في العام 1989 اجتاحت الجماهير الألمانية في شرق
ألمانيا جدار برلين العظيم حيث كانت تعاني من
انهيار الاقتصاد والقمع في القسم الشرقي من
البلاد. كانت تلك الخطوة تعبيرا عن سوء الأحوال
الاقتصادية في شرق البلاد وعن توجه شعبي عميق
لتوحيد الأمة الألمانية. الظروف الدولية في حينه،
ظروف الحرب الباردة كانت لا تسمح بمجرد التفكير في
ازالة هذا الجدار، الذي كان يشق جسد ألمانيا بقسوة
لا يوازيها الا جدار الفصل العنصري الاسرائيلي في
جسد الضفة الغربية وكذلك الجدار المحيط بقطاع غزة.
السياسة الألمانية الواقعية كانت تتحرك ضمن
المعطيات الموجودة على الأرض وان كانت بدأت بقضمها
بذكاء اعتمادا على التذمر الشديد لجماهير ألمانيا
الشرقية من الأوضاع الاقتصادية وسياسة القبضة
الحديدية للنظام الشيوعي.
عندما لاحت الفرصة التاريخية تحت ضغط التحرك
الجماهيري الساحق، بدأت حكومة ألمانيا الغربية
بالتحرك والمطالبة بتغيير الوضع القائم على وقع
خطى الجماهير، وبدأت بتطمين كافة الأطراف ان
ألمانيا لن تكون ضد أحد وانها لن تتخلى عن
سياساتها المتوازنة، التي توائم بين عضويتها في
حلف الناتو وعلاقاتها الوثيقة مع الاتحاد السوفيتي
السابق ولاحقا الاتحاد الروسي.
في قطاع غزة يختلف الظرف الا من حيث الرمزية، فهو
محاصر وواقع تحت الاحتلال ومحاط بدول عربية شديدة
الحذر ولأنظمتها ارتباطات دولية لا تأخذ بالضرورة
مصالح الشعب الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال
بعين الاعتبار، ولا يتعدى التزامها بقضيته
البيانات اللفظية واستعمال تلك القضية الضميرية
لتأكيد شرعيتهاعند شعوبها الملتزمة بها قوميا
ودينيا وانسانيا بقضية، كما اثبتت مدينة رفح
بشقيها المصري والفلسطيني.
حكومة المانيا الغربية كانت ملتزمة قانونيا وفعليا
بأبناء شعب ألمانيا الشرقية، بينما يكفي ان يعرف
رجال ادارات الحدود العربية انك عربي فلسطيني او
من أصل فلسطيني حتى تبدا عمليات التمييزالناجمة عن
استشعار تلك ألاجهزة بخطورة هذا الانسان، الذي
تفترض انه مختلف في بنيته الفكرية والنفسية
والسياسية بفعل واقعه القاسي.
يضاف الى ذلك انه بحجة المحافظة على الكيانية
الفلسطينية والتمسك بحق العودة للاجئين الفلسطينين،
يعاني الفلسطيني فيما يفترض انه عمقه القومي،
اشكالا بغيضة من التمييز الذي يصل الى درجة انتهاك
حقوقه الانسانية الأساسية، ابتداء من حق العمل
وصولا الى تقييد حرية الحركة وحق الاقامة والسفر،
وفضيحة حجاج قطاع غزة ليست ببعيدة عن ناظرنا حيث
افتتح اول مخيم بحري للفلسطينين في منطقتنا
العربية، والذي لم يستمر طويلا تحت ضغط الاعلام
والرأي العام العربي والاسلامي.
كل ماذكر هو في الحقيقة تعبير عن تملص الأنظمة
العربية من التزاماتها التاريخية والقانونية
والأدبية تجاه العرب الفلسطينين وحرمانهم من عمقهم
الاستراتيجي والانساني، ليجدوا انفسهم في وجه
احتلال يمارس ضدهم اعتى انواع الظلم والقتل
والتمييز العنصري، دون ان تتحرك الأنظمة العربية
لفعل شيء، بل الأسوأ من ذلك، تقوم بالحد من حركة
الشارع العربي ومنظماته المدنية التي تتضامن معهم
وتحاول مساعدتهم.
