم بقضية
النهضة، ضرورة الفعل المثابر من أجل هذه
الغاية النبيلة، من ناحية أخرى.
ولعل في هذا الترقب الحذر يكمن تفسير
عزوف الجماهير العربية عن المشاركة في
الأطر السياسية الرسمية في النظام الذي كاد يقُضي،
وإن تصاعدت وتائر الاحتجاج
الشعبي خارجها.
ويحفل التاريخ المعاصر بشواهد عديدة على تداول
السلطة في بلدان كان الحكم
القائم فيها، على ما يبدو، وطيد الأركان وفي أحيان
مسنودا بشدة من قوى مهيمنة في
النظام العالمي. انظر، مع اختلاف شديد في المقدمات
والنتائج، حالات إيران
واندونيسيا وبنما والأرجنتين وتشيلي، ومتتالية
التداعي، متنوعة الأشكال، في أوربا
الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ويزيد من حرج حقبة القلق والترقب هذه أن تتعرض
الأمة لتصاعد الأطماع الخارجية
في الإمساك بثرواتها وبمقدراتها. وبخاصة بعد أن
انقلبت القوة الأكبر المهيمنة حاليا
على الأنظمة التسلطية التي طالما أيدتها مادامت
بقيت خادمة لمصالحها في المنطقة
ومتلقية، بالمقابل، وعودا بالحماية والأمان، ولو
في مواجهة شعوبها. انقلب الحال
الآن حتى باتت الولايات المتحدة تهدد بالتدخل
سافرا لإدخال إصلاحات على البنى
المجتمعية العربية بما يحقق الديمقراطية
والازدهار، كما تفهمها وتروج لها، في ظل
المشروع الأمريكي للمنطقة وللعالم بالطبع!
ويقود استقراء عبر التاريخ الحديث والمعاصر إلى أن
استمرار الأوضاع الراهنة
يفضي حتما إلى تداول قادم للسلطة في البلدان
العربية. إلا أنه قد يذهب مذهب العنف
المسلح، في الداخل أو من الخارج، بما ينطوي عليه
من خسارة إنسانية ولا تحمد
بالضرورة عقباه، خاصة فيما يتصل بطبيعة التنظيم
السياسي الذي قد يتولد عنه، وعلى من
لا يصدق أن يتمعن في حالة العراق، بعد ثلاثة أعوام
من الاحتلال الأمريكي.
ومن علامات استحكام الأزمة أن تلجأ الأنظمة
الراهنة، في الأغلب تحت ضغط من
الخارج، إلى الإعلان عن محاولات إصلاح. ولا ريب في
أن الإصلاح الجاد في العمق
مطلوب، والاحتفاء به واجب. لكن ما نشاهد من تجارب
إصلاح رسمية المنشأ يغلب عليها أن
تكون تجميلية، على السطح وفي الأطراف، و"بالجرعات،
والسرعة المناسبة"، وفق تقدير
الحكم القائم بالطبع. ولكنها لا تمس أسس النظام
التسلطي في العمق، أي فيما يتصل
بتوزيع القوة وممارستها. وما تلبث طبقة الأصباغ
السطحية أن تتكشف عن الأصل القهري
ذاته، ويخشى معها أن تستعر جذوة الصراع المجتمعي.
إذ أن هذه توليفة ظروف تشكل بيئة
خصب للتطرف وأشكال الاحتجاج بالعنف، إن لم يكن
بالإرهاب العشوائي المدمر.
والسبيل الذي نرى لتلافي المصير التعس، بديل
"الخراب الآتي" حسب تقرير
"التنمية
الإنسانية العربية" الثالث، هو عملية تاريخية
يتبناها عامة الناس، بقيادة
منظمات المجتمع المدني،
بتصعيد
الضغط الشعبي على السلطة الراهنة، وعلى
مختلف الجبهات باطراد، وبالسبل السلمية كافة، بهدف
انتزاع الحريات والحقوق،
تمهيدا لتحقيق
التداول السلمي للسلطة لأول مرة
في الدول العربية.
والنتيجة المتوخاة هي
إعادة توزيع القوة في المجتمعات العربية بما
يوصلها
لمستحقيها من السواد الأعظم من الناس في الوطن
العربي، والعمل على إقامة نسق حكم
صالح يشكل أساسا متينا لنهضة إنسانية في الوطن
العربي.
وقد وسم تقرير "التنمية الإنسانية العربية" الثالث
هذا البديل بمسيرة
"الازدهار
الإنساني"
وهو يحمل مسار النهوض في مصطلحنا.
بالمقابلة مع اطراد الاتجاهات الراهنة، يمثل الحكم
الصالح، حلا نهائيا لتجاوز
البدائل الكارثية التي ينطوي عليها بديل "الخراب
الآتي" لأنه يتيح قنوات سلمية ولكن
فعالة لدفع المظالم بكفاءة.
وفي مرحلة انتقالية تجاه الحكم الصالح
يمثل بديل التفاوض السلمي لإعادة
توزيع القوة في البلدان العربية السبيل الأسلم
لتجاوز البدائل الكارثية
ذاتها.
في بديل الازدهار الإنساني، بالتقابل مع العنف
المدمر وغير المحسوب في مسار
الهوان، يكون
سقف
التعبير الاحتجاجي في مسار النهوض هو "العصيان
المدني".
وهو هين لين بالمقارنة بشتى ألوان العنف التي
تتلظى في جحيم العنف والذي يمكن أن
يلتهم المجتمعات العربية في ظل بديل "الخراب الآتي"
وتتمثل مشاهد هذا البديل الخير في عملية
تحول تاريخي، تقوم على التفاوض
السلمي بين جميع القوى الحية في المجتمعات العربية،
ننظم محورها السياسي في
الجزء الأخير من هذا الفصل في
متتالية من مشاهد سبعة للتحول نحو الحرية والحكم
الصالح
في البلدان العربية، يفضي تحقق كل منها بنجاح إلى
قيام المشهد التالي
له.
على وجه الخصوص، يتطلب هذا التحول التاريخي
تمهيدا أوليا يستهدف إفساح
المجال العام في البلدان العربية رحباً. ولكنه
يتطلب أيضا نضالا مجتمعيا ممتدا
ومتصل الحلقات، يشكل فيه نجاح كل حلقة الأساس
الموضوعي لنشوء الحلقة التالية.
لذا يتعين أن يكون واضحا أنه بديل يطلب عملا
متواصلا، بل نضالا مجتمعيا طويل
وشاق.
ولئن بدت المشاهد السبعة للإصلاح السياسي في مسار
النهضة والمقدمة فيما يلي،
بعيدة عن التصور، أو حتى عن التخيل، في إسار
الواقع العربي الراهن فليس هذا إلا
تعبيرا عن ضراوة الواقع العربي الراهن وتداعياته
الوخيمة المتوقعة.
فلم تعد مشاهد بديل "الازدهار الإنساني" هذه
بغريبة عن التجربة البشرية
المعاصرة
فيما أضحي يسمى ثورات "المخمل" أو "الورود" حيث لا
يلقي الأضداد فيها
على بعضهم البعض من قذائف إلا أفكار في نعومة
المخمل ورقة الورود تعد بمستقبل مزدهر
للناس عامة (انظر مثلا، في حالة بولندا: كينيدي
وبورتر، بالإنجليزية، 2000). ولعل
لبنان، استمرارا لريادته في مضمار الحرية، قد حمل
راية التحركات الشعبية الضخمة
وسيلة للتغيير السياسي في المنطقة العربية.
وعلى من يرى في هذه المشاهد قسوة أو صعوبة أن
يتدبر البديل الذي تسعى لتفاديه.
ونقصد بالطبع بديل "الخراب الآتي" الذي أشرنا إليه
بشكل عابر فيما سبق، حامل مسار
الهوان القائم.
خامسا: المشاهد السبعة لإنفاذ التداول الأول
للسلطة في البلدان
العربية، وصولا للحرية والحكم الصالح، في مسار
النهضة
أ- المعالم الرئيسية لمرحلة انتقالية تمهد للتحول
نحو نسق الحكم
المرغوب
-
تصعيد الضغط على نسق الحكم الراهن حتى ينهار
وينسحب عمده من ساحة السياسة.
-
قيام سلطة انتقالية نزيهة لتسيير أمور البلاد
في مرحلة انتقالية- بما في ذلك
محاكمة، نزيهة وعادلة، لعمد النظام الحالي
المتورطة في التنكيل بالشعب والفساد؛
والإشراف على انتخاب قيادات الحكم الجديد (على
المستويين المركزي والمحلي)
-
التفاوض السلمي بهدف إعادة توزيع القوة في
المجتمع لمصلحة الشعب، وإقامة نسق
حكم مؤسسي صالح. يأتي على رأسه تشكيل جمعية
تأسيسية لوضع دستور جديد يقنن المعمار
القانوني لنسق الحرية والحكم الصالح المطلوب،
يخضع للنقاش العام ثم الاستفتاء
الشعبي، ويمهد لاستكمال البنية القانونية
والمؤسسية لنسق الحكم الصالح.
وحيث يسود الآن نمط التنظيم القطري المنفرد،
والمتعارض المصالح،
نفترض بدء
مسيرة الإصلاح في مجتمعات عربية قطرية مع تبين
ملامح لتبلور أشكال من التعاون
والتكامل القومي أفضل من الوضع الراهن بنضج مسيرة
الإصلاح في بعض الأقطار العربية
المحورية على الأقل.
ب-
معوقات انطلاق مسيرة الإصلاح
يقوم حجر عثرة أمام انطلاق مسيرة الإصلاح في الوطن
العربي وجهي نقص بارزين:
الأول قلة تبلور قوى المعارضة الوطنية ووهنها وضعف
التضافر فيما بينها، والذي يعود
في قدر غير قليل منه إلى جهود أنظمة الحكم
الاستبدادي القائمة في إضعاف المعارضة
وتفتيتها وإذكاء التناحر فيما بينها، من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إلى غلبة التيارات
الإسلامية على ساحة المعارضة الحالية ما يثير
مخاوف، بعضها مبرر، لدى التيارات
الليبرالية واليسارية وبعض شرائح المجتمع، خاصة
الجماعات والثقافات الفرعية
والنساء.
ويتصل وجه النقص الثاني بحالة التقاعس أو العزوف
عن السياسة التي تسم الجماهير
العربية نتيجة لعقود من الاستبداد والقهر الغاشمين
ولحتمية انشغال عامة الناس
بالوفاء بحاجاتهم الأساسية- التي يجعل منها الفشل
التنموي للأنظمة العربية هما
يوميا مقيما، ومطرد التفاقم، للغالبية الساحقة من
المواطنين العرب. ويزيد من غرم
هذا العامل أن رسخت لدى الجماهير العربية منظومة
قيم سلبية تثير التساؤل أحيانا حول
ما إذا كانت الشعوب العربية مؤهلة في الوقت الراهن
للمشاركة في فعل النضال من أجل
التحرر الفردي والوطني، ودون دياره أهوال، أو حتى
للانضواء مستقبلا في منظومة إنتاج
منضبطة وراقية الكفاءة، أو للمساهمة الفاعلة في
صنوف النشاط المجتمعي الطوعي في
المجال العام للمجتمع الذي يعول عليه تصور مسيرة
الإصلاح السياسي المقدم فيما يلي
كثيرا.
إشكالية
التيارات الإسلامية في السياسة العربية
أول الحقائق التي يجب أن تراعى في هذا الصدد هي أن
أي قوة سياسية تستحق هذا
الاسم في الوطن العربي لا تستطيع أن تتناسى أن
الدين، خاصة الإسلام، عنصر محوري في
النسيج الثقافي والروحي للأمة العربية.
غير أن إعادة فتح باب الاجتهاد وسيعا، وتشجيعه
وإثابته، يبقى مطلبا أساس لنوال
التزاوج المبدع المطلوب لمجتمع الحرية والحكم
الصالح، بين الحرية بمفهومها الشامل
المعاصر من ناحية،
والمقاصد الكلية
للشريعة الإسلامية، ونجملها في الحرية
والعدل والمساواة، خاصة فيما يتصل بالموقف من حقوق
المرأة وحقوق الجماعات/ الثقافات
الفرعية (الأقليات)، من ناحية أخرى.
ويتعين إضافة واجب الريادة في هذا المطلب على جدول
أعمال ومسؤوليات التيارات
الإسلامية الحادبة على النهضة في الوطن العربي.
ويتعين كذلك أن تتوفر جميع القوى
السياسية الساعية للإصلاح على الحوار الجاد
والفعال مع الحركات الإسلامية، مهما كان
مضنيا في البداية، لضمان إقامة هذا الجسر المعرفي
وتبنيه عن اقتناع أكيد.
إن الكثرة الغالبة من التيارات الإسلامية في
البلدان العربية تمثل قوى مجتمعية
واسعة الانتشار وعميقة الجذور الشعبية بسبب
ممارستها للعمل الاجتماعي والسياسي وسط
عامة الناس لسنوات طوال وفي ظروف بالغة الصعوبة.
والحق أن هذه التيارات الوسط قد
حققت تطورا مهما عبر العقود الخمسة الماضية فيما
يتصل بموقفها من بعض القضايا
المجتمعية المصيرية، تجاه احترام حقوق الإنسان
والحكم الصالح/ الديمقراطية، بما قد
ينفي عنها، حال وصولها للحكم، غالبا ضمن ائتلاف،
صفة الحكم الديني.
كما أن كثرة من هذه التيارات الوسط تشهد تناميا
ملحوظا لأجيال أصغر نسبيا من
القادة المستنيرين وزيادة لحضورهم على رأس الهيكل
التنظيمي لها، إضافة إلى قيام
حراك متصاعد من القاعدة العريضة يطالب بتنظيم أوفر
ديمقراطية.
ولكن هذه التطورات الإيجابية لا تعني أن التيارات
الإسلامية الوسط قد نجحت في
إزالة كل تخوفات باقي القوى المجتمعية في البلدان
العربية من تأثير سلبي على الحرية
والحكم الصالح حال وصولها لسدة الحكم.
ن. ف
هاتان الإشكاليتان تشيران إلى صعوبة تحدي الإصلاح
في البلدان العربية، ومن ثم،
إلى ضرورة تبني منطق، وبناء متطلبات، "النفس
الطويل" في معسكر النهضة العربية، من
جانب. ومن جانب آخر، تؤكدان على أهمية الترابط
الحيوي بين مكونات عملية الإصلاح
المجتمعي الشامل، وقاطرته الإصلاح السياسي، في
مسيرة للنهوض في الوطن العربي.
فالمؤكد مثلا أن النجاح في تبلور قوى المعارضة
الوطنية لمسار الهوان الراهن
وتقويتها، وخاصة إقامة أشكال الائتلاف والتعاضد
بينها، سيسهم إيجابيا في بناء
القاعدة السياسية الموضوعية لبداية مسيرة الإصلاح
السياسي، كما ستسهم هذه البداية
بدورها في إعادة تأهيل الجماهير العربية للنضال
التحرري. كذلك ينتظر أن يسهم تقدم
الإصلاح السياسي في إصلاح أنساق التنشئة والتعليم
والإعلام والعمل العام، بما يضمن
التبني الجماهيري للقيم الإيجابية المؤازرة لمسيرة
النهوض في عموم الوطن العربي.
وعلى من يتشكك في صحة هذه المقولات أن يمعن النظر
في تجربة حزب الله في لبنان
التي تمكنت من إحداث ما عجزت عنه الأنظمة، في محيط
مجتمعي كان يعتبر غير موات في
نظر كثيرين. لقد نجحت هذه التجربة حتى حد الوقوف
الصامد في مواجهة العدوان الصهيوني
الأمريكي والذي لم يكن ممكنا إلا بتشييد منظومة
قيم جديدة، وأساليب أداء فردي
وجمعي، مغايرة تماما لما يسود في المحيط اللبناني
المباشر أو العربي الواسع، وتتسق
تماما مع القيم وأنماط السلوك المؤازرة للنهضة في
الوطن العربي.
وتنبئ تجربة حركة مجتمع السلم "حمس" في الجزائر عن
تحولات مماثلة نذكر منها
تظاهرة المليون امرأة، على حين لم تتمكن الأحزاب
الديمقراطية إلا من حشد ثلاثمائة
ألف، واعتصام النساء الجزائريات في الميادين
العامة، وتبوأ المرأة رأس القوائم
الانتخابية للحركة.
والمتابع للحركة السياسية في البلدان العربية
سيلحظ بيسر تزايد النزعة
الائتلافية بين قوى المعارضة لنظم الحكم القائمة،
في مواجهة العمل الدؤوب للأنظمة
لإذكاء التنافر والتناحر بين فصائل المعارضة كواحد
من أهم سبل الاستمرار في الحكم.
في حالة مصر على سبيل المثال، ازدادت مؤخرا وتيرة
قيام الحركات الاحتجاجية العابرة
للتقسيمات السياسية التقليدية، خاصة الطبقية، مثل
حركة "كفاية" والتجمعات المعارضة
ذات الطابع المهني: القضاة، والمحامون، والصحفيون،
وأساتذة الجامعات، والكتاب،
والفنانون، كما ظهرت حركات مماثلة في بلدان عربية
أخرى: "ارحلوا" في اليمن، و
"خلاص"
في ليبيا. وفي العام 2007 قامت في مصر سلسلة من
الإضرابات العمالية أساسا
لمطالب نقابية تتعلق بمستوى المعيشة، ورضخت
السلطات لمطالب المضربين. ودعا احد
أحزاب المعارضة (الكرامة) لبدء ممارسة أولية
للعصيان المدني، بالبقاء في المنازل
يوم 23 يوليو. كما قامت أكثر من محاولة ائتلاف بين
قوى سياسية متبلورة أصلا مثل
التجمع الوطني من أجل التغيير الديمقراطي،
والتحالف الوطني من أجل الإصلاح
والتغيير.
صحيح أن هذه إرهاصات لم تصل حد التأثير الفعال في
مجرى السياسة في البلد،
لكنها تؤشر على اتجاه مهم بحاجة لدعم وتأصيل، فلن
تكسب معركة الإصلاح قعودا.
إلا أن المؤكد أيضا هو أن قيام هذه التداعيات
الحميدة، وإتيان أكلها، سيقتضي
فعلا مطردا وتضحيات لا يستهان بها ،خاصة من النخب
المناصرة لتحدي النهوض، والمستحقة
لأن تتسمى به.
ج- المقاومة تفرز زعامة الأمة
شكونا فيما سبق من أن الأمة العربية تفتقر إلى
قيادات تاريخية ترقى إلى مستوى
التحديات التي تواجهها الأمة، بل إن القيادات
الراهنة لا تلقي بالا إلى أضعف
الإيمان الذي يفرضه اعتلائهم سدة الحكم في البلدان
العربية مثل حضور مؤتمرات القمة
العربية على ما يعتورها من نقائص وعيوب، حتى قلنا
بأن الأمة العربية تستجدي الزعامة
من خارجها حيث يغيب قادتها الرسميين عن مؤتمرات
القمة بأعذار غير مقبولة بينما يحضر
القمة العربية بعض من قادة دول الجوار المهمة
كأسبانيا وتركيا.
ومن دروس التاريخ أنه في عصور الاستباحة والهوان،
للوطن والناس، يبرز قادة
الأمة الصحاح من معارك مقاومة الاستبداد
والاستباحة. وها هي الأمة العربية تقدم
قرينة جديدة على هذا الدرس التاريخي. في غمرة
العربدة الإسرائيلية البربرية أثناء
الاجتياحات المتتالية لغزة، وللضفة الغربية أيضا،
ولبنان أخيرا ومجددا، بات جليا
لكل ذي لب أن الأمة العربية تفتقد من بين القادة
الرسميين زعامة يمكن لها أن تعبئ
طاقات الأمة وتوجهها لخدمة غايات العزة والمنعة،
أو على أقل القليل بعض من ردع
الغطرسة الإسرائيلية وقدرا من إحراج الضمير
الإنساني للدول المتنفذة في هيكل القوة
العالمي الجائر الراهن، ذلك الضمير الذي بدا وكأنه
قد مات أو دخل في غيبوبة.
على جانب بدت القيادات الرسمية العربية على درجات
متفاوتة من الرضوخ للهيمنة
الأمريكية وخطب ود الدولة العنصرية المغتصبة للحق
العربي في فلسطين، وكما لو كانت
استمرأت تجرع المهانة من درك لأدني من الدولتين
المارقتين الأسوأ على صعيد العالم،
وتهاونت إلى أبعد مدى في حق الشعب العربي
والإنسانية جمعاء. وليس من حقها التهاون
في حق الشعب، ولكنه مزيج الاستبداد والاستباحة
الذي يهدر حقوق الشعب العربي لمصلحة
جلاديه في الداخل و أسيادهم المارقين في الخارج.
هذا بينما برز، على جانب آخر، من غمار مقاومة
استباحة الأمة في فلسطين والعراق
ثم في لبنان، قيادات صحاح للأمة من أمثال السيد/
حسن نصر الله وقادة "حماس" في
الداخل والخارج الفلسطيني، خالد مشعل وإسماعيل
هنية وغيرهم. فأي من مواقف هؤلاء
يمثل استردادا لجزء من كرامة العرب المهدرة على
أيدي القادة الرسميين. أي منهم يعدل
في نظر الكثيرين الآن، عشرات من القادة الرسميين
إن لم يكن أكثر. ويكفي أن كل منهم
مُلاحق من أعداء الأمة، إسرائيل والولايات
المتحدة، وأي شرف! بينما يقابل القادة
الرسميين قادة إسرائيل والولايات المتحدة بالعناق
والأحضان حتى إبان أبشع جرائمهم
ضد الشعب العربي.
وسيكون من دواعي فخر واعتزاز غالبية غالبة من
المواطنين العرب، في تقديري،
انتخاب أي منهم رئيسا للأمة العربية، وهو شرف لا
يرقى إليه أي من الحكام
الرسميين.
كما أن مقاومة الاستبداد في الداخل تفرز هي الأخرى
زعامات صحاح للعمل الوطني
المدني. انظر مثلا إلى توهج زعامات مبهرة من
قيادات حركة القضاة في مصر من أمثال
الجسورة "نهى الزيني" التي كشفت تزوير انتخابات
مجلس الشعب (2006) في دائرة بنها
علنا، والمستشارون "زكريا عبد العزيز" و"هشام
البسطويسي" و"محمود مكي" و"أحمد مكي"
الذين يشرّف أي منهم منصب الحكم في مصر لو تبوأه.
هذه قيادات تنسف مقولة افتقاد مصر
لشخصيات تصلح لقيادة البد نسفا، وتفضح خرق
القائلين بها.
فمن قال أن في الأمة العربية أزمة قيادة أو أنه لا
توجد بدائل للقيادات
الرسمية الحالية فليس إلا مخادع أو مخدوع. صحيح
انه لا توجد زعامات تاريخية في
حظيرة نظم الحكم الراهنة وإفرازاتها القميئة، غير
أن خدمة الشعب العربي، وأشرف
ساحاتها مقاومة الاستباحة والاستبداد، أفرزت
وستفرز قيادات وطنية جديرة بتبوء زعامة
الأمة العربية بأكملها. الأزمة الحقيقية تكمن في
إعاقة القيادات الرسمية الحالية
لعملية المقاومة باستماتتها في خدمة الطاغوت
الأمريكي والجبروت الإسرائيلي، فتعيق
بذلك إفراز المقاومة للقيادات الشرعية الصحاح.
وإن كان هناك من يتحرج، أو يمتعض، من أن المقاومة
لم تفرز قيادات بارزة إلا من
التيار الإسلامي في السياسة العربية، فعليه أن
يتذكر أولا أن التيار الإسلامي يحمل
لواء المقاومة ومن ثم فقد حق له أن يتربع على سدة
الزعامة. بعبارة أخرى من يبتغي
نصيبا من قيادة الأمة العربية فميدان الجهاد-
المقاومة فسيح ويطلب المزيد من
الطاقات التي تتصدى لمحور الشر الحقيقي في
العالم المعاصر: الولايات
المتحدة- إسرائيل.
د- تصور أولي لتتالي مشاهد مسيرة الإصلاح
1-
المشهد الأول: إطلاق مسيرة الإصلاح
مضمون هذا المشهد المفتتح تصعيد مطرد لوتائر
العصيان السياسي والمدني،
من قبل جميع قوى المعارضة الوطنية، شاملة الطلبة
والنقابات العمالية والمهنية،
مؤتلفة
ما أمكن، وصولا إلى العصيان المدني الشامل، كوسائل
للضغط على نسق
الحكم الراهن حتى لا يجد سبيلا إلا التسليم بعدم
مقاومة حركة الإصلاح. ويندرج تحت
هذا المشهد على وجه الخصوص المطالبة، المثابرة
والمتصاعدة، بانسحاب شخصيات معينة
تعد من عمد أنظمة حكم الهوان الراهنة، من الساحة
العامة. ويبشر بالنجاح في هذه
المرحلة أن أنظمة الحكم في بلدان عربية مهمة قد
دخلت مرحلة من التفسخ لم تعد فيها
قادرة على التظاهر بالتماسك الداخلي، ناهيك عن
القوة والمنعة، بحيث أصبحت مضطرة إلى
اقتراف انتهاكات متصاعدة للحريات العامة بينما
تتشدق بالإصلاح استجلابا لرضا قوى
خارجية في الأساس.
ويدعم فرص نجاح هذا المشهد أن تتكاتف القوى
الوطنية المعارضة لهذا النظام في
برنامج للإصلاح الوطني تتصاعد وتائره حتى يوم
ينهار الحكم الراهن، وهو منهار لا
محالة ما اجتمعت الفصائل الوطنية كافة على مقاومته
بشتى الوسائل
وصولا إلى
العصيان المدني الشامل.
ويظل أحد الأركان الركينة لبرنامج الإصلاح الوطني
المدعو إليه في هذه المرحلة
المطالبة بضمان الاستقلال التام للقضاء وتمكينه من
الإشراف المباشر بالكامل على
جميع الانتخابات بكل مراحلها. ويكمله إنهاء العمل
بقوانين الطوارئ والإفراج عن
المعتقلين السياسيين وسجناء الضمير كافة، ووضع
مشروع برنامج للإصلاح الدستوري
المؤسس لضمان حرية الوطن والمواطن، وإقامة نظام
حكم صالح تكون السيادة فيه للشعب،
على أساس ضمان حقوق المواطنة للجميع غير منقوصة.
ويدعم فرص النجاح أيضا تبني استراتيجية انتزاع
الحقوق، عوضا عن مجرد
المطالبة بها،
ويشمل ذلك وضع تصورات وبرامج تنفيذية لانتزاع
الائتلاف الوطني
المعارض لحكم الفساد والاستبداد القائم، من طرف
واحد، للحقوق المشتقة من مفهوم
الحرية المتبنى هنا، وعلى رأسها حرية إنشاء
المنظمات في المجتمعين المدني والسياسي،
شاملة وسائل الإعلام والأحزاب، وحرية نشاطها في
السياق السلمي الديمقراطي من دون أي
قيود تكبلها.
يؤذن هذا المشهد بقرب انقضاء نسق الحكم الراهن.
ويؤخذ سلوك عمد الحكم الراهن
قبل وأثناء انسحابهم في الاعتبار في المحاكمات،
النزيهة، التي يقدمون إليها فيما
بعد.
2-
المشهد الثاني: مفتَتِح الإصلاح، تحرير المجتمع
المدني، وتمهيد
الأرض للإصلاح القانوني والسياسي الشامل
يُفتح الستار عن العملية التاريخية للتحول نحو
الحرية والحكم الصالح، في
تقديرنا، بقيام مجال عام فسيح وحر مستقل عن سلطان
الدولة تشغله منظمات مجتمع مدني
حرة وفعالة وقادرة على الاستمرار بالموارد
الذاتية، أي بتحرير القوى المجتمعية بما
يضمن تبلور طليعة مجتمعية للتغيير تتمحور حول
مؤسسات المجتمع المدني28
خدمة
للنهضة في الوطن. ومغزى تشبيه فتح الستار أن عملية
التحول التاريخي لا تبدأ حقيقة
إلا بحلول هذا المشهد المفتَتِح، بل باكتماله.
ويكتمل هذا
المشهد بإطلاق الحريات المفتاح للرأي والتعبير
والتنظيم،
والتي عادة تستتبع، عند تأصلها، باقي الحريات
والحقوق، وتتيح على وجه الخصوص قيام
مجتمع مدني حر وحيوي وفعال. كما يترتب على
الاحترام التام لهذه الحريات المفتاح
ضمان عدم تعطيل المسيرة الديمقراطية أو الانقلاب
عليها من قبل أي أغلبية تصل للحكم.
على سبيل التحديد، فيما يتصل بمنظمات المجتمع
المدني يعني اكتمال هذا المشهد
التحول عن النسق الحالي القائم على
التصريح
بقيام منظمات المجتمع المدني من
قبل جهات الإدارة، أو من قبل هيئات تتحكم بها
السلطة التنفيذية، من وراء ستار رقيق،
وإشراف
السلطة التنفيذية على هذه المنظمات، بل
والتدخل
السافر في
نشاطها وإدارتها حين تشاء. على النقيض، مطلوب
الانتقال من هذا النسق الضامن لسيطرة
السلطة التنفيذية على النشاط المدني في البلدان
العربية إلى نسق مناقض يطلق حرية
التنظيم وفق شروط قانون، حام للحرية، يضمن حرية
منظمات المجتمع المدني في القيام
والنشاط، في حمى سيادة القانون وقضاء مستقل قطعا.
والمقصود بمنظمات المجتمع المدني هنا، للتأكيد،
جميع المؤسسات التي ينتظم فيها
الأفراد في "مجال عام" مستقل عن سيطرة الدولة،
للعمل من أجل الصالح العام دون
استهداف للربح الخاص، وهو المفهوم الواسع للمجتمع
المدني. ويضم مفهومنا للمجتمع
المدني هنا على وجه التحديد الأحزاب، ووسائل
الإعلام، والنقابات والمنظمات المهنية،
والجمعيات غير الحكومية.
ومع أن التضييق على الحريات ومناخ الفساد السائد
حاليا هو الذي ينتج أساسا
عيوب المجتمع المدني الراهنة فمن المفيد قطعا أن
يحوي الإصلاح المنشود ضمانات صلاح
الحكم في منظمات المجتمع المدني ذاتها من حيث
اتساع التمثيل والشفافية والإفصاح
والمساءلة بما يساعد على محاربة الفساد المالي
والإداري وصيانة الصالح العام.
وتتضمن الشروط الابتدائية المطلوبة، فوق ما سبق،
إلغاء جميع أشكال القانون
الاستثنائي مثل حالة الطوارئ والمحاكم
الاستثنائية، وتكريس مبادئ الشفافية والإفصاح
في نشاط مؤسسات المجتمعات العربية كافة.
هكذا، يتطلب هذا المشهد المفتَتِح إصلاحا تشريعيا
وتنظيميا يصون الحريات
المفتاح ويلغي جميع أشكال القانون والقضاء
الاستثنائي، وأس الفساد فيها حالة
الطوارئ، في ظل الضمان التام لاستقلال القضاء. هذا
الإصلاح التشريعي والتنظيمي هو
بمثابة
الشرط الابتدائي
الذي لاغنى عنه، للتحول التاريخي لضمان الحرية
والازدهار الإنساني.
ومن جهة أخرى، فإن تحقق هذا الشرط الابتدائي يمثل
المعيار الأساس للحكم على
مدى جدية الإصلاح. بعبارة أخرى، أي برنامج لا يحقق
هذا الشرط الابتدائي اللازم لا
يستحق صفة "الإصلاح".
ويضمن نفاذ الإصلاح السياسي الموصوف، تبلور عقلية
عامة تساند التغيير من أجل
النهضة من ناحية، وبروز طليعة مجتمعية عمادها
منظمات المجتمع المدني يمكن أن تقود
عملية النضال المجتمعي من أجل الحرية والحكم
الصالح، من ناحية أخرى.
ويساعد على قيام المشهد المفتتح للتداول الأول
للسلطة، ويضمن نجاحه، قيام
شبكات وطنية، قطرية وقومية، تتفق على حد أدني من
أسس إعادة بناء المجتمع العربي بما
يضمن تبلور توافق واسع على غايات النهضة الواردة
هنا وأسلوب التفاوض التاريخي،
والدعوة لها بكفاءة، ما يضمن مشاركة فعالة لقوى
الشعب العربي وتهيئة مناخ التغيير
نحو مجتمع الحرية والحكم الصالح، بما يمهد لنشوء
المشاهد التالية من مسيرة النهضة.
ويقوي من فرص نجاح المسيرة أن تنشئ "شبكة النهضة
العربية" وسائل إعلام حرة
تدعو إلى غاياتها، خالصة من تسلط الحكومات وسيطرة
رأس المال على حد سواء.
على
الصعيد العربي
العام، يمهد الطريق لقيام المشهد المفتتح توافقا
عربيا أكيدا وشاملا على الإصلاح القانوني والمؤسسي
الابتدائي اللازم لتبلور المشهد
المفتتح. ما يمكن أن يسمى "اتفاقية هلسنكي" عربية
والأمل بالطبع أن تنعقد الاتفاقية
في مدينة عربية. فلتكن اتفاقية "فاس" أو "دبي" أو
"حضرموت". على أن تركز هذه
الاتفاقية، على وجه الخصوص، على إفساح المجال
للمجتمع المدني في البلدان العربية
كما يقتضي المشهد.
إلا أن الضمان الأكيد لنجاح التحول نحو الحرية
والحكم الصالح في البلدان
العربية يتمثل في أن يجد العرب طريقهم المتميز
للحرية والحكم الصالح عبر عملية
إبداع مجتمعي نشطة تسهم فيها جميع القوى الحية في
المجتمعات العربية،
دون ما قهر
أو إجبار من الخارج.
والمنتظر أن مناخ الحرية الذي يتبلور بإطلاق
الحريات المفتاح، وتحقق باقي
الشروط المشار إليها، يؤذن بقيام مؤسسات صالحة في
المجتمعين المدني والسياسي، على
الصعيدين القطري والقومي، ولتصعيد الضغوط الشعبية
على السلطة القائمة بما يمهد
السبيل لنشأة المشاهد التالية من مسيرة "الازدهار
الإنساني" الحاملة لمسار النهضة
في الوطن العربي.
3-
المشهد الثالث: عملية تفاوض تاريخية لإقامة نسق
الحرية والحكم
الصالح، إنفاذ التداول الأول للسلطة سلميا على
المستوى القطري
الفحوى الأساس لهذا المشهد هو قيام عملية تفاوض
تاريخية بين
جميع
القوى
الحية في البلد تستهدف الاتفاق على إعادة تقاسم
القوة في البلد لمصلحة الشعب عامة،
عبر إنهاء الاستئثار بالقوة (السلطة/الثروة) من
قبل قلة مهيمنة كما هو الحال الآن،
ووضع ترتيبات لضمان الصالح العام في فترة انتقالية
تسبق تشكيل مؤسسات الحكم الصالح،
وتشكيل مؤسسات الحكم الصالح عبر انتخابات حرة
ونزيهة،. وتتضمن عملية التفاوض أيضا
تعيين
آليات ممثلة لعموم الناس على أساس مبدأ المواطنة،
تضع أسس استكمال
الإصلاح القانوني والسياسي اللازم لبدء التحول نحو
الحرية والحكم الصالح، وعماده
دستور الحرية، واقتراح لبنات الإصلاح المجتمعي
الشامل اللازم.
4-
المشهد الرابع: ضمان الصالح العام خلال فترة
انتقالية
يقتضي ضمان الصالح العام أن يقوم على تسيير مؤسسات
السلطة خلال فترة انتقالية
محددة، لمدة لا تتعدى (12-24) شهرا مثلا، جهات
مشهود لها بالنزاهة، والهيئات
القضائية على رأس تلك المرشحة لهذه المهمة
الانتقالية الحرجة. وتنظم السلطة
الانتقالية خلال هذه الفترة قيام أحزاب ومنظمات
مدنية جديدة، بما في ذلك وسائل
الإعلام، والإشراف على عقد محاكمات، نزيهة وعادلة،
لعمد نظام الحكم الحالي
المتورطين في التنكيل بالشعب والفساد.
-
المشهد الخامس: استكمال وضع أسس البنية
القانونية والسياسية للحرية
مضمون هذا المشهد قيام آليات ممثلة لعموم الناس
تضع أسس الإصلاح القانوني
والسياسي اللازم لبدء التحول نحو الحرية والحكم
الصالح، على المستويات المحلية
والمركزية. ويأتي على رأس مهمة الإصلاح القانوني
العمل على صياغة دستور، وبدايات
بنية قانونية متكاملة، تشتق من الدستور وتتسق مع
القانون الدولي لحقوق الإنسان،
تقنن حماية الحرية، خاصة الحريات المفتاح، تحت
جميع الظروف والأحوال، وضمانها بالحكم
الصالح على الأصعدة المحلية والمركزية. ويعرض
مشروع الدستور، الذي تعده لجنة مؤهلة
قانونيا، على جمعية تأسيسية منتخبة لإقراره، بعد
تنقيحه إن اقتضى الأمر. ثم يعرض
على استفتاء شعبي تشرف عليه الهيئة القضائية حصريا.
ويضمن هذا المشهد، ضمن تتالي مشاهد مسيرة الإصلاح
الوطني، أن يصاغ الدستور
تعبيرا صادقا عن الإرادة الشعبية، في مناخ من
الحرية والديمقراطية، بما يضمن أن
يلقى مشروع الدستور قبولا شعبيا واسعا وعميقا.
ويتضمن الإصلاح القانوني ويكمله، صياغة البنية
السياسية للحكم الصالح على
المستويين المحلي والقطري في البلدان العربية، وفق
المبادئ المتبناة في الباب
الثاني.
وفيما يتصل بالمستوى القومي
العربي من الحكم الصالح، يرجى أن تضع
المرحلة الانتقالية أسس تحقق "منطقة المواطنة
الحرة العربية" التي تبناها تقرير
"التنمية
الإنسانية العربية" وترقى بفكرة التكامل العربي
إلى مصاف الحرية والكرامة
الإنسانية، وهي جوهر مفهوم التنمية الإنسانية.
ويقترح في هذا الصدد تحديدا بدء
العمل على إقامة مؤسسات للحكم الصالح على الصعيد
القومي تتكفل في مراحل تالية من
مسيرة النهضة بضمان تمتين التكامل العربي وصولا
إلى "منطقة المواطنة الحرة العربية"
ومضمونها أن يتمتع المواطن العربي بكل حقوق
المواطنة في الدول العربية قاطبة.
مؤسسات الحكم الصالح علي الصعيد القومي
-
محكمة العدل العربية: أو المحكمة العربية
لحقوق الإنسان، لحماية حقوق الإنسان
على صعيد الوطن العربي بكامله، وليس مجرد آلية
لتسوية المناعات بين الدول/ الحكومات
كما هو الحال الآن، وكما هو مقترح أيضا في
مبادرات إصلاح جامعة الدول العربية.
يتعين لتحقيق هذا الغرض أن
تقبل المحكمة شكاوى المواطنين العرب ضد
حكوماتهم،
وخاصة إن لم يفلح القضاء في بلدانهم في
إنصافهم من عسف الحكومات، حماية لحقوقهم
وحرياتهم.
-
مجلس الأمة العربية النيابي، ويتكوّن، نهاية،
بالانتخاب الحر المباشر
من
بين مرشحي القوى السياسية في البلدان العربية.
كذلك يرجى أن تولي هذه المرحلة الانتقالية اهتماما
بالمساهمة في إصلاح الحكم
على
الصعيد العالمي
لما له من آثار مهمة على حال التنمية الإنسانية في
البلدان العربية وفرص بناء نهضة إنسانية في الوطن
العربي، خاصة في منظور التحرر
الوطني.
مع التأكيد على أن إصلاح الحكم على الصعيد العربي
يصب في إصلاح الحكم على
مستوى العالم بقدر ما يرّتب الأول للعرب من قوة
تفاوضية أكبر في المعترك العالمي.
6-
المشهد السادس: الانتخابات النزيهة الأولي لمؤسسات
الحكم الصالح
على المستويات المحلية والمركزية والعربية
يجري وفق أحكام الدستور الجديد، وتحت الإشراف
الكامل للقضاء، إجراء انتخابات،
عامة، حرة ونزيهة، لتشكيل المجالس التشريعية
وللمسئولين القياديين، على المستويين
المركزي والمحلي، ويلي ذلك المساهمة في تشكيل
مؤسسات الحكم الصالح على الصعيد
العربي وبدء مسيرة المساهمة في إصلاح الحكم على
الصعيد العالمي.
شريطة أن تكون الانتخابات
حرة ونزيهة
وأن تقوم، على أساس المواطنة
للجميع، وفي سياق مجتمعي يضمن حرية الاختيار
الرشيد بين بدائل يستطيع المواطن
تمحيصها من خلال النقاش في المجال العام
الحر
للمجتمع.
يمثل اكتمال هذا المشهد
نقطة مفصلية حاسمة
في تفعيل مسار النهضة،
فبينما يمكن، بل ينبغي،
التمهيد
لجميع أبعاد الإصلاح المجتمعي المطلوبة،
خاصة في مجالات الدعوة والحث على التبني، في جميع
مراحل مسيرة الإصلاح، لا ينتظر
اتخاذ قرارات وإجراءات
فعل
تكفي لبدء فعال لمحاور الإصلاح المجتمعي إلا
بقيام مؤسسات الحكم الصالح التي تضمن خدمة اتخاذ
القرار لمصلحة عامة الناس، أي بناء
التنمية الإنسانية ، حبذا في عموم الوطن العربي.
ومن ثم فإن
البداية الأكيد
لمسيرة النهضة تتمثل في بزوغ المشهد السادس،
واستقراره.
7-
المشهد السابع: نشاط التشكيل المؤسسي الأول للحكم
الصالح، بدايات
تكريس مسيرة النهضة الإنسانية.
يستقر مناخ الحرية، خاصة في المجال العام للمجتمع،
وتتسيد مؤسسات الحكم الصالح
حديثة التشكيل، محليا ومركزيا، حركة البلد
والإقليم في مجالات النشاط المجتمعي كافة
بما يمكنها من
صوغ مقومات الإصلاح المجتمعي الشامل اللازم، خاص
مراحله التي
تشترط سندا من الحكم الصالح،
في سعي العرب جميعا لبناء نهضة إنسانية في عموم
الوطن العربي من خلال إقامة منطقة المواطنة الحرة
العربية، وللمساهمة في إصلاح
الحكم على صعيد العالم، مما ينتظر أن ينعكس
إيجابيا على فرص نوال الحرية على الصعيد
القومي في الوطن العربي.
ويعد هذا المشهد الحالة النهائية لتنظيم المجتمعات
العربية بما يكفل بدء مسيرة
النهضة واطراد تقدمها تجاه غاياتها النهائية،
دائبة التطور.
سادسا: أبرز معالم تمرحل المسيرة التاريخية على
درب النهضة
قاطرة مشروع النهضة الإنسانية في الوطن العربي هي
بلا مراء، في نظري، الإصلاح
السياسي، الواسع والعميق، على الصعيدين القطري
والقومي، المؤدي لقيام مجتمع الحرية
والحكم الصالح في عموم الوطن العربي، والذي ينتظر
أن يسهم في إصلاح الحكم على
الصعيد العالمي، وهو أيضا مطلوب لصحة مشروع نهضة
الأمة العربية.
والأمل أن يتم ذلك التحول التاريخي المؤسس لمسار
النهضة في مشروعنا، وفق
البديل المستقبلي المفضل لتقرير "التنمية
الإنسانية العربية" الثالث،
أي مسيرة
الازدهار الإنساني،
حامل مسيرة النهضة في مصطلحنا، والقائم على عملية
تفاوض
سلمية تستهدف إعادة توزيع القوة لمصلحة عامة الناس
وبناء نسق حكم مؤسسي صالح،
وينتظر أن تبدأ بمشهد مفتتح تُحترم فيه الحريات
المفتاح للرأي والتعبير والتنظيم،
وأهمها الأخيرة، مجتمعة، مما يؤدي إلى قيام مجتمع
مدني حيوي وفعال، ويتميز بصلاح
الحكم، يشكل طليعة عملية التفاوض السلمي، تفاديا
لمسار "الخراب الآتي" الذي حذر منه
التقرير، حامل مسيرة الانحطاط/الهوان الراهنة،
وتتجمع لشديد الأسف سحبه السوداء في
أكثر من بلد عربي محوري.
إلا أن تطورات الأعوام القليلة الماضية توحي
بالحاجة إلى مرحلة تمهيدية يمكن
أن تفضي إلى المشهد المفتتح. والمضمون الأساس لهذه
المرحلة، في تصوري، هو
التصعيد المطرد، بجميع الوسائل السلمية، لوتائر
العصيان السياسي والمدني، ربما
وصولا إلى العصيان المدني الشامل،
كوسائل للضغط على نسق الحكم الراهن حتى لا
يجد سبيلا إلا التسليم بعدم مقاومة حركة الإصلاح
المتنامية. ويندرج تحت هذا المشهد
على وجه الخصوص المطالبة، المثابرة والمتصاعدة،
بانسحاب شخصيات معينة تعد من عمد
نسق الحكم الاستبدادي، من الساحة العامة. ويمكن أن
يزيد احتمال ذلك الانسحاب بعقد
محاكمات شعبية لعمد نظم الحكم الحالية المتورطين
في التنكيل بالشعب والفساد29.
وقد أسلفنا أن
المحرك الأساس للتحول من الانحطاط/الهوان إلى
النهضة سيكون
الإصلاح السياسي، الواسع والعميق، المؤسس لمجتمع
الحرية والحكم الصالح في الأقطار
العربية وعلى صعيد الوطن العربي بكامله. على أن
تتكاتف معه، في التوقيتات المناسبة،
باقي ضفائر الإصلاح المجتمعي اللازمة لتكامل
الإصلاح المؤسس لمسار النهضة.
ويمكن أن يقوم نمط معقد من
التراتب بين مشاهد الإصلاح السياسي وضفائر
الإصلاح المجتمعي عبرالزمان والمكان
في المنطقة العربية.
عبر الزمان، يظهر لنا أن إنجاز مستوى معين من
الإصلاح السياسي في بلد عربي ما،
أو في عموم المنطقة العربية، يعد شرطا لازما لتبني
ضفيرة محددة للإصلاح المجتمعي،
بينما قد يستلزم تنفيذها بفعالية مستوى حتى أعلى
من الإصلاح السياسي. مثلا يمكن
تبني مبدأ ترقية نوعية التعليم في البلدان العربية
من قبل تحقق إنجاز ضخم في
الإصلاح السياسي. والدليل على ذلك أن جميع أنظمة
حكم الانحطاط/الهوان الراهنة تتبنى
هذا الهدف، في الأغلب في مسايرة تجميلية لللأهداف
التي تحض على تبنيها منظمات دولية
مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة
والعلوم. ولكنه يبقى تبنيا أجوف حيث لا
تتوافر لدى أجهزة الحكم الراهنة لا الرغبة ولا
القدرة على التنفيذ الكفء لهذا
التوجه الحميد.
لا تتوافر الرغبة لأن شرط ترقية نوعية التعليم هو
إكساب المتعلمين ملكتي
التحليل والنقد باعتبارهما عماد قدرتي الابتكار
والإبداع. وأنظمة الحكم الاستبدادية
لا تخشى ظاهرة أشد من تأسيس قدرات التحليل والنقد،
خاصة الأخيرة، بين الدارسين.
فعند امتلاك الشبيبة ملكة النقد يصبح نظام الحكم
الفاشل، منطقيا، أول أهدافها
المباشرة، مما يدعم فرص المقاومة والاحتجاج لدى
الشبيبة، ومن ورائهم عموم الناس.
كما تنعدم القدرة على التنفيذ الكفء في أنظمة
الاستبداد الجهول التي تحكم البلدان
العربية ولا تتسم بكفاءة تذكر إلا في ضمان أمن
الأنظمة، ومصالح الحكام؛ ليس بكفاءة
متميزة، وإنما على الأغلب بالقبضة الغليظة افتئاتا
على أمن الناس ورفاههم.
وكما سيتبين لنا فيما بعد، فإن تحقيق إنجاز مهم
على صعيد اكتساب المعرفة في
عموم الوطن العربي، سواء من خلال النهوض بالنسق
التعليمي في البلدان العربية، وخاصة
من خلال تنمية منظومة البحث والتطوير، يتطلب مستوى
متقدما من الإصلاح السياسي على
الصعيد القومي يضمن مستوى أرقي كثيرا من التشابك
والتعاون العربي في مضمار اكتساب
المعرفة.
مستويات معينة من الإصلاح السياسي، على الصعيدين
القطري والقومي، تمثل إذن
مستلزمات أساسية لتبني ضفائر الإصلاح المجتمعي
المتممة لمتطلبات مسار النهضة، وقد
يتطلب التنفيذ الفعال لهذه الضفائر وصول مستويات
حتى أرقى من الإصلاح
السياسي.
في الحد الأقصى، يكاد يستحيل تبنى
جميع
ضفائر الإصلاح المجتمعي التي
نتطرق لها في هذا الباب (الثاني) في ظل أنظمة حكم
الانحطاط/ الهوان القائمة.
والدليل الدامغ على ذلك هو عدم تبنى أي من أنظمة
الحكم الراهنة
لمجمل
هذه
الحزمة الإصلاحية تبنيا
فعالا،
وإلا لكنا على مسار النهضة في الوطن العربي
وليس غارقين في الانحطاط/الهوان. بل قد يمثل واقع
الحال في البلدان العربية في
بدايات القرن الحادي والعشرين نقيض مجمل حزمة
الإصلاح المقترحة، ما يفضي إلى مسار
الانحطاط/ الهوان.
هذا عن التراتب بين مراحل الإصلاح السياسي وضفائر
حزمة الإصلاح المجتمعي
عبر الزمن.
ولكن يمكن أن يقوم تراتب من نوع آخر، عبرالموقع
الجغرافي والمجتمعي، حيث لا
ينتظر أن يتبلور النمط الزمني للإصلاح السياسي أو
للتراتب بينه وبين ضفائر حزمة
الإصلاح المجتمعي عبر الزمن، نفسه في المجتمعات
العربية قاطبة. فهناك مجال
للاختيار، بل للإبداع المجتمعي، في صوغ مسيرة
الإصلاح في كل مجتمع عربي، يمكن أن
ينشأ معها نمط زمني/مجتمعي مركب لتمرحل المسيرة
التاريخية لمسار النهضة في الوطن
العربي.
وأحد التجليات المتوقعة لهذا النمط هو أن تسبق بعض
البلدان العربية الرئيسية
في منظور تحديد مسار الأمة العربية، غيرها من
البلدان العربية على مسيرة الإصلاح
السياسي/المجتمعي مما يتطلب معالجة خاصة تتسم
بالحكمة والكياسة لضمان أكبر قدر من
تناغم الحركة التاريخية للوطن العربي على مسار
النهضة، رعاية المتأخرين في الركب
وحماية لانضمامهم له من موقع عزة وكرامة، وفي
تجربة الوحدةالأوربية دروس يمكن
الاستفادة منها في هذا الصدد.
فقط نحذر من قصر موقع السبق هذا على مواطن الأهمية
النسبية التقليدية، متمثلة
في الكثرة العددية أو الوفرة المالية. فلعل أجلى
دروس الإصلاح وفرص المستقبل الأفضل
في السنوات القليلة الأخيرة (2005-2007) قد بزغت
من خارج هذه المعاقل التقليدية،
ونذكر هنا ، على وجه التحديد، فلسطين وموريتانيا،
قمتا التداول السلمي للسلطة في
الوطن العربي مؤخرا من خلال انتخابات حرة ونزيهة،
وفي الثانية تحقق الانتقال حتى
بعد انقلاب عسكري، حفظ شرف العسكرية، وأوفى بعهد
نقل السلطة للمدنيين. بينما تتمثل
المساهمة الأهم للبلدين العربيين الأكبر في انطلاق
مسيرة النهضة، إمكانا، في احتمال
إنهيار نظام الحكم بها تحت وطأة الفشل وثقل
متلازمة الاستبداد- الاستباحة.
ومن ثم تتبدى الحاجة لتناول، ضفائر للإصلاح
المجتمعي، تؤسس، عند تكاتفها مع
مسيرة التحول لمجتمع الحرية والحكم الصالح، لقيام
مسار النهضة واطراد تصاعده.
ويمكن البدء باعتبار التنمية الإنسانية المستقلة
وما تنطوي عليه من إصلاح
للبنى المجتمعية، ثم تناول صنو التنمية الإنسانية
المستقلة في العصر الحالي، أي
إقامة مجتمع المعرفة، قبل أن التطرق لبعض تفاصيل
مسألة إصلاح الحكم، على المستويين
القطري والقومي، وأيضا على الصعيد العالمي،
باعتبارها قاطرة الإصلاح والنهضة،
ولكونها مستلزمات أساسية لنوال الغاية الأسمي
لمسار النهضة، أي التحرر الوطني
وتقرير المصير.
ملحق (1): كم استغرق تحول أسبانيا إلى
الديمقراطية؟
تمهيد
يدعو مأزق ارتهان المجتمعات العربية لنظم حكم
الاستبداد والفساد القائمة في
البلدان العربية، بعض العرب إلى اليأس من إمكان
تحول البلدان العربية تجاه الحرية
والحكم الصالح في مدى زمني مقبول القصر. ويشير
البعض إلى أن عملية التحول
الديمقراطي قد استغرقت قرونا في معاقل الحرية
والديمقراطية القائمة الآن في الغرب،
ولعلها لم تكتمل بعد. وهذا صحيح في المجمل. إلا أن
هناك استثناءات مهمة ذات أهمية
خاصة لحالة البلدان العربية.
وللتمهيد للاستثناء الذي أود أن أعرضه أشير إلى
خبرة خاصة.
فلطالما شعرت بقرب خاص بين أسبانيا والبلدان
العربية لأسباب معروفة، إذ نضحت
تجربة التعايش التاريخي عوامل تقارب مهمة، تجد لها
تعبيرات مختلفة، أذكر منها مثلا
حضور أصول عربية في اللغة الأسبانية الحالية،
ومشاركة رئيس الوزراء الأسباني في
القمة العربية في الجزائر (2005) على حين غاب
عنها، كليا أو جزئيا، بعض قادة عرب.
وبالإضافة، فقد سنحت لي فرص لعرض ومناقشة تقرير
"التنمية الإنسانية العربية"
في أكثر من محفل في أسبانيا مع خبراء ومفكرين
أسبان. ولا يغيب عن ذهني أبدا تعليق
بعض المفكرين الأسبان اللاحق لعرضي لمحتوى
التقرير، ومضمونه "أنت، في الواقع، تصف
حال أسبانيا في نهايات حكم الجنرال "فرانكو"" وكنت
غالبا أتمتم " ربنا يسمع
منكم!".
فقد تحولت أسبانيا من حكم استبدادي بغيض، وبالغ
الطول، إلى ملكية دستورية
ديمقراطية، وقد أنجز ذلك التطور الهائل خلال شهور
(عامان تقريبا!) ولم يتطلب قرونا!
فلماذا لا نتأسى، ونحيي الأمل، في الوطن العربي
بهذه التجربة الفريدة
والقريبة، جغرافية، وإلى حد ما، ثقافة.
ولنقارن سلسلة الأحداث التالية بالأحوال في بلد
عربي محوري مثل مصر! ولن يخفى
على القارئ الحصيف مغزى الأحداث التي جرت في
أسبانيا للواقع العربي الراهن.
هذا مع ملاحظة أن التحولات الجذرية التي جرت لتحول
أسبانيا من الاستبداد إلى
الديمقراطية تمت كلها حين كان البلد، وما زال، يعد
من بين الدول الأقل نموا في
الاتحاد الأوربي!
أسبانيا تتحول إلى الديمقراطية، ثبت بالأحداث
المحورية30
-
موافقة "المجلس الوطني" على قانون الجمعيات
السياسية (16 ديسمبر 1974)
-
"فرانكو"
يظهر علنا لآخر مرة، في العيد
التاسع والثلاثين
لرئاسته للدولة
(أول
أكتوبر 1975)
-
على فراش الموت، "فرانكو"يعين
ابنته
"
كارمن" خليفة له!
-
وفاة "فرانكو" (24 أكتوبر 1975)
-
تنصيب "خوان كارلوس" ملكا (22 نوفمبر 1975)
-
تجمع مؤشرات على غموض المستقبل (منتصف 1976)
-
اليسار ينظم
تظاهرات ضخمة
من أجل الحريات السياسية والعفو عن المسجونين
السياسيين (الأسبوع الثاني من يوليو).
-
رئيس الوزراء "سواريز" يتبنى استراتيجية
السرعة للتغلب على عوامل استمرار مؤسسة
"فرانكو".
-
"سواريز"
يقدم إلى المجلس الوطني التعديلات القانونية
اللازمة لحرية الأحزاب
( 14
يوليو 1976).
-
تفاقم
إضرابات
المعارضة في محاولة ضبط مسيرة التحول.
-
إعداد مسودة قانون الإصلاح السياسي (23 أغسطس
1976).
-
جبهة المنظمات الديمقراطية تطالب بضرورة إطلاق
حرية الأحزاب وإنهاء احتكار
الحكومة للإذاعة المسموعة والمرئية (4 نوفمبر
1976).
-
مناقشة قانون الإصلاح السياسي في المجلس
النيابي ( 16-18 نوفمبر 1976)
-
الموافقة على قانون الإصلاح السياسي بأغلبية
95% ( 15 ديسمبر 1976).
-
المحكمة العليا تقضي بشرعية الحزب الشيوعي (8
إبريل 1977)
-
إجراء الانتخابات النيابية تحت القانون الجديد
(15 يونيو 1977)
-
افتتاح المجلس النيابي الجديد (22 يوليو 1977)
-
تقديم الدستور الجديد إلى المجلس النيابي (
يونيو 1978)
-
التصديق على الدستور الجديد (31 أكتوبر 1978)
تعقيب خاطف
لا يخفى مغزى سلسلة الأحداث الأسبانية لخصائص
الواقع الراهن واحتمالات
المستقبل، في أكثر من بلد عربي مهم، مصر مثلا. فقط
يمكن التركيز على خمسة من أهم
الاستخلاصات الممكنة.
الأول هو أهمية إطلاق حريات التنظيم في المجتمعين
المدني والسياسي، وهو المشهد
المفتتح لمسيرة الازدهار الإنساني في الوطن
العربي، حسب تقرير "التنمية الإنسانية
العربية" الثالث، والمشهد المفتاح لمسار النهضة في
مصطلحنا.
والثاني هو ميل النظم الاستبدادية لتوريث السلطة،
حتى خارج نطاق الملكية، وإن
كان الدرس الأسباني هنا هو أن حركة مجتمعية قوية
يمكن أن تحول دون ذلك.
والثالث هو الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه
ممارسة حق التنظيم في شقه الخاص
بالتجمع (التظاهر والإضراب) وصولا إلى العصيان
السياسي والمدني، في مواجهة أنظمة
الاستبداد.
والرابع هو الضرورة الملحة لإصلاح التمثيل النيابي
ما دامت تقوم مجالس
نيابية
والأخير، وحتما ليس آخرا، هو دور القضاء الوطني في
رعاية عملية التحول
الديمقراطي وحمايتها.
لعل أسبانيا تلهم العرب هذه المرة!
ن.
ف
(*)
بالاستفادة
من أوراق خلفية أعدها الدكتور أمحمد المالكي،
الدكتور على عبد القادر علي، الدكتور
محمد محمود الإمام، الدكتور نبيل علي، والدكتور
هيثم مناع.
واستفادت الصياغة الأخيرة من ملحوظات تفصيلية
أبداها على صياغات سابقة أربعة
خبراء كلفهم مركز دراسات الوحدة العربية، ود. خير
الدين حسيب، ود. محمد محمود
الإمام، ود. إبراهيم سعد الدين، ود. علي عبد
القادر علي، ود. هيثم مناع، ود. ابتسام
الكتبي، ود. منى فياض، ود. نبيل علي، ود. هبة رؤوف
عزت.
كذلك ساهمت تعليقات أبدتها نخبة من المثقفين العرب
ضمت: د. ابتسام الكتبي، د.
أحمد يوسف، د. أمحمد المالكي، د. أمين حطيط، أ.
سمير كرم، د. جورج قرم، د. حسن
حنفي، د. حسن نافعة، د. سعد ناجي جواد، د. عبد
الحسين شعبان، أ. عبد الحميد مهري،
د. عدنان السيد حسين، د. عدنان عيدان، د. فيوليت
داغر، د. مسعود ضاهر، د.منى فياض،
د. نيفين مسعد، د. هدى الصدة، د. هيثم الناهي، د.
هيثم مناع، ود. يوسف مكي، من خلال
مداولات ندوة عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في
فبراير 2007، ومثقف آخر اختار
ألا يُذكر اسمه، في إغناء النص تصحيحا وتنقيحا.
فلهم جميعا الشكر الواجب جزيلا،
ويبقى الموقف الفكري العام، وكذلك الأخطاء وغيرها
من أوجه القصور في النص،
مسؤولية الكاتب الرئيسي وحده.
ن. ف.
2
الملك
الفلسطينية ذات الربيعين التي كانت قد ولدت في
الأسر لوالدتها الأسيرة "عطاف
عليان"، والتي أطلقت سلطات الاحتلال الصهيوني
سراحها في نهاية أكتوبر 2006، فصلا
لها عن أمها التي أبقيت في أسر المحتل الغاصب.
3
الفلسطينيتان زينة شابات العرب، اللتان اخترقتا
السقف الزجاجي للاستشهاد في سبيل
الحرية والوطن.
4
"عبير"
كما يجب
أن يعرف الجميع الآن، هي زهرة العراق ذات الخمسة
عشر ربيعا التي اغتصبها أحد السفلة
الأمريكان محتلي العراق بعد أن قتل والديها بلا
جريرة أمام ناظريها وفي حضور
شقيقتها الأصغر، ثم فجر جسدها البرئ بعد أن دنسه،
بسلاحه الأمريكي الذي زُعم لنا
أنه أرسل إلى العراق كرسول للحرية وكرامة الإنسان.
و"روان" هي الأخرى زهرة فلسطين التي لم يتعد عمرها
سنين ست عندما فجر جسدها
الرقيق صاروخ إسرائيلي قضى عليها وأسرتها في
منزلهم في اجتياح لغزة بعد أن انسحبت
الدولة العنصرية الغاصبة منها منذ قرابة العامين
وهلل الصهاينة وبعض العرب لهذا
الانسحاب الشكلي باعتباره فتحا.
5
من كتيبة نساء
غزة المجاهدات اللائي ضربن طوقا حول مسجد حاصرته
قوات الاحتلال الصهيوني، قاصدين
حماية المقاومين المحتمين بالمسجد، فأطلق جنود
الغدر والخسة الرصاص عليهن وأصابوا
عشرة، قضي منهم اثنتان فورا، ضمن ما اعتبرته
الإدارة الأمريكية الحالية " دفاعا
مشروعا عن النفس" من قبل دولة اغتصاب الحق العربي
في فلسطين، وأسبغت علية حمايتها
الدنسة باستعمال حق النقض في مجلس الأمن لقتل قرار
بإدانة الدولة العنصرية
الباغية.
6
يمتد تعريفنا
للحرية من حرية الوطن، بمعنى التحرر الوطني وتقرير
المصير، إلى حرية المواطن،
ويتطلب نسقا من الحكم الصالح لضمان الحرية. انظر
التعريف تفصيلا فيما
يلي.
7
روح القلب أو رمق الحياة.
8
كان اتفاق
"
سايكس- بيكو" بين بريطانيا وفرنسا غداة الحرب
العالمية الأولي هو أساس تقسيم
مشرق
الوطن العربي بين القوتين الأكبر في العالم حينها،
ومن أهم بدايات
تجزئة الأمة بين دويلات منفصلة ومتناحرة أحيانا.
أما في عصر الهيمنة الأمريكية
المنفردة الحالي، فقد آلت مهمة التقسيم "
المناسب"، بمعنى حماية مصالح قوى الهيمنة،
للوطن العربي، متضمنا تجزئة دول قائمة فعلا، إلى
مسؤولين في الإدارة الأمريكية أو
مهاويس ومحتالون مدعون للخبرة والمعرفة بالمنطقة،
يدورون في فلكها. انظر مثلا على
ذلك فيما يلي.
9
يحتمل مصطلح"متلازمة"
تعدد
الجوانب التي تتلازم في الوجود.
Globalism10
Globalisation 11
12
انظر تعريفنا
الشامل للحرية في الفصل الثاني.
13
وقت الكتابة،
كان التجمع غير المبرر للأساطيل الأجنبية على
شواطئ لبنان تحت مظلة القوات الدولية
"يونيفل"،
في ظل حكومة موالية للغرب ومتهادنة مع إسرائيل،
ومتقبلة لمعسكر المقاومة
على مضض، أو عاملة في الخفاء على تقويضه، نذير سوء
يحمل مغبة تغلغل النفوذ الأجنبي
في البلد، ظهر بوضوح إبان أزمة انتخاب رئيس
الجمهورية.
14
يقدر أن قرابة نصف الشباب السعودي متعطل بينما
تستقدم المملكة أربعة ملايين عامل
وافد.
15
تشير البيانات
المتاحة إلى أن بضع آلاف من رجال الأعمال، جلهم من
أعضاء غرفة التجارة الأمريكية
المصرية، يحتكرون جميع محافظ الأوراق المالية
المهمة في بورصة الأوراق المالية
ويعملون على تسخير القرارات الاقتصادية لمصلحتهم.
وقد تعزز تزاوج السلطة والثروة
مؤخرا، على الأقل فيما يتصل بالسلطة التنفيذية، من
خلال اختيار الوزراء من بين كبار
أصحاب الأعمال. وفتح هذا الأسلوب باب الفساد،
بمعنى توظيف المنصب العام للصالح
الخاص، واسعا حيث لم يشترط على "الوزراء- التجار"
التخلي عن مشروعاتهم أثناء توليهم
للمنصب العام. وبلغ تضارب المصالح وإمكان الفساد
مداه بتعيين وزراء في مناصب وزارية
في مجال مشروعاتهم الخاصة، بالمخالفة لصريح نص
الدستور (المادة 158: "لا يجوز
للوزير أثناء تولي منصبه أن يزاول مهنة حرة أو
عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا أو
أن يشتري أو أن يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن
يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله
أو يقايضها عليه").
ففي الحكومة القائمة في العام 2007، كان وزير
النقل وكيلا لشركات أجنبية،
وصاحب مشروعات محلية، تنتج وسائط النقل؛ ويمتلك
وزير السياحة شركة للسياحة يفترض أن
تضبط نشاطها وزارته، استثناها من تحقيق أجراه في
تجاوزات شركات السياحة أثناء موسم
العمرة انتهت بمقتل عشرات من المعتمرين؛ وينشط
وزير الزراعة كرجل أعمال في مجال
زراعة وتجارة القطن؛ ويمتلك وزير الصحة مستشفي
خاصا.
وحتى حين استحدث نظام الحكم مجلسا "لحماية
المستهلك"، من غوائل الغلاء
والفاقة، وضع على رأسه أحد كبار رجال الأعمال
الذين لا ينتظر، في ظل ثقافة القطاع
الربحي السائدة في البلد، أن تتوافق توجهاتهم
ومصالحهم مع مصالح المستهلكين من عامة
الناس.
16
يعني ذلك
تحديدا مشروعية المقاومة الفعالة للمشروع الصهيوني
والمشروع الإمبراطوري الأمريكي
المتلازمان في الوطن العربي، وعلى وجه التحديد،
إنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق،
وتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، والتخلص من
القواعد العسكرية الأجنبية في
البلدان العربية كافة، وتدعيم الاستقلال الوطني في
مواجهة التبعية المتزايدة
والاستباحة من القوى المهيمنة في النظام العالمي.
17
يستدعي تراكم
المظالم الفجة، خاصة الاستقطاب الاجتماعي الحاد،
في الواقع العربي الراهن إيلاء
عناية خاصة لغاية العدل الاجتماعي، وهي القيمة
العليا في الثقافة العربية
الإسلامية، في مسار النهضة. ويناهض هذا التزاوج
بين الحرية والعدل الاجتماعي،
الانحراف الخطير في مفهوم الحرية الذي أدخلته
"الليبرالية المحدثة" الذي انتهى إليه
"توافق
واشنطون" في إطار العولمة الاقتصادية، والذي يعلي
من شأن الحرية الفردية،
خاصة حرية الملكية الخاصة ورأس المال وحافز الربح،
ولو على حساب العدل والكرامة
الإنسانية.
18
بمعنى كامل منظومة القانون الدولي لحقوق الإنسان.
19
Public sphere
20
وفق توصيف د. حسن حنفي (محمد المجتبي عثمان ،
2007، 43).
21
قائد المعتزلة ورائدهم الفكري ومرشدهم بعد "واصل
بن عطاء"
22
"ولتكن
منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر وأولئك هم
المفلحون" (آل عمران، 104)
23
التشديد في الاقتطافات، من قبلنا (ن ف)
24
اغتالته، مع
ستة من القسس الجيزويت، داخل حرم جامعة أمريكا
الوسطى، في نوفمبر 1989، فرقة خاصة
من جيش السلفادور تدربت في الولايات المتحدة
واشتهرت بانتهاكاتها الصارخة لحقوق
الإنسان (جاندولفو، بالإنجليزية،2004)
25
أي حالة تمام
العافية، جسدا ونفسا، والتي مازالت بعيدة المنال
على الرغم من امتداد الأمد المتوقع
للحياة، حيث مازال الناس في البلدان العربية
يفقدون عددا غير مبرر من سنوات العمر
للمرض، أكبر في حالة النساء.
26
لا يحدونا هنا
أي تعلق مرضي بالحفاظ على "الاستقرار" بأي ثمن،
خاصة إذا كان الاستقرار عند مستويات
منحطة من العزة والكرامة الإنسانية، كما هو الحال
تحت أنظمة حكم الانحطاط/الهوان
الراهنة في البلدان العربية.
27
دون استبعاد قسري وقطعي لعناصر في نظم الحكم
القائمة يمكن أن تسهم إيجابيا في دفع
مسيرة الإصلاح.
28
المقصود
بمنظمات المجتمع المدني هنا جميع المؤسسات التي
ينتظم فيها الأفراد في "مجال عام"
مستقل عن سيطرة الدولة، للعمل من أجل الصالح العام
دون استهداف للربح الخاص، وهو
المفهوم الواسع للمجتمع المدني. ويضم مفهومنا
للمجتمع المدني هنا على وجه التحديد
الأحزاب، ووسائل الإعلام، والنقابات والمنظمات
المهنية، والجمعيات غير
الحكومية.
29
أقيمت في
القاهرة، في يناير 2007، بمقر نقابة المحامين
وبرئاسة رئيس لجنة الحريات بالنقابة،
محاكمة شعبية لوزيري الثقافة والنقل في الحكومة
المصرية، تعامل معها الأول بحصافة
سياسية واضحة بينما قاطعها الثاني، وانتهت المحكمة
إلى حكم رحيم وإن كان محملا
بمضامين أيديولوجية (إسلامية) على وزير الثقافة،
بينما قضت بإلغاء قرار رئيس مجلس
الوزراء بتعيين وزير النقل.
30
يقوم هذا الثبت التاريخي على كتاب "بول برستون"،
بالإنجليزية، " خوان كارلوس، قيادة
أسبانيا من الدكتاتورية إلى الديمقراطية" (2004)