مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية
اللقاء السنوي السابع عشر الديمقراطية و الانتخابات في الدول العربية يعقد اللقاء يوم السبت 18/8/2007
في
Bernard Sanely Room, St. Cathrine’s College, Universtity of Oxford, Manor Road, Oxford, OX1 3UJ, UK.
1. النسبية أو التمثيل النسبي : تعريف
2 . مزايا التمثيل النسبي
3. مساوئ التمثيل الاكثري
4. إشكاليات تطبيق النسبية
5. الضرورات الثلاث
ثمة كثيرون يؤمنون بأن مردّ أزمة لبنان غياب الدولة . اجل ، لا دولة في لبنان بل مجرد نظام سياسي هو عبارة عن آلية mechanism لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم والنفوذ بين أركان طبقة سياسية قابضة قوامها متزعمون في طوائف ، ورجال أعمال وأموال ، ونافذو في أجهزة أمنٍ واستخبارات .
في ظل هذه الطبقة القابضة تعذّر تحقيق حاجة إستراتيجية هي الإصلاح ومكافحة الفساد . ذلك أنهما متعذران في غياب معارضة حقيقية للطبقة القابضة وللنظام الفاسد، أي في غياب الديمقراطية.
شرط الإصلاح، إذاً ، إقامةُ دولة مدنية ديمقراطية . وشرط إقامة الدولة المدنية وبالتالي الديمقراطية هو في اعتماد نظام عادل للانتخابات. ولا سبيل إلى إجراء انتخابات ديمقراطية، حرة ونزيهة وعادلة، إلا باعتماد التمثيل النسبي أساسا لنظامها. ذلك أن لبنان ينطوي على مجتمع أهلي تعددي وأقليات دينية واثنيه وثقافية لا يصحّ تمثيلها بعدالة إلا من خلال اعتماد النسبية بما هي النظام الأمثل ، كما قال مبدعه جون ستيورات مل ، لضمان تمثيل الأقليات بصورة صحيحة وعادلة .
هذه الورقة تبحث في مسألة التمثيل الشعبي في لبنان من خلال النسبية كعلاج جذري لمعضلة غياب الديمقراطية وتعذّر الإصلاح السياسي في ظل النظام الأكثرية السائد.
1. النسبية أو التمثيل النسبي : تعريف
التمثيل النسبي نظام انتخابي يقوم على التنافس الحر بين لوائح أو تكتلات سياسية في دوائر انتخابية كبرى بحيث تفوز كل لائحة بعدد من المقاعد النيابية مساوٍ للنسبة المئوية التي تنالها من مجموع عدد المقترعين.
2 . مزايا التمثيل النسبي
- يؤمن عدالة التمثيل الشعبي من حيث إنصاف القوى السياسية ، لاسيما الصغيرة منها ، التي لا تتمكن من الوصول إلى البرلمان من طريق النظام الاكثري.
- يعكس بدقة التنوع السياسي واتجاهات الرأي العام ، ويسهّل تمثيل مختلف القوى والأقليات السياسية والاجتماعية ، فيحصل كل فريق على حقه وينال حصة من المقاعد تعادل حصته من مجموع عدد المقترعين.
- يسهم في تحديث الحياة السياسية والارتقاء بمستواها لأنه يحدّ من شخصنة الخيارات السياسية ، إذْ يقترع الناخب للائحة ذات البرنامج الذي يمثّل تطلعاته السياسية والاجتماعية ، فيحلّ بذلك التنافس بين لوائح تطرح برامج سياسية واقتصادية واجتماعية محل الصراع الشخصي بين مرشحين أفراد.
- يحفّز على قيام تكتلات وجبهات على أساس برامج سياسية ، وينمّي الحياة الحزبية الديمقراطية ، ويفسح في المجال أمام النخب السياسية الجديدة والقوى الاجتماعية الصاعدة لدخول البرلمان .
