|
على الرغم من أن العديد من الحكومات أخذت تتحدث عن
أهمية المجتمع المدني ومؤسساته فإنها في الواقع
العملي سعت إما إلى التضييق عليه أو احتوائه أو
جعله واجهة من واجهاتها أو إنشاء مؤسسات موازية له
لمنافسته أو لشق صفوفه، وبالتالي لإضعاف دوره
الرقابي والرصدي سواء الاحتجاجي أو الاقتراحي
لاسيما لأداء الحكومة، التي ظلّت في العديد من
البلدان العربية والإسلامية بشكل خاص
والعالمثالثية بشكل عام، تعاني ضعفاً أو شحةً في
فرص الحريات وهشاشةً في الحقوق السياسية والمدنية.
وإذا كان هناك اعتراف عام بأن المجتمع المدني
بتنوعه وغناه يمكن أن يكون أحد اللاعبين المهمّين
الجدد في التشريعات والقوانين والأنظمة واللوائح،
فإن الاقتراب أو الابتعاد عنه يعتبر مؤشراً على
التزام الحكومات والحركات السياسية بما فيها التي
في المعارضة، بالمعايير الديموقراطية واحترام حقوق
الإنسان.
وتصنّف بعض الحكومات مؤسسات المجتمع المدني
أمنياً، فتعتبر بعضها ضد الحكومة وأخرى مع الحكومة
أو موالية لها وبعضها الآخر سياسية، بحيث يمكنها
«استهدافها» حتى إن كانت مستقلة عن الحكومة
والمعارضة، ولذلك فهي تواجه المنظمات غير الموالية
أو المستقلة بوضع عقبات أمام تسجيلها، ثم تخضعها
إذا سمحت لها بالتسجيل أو الترخيص القانوني
للمراقبة والمراجعة الدقيقة والتفصيلية، وفي
الأغلب تضع عراقيل أمام نشاطها حتى إن أجازت لها
العمل الشرعي والقانوني.
كما أن الحكومات تعتبر أي نشاط يشارك فيه بعض
المعارضين السياسيين، حتى إن كان نشاطاً حقوقياً
إنما هو نشاط سياسي معارض، مثلما تعتبر أي نشاط
حقوقي تتبنّاه المعارضة أو تتوافق معه، إنما يصبّ
في طاحونة أعدائها أو خصومها، وبالتالي فهو نشاط
سياسي قد يستحق التحريم أو حتى التجريم أحياناً.
وتلجأ الحكومات الى وضع القيود والقيام بالتفتيش
أو التحقيق أو حتى الاعتقال، ناهيكم عن اختراع تهم
أو شن دعايات مسيئة ضد نشطاء في المجتمع المدني،
وأحياناً تساهم فيه بعض «المعارضات» التي ترضع من
الثدي الشمولي أو التقليدي نفسه الذي ترضع منه
الحكومات، أو بعض القوى الخارجية إزاء «الآخر».
ومن المسائل الإشكالية هي مسألة التمويل، التي هي
سلاح ذو حدين فالحكومات من جهة تمنع المنظمات
المدنية والحقوقية من تلقي أي منح أو أموال دولية
أو تضع العراقيل المباشرة وغير المباشرة قبل
الموافقة، وفي الوقت نفسه تمنعها هي الأخرى من
الحصول على تمويل داخلي عن طريق المنح الرسمية أو
شبه الرسمية أو حتى التبرعات، وإذا كانت بعض
المنظمات أو الأشخاص المتنفذين فيها ممن يسعون إلى
الكسب الشخصي أو إلى الارتزاق أو وضع أجندة
المموّل الدولي فوق الأجندة الوطنية أو القيام
بأنشطة سياسية أو دعائية تضرّ بالوحدة الوطنية أو
تسيء للتعايش المجتمعي، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون
مبرراً لمنع المنظمات من الحصول على تمويل دولي من
الأمم المتحدة وهيئات دولية معترف بها، في إطارات
الشفافية والمراقبة خصوصاً من جمهرة الأعضاء
ناهيكم عن الأجهزة الرسمية القانونية.
