قد تتعرض الدول والشعوب إلى ارتكابات بين أفرادها
بعضهم ببعض كما بين أفرادها وسلطاتها..كما بين
أفرادها ومجاميعهم وقوى خارجية دفاعاً عن الحقوق:
عن حق الحياة وعن الأمن والسلام الوطنيين وعن
تعايش المجتمع بدون تفجرات قد تعرض الكيان الوطني
للخطر.
تراكمت الخبرات لدى شعوب العالم وتطور حل الخلافات
فيها حيث كان المرجع في القبائل {الزعيم أو العراف
أو الساحر..الخ} بعدئذ تطور بحيث اصبح رجال الدين
هم السبيل لحل جميع المشاكل، وبعدئذ أصبحت الكنيسة
والجامع مكان للمقاضاة ولها سلطاتها التنفيذية
وحرسها، ومن ثم ظهر في البلاد الإسلامية القاضي
الشرعي الذي استند إلى أحكام الشريعة في قراراته
ووفق قدرته على قراءة النص وتوظيفه في معالجة
القضايا المطروحة أمامه.
انتفضت أوروبا المسيحية على سلطة الكنيسة... وبدأت
تظهر بشائر ولادة حالة مجتمعية جديدة.. حيث توالدت
في أوربا إطارات المجتمع المدني الأهلية.. التي
لعبت دوراً في تطورات مجتمعاتها وترسيخ، يوماً بعد
يوم، حقوق الإنسان ومنها حقه في اللجوء إلى القاضي
للحصول على حقوقه.
تسارعت الأمور بعد الحرب العالمية الأولى بحيث
انتشرت في كل البلاد المستعمرة أو المنتدبة أشكال
من القضاء يماثل ما هو قائم في بلاد الغرب إلا أن
ذلك لم يلغ كل المراجع القضائية الموجودة في
البلدان الخاضعة للانتداب فقد وجد إلى جانب القضاء
المدني قضاء شرعي {البلاد الإسلامية} أو قضاء ديني
كما في السيخ والهندوس أو قضاء العشائر في بعض
البلاد العربية والإفريقية إلى أن كانت الدولة..
إذ بدأت إرهاصاتها ـ ما قبل حرب السبعين بين
ألمانيا وفرنسا ـ تتجلى على ضوء نتائج المعارك
التي خاضتها شعوب العالم جميعاً دفاعاً عن
حياضها..أو توجهاً لضم جوارها وتوسيع
إمبراطورياتها. وكانت الحربان العالميتان ممراً
إجبارياً لاستقرار مفاهيم المجتمعات المدنية.
واستقر التطور البشري دستورياً وقانونياً على
اعتبار الدولة قائمة على سلطات ثلاثٍ مستقلة هن:
السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة
التنفيذية ولكل منها حدوده وأدواته والقائمين عليه
إلا أن الوضع في سوريا بالرغم من وجود السلطات
الثلاث مختلف، فالسلطة التنفيذية تتمثل، في هيكلة
النظام القائم في سوريا حالياً، {الذي تتداخل فيه
سمات النظام الرئاسي مع البرلماني} برئيس
الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزراء مسئولون أمام
الرئيس يكلفهم ويعفيهم وفق ما يرتأيه.
والسلطة التشريعية منوطة بمجلس ينتخب أعضائه من
الشعب ضمن دوائر انتخابية واسعة تكون محكومة
بالقوائم التي تحددها الأجهزة الأمنية وحزب البعث
ويسخر لها كل إمكانيات الدولة (ومع عزوف قطاعات
واسعة من الناخبين عن ممارسة دورهم) تكون النتيجة
حتمية (نجاح هذه القوائم) ويحق لرئيس الجمهورية
دستورياً إصدار المراسيم دون عرضها على مجلس
الشعب، ولو كانت جلساته منعقدة، وأصبح هذا
الاستثناء هو القاعدة في العمارة القانونية
القائمة بالبلد {3000 قانون و مرسوم خلال خمس
سنوات 2000/2005}.
أما السلطة القضائية فهي حالياً محكومة بالقانون
رقم 98/1961 والذي أعطى لرئيس الجمهورية رئاسة
مجلس القضاء الأعلى/مع أن النظام الذي صدر تحت ظله
كان برلمانياً أي يفترض أن تتجسد فيه بشكل كامل
استقلالية السلطات وخاصة القضائية/وبما أن رئيس
الجمهورية لا يحضر جلسات المجلس لمهامه الكبيرة،
مما يجعل وزير العدل الرئيس الدائم والفعلي له،
وهكذا أصبح مجلس القضاء الأعلى خاضع لكل ما تقرره
السلطة التنفيذية وتوجه إليه، كما أن تشكيل المجلس
يتكون من 4/7 أشخاص يخضعون للسلطة التنفيذية
فالمادة /65/ نصت على التشكيل وفق ما يلي:
رئيس الجمهورية أو وزير العدل رئيساً.