- يدفع في اتجاه إصلاح الحياة البرلمانية عبر التأثير في قيام كتل نيابية منظمة ، وفي إقامة تحالفات بينها بهدف تكوين أكثرية موالية تقابلها أقلية معارضة ، فتتشكّل بذلك قاعدة صلبة لقيام حكومات مسئولة على أساس برامج محددة وحائزة ثقة جمهور الناخبين .
- يشجع على إدخال أوسع الفئات الاجتماعية في تشكيل اللوائح الانتخابية المتنافسة بدليل انه أدى في أوروبا ، مثلا ، إلى ارتفاع نسبة المشاركة النسائية في المجالس النيابية للدول التي تعتمده ثلاثة أضعاف ما هي عليه في البرلمانات المنتخبة على أساس نظام التمثيل الأكثري.
- يقود إلى زيادة نسبة المشاركة في الحياة العامة لأنه يضمن لجميع الناخبين عدم ذهاب أصواتهم هدرا. فهم سيمثَلون في البرلمان أيا تكن اللائحة التي اقترعوا لها الأمر الذي يحدّ من أمكان الشعور بالغبن .
3. مساوئ التمثيل الاكثري
- لعل السيئة الأبرز لنظام التمثيل الاكثري مع اعتماد الصوت الجمعي هي عدم الاعتراف بالآخر . ذلك انه يقوم على أساس فوز اللائحة التي تحصل على العدد الأكبر من الأصوات، مهما كانت نسبتها ، بجميع المقاعد في الدائرة التي تمّ فيها التنافس . هذه القاعدة تؤدي إلى فوز مرشحين بأصوات غيرهم (زعماء اللوائح من أصحاب البوسطات والمحادل ) وترك قسم كبير من الناخبين من دون تمثيل ، خصوصا عندما تتنافس في الدائرة الواحدة عدة لوائح . يتحصل من اعتماد هذا النظام غير العادل أن المرشحين في كل لائحة تخوض الانتخابات على أساسه يسلّمون سلفا بمجرد انتمائهم إليها عدم اعترافهم بالآخر كون التمثيل الاكثري ينطوي بطبيعته ومدلوله على احتمال إقصاء الآخر كليا عن البرلمان . غني عن البيان أن لهذا الإقصاء نتائج سلبية ، وأحيانا كارثية ، في بلد تعددي تعيش فيه طوائف هي عبارة عن أقليات متفاوتة الأحجام .
- انه مجحف بحق الأحزاب والقوى السياسية الصغيرة والمتوسطة الحجم لأن ناخبيها غالبا ما يكونون موزعين على دوائر عدة ، فلا يكفي عددهم في أية واحدة منها للاختراق والفوز.
- انه مخالف للدستور الذي ينص على مساواة اللبنانيين أمام القانون. والحال أن نظام التمثيل الاكثري مع اعتماد الصوت الجمعي يحابي بعض الناخبين على حساب بعضهم الآخر . ففي انتخابات العام 1992 كان في وسع الناخب في دائرة محافظة الشمال أن ينتخب 28 مرشحا في حين لم يكن في وسع الناخب في دائرة قضاء جبيل في محافظة جبل لبنان إلا انتخاب 3 مرشحين . المخالفة نفسها ظلّت سارية في انتخابات العام 2000 إذْ استمر التفاوت في عدد المقاعد بين مختلف الدوائر وبالتالي استمر التفاوت في حجم الصوت الجمعي لمختلف المقترعين في كل الدوائر.
4. إشكاليات تطبيق النسبية
يشكو باحثون وسياسيون من أن تطبيق نظام التمثيل النسبي يؤدي إلى مشاكل وإشكاليات يمكن بيانها كما معالجتها على النحو الآتي :
(أ) النسبية والطائفية:
يعتقد البعض أن لا سبيل إلى اعتماد النسبية مع الطائفية إذ لا تصحّ الأولى إلاّ في مجتمع متجانس ومنصهر وطنيا. والحال أن الطائفية ظاهرة اجتماعية، وقد عالجها الدستور بعلاج مؤقت أو انتقالي هو اعتماد مبدأ التوفيق بين التمثيل الوطني والتمثيل ألطوائفي . في هذا الإطار يسهم نظام التمثيل النسبي على نحوٍ أفعل في معالجة آثار الطائفية من طريق :
- الإفساح في المجال أمام الأقليات ، بصرف النظر عن صفتها وتركيبتها ، كي تُمَثل في البرلمان بمنأى عن هيمنة الأكثرية العددية ، مع احتفاظ كل طائفة بحصتها من المقاعد في إطار المناصفة .