اقتحام الفلسطينين الجوعى لجدار رفح الذي بناه
الجيش الاسرائيلي، للفصل بين قطاع غزة وسيناء
المصرية وتدميره بالمتفجرات للخروج من الحصار
الاجرامي المطبق، الذي تمارسه اسرائيل ضدهم على
مرأى ومسمع من الدول المحيطة، يحمل رمزية في غاية
الأهمية كتلك التي حملها انهيار جدار برلين، مع
الأخذ بعين الاعتبار الظروف المتعلقة باختلاف درجة
التزام النظام العربي الرسمي بهموم الشعب
الفلسطيني وقضيته الذي يعتبر شكليا وبكل
المقاييس.
ونذكر هنا ان حكومة ألمانيا الغربية كانت قد قامت
دوما بدعم شعبها اقتصاديا في الشق الشرقي من
ألمانيا وحكومته الشيوعية التي تعتبر عمليا معادية
لها لمنع الانهيار الكامل لاقتصادها آخذة فقط
المصالح العليا للشعب الألماني بعين الاعتبار دون
النظر الى طبيعة نظام الحكم فيها، والى عدم رضى
حلفائها الغربيين فيما كانوا يعتبرونه دعما مباشرا
للحكم الشيوعي في الجزء الشرقي لا يستحقه. بينما
نشاهد في غزة حصار مطبقا اسرائيلي عربي رسمي ودولي
ضد الفلسطينين بحجة تحكم حماس فيه، مما ادى الى
وصوله الى حافة المجاعة دون الأخذ بعين الاعتبار
المصالح الحيوية لمجموع الشعب الفلسطيني في غزة،
والذي يبدأ بحقهم الأساسي في الحياة اي في الغذاء
والدواء والطاقة التي يعني فقدانها الموت الجماعي.
محصلة ما جرى تعني بوضوح ان هناك خطوات عملية قامت
وتقوم بها اسرائيل وأطراف دولية واقليمية، لخنق
الشعب الفلسطيني وتجويعه لأسباب سياسية تتعلق
بانتخابه لحركة حماس، وفي محاولة سقيمة لفضه من
حولها بالقوة العسكرية والتجويع، اي من خلال
ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية تتعارض مع
ابسط قواعد القانون الدولي.
المطلوب عمليا هو فك الحصار نهائيا عن غزة وفتح
الرئة المصرية باستمرارحتى لا يبقى الشعب
الفلسطيني في غزة تحت الابتزاز الاسرائيلي الذي
يمس حياته وصحته مع سبق الاصرار والترصد، والعمل
على الزامها بمسؤلياتها كقوة احتلال لتفتح المعابر
الأخرى، حتى تنتهي آثار الكارثة التي ابتدأت منذ 7
شهور ونحن في سبات عميق.
لا يجوز في هذا السياق النظر الى الاعتبارات
السياسية المتعلقة بالانقسام الفلسطيني ونزاع
الشرعيات الوهمية، وخوف الأنظمة على امنها القومي
الذي يشكل فيه الفلسطيني عمليا بمعدته الخاوية
وصدره العاري رأس الحربة التي تدافع عنه. تدمير
الفلسطينين لجدار رفح للحصول على الغذاء والدواء،
يعود الفضل فيه لهم وحدهم ولجبروتهم وصمودهم
وتمسكهم بارادة الحياة، وبحقهم الطبيعي في
الاستفادة من عمقهم العربي الاستراتيجي الذي لم
يكن فقط شاهدا على الكارثة للأسف. سقط جدار برلين
وآن الأوان لتسقط باقي الجدران وليبدأ الشعب
الفلسطيني الجائع والمقاوم في الضفة الغربية وقطاع
غزة ونحن معه ومن خلفه هذه المرة في دق جدار
الخزان حتى لا يسأل يوما ما، لماذا لم تدق جدار
الخزان؟ وها هي غزة البطلة تتعلم الدرس وتلغي
السؤال المرير للأديب الفلسطيني الشهيد غسان
كنفاني في روايته رجال تحت الشمس. فنم قرير العين
يا غسان فغزة لن تموت وتتشبث بالحياة وها هي تدق
الجدران والضمائر بالديناميت.
برلماني ألماني سابق
|