رئيس محكمة النقض {قاضٍ معين من وزير العدل رئيساً
لمحكمة النقض}.
النائبين الأقدمين لرئيس محكمة النقض.
معاون وزير العدل ـ موظف إداري.
النائب العام{خاضع لوزير العدل}.
رئيس إدارة التفتيش القضائي (تحت سلطة وزير العدل)
ومن هذا التشكيل يتبين أن السلطة التنفيذية ممثلة
بـ 4/7 من الأعضاء مما يجعل هذا المجلس جزءاً من
السلطة التنفيذية. وبالإضافة لذلك فإن الحزبيين
قرؤوا المادة الثامنة من الدستور (حزب البعث
القائد بالدولة والمجتمع)بأنها مصادرة الدولة بكل
مؤسساتها لمصلحتهم ومن هنا فقد سُكِّن الحزبيون
بالقضاء على درجة لم يعد ـ تقريباً ـ في الهرم
القضائي قاضٍ غير حزبي، وبما أن شرط الحزبي لا
يكفي إذ لا بد من الحصول على موافقة الأجهزة
الأمنية ـ وليس كل حزبي ممن ترض عليه هذه الأجهزة
ـ وفي ظني أن ذلك من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى
انتشار الفساد في هذه السلطة.
ورغم أن ذلك يخالف نص المادة 131-133 من الدستور
التي نصت على{استقلال القضاة وإن لا سلطان عليهم
سوى شرف القضاء وضميرهم، وتجردهم ضمان لحقوق الناس
وحريتهم}كما مع نص المادة /81/ قانون السلطة
القضائية التي نصت{يحظر على القضاة إبداء الآراء
السياسية ويحظر على القضاة الاشتغال بالسياسة و
كذلك نص المادة / 150/ من قانون العقوبات العسكري
بفقرتيها / أ ـ ب / التي نصت على العقوبة
بالاعتقال المؤقت إذا انضم العسكري أو أسس أو
التزم بحزب، مما يجعل كل القضاة في المحاكم
العسكرية وغالبيتهم في المدنية مرتكبون لهذه
الجريمة.وبالتالي يفتقدون الحيدة والنزاهة المفترض
توفرهما بالقاضي.ومن المعلوم أن الحصانة نوعاً ما
المتوفرة للقاضي المدني ـ والتي تخترق في كل آن ـ
غير متوفرة بالقضاء العسكري لأن القضاة فيه يعينون
وينقلون للقطعات كأي ضابط عادي للجيش: لذلك هم
يتبعون التعليمات الموجهة إليهم من وزارة الدفاع
ولو تعارضت مع نص القانون.. حفاظاً على مواقعهم،
كما حوكم المدنيون أمام المحاكم الميدانية التي
شكلت بالمرسوم التشريعي 109/1968 المعدل بـالمرسوم
12/1969 (من قبل وزير الدفاع) وأعفيت هذه المحاكم
من اتباع الأصول والقواعد القانونية بحكم المادة
/5/ من المرسوم وفُعِّلَتْ هذه المحاكم بحيث أصدرت
الكثير من أحكام الإعدام ونفذت دون أي أصول علماً
بأن قراراتها لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة
والطعن.
وأتت محكمة أمن الدولة العليا المنشأة بالمرسوم
47/1968.. لتكون صورة فاقعة وبإضافة لما ذكر أعلاه
فإن الحاكم العرفي هو الذي يقترح تشكيلها
ويَصْدُرْ بذلك مرسوم. وهو الذي يحيل إليها
القضايا كائناً ما كانت وبالتالي له الحق أن يسلخ
عن القضاء العادي النظر بأي قضية وله أيضاً أن
يسحب أي قضية منظورة أمام ذلك القضاء وهي معفاة
أيضاً من اتباع القواعد والأصول المادة /7/ من
المرسوم.
وكانت ثالثة الأثافي صدور المرسوم /40/ 1966 الذي
أعطى لمجلس الوزراء حق تسريح أو نقل القضاة لأي
ملاك وقرار الصرف أو النقل لا يخضع لأي طريق من
طرق المراجعة أو الطعن القضائي وعلى الأخص أمام
مجلس الدولة أو الهيئة العامة لمحكمة النقض.
- وحتى المحكمة الدستورية العليا التي يفترض بها
أن تحمي المواطن من هدر حقوقه بأي قانون أو مرسوم
تصدره السلطة التنفيذية والتشريعية فقد نص نظامها
المنصوص عنه بالمواد من 139-148 من الدستور على
جهتين تملك صلاحية الادعاء وهم رئيس الجمهورية أو
ثلث أعضاء مجلس الشعب مما يفقد المواطن أو أي
مجموعة من المواطنين الحق باللجوء إليها.
