ما زالت ارتال الغربان تتجه إلى لبنان وما زال هذا
البلد ينزف دماءه، حيث ما أن تبدأ جراحه بالالتئام
حتى يكتوي بأخرى. الأزمة الأخيرة التي أطلت عليه
منذ 14 شهراً، ضمن وضع امتد على مدى سنوات، تعلقت
هذه المرة باختيار رئيس جديد للجمهورية. وكانت آخر
فصولها في الأيام الأخيرة حلقة جديدة من مسلسل
الاغتيالات والأزمات. ذلك مع مقتل النقيب في الأمن
الداخلي وسام عيد وخمسة مواطنين لبنانيين. أتت في
أعقاب مصرع مدير العمليات في قيادة الجيش العميد
فرنسوا الحاج وسائقه في تفجير يعد الثامن في قائمة
الاغتيالات التي عصفت بلبنان منذ اغتيال رئيس
الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 /2/ 2005 وطالت
قبلاً القوى السياسية. تبع ذلك اطلاق نار قبل
يومين على شبان وقتل 8 منهم وجرح 50، بعدما نزلوا
للشوارع للاحتجاج على قطع التيار الكهربائي
المتكرر في ضاحية بيروت الجنوبية وبعض الأحياء.
حالة الاحتقان والتوتر والخوف من الفراغ والمجهول
التي تنسحب على عموم الشارع اللبناني، ازداد
منسوبها مع عملية التأجيل والتسويف في الانتخابات
الموعودة لرئيس الجمهورية العتيد. المستهدفون
باتوا كثر والرسائل عديدة، رغم التنديدات وتصريحات
الإدانة التي تخرج من الطرفين. فالمؤسسات العسكرية
والأمنية التي كانت الركن الذي يستند اليه الشعب
اللبناني للاطمئنان للخروج من المأزق المرحلي باتت
بدورها المستهدف الأساسي اليوم في عملية "تأبيد"
الفراغ في منصب الرئاسة منذ رحيل إميل لحود في شهر
تشرين الثاني المنصرم. الأمر الذي يفقد تدريجياً
بصيص الأمل الذي كان متبقياً في عتمة الواقع
المظلم.
كالعادة، هذه التفجيرات والاغتيالات والانقسامات
يتبعها اتهامات متبادلة في تحميل المسؤوليات تستند
لفرضيات وانتماءات وولاءات عند كلا الطرفين ممن
باتوا يسمون بقوى 8 و11 آذار.
وحيث كان اللبنانيون يطالبون في كل مرة بكشف
الجناة، خاصة وأنه
في بعض هذه الاغتيالات وجهت اتهامات وصدرت تصريحات
تؤشر لمعرفة الفاعلين، لم يسمعوا جواباً شافياً
لما يؤرقهم. ليس فحسب لم توضع اليد على القتلة ولم
يقدم للمحاكمة أي شخص، بل لم يعلن عن اسم أحد
منهم. لكن كما في كل مرة تصدح الأصوات النشاز
لتتهم أطرافاً بعينها دون تجرد أو موضوعية أو دليل
ملموس. يقودها في ذلك تحليلات ومواقف مسبقة بمعزل
عن الحدث والهدف والمستهدف والملابسات.
من المؤكد أن الوضع الاقليمي والدولي هو اللاعب
الأساسي، وليس الفرقاء في الداخل الذين يتوافقون
او يختلفون. المؤسف في الأمر أن الاصطفاف السياسي
أصاب المواقف والسلوكات بتصلب حاد أعمى الأبصار
وأفقد الكثير من التوازن لمن ائتمنوا على مصير
البلد. وكأنه بات لزاماً على كل امرء أن يكون ضد
طرف بعينه وعلى طول الخط وإلا فهو معه. هذه الآفة
ليست حكراً على لبنان، بل تنسحب على بلدان مجاورة
التي عصفت بها الأزمات وأصيبت بحالات تشنج وانشقاق
واحتراب.
في لبنان تحولت الخلافات لأزمات، والأزمات تفجرت
صدامات، والبلد على شفير الهاوية بين قراءات
متصارعة واتهامات متبادلة. ففي حين تتهم المعارضة
الموالاة بأنها أداة تنفيذ المشروع الأمريكي
بالمنطقة، تتهم قوى 14 آذار الآخرين بأنهم يعملون
لصالح المحور السوري-الإيراني. وفي حين تمنح أطراف
لبنانية أطرافا خارجية الحق بحمايتها تنكرها على
أخرى. ذلك استناداً لقراءتها الايديولوجية
ومواقفها السياسية أو حتى المصلحية، بما يجانب
أحياناً كثيرة المنطق ويجافي الحقيقة. فقد تبعثرت
الصفوف في مواجهة المصير الوطني بعدما حلّت
العصبيات البدائية والانتماءات الفئوية، بدلاً من
ممارسة المواطنة المسؤولة والاخلاص للوطن.
