انطلقت في عام 1971 تجربة جديدة في العالم الخيري
والإنساني بدأها 11 طبيبا فرنسيا سموا أنفسهم
أطباء بلا حدود. وقد ضمت التجربة عدة حساسيات
فكرية يجمعها فكرة أساسية تتجاوز الحق في نصرة
المحتاج؛ مع أو بدون التبشير الديني؛ إلى الحق في
استجواب الأوضاع البشرية وتوجيه الأنظار نحوها
وراء الحدود مهما كان قرار الحكومات في مناطق
البؤس والطوارئ المحتاجة. وقد أعطت هذه التجربة
عدة منظمات من هذا النمط المختلف تماما عن الصليب
والهلال الأحمر أو الجمعيات الملتزمة ذات القواعد
الأخلاقية الصارمة في قضايا التدخل في السياسات
المحلية والإقليمية والدولية. الأمر الذي تجسد في
التدخل المشهدي في كمبوديا لتوجيه الأنظار للمجازر
التي وقعت هناك وتكوين جماعات ضغط من أجل تصويت
الكونغرس الأمريكي صفقة صواريخ ستينغر لتعزيز قوة
المجاهدين ضد الاحتلال السوفييتي. وقد استطاعت هذه
المنظمات أن تدخل قاموس المنظمات الإنسانية بجدارة
رغم نقاط ضعف مركزية عانت منها منذ انطلاقتها، فهي
وإن نجحت في التعريف بقضايا غطى عليها الإعلام أو
دكتاتورية السياسيين والمؤسسات المتعددة الجنسية،
فقد فشلت في خوض أية معركة جدية في قضايا
استراتيجية غربية اختلط فيها الموقف السياسي
بالموقف الإنساني. وأجلى مثل على ذلك القضية
الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. حيث تتحفنا
هذه المنظمات دائما بنظرية الحياد الإيجابي الذي
يساوي الضحية بالجلاد وجيش الاحتلال بشعب تحت
الاحتلال والقوة النووية الإسرائيلية بصواريخ
القسام.
ويمكن القول أنه منذ حملة الكويت، وقرار مجلس
الأمن الخاص بالتدخل لأسباب إنسانية في شمالي
العراق، بدأت نظرية التدخل الإنساني تعيش فترة
ضبابية وصراعية حادة: حيث برز 1-تيار العمل
الإنساني الملتزم، المطالب بدور المعالج والشاهد
ويمثل هذا التيار القيادة الحالية لأطباء بلا
حدود، 2- تيار العمل السياسي الإنساني، الذي يعتبر
الحدود بين العمل السياسي المباشر والعمل الإنساني
حدودا واهية، وأن القدرة على الفعل الحقيقي تتطلب
القدرة على الفعل السياسي، ويمثل هذا التيار برنار
كوشنر الذي غادر المنظمة المذكورة منذ 28 عاما، 3-
وأخيرا تيار يعتبر أن أسلوب الشهادة والتفسير
والاستجواب للأوضاع يفتح الباب أمام التطرف
الكوشنري الذي ضرب فكرة المنظمة غير الحكومية من
أساسها. ويعطي مثلا على ذلك قضية الكوسوفو، ففي 30
أبريل 1999 كان العنوان الرئيسي لصحيفة ليبيراسيون:
"الكوسوفو: قصة ترحيل جماعي"، وقام الناتو
باستعمال تقرير المنظمة يوم ذاك، ضمن محاولته
تعبئة كل المنظمات غير الحكومية في معركته
العسكرية ضد صربيا وإغراق بعضها بالمال.