لذلك فإن سيف الاتهام بالاتصال بالقوى الخارجية
كان باستمرار مصلتاً على مؤسسات المجتمع المدني،
سواء ما يتعلق بتهديد الأمن العام أو تطبيق
الأجندة الخارجية أو مخالفة القوانين والأنظمة
السائدة، بل إن بعض القوى الدولية هي الأخرى
استهدفت بعض مؤسسات المجتمع المدني سواء باتهامها
بممالأة حكوماتها إن هي وقفت ضد محاولات إملاء
الإرادة أو فرض الاستتباع، أو حرمانها من التمويل
الدولي بسبب مواقفها سواء بتأييد «المقاومة» أو
دعم حق الشعوب في التحرر والاستقلال وتقرير
المصير، مما تعتبره القوى المتنفّذة موقفاً
معادياً منها، ولعل التعامل ذا الصفة الازدواجية
والانتقائية مع مؤسسات المجتمع المدني في البلدان
التي تحت الاحتلال، خير دليل على التوظيف السياسي
من جانب بعض القوى الدولية.
إن الإقرار بحق مؤسسات المجتمع المدني في التنظيم
والتعبير والتجمع والكلام يقتضي منها الاتصال
بمثيلاتها دولياً، وهو ما أكده الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص
بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، وهذا الحق
ينطلق من حق تشكيل كيان قانوني «منظمة غير حكومية»
كفضاء عام لتحقيق أهداف إنسانية مشتركة تشكل
قاسماً بين الحكومات والمجتمع المدني، الأمر الذي
يتطلب عدم التدخل الحكومي بشؤون هذه المنظمات، لكي
تتمكن من الوفاء بالتزاماتها وتحقيق أهدافها بما
فيها على الصعيد الدولي. ولعل العديد من الحكومات
بما فيها العربية كانت قد وقعت على العديد من
الاتفاقيات الدولية، التي تضمن هذا الحق.
وهذا الأمر له علاقة حميمة بحق التعبير وحق
الاتصال والحق في إقامة العلاقة مع شركاء محليين
أو دوليين، بما فيها المشاركة في نشاطاتهم والبحث
عن إمكانات وضمانات لتحقيق ذلك.
وإذا كانت هذه المبادئ تشكل مشتركاً إنسانياً
وحقوقياً، فثمة عوائق تقف في طريقها خصوصاً في
العالم الثالث، منها ضعف وهشاشة التراكيب
الديموقراطية على جميع المستويات الحكومية وغير
الحكومية، وتدخلات السلطة التنفيذية بشؤون الأجهزة
التشريعية والقضائية، إضافة إلى الدور السلبي الذي
يؤديه الإعلام الرسمي أحياناً، خصوصاً في الترويج
للحاكم والتشهير بالمجتمع المدني وتسويد صورته،
لاسيما إذا كان موقفه مبدئياً إزاء مظاهر التحكّم
والفساد والرشوة وهدر الحريات والتجاوز على حقوق
الإنسان.
وهناك سبب ذاتي لا يقل سلبية عن الأسباب
الموضوعية، ذلك أن بعض مؤسسات المجتمع المدني
اقتفت أثر الحكومات في حياتها الداخلية، فتجاوزت
على قواعد العمل الديموقراطي وكرّست عبادة الفرد
وظهرت منظمات ذات الوجه الواحد والصوت الواحد،
وغابت الهيئات الإدارية أو الاستشارية، إلاّ
لضرورات البروتوكول أحياناً أو لأخذ الصور
التذكارية، لدرجة التندّر حتى من جانب بعض
الحكومات التي شهدت «تداولاً» محدوداً للسلطة أو
نوعاً منه وإن كان شكلياً، فبدلاً من أن تصبح
مؤسسات المجتمع المدني نموذجاً للتداول والتناوب
في المسؤوليات، فإذا بها تتحول إلى هيئات شكلية
تلعب فيها المصالح والارتياحات الشخصية والرغبة في
الهيمنة.
ثم إن بعض قيادات المجتمع المدني لم يترك المسافة
الكافية بينه وبين الانخراط في العمل السياسي أو
الانحياز الآيديولوجي أو الديني اقتراباً أو
ابتعاداً من المعارضات والحكومات أو الأجندات
الدولية بما أضعف مهنيتها وصدقيتها، وأحياناً
جعلها هدفاً سهلاً لاسيما بعض المغريات خصوصاً
لأوساط عاملة في المنظمات الدولية التي يصبح من
أهدافها أحياناً تمثيل جانب التطرف ضد بلدانها،
إما تملّقاً للآخر أو رغبة في الحصول على امتيازات
جديدة أو لقصور في فهم طبيعة تطور منطقتنا.
إن مؤسسات المجتمع المدني تقف بين التسيير
والتخيير، وعليها الاختيار، وتتعرض إلى مواقف بين
التشويه والتنزيه، وعليها إثبات جدارتها وسط
الكثير من الإغراءات والضغوط والعواصف! |
|
|
|
|