فريق الموالاة والأطراف الرسمية في لبنان،
وبالتناغم مع الادارة الأمريكية وجهات دولية
واقليمية أخرى، تتهم سوريا بوقوفها وراء افتعال
الأحداث ومسلسل الاغتيالات، وبخاصة منذ مقتل رئيس
الوزراء السابق رفيق الحريري. ذلك اعتقاداً منها
بأن لها يد الطولى في لبنان، رغم خروج جيشها من
أراضيه. مع ذلك كان لافتاً أن المتحدثة باسم البيت
الأبيض تجيب مؤخراً، بعد تلاوة تصريحها المعهود
بتحميل سوريا المسؤولية، على سؤال طرح عليها بأنها
لا تستطيع تأكيد جوابها. علماً أن سوريا أدانت
الاغتيال معتبرة أنه يستهدف أمن لبنان واستقراره.
كذلك فعل حزب الله المتهم من نفس هذه الأطراف
بزعزعة الاستقرار لفرض تصوراته. فقد أدان الاعتداء
قائلاً أنه "يأتي في سياق زعزعة الاستقرار الداخلي
وضرب المؤسسات الأمنية والعسكرية التي تشكل ضماناً
للأمن والسلم الاهلي في لبنان".
بالتأكيد لسنا ممن يدافع عن نظام سوري له تاريخ
حافل في ارتكاب أبشع الانتهاكات بحق ابناء شعبه.
والأنكى من ذلك بحق اللبنانيين عندما دخل بجيشه
إلى لبنان ومكث فيه 29 سنة يفعل ما يحلو له
ويستأثر بالكلمة الفصل في كل شاردة وواردة. لقد
منعنا أكثر من مرة من دخول سوريا لكتابات لنا في
أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان. وحيث نادينا
مراراً بخروج الجيش السوري من لبنان، هللنا فرحاً
عند خروجه من أراضيه. لكن هذا لم يفقدنا موضوعيتنا
في مناقشة ما يتراءى لنا كمسلمات بخصوص ارتباط
قضايا التحرر في لبنان بالمنطقة وبالعالم. كما لا
يحيدنا عن مبادئنا وثوابتنا في نهج المقاومة كخيار
وثقافة لا نستظل بغيرها. خاصة بعدما عايشنا على
الأرض، ومداورة بين فلسطين ولبنان والعراق وبلدان
عربية أخرى، ما تنصبه لبلداننا الادارة الأمريكية
وخاصة الأخيرة، كما الساسة في إسرائيل، كي لا نقل
أغلبية شعب هذا الكيان، من عداء، وما يرسموه لشعوب
المنطقة من مخططات تستهدف وجودها برمته. وإن كان
الأمر بات بين محورين يتصارعان اليوم في لبنان،
فمكاننا هو ليس بأي شكل من الأشكال المحور
الأمريكي-الإسرائيلي، ولن يكون يوماً كذلك.
وسيكون لنا في شهر شباط المقبل مساهمة في اقامة
محكمة مدنية لمحاكمة اسرائيل على ما ارتكبته من
جرائم بحق لبنان وشعبه صيف 2006.
لنسلم جدلاً أن سوريا ما زالت تفعل ما تشاء دون ان
يتمكن أحد من كشف أصابعها في تحريك "الدمى
اللبنانية". ولا بد هنا أن نذكّر أن سماء لبنان
مكشوفة لأجهزة ترصد كل حركة فيه، وأرضه تعج بألوان
مختلفة من خفافيش الظل ومن اللاعبين حتى في وضح
النهار لبلدان تملك أهم بكثير مما تقتنيه سوريا من
امكانيات وتقنيات. لكن نتساءل إن كان يعقل أن تترك
سوريا الساحة اللبنانية للآخرين وحدودها تغلق على
لبنان المعابر البرية المشتركة معه والمنفذ الوحيد
حالياً له؟ أين مصالحهما المشتركة ضمن سياسة تفاهم
وحسن جوار كأولوية ضمن الضرورات التي تفرضها
الجغرافيا والتاريخ والتحالفات الاستراتيجية
والمصالح الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية؟ هل
يمكن أن تترك الأمور على غاربها ولبنان بطنها
الرخو، وتقبل بحكومة معادية في أراضي محاذية او
توليفة لا تحترم مصالحها الحيوية؟
ثم من الناحية المقابلة، أليس من مصلحة لبنان أن
لا يصبح لقمة سائغة في حلق اسرائيل وحليفتها
أمريكا؟ مَن غير المقاومة اللبنانية تصدى لاسرائيل
ووقف في وجه غطرستها وعربدتها ودحر مرتين
متتاليتين جنودها من على أرض هذا البلد الصغير؟
وهل هي جريمة أن تنسج هذه المقاومة تحالفات مع
سوريا أو إيران وأن تستند لهما في حرب استنزاف
متعددة الأساليب والتكتيكات؟
بالتاكيد لسنا هنا في معرض تحليل سياسي لكل أوجه
الوضع اللبناني المعقد حيث لا يتسع المجال لذلك.