- إعطاء الناخب هامشاً واسعاً من المرونة . ففي ظرفٍ يتصف بصعود العصبيات الطائفية، يستطيع الناخب أن يقترع للائحة تتضمن مرشحين من طوائف متعددة وحائزة بالتالي صفة التمثيل الوطني، فتنال مجتمعة نسبة مئوية من الأصوات تحدد لها نسبتها المئوية من المقاعد. لكن الناخب يستطيع في الوقت نفســه أن يختار من بين المرشحين في اللائحة مرشحا واحداً من طائفته ويقترع له ، فيعزز حظوظه ، في إطار المناصفة المعمول بها . هكذا يتيح التمثيل النسبي أمام الناخبين تأمين التمثيل الوطني والتمثيل الطائفي في آن واحد.
( ب) النسبية وشرذمة البرلمان
يعزو البعض إلى النسبية آفة تشتيت المقاعد وتكثير الكتل النيابية وبالتالي شرذمة البرلمان . ثمة مبالغة في هذه الشكوى التي تمكن معالجتها من طريق :
- اعتماد نصاب الإبعاد، أي وضع حدّ أدنى لما يجب أن تناله كل لائحة من الأصوات كي تتمكن من الحصول على مقاعد نيابية . في تركيا ، نصاب الإبعاد 10 في المائة. في ألمانيا وبولونيا ، 5 في المائة . في ايطاليا والسويد ، 4 في المائة . في إسرائيل ، 1,5 في المائة وهو الأكثر تساهلا في العالم .
- اضطرار القوى السياسية والأحزاب والأقليات الصغيرة الحجم إلى التحالف والائتلاف مع التجمعات القريبة منها في الحجم أو في التطلعات لتضمن تمثيلها في البرلمان أو للحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية مناسبة.
- ضمان الاستقرار باستيعاب عدد كبير من القوى السياسية في البرلمان ، فينتقل الصراع من الشارع إلى مؤسسات ذات قواعد وضوابط دستورية وسياسية.
(جـ) النسبية والأحزاب
يعتقد البعض أن لا سبيل إلى اعتماد النسبية إلاّ مع وجود أحزاب سياسية، وهي غائبة في لبنان أو ضعيفة.
الردّ على عن هذا الانتقاد يتمثل في نقاط أربع :
- ثمة أحزاب متعددة في لبنان وبعضها له نواب في البرلمان . صحيح أن لا وجود لأحزاب على مستوى الجمهورية ، لكن الصيغة المطروحة لتطبيق النسبية في الوقت الحاضر ليست الدائرة الوطنية الكبرى ، أي الجمهورية برمتها ، بل الدائرة الكبرى بمعنى المحافظة حيث الأحزاب موجودة وفاعلة.
- صحيح أن الناخب يفاضل ويختار في ظل التمثيل النسبي بين لوائح متنافسة ، لكن هذه اللوائح ممكن أن تكون حزبية ، أي مكوّنة من حزب واحد أو من تحالف أحزاب ، أو ائتلافية ، أي مكوّنة من مرشحين حزبيين ومستقلين ، أو مستقلة ، أي مكوّنة من مرشحين مستقلين . بل بإمكان مرشح فرد مستقل أن يؤلف لائحة مكونة من شخصه فقط !
- أن اللوائح المتنافسة ممكن أن تتحول أحزابا سياسيا بفعل وحدة البرنامج والحاجة إلى التعاون والفوز، ناهيك عن وحدة التجربة السياسية والمزايا المستمدة منها.
- ثبت من تجارب الدول التي اعتمدت التمثيل النسبي إنها تؤدي إلى توليد أحزاب جديدة ، وتعزيز دور الأحزاب ، وبلورة شكل جديد من الحياة السياسية يكون فيها للأحزاب ، وليس للجماعات المذهبية أو الاثنية ، دور رئيس.
