\لا
نعتقد ان الشعب العربي الفلسطيني المحاصر في قطاع
غزة والذي اجتاز الحدود المصرية لشراء احتياجات
أطفاله بعد حصار ممتد كاد ان يفتك به يستحق كسر
الأرجل، بل على العكس من ذلك يستحق ان ننحني
تقديرا له على تحضره ورقيه ورفعة أخلاقه، التي عبر
عنها ما يقارب 800 الف مجوّع لم يرتكبوا فعلة
اجرامية فادحة تستدعي صرف النظر عن الكارثة
الأصلية التي ألمت بهم واجبرتهم على عبور الحدود
للتسوق في مصر. و يحق لأبناء غزة ان يباهوا الأمم
بسلوكهم الجماعي الراقي، ونحن نعرف عن ماذا نتحدث
عندما تعم الفوضى وتتحرك الجموع المنفلته والغوغاء
لتنهب كل ما خف حمله وغلى ثمنه. وأحداث اعصار
"كاترين" في الولايات المتحدة أكبر شاهد على ذلك،
عندما نهبت الجموع كل ما وقع تحت ايديها وهي
المتخمة وغير الجائعة. شعب مصر العظيم لم يكن أقل
تحضرا ورقيا عندما احتضن اهل غزة وفتح لهم بيوته
ودوواينه في اعظم ظاهرة شعبية عفوية للتعبيرعن
التضامن والعطف الذي يستحق الاشادة والتقدير.
حادثة عبور الحدود المصرية ذكرتني بالقانون
الألماني المتّميز الذي لا يشدد العقوبة على
السجين الذي يحاول الفرار من سجنه اذا حاول كسر
سجنه بحفر الأنفاق او بقص القضبان او بأي طريقة لا
تلحق أذى جسديا بموظفي الحراسة. روح هذا القانون
تكمن في ان حرية الانسان ونزوعه نحو الحرية
واستيفاء الحاجات الحيوية هي فطرة بشرية لا تقف
امامها حدود، وعليه لم يرى المشّرع تشديد العقوبة
على السجين اذا حاول التصرف تبعا لفطرته ولم يلحق
أذى بأحد اثناء ذلك دون أخذ اسباب احتجازه بعين
الاعتبار.
في العام 1987 انتفض الشعب الفلسطيني على الاحتلال
الاسرائيلي فيما سمى بانتفاضة الحجارة. رد وزير
الدفاع الاسرائيلي المذعور آنذاك "اسحاق رابين"
على ضخامة الهبة الشعبية، كان باصداره الأوامر
لجيشه لتكسير عظام الفلسطينين لكسر ارادتهم، وكان
رد الشعب الفلسطيني بالصمود والانتقال الى اشكال
اقوى واعنف في المقاومة، وتحمل عمليات القتل
وتكسير العظام والاعاقات التي سببتها اجراءات
الاحتلال العنيفة في محاولتها لكسر انتفاضته
الشعبية.
وفي هذا السياق يسجل لمصر ولشعب مصرالعظيم انه لم
يرق يوما قطرة دم فلسطينية، بل حماها حيث تسنى له
ذلك وقدم عشرات الآف الشهداء والمفقودين على ارض
فلسطين ودفاعا عن مصر، ونجزم ان هذا الشعب العظيم
وجيشه لن يخرجا يوما عن هذا التقليد وفاءا لأحرار
مصر وشهدائها الذين سقطوا دفاعا عن فلسطين ومصر
والأمة العربية وانسجاما مع الالتزام الذي اطلقه
الرئيس حسني مبارك بأنه لن يسمح بتجويع الفلسطينين،
وهو الذي سمح لهم بدخول مصر آمنين لقضاء حاجاتهم
الحيوية التي حرمهم منها الحصار الظالم.
بعد عشرة ايام من فتح الحدود مارست جمهورية مصر
العربية حقها السيادي في ضبط حدودها وعاد مئات
آلاف الفلسطينيين الى سجنهم الكبير في الهواء
الطلق في غزة تحت الحصار دون فتح معبر رفح ولتستمر
المعاناة ويستمر القتل وفي نفس الوقت لتستمر
المقاومة ايضا، ولكن ماذا بعد؟ غزة لا زالت تحت
الحصار!! فماذا نحن فاعلون؟ ولا استثني أحدا من
هذا السؤال.