كما ولا نرمي الدفاع عن هذا الحلف، متناسين
الانتهاكات الفاضحة لكلا النظامين السوري
والإيراني. أو متغاضين عن الأهداف السياسية التي
يرميان لها من خلال دعم المقاومة اللبنانية ونهج
المعارضة. فكلاهما ما زالا يعتمدان على عامل الخوف
المتبادل مع شعوبهما. وعلى نظرية الحفاظ على الأمن
الذي يتربص به الأعداء، لاستباحة قوى المعارضة في
الداخل والخارج واسكات الرأي الآخر ووضع اليد على
كل ما يضج حياة. ولو كانا أكثر حكمة وأقل فساداً
واستبداداً لفهما أن هذا الأسلوب يرتد عليهما. على
الأقل في عملية مواجهة المخططات التي تستهدف
بلديهما.
بالتالي، الأمر المهم هو أنه في خضم الانقسامات في
لبنان هناك بالضرورة خيارات ومواقع. والخطر الذي
يتهدد الجميع هو تصاعد لهجة التطرف لدرجة أضاعت
البوصلة بشكل عجيب. لقد استبدلت اسرائيل كعدو
بإيران. كما باتت ميليشيا حزب الله تتعدى على حدود
هذا الكيان "المسالم". تماماً كما باتت حماس
والتنظيمات التي ترفض الاحتلال الاسرائيلي هي من
يحتل فلسطين وليس الصهاينة. لكن إن كان المتجبّر
يفعل ما يشاء بفعل تحكمه بموازين القوة، فمن يلام
بالدرجة الأولى هو أبناء هذه البلدان التي باتت
كحجارة الشطرنج ترسم تحركها سياسات خارجية وولاءات
أجنبية. وحيث أن سياسة فرّق تسد هي الأساس،
فالعامل الطائفي لم يعد الوحيد، بل كل الأشكال
متاحة لتفتيت النسيج المجتمعي. بما فيها التدخل
المباشر لهذه الأطراف الخارجية والأصابع الخفية في
كل مرة يعود الهدوء للساحة ويتم التوافق بين
الأطراف المتنازعة.
لقد خبرت القطبية الأحادية المهيمنة كيفية العمل
على الآليات النفسية عند البشر لتطويعها في خدمة
مصالحها وتحقيق اهدافها. ثم كيف يمكن أن نصدق أن
أمريكا أو اسرائيل أو فرنسا حريصة على مصالح لبنان
أكثر من حرصها على مصالحها الاستراتيجية ومطامعها
السياسية والاقتصادية؟ أو أن هؤلاء الساسة الذين
يتوالون بالدور لزيارة هذا البلد، والذين لا يمكن
أن نكن لهم الاحترام ونوليهم الثقة بالنظر
لتاريخهم وولاءاتهم وروءاهم، مهمومون بمشاكل شعبه
أكثر من غيره؟ لكن الآلة الدعائية تحشد ما تستطيع
في خدمة أغراضها وتذهب لقلب الصورة وتخوين وشيطنة
من لا يشاطرها الرأي. وقد تمكنت من قطع مسافات
هامة في مخططاتها الجهنمية بالاعتماد على قصر
النظر ومحدودية الأفق عند بعض من يتولون ادارة
الشأن العام. بحيث يصح المثل القائل بأن "دود
الجبن منه وفيه". والسؤال الملحّ المطروح على كل
لسان اليوم هو إلى متى سينتظر الشعب اللبناني
الخروج من دوامة الفراغ الخطير الذي وصل له
بالاتفاق على رئيس لبلده وقيام حكومة وحدة وطنية
لا تترك تركيبتها المجال أمام أي طرف لتعطيل
القرار او الاستئثار به ؟ نرجو أن لا يكون
الانتظار طويلاً ولو أننا نشعر بالخوف من أن يكون
الآتي أصعب.
* نشر في جريدة البديل المصرية في 5-02-2008
|