|
حي الأنصار في مدينة النجف العراقية حي
فقير،ويفتقر الى الخدمات العامة، وخاصة الصحية،
شأنه شأن اَلاف الأحياء في أرجاء العراق، لكنه
يتميز بإكتظاظ منازله بسكانها، حيث تشير إحدى
الإحصائيات الى ان عدد الذين يقطنون في المنزل
الواحد يصل الى 30 نفراً. ليس هذا فحسب، وإنما
إبتلى هذا الحي الشعبي الفقير بكارثة صحية
وبيئية.فقد أُعلن رسمياً عن إصابة 37 مواطناً من
مواطني الحي بأمراض سرطانية، ومات اَخرون بالسرطان
في منطقة تضم 170 منزلاً.. بينما تشير تقارير طبية
الى ان عدد المصابين والمتوفين بالسرطان في الحي
أكبر بكثير..
وحتى لو قبلنا بالرقم الرسمي،فما الذي فعله
المسؤولون العراقيون لمواطني هذا الحي، ولمرضى
السرطان على وجه التحديد ؟
كل الدلائل تشير الى ان المسؤولين المتنفذين في
المحافظة لم يفعلوا شيئاً ! وثمة ما يدلل على لا
أباليتهم وعدم إكتراثهم بما لحق بسكان الحي !..
وإليكم بعض حيثيات ذلك:
يقول عضو المجلس البلدي لقضاء النجف ثامر الوائلي:
هناك منازل شهدت ظهور أكثر من حالة سرطانية واحدة
بين أفرادها، ولم يستجب مجلس المحافظة لطلبات 16
مريضاً بالسرطان، ممن اقتنعوا بتسجيل اسمائهم لغرض
الحصول على معونات من لجنة التكافل الاجتماعي، على
الرغم من رفع تلك الطلبات منذ 6 / 11 / 2007، وقد
توفي 6 منهم ("الصباح"،17/2/2008) ..
وبينما أفاد مدير المركز الاعلامي في محافظة النجف
احمد دعيبل: ان الادارة المدنية شكلت لجنة خاصة
برئاسة نائب المحافظ ، وعضوية كل من مدير البلدية
، ومدير عام دائرة الصحة في المحافظة ، لمتابعة
حالات الاصابة السرطانية، مشيرا الى ان اللجنة
اتخذت العديد من التوصيات، ومنها طلبها من وزارة
البلديات والاشغال العامة تخصيص قطع اراض سكنية
للعوائل التي تقطن في المنطقة المنكوبة ، لغرض
مغادرتهم إياها وتحويلها الى منطقة متنزهات وساحات
خضر، بعد ان تعذر على الجهات المختصة معرفة سبب
الاصابات السرطانية المتزايدة في هذه المنطقة
("الصباح"،17/2/2008).. نفى رئيس مجلس محافظة
النجف عبد الحسين الموسوي، في نفس اليوم، اتخاذ
قرار بترحيل العوائل القاطنة في حي الأنصار في
المحافظة بعد ظهور العشرات من حالات الإصابة بمرض
السرطان بين أهالي الحي، مشيرا إلى أنه لا يوجد
سبب لاتخاذ مثل هذا الإجراء، فضلا عن الافتقار
لإمكانيات التنفيذ في حال إقراره.. ليس هذا فقط،
بل أعرب الموسوي عن اعتقاده بأن الحالات السرطانية
الموجودة ليست حالات وبائية تستوجب أن يطلق عليها
مصطلح الوباء. وبحسب الموسوي فإن اكتشاف هذه
الإصابات يمثل لغزا لم يتم لحد الآن التعرف على
مسبباته، لافتا إلى أن المنطقة التي انتشر فيها
السرطان منطقة سكنية لا توجد فيها مصانع أو مراكز
إشعاع، الأمر الذي يثير استغراب المختصين- على حد
قوله ("راديو سوا"، 17/2/2008).