(د) النسبية والمتطرفون
يعتقد المعتدلون أن من شأن اعتماد التمثيل النسبي تمكين المتطرفين من الوصول إلى البرلمان . والحال انه في ظل نظام التمثيل الاكثري تمكّن المتطرفون ، بل غلاتهم ، في لبنان من دخول البرلمان . ذلك أن حصول المرشح المتطرف أو اللائحة التي تضم متطرفين على فارق بسيط من الأصوات كافٍ للفوز بل لحصد جميع المقاعد في الدائرة التي جرى التنافس فيها. هذا مع العلم أن استيعاب المتطرفين في البرلمان اسلم للعبة السياسة وأفضل للاستقرار السياسي والاجتماعي من وجودهم في الشارع حيث لا قواعد ولا ضوابط للصراع السياسي خلافا لما هي الحال في مجلس النواب .
(هـ) النسبية وسلامة العملية الانتخابية
يتساءل المهتمون بسلامة العملية الانتخابية عن فعالية النظام النسبي في تأمين سلامة العملية الانتخابية . يجيب أنصار النسبية أن سلامة العملية الانتخابية تتوقف على جملة عوامل ومتطلبات يقتضي الوفاء بها قبل أشهر من إجراء الانتخابات وليس في يوم الاقتراع تحديدا. أبرز هذه المتطلبات :
- إقلاع السلطة عن التأثير في مسار الانتخابات من خلال التحكم بالتقسيمات الإدارية الإستنسابية المخالفة لوحدة التشريع ولمبدأ المساواة أمام القانون ، لا سيما من خلال اعتماد دوائر كبرى ( محافظات ) وإجراء الاقتراع على أساس النظام الاكثري والصوت الجمعي.
- إقرار قانون الانتخاب قبل ستة أشهر على الأقل من موعد إجراء الانتخابات بغية الحؤول دون مفاجأة المعارضة والضغط على الناخبين بوسائل عدة يكون قد جرى الإعداد لها مسبقا.
- عدم التلاعب بقوائم قيد الناخبين .
- الحؤول دون استخدام المال السياسي لمصلحة لوائح معينة .
- الحؤول دون توظيف الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في خدمة لوائح السلطة.
- وضع نظام عادل لتأمين التكافؤ بين المرشحين، أفرادا ولوائح، في الإفادة من وسائل
الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة.
- وضع سقف للإنفاق الانتخابي ومراقبة التقيد به بين المرشحين المتنافسين واللوائح المتنافسة .
- تعزيز ثقافة مراقبة الانتخابات قبل إجرائها وبعده، ودعم جهود الهيئات ذات الاختصاص في مراقبتها.
(و ) النسبية وصعوبة فهمها وتعقيدات تطبيقها
يرى ناقدو النسبية أنها صعبة الفهم بالنسبة لعامة الناس فضلاً عمّا تنطوي عليه من تعقيدات في مجال التطبيق . يرد أنصار النسبية بنقاط ثلاث:
- لا شك في أن فهم آلية الاقتراع والفرز مطلب منطقي ومهم ، غير أن الأهم هو الغاية المتوخاة بما هي صحة التمثيل الشعبي وعدالته وتأمين الاستقرار .
- إن المشكلة المعقدة تتطلب حلا معقدا، والوضع السياسي اللبناني معقد مما يتطلب آلية للانتخاب تنطوي على قدر من التعقيد لتأمين عدالة التمثيل. وهل آلية تطبيق النظام الاكثري بسيطة أصلاً ؟
- أن الإدلاء بصعوبة فهم النسبية وتعقيدات تطبيقها هو ذريعة المتضررين منها ، إذ يمكن شرح مفهومها وتوضيح قواعد تطبيقها للخاصة والعامة قبل أسابيع قليلة من موعد إجراء الانتخابات . مع العلم انه بوجود وسائل الإعلام وانتشارها ، لا سيما منها محطات