- وإذا توجهنا للقضاء الإداري المنصوص عنه
بالقانون رقم (55/1959) والذي أصبح يخضع لرئاسة
مجلس الوزراء حسب التعديل الذي ادخل على القانون
(بالمرسوم 50/1961) واصبح تشكيل مجلس الدولة
ومحاكمه وشئونه من اختصاص مجلس الوزراء وهكذا فقد
كل مقومات استقلاله.
- هذا الواقع أفقد المواطن أية ثقة بالقضاة
والقضاء مع التنويه بضخامة الدعاوى وقلة القضاة
بالإضافة إلى ما يفرضه قانون الأصول من إجراءات
تساعد على إطالة أمد التقاضي وخاصة بالدعاوى التي
تنظر أمام القضاة الذي ليس لهم رادع من ضمير أو
وجدان.
وهكذا انتهى منذئذ كل معنى لاستقلال السلطة
القضائية وتكرست السلطة التنفيذية كسلطة وصائية
مطلقة على السلطة القضائية.
هذه النظرة السريعة والموجزة للواقع القضائي في
بلدنا تشير إلى:
1) تغوّل السلطة التنفيذية على السلطة القضائية من
خلال نصوص ما زالت قائمة ونافذة..سواء أكانت
بالتعيين أو بالإشراف أو بالمؤهلات أو السجايا
المتوجب توفرها بالقاضي.
وهذا يشمل جميع تشكيلات القضاء العادي أو العسكري
والأمني والإداري.. وحتى المحكمة الدستورية
العليا.
2) إن الفساد في الهيكلية القضائية سمة غالبة،
ورغم إقدام السلطة مؤخراً على تسريح عدد من القضاة
ـ بطريقة غير أصولية أو قانونية ـ فإن الكثيرين
ممن لم يشملهم التسريح أكثر فساداً ممن سرحوا
لأسباب عدة.. أهمها ـ في ظني ـ الحصانات / خارج
السلطة القضائية / التي يتظلل بها العديد من
القضاة حزبية أو أمنية.
ولا أضيف هنا جديداً على المطالب العديدة التي
صدرت عن القضاة والمحامين وكل المهتمين بحقوق
الإنسان وهيكلة الدولة وسيادة القانون واستقلال
القضاء والقضاة ووضع قانون جديد لها ينص على
المفاصل الرئيسة:
1- رئاسة السلطة للهيئة العامة لمحكمة النقض التي
تتشكل من رئيس محكمة النقض ونوابه ورؤساء الغرف
التابعة للمحكمة وهذه الهيئة هي السلطة العليا
الوحيدة التي تتولى شئون السلطة القضائية.
وعلى أن يتم انتخاب رئيس النقض من قبل قضاة محكمة
النقض مع الأخذ بعين الاعتبار السن والقدم.
2- تفعيل ودعم إدارة التفتيش القضائي التي تعجز عن
القيام بمهامها بحيدة ونزاهة، وعدم تفرغ القضاة
العاملين بها لأنهم يعملون قضاة بالإضافة
للتفتيش.. ما يؤخر إنجاز القضايا، وكوادره من
القضاة الحاليين ـ الذين وصَّفنا أوضاعهم ـ
3- العودة إلى طريقة المسابقات البعيدة عن أجهزة
الأمن والحكم وحزب البعث وتعيين المؤهلين علمياً
وخلقياً وهيئةً دون النظر إلى ولاءاتهم لأنهم كما
ينص القانون بعيدون عن الأحزاب والحزبية وهذا لا
يعني أنهم بلا انتماء وطني وقومي ومتابعة لشئون
البلد وتطورات أوضاعه.
4- إعطاء الحق /بتعديل نصوص قانون المهنة/ لنقابة
المحامين بعدم قبول كل من يصرف من الخدمة أصولاً،
في نقابة المحامين وذلك حينما تكون التهمة متعلقة
بالنزاهة ونظافة الضمير واليد.
5- أقدمت السلطة على إنشاء معهد قضائي لتأهيل
القضاة لمدة سنتين وبعدها يصبحون قضاة صلح..
ومازالت أجهزة الأمن هي التي تجيز الانتساب للمعهد
أولاً كما أن الأغلبية من حزب السلطة..
- إن كل ما نتطلع إليه لا يمكن أن يتحقق إذا بقيت
العمارة الدستورية والقانونية القائمة حالياً، ولم
يحدث فيها التغيير نحو الديموقراطية والتعددية
وتبادل السلطة بالوسائل السلمية..لأن هذه العمارة
كرّست الاستفراد والإقصاء وتجيير المجتمع للسلطة
القائمة التي تفصِّل القوانين / وقبلئذ الدستور /
على مقاسها وبما يضمن استمرارها وعدم قيام آليات
محاسبة حقيقية لعتلات الفساد في قمة السلطة..
__________
* وزير سابق، أمين عام مساعد لحزب الاتحاد
الاشتراكي العربي الديمقراطي في سورية
|