الوسط غير الحكومي ليس وسطا مقدسا، والعاملين في
المجال الحقوقي والإنساني ليسوا حواريين، وقد أعطى
هذا الوسط وزراء سيئين ونواب أسوأ كما أعطى من
يشهد له بالكفاءة والرفعة الأخلاقية داخل الفضاء
غير الحكومي وخارجه. والسؤال ليس في الأفراد، مهما
كان ضررهم أو نفعهم، السؤال في المنهج العام: هل
يمكن طرح مسألة التدخل الإنساني في قراءات ليس
فحسب سياسية بل عسكرية له، أي قراءات تطالب
المجتمع المدني بدعم التدخل العسكري باسم
الكوريدور الإنساني هنا وطوارئ الإنقاذ هناك؟
لقد أثبتت التجربة في السنوات العشر الأخيرة أن
هذه "الوصمة السياسية" مكلفة جدا للعمل الإنساني
والخيري، وما أدل على ذلك من قتل أكثر من 1100
عامل في الحقل الإنساني في هذه الفترة. وقد فقد
الوسط الإنساني والخيري في العام الماضي وحده 83
عاملا، أي ثلاثة أضعاف ما خسرته قوات السلام
التابعة للأمم المتحدة، وتفسر العديد من القوى
المسلحة تدخلات المنظمات الإنسانية المرافقة لقوات
الاحتلال بالغطاء الأخلاقي للعمليات العسكرية اللا
أخلاقية. فإن كانت الدول الدكتاتورية قد أبدعت
واقعة المنظمات الحكومية غير الحكومية
GNGO
فقد أبدعت الحكومات النيوليبرالية منظمات إنسانية
"وفق الطلب" لتحل محل المنظمات الجدية والمستقلة.
في أفغانستان اليوم، المنظمات "وفق الطلب"
الموجودة لا تجرؤ على وضع يافطة أو أن تلبس تي شرت
باسمها؟ ليس لأن طالبان تريد رأس كل غريب، ولكن
لأن هذه المنظمات الاصطناعية أساءت لسمعة المنظمات
الجدية. والمنظمات الجدية لم تخض معارك جدية
أساسية خاصة عندما تعرضت المنظمات الإنسانية
والخيرية الإسلامية لتهم تمويل الإرهاب من قبل
الإدارة الأمريكية وزج بخمسة من العاملين في
الحقل الإنساني الإسلامي في غوانتانامو ولم نجد
منظمة من هذه المنظمات، التي تستجوب عادة الأوضاع
والحكومات، منظمة غربية خيرية تستجوب الإدارة
الأمريكية عن مصير هؤلاء؟ حتى عندما خرج ثلاثة
منهم أبرياء تماما وبرأت الإدارة رابعا دون
الإفراج عنه (عادل حمد) واحتفظت بعبد الله المطرفي
دون محاكمة، لم نسمع صوت هذه المنظمات تتضامن، في
حين فعلنا في المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية
والخيرية (*) كل ما بإمكاننا للإفراج عن رهائنها
وتسهيل مهماتها الإنسانية في عدة مناطق في العالم.
كتب بيير ميتشيلي
Pierre Micheletti
رئيس منظمة أطباء العالم في مقالة حديثة له: "أن
تكون متطوعا فرنسيا في ساحل العاج ليس بالأمر
الحيادي، أو أن تكون أمريكيا في غزة أو مسيحيا في
أفغانستان أو باكستان". أنا شخصيا لا أعتقد أن
الناس بهذه البساطة، فأول أمريكية فقدناها جميعا
في غزة دهستها دبابة إسرائيلية، ولو لم تدفع منظمة
أطباء العالم فاتورة إطروحات مؤسسها برنار كوشنر
ومدرسته التي دعمت الحرب في العراق، ودعمت مبدأ
"الحزام العسكري للكوريدور الإنساني"، وأيدت ضرب
المنظمات الخيرية الإسلامية وخلطت بين التضامن
الإنساني والمواقف الجيو استراتيجية للحكومات
الغربية، لما وصل الحال بالجمعيات الإنسانية
الغربية إلى ما نحن عليه.
---------------
المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية
كونفدرالية تضم قرابة 160 منظمة غير حكومية ومقره
جنيف.
عن البديل المصرية
|