تصوروا..عشرات الإصابات، والعديد من الوفيات
السرطانية، وسط أهالي الحي "لا تشكل" من وجهة نظر
رئيس مجلس المحافظة حالات وبائية !!.. ومعنى هذا
"لا تستوجب" القلق !!..وربما " لا داعي" لإتخاذ
الإجراءات المطلوبة..!!
من جهته، أعلن المفتش العام في وزارة الصحة عادل
محسن عدم توصل اللجنة المكلفة بالبحث في هذه
القضية إلى معرفة أسباب الإصابة بالمرض( لم يوضح
من الذي شكل اللجنة، ومن أية إختصاصات علمية
وطبية)، مرجحا وجود أسباب وراثية وراء الإصابة
بمرض السرطان في هذا المنطقة الجغرافية
الضيقة.وأكد رئيس مجلس محافظة النجف عبد الحسين
الموسوي ( لا نعرف مهنته ولا إختصاصه) إن اكتشاف
هذه الإصابات يمثل لغزا لم يتم لحد الآن التعرف
على مسبباته.
مع ان مدير صحة النجف رضوان الكندي عزا، في
تصريحات له يوم 14/2/2008، ظهورالإصابات إلى
احتمال استخدام أهالي الحي لحاويات نفايات ملوثة
بالإشعاع النووي أو احتمال تلوث مياه الشرب
بالمياه الثقيلة بسبب قدم شبكة الصرف الصحي
("راديو سوا"، 17/2/2008)..
وهنا نتساءل: ما دام ثمة ضحايا و" لغز"، فألا
يستوجب الأمر القيام بإجراءات عاجلة وفاعلة لتشخيص
أسباب المرض، ومعالجة المرضى، ودرء الخطر عن
المواطنين الآخرين ؟!!
والسؤال الآخر:إذا كانت الحالات السرطانية
المنتشرة في الحي " لا تستوجب ان يطلق عليها مصطلح
الوباء"- كما يعتقد السيد الموسوي، فلماذا أطلق
نفسه نداء للحكومة العراقية، والمنظمات الدولية،
للإسهام في تشخيص أسباب الإصابة بالسرطان ومعالجة
المصابين به ؟!!..
وثمة تساؤلات أخرى تطرح نفسها:أين كانت الجهات
المعنية في المحافظة قبل ان يتم الكشف عن هذه
الكارثة الإنسانية ؟ ولماذا تُركت الأمور تستفحل
وتنفجر ويروح ضحيتها مواطنين أبرياء ؟!!
أليس غريباً ومريباً ان تمر مثل هذه الكارثة
وأمثالها " مرور الكرام"، وكأنه لم يحصل شيئاً ؟!!
ألهذه الدرجة أصبحت حياة العراقيين " رخيصة" ؟
وإلا، فما الذي فعلته سلطات العراق الجديد، بدءاً
من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة
البرلمان، الى وزارة الصحة ووزارة البيئة ووزارة
العلوم والتكنولوجيا، وغيرها، لحماية المواطنين
ودرء المخاطر عنهم ؟!! ولماذا لم تتحرك لحد الآن،
وما الذي تنتظره، لتقوم بواجباتها المهنية
والوطنية والإنسانية في مثل هذه الحوادث ؟!! ألم
تسمع بحادثة حي الأنصار النجفي ؟ ومتى يتم تطبيق
البرامج المشتركة المُعلن عنها بين وزارات الصحة
والبيئة والعلوم والتكنولوجيا، وفي أية قضايا،إذا
لم يتم في مثل هذه الكارثة الصحية والبيئية ؟!!
وأين هي خطة إدارة الطوارئ للكوارث البيئية
والصحية ؟!
ألا يفترض، مثلاً،تشكيل فريق عمل يضم إختصاصات
علمية عديدة وخبراء فيزيائيين وكيميائيين،
وبالأورام والأمراض السرطانية، وبطب الأطفال،
وبالأوبئة، وبالإشعاع والطب الذري،من كلية
الطب،ومن مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة
البيئة، ومن دائرة المواد الخطرة وبحوث البيئة
التابعة لوزارة العلوم والتكنولوجيا،وغيرها،
للوقوف ميدانياً على أسباب الحالات السرطانية هذه،
ولمعالجة المرضى، ولحماية المواطنين الآخرين ؟..