هل ننتظر ان تتحقق المعجزة لتعود اللحمة
الفلسطينية بين غزة ورام الله لتفتتح المعابر ونحن
نعرف جميعا ان هناك فيتو دولي بتواطؤ عربي رسمي ضد
عودة هذا الحوار الذي تتزايد صعوبة شروط تحقيقه
يوما بعد يوم؟
هل ننتظر ان يصل المفاوض الفلسطيني في رام الله
الى الدولة الموعودة قبل نهاية عام 2008 كما يحاول
البعض ايهامنا في ضوء العدوان والاستيطان
المتصاعد الذي تتعرض له الضفة الغربية؟
هل ننتظر حتى تنجح غزة بوسائل مقاومتها البسيطة
وبصمود ابنائها بمعداتهم الخاوية ان تحقق معجزة
كسر الحصار الاسرائيلي، من الجهة الاسرائيلية هذه
المرة ليرتكب الجيش الاسرائيلي مذبحة على الهواء
مباشرة؟
ام هل ننتظر ان يرق قلب اسرائيل وتوقف عمليات
القتل اليومي وترفع الحصار وتتحمل مسؤلياتها كقوة
احتلال بعودتها للتحكم بقطاع غزة ومعابره لنقول
اننا نحافظ على الوحدة السياسية والترابية بين
الضفة والقطاع؟
اسئلة كثيرة، انتظار الاجابة عليها يعني استمرار
حصار ومعاناة 1.5 مليون فلسطيني.
امام هذا الواقع الوحشي والمعقد تعتبر الحملات
الاعلامية التي بدأنا نشهد تناميها هادفة لتقويض
حملات التضامن العربي والعالمي مع الشعب الفلسطيني
المحاصر، مقدمة لما هو قادم في الأفق وهو مواصلة
ابتزاز الشعب الفلسطيني سياسيا ليثور على حركة
حماس التي تحكم وتدير قطاع غزة حيث حصل العكس
تماما نتيجة تشديد الحصار. وهنا نقول يبدوا ان
البعض لا يود التعلم وأخذ العبر مما حدث ويصمم على
تجويع غزة انتظارا لاجتياحها اسرائيليا وهذا ما
فعلته أمريكا في العراق وبحجج واهية عندما حاصرت
الشعب العراقي لمدة ثلاثة عشر عاما وبعد ما أنهكته
إنقضت عليه.
مسؤلية انقاذ غزة هي مسؤلية عربية أخلاقية
وقانونية اولا وتقع على عاتق النظام العربي الذي
فشل في تحقيق اي تقدم فيما يسمى مبادرة السلام
العربية وراحت دعواته لأصدقائه الأمريكيين
والاسرائيليين في مهب الرياح، بل على العكس من
ذلك زادت الهجمة الاسرائيلية شدة ووحشية. والى حين
تحقيق اي تقدم ملموس لا يجوز ومن المحذور عربيا
توجيه اصابع الاتهام الى غزة ووضع الشروط عليها
وهي تنتهك وتغتصب يوميا على ايدي آلة الحرب
الاسرائيلية.
عندما نطلب من جمهورية مصر العربية القيام بدور
قيادي في كسر الحصارعن ابناء الشعب الفلسطيني
فاننا لا نود احراجها او توريطها او الضغط عليها
كما يتصور البعض، بل ننطلق من المراحل التي كنا
فيها ابناء مصر الذين حملوا فكرها وزخمها النهضوي
وعنفوانها وامتداد تأثيرها العالمي، ولن نتوقف عن
الهتاف تحيا مصر لتنهض بدورها الذي هو قدرها الذي
لم تتخلى عنه منذ بديء التاريخ عندما يتعلق الأمر
بمحيطها الاقليمي الذي هو مجال أمنها القومي، فما
بالك عندما يتعلق الأمر بفلسطين بوابتها وعتبتها
التي لطالما حاول الطامعون اتيانها منها.
وعليه فليكسر الحصار ولتجبّر وتداوى الأرجل التي
كسرها وبترها الاحتلال الاسرائيلي ولا تكسر رجل
الفلسطيني الذي يريد الدخول إلى عمقه الإستراتيجي
مصر وكم نتمنى ان تكون المداواة والنقاهة في ارض
الكنانة وليس في مكان آخر.
*
برلماني ألماني سابق
|