ولِمَ لم تتحرك وسائل الإعلام العراقية بالشكل
المطلوب من الموضوع،بحيث ان بعضها لم يأت على
ذكره، وأخرى إعتمدت على ما نقلته وسائل الأعلام
الأجنبية، وإكتفت بنشر بضعة أسطر عنه ؟!..
لو كنا في بلد يحترم المسؤولون المتنفذون فيه حقوق
الإنسان، وتهمهم حياة مواطنيهم حقاً وفعلاً، لهبت،
في مثل هذا الحالات وأمثالها، كافة المؤسسات
المعنية في الدولة،لا بل لأعلنت حالة طوارئ في تلك
المنطقة ..
كطبيب وباحث بيئي،أرى ان تولي الجهات المعنية
بالبحث عن أسباب الحالات السرطانية المنتشرة في
ذلك الحي الفقير أهمية إستثنائية لموضوع التلوث
الإشعاعي الناجم عن إستخدام الأهالي في تلك
المنطقة لحاويات نفايات ملوثة بالإشعاع تم نهبها
من مركز هيئة الطاقة النووية العراقية في التويثة
عقب سقوط النظام المقبور،وتم إفراغ محتوياتها من
المواد المشعة والخطرة عشوائياً، في كل مكان،وحتى
في البيوت وفي بالوعات المنازل، الى جانب الملوثات
الأخرى.. ولابد من إجراء التحليلات المختبرية
اللازمة للمرضى ولذويهم.. إن العلم والمنطق يقولان
ان كل أسرة إستخدمت مثل تلك الحاويات الملوثة
إشعاعياً مهددة بالإصابات السرطانية،وبالولادات
الميتة، وبالتشوهات الخلقية.. لتتأكد الجهات
المختصة ميدانياً، عبر مسح يشمل كافة العوائل
الساكنة هناك، من وجود هذه الحالات وسطهم.. لتسأل
العوائل ولتتأكد من الأمهات: كم طفلآ ولد لهن
ميتاً أو مشوهاً ؟ وكم واحد من أفراد الأسرة مات،
وكم أصيب بالسرطان ؟..
لقد دعونا ،وغيرنا من الباحثين المعنيين، مراراً
وتكراً، عقب عملية النهب التي حصلت في نسيان/أبريل
2003، الى ضرورة متابعة تداعيات عملية نهب
الحاويات الملوثة بالإشعاع، الى جانب الحذر من
أخطار الركام المضروب بذخائر اليورانيوم
المشع..ونشرنا معطيات كثيرة عن عوائل إستخدمت مثل
تلك الحاويات وإنتشرت وسطها الوفيات والسرطانات
والتشوهات الولادية، خصوصاً في القرى المجاورة
للتويثة، في المدائن- سلمان باك- وديالى،
وغيرها..ونبهنا الجميع بان المخاطر ستطول المناطق
الأخرى المجاورة وحتى البعيدة !.. وعدا هذا، فان
محافظة النجف تعرضت لأضرار الحرب ولمخلفات إستخدام
سلاح اليورانيوم المشع.. والأكيد ان التداعيات
المذكورة لم يتم الإهتمام بها من قبل المسؤولين في
المحافظة، مثلما هو في أنحاء العراق !!.. فهل من
مستجيب ؟!
وكان الله في عون العوائل المنكوبة ! وفي عون
الباحثين الساعين لإنتشال أبناء وبنات وطنهم من
التلوث والإشعاع والسموم الكيميائية والأمراض
الخبيئة !
--------
*د.كاظم المقدادي- باحث عراقي،رئيس قسم إدارة
البيئة بالأكاديمية العربية في الدنمارك.
|
|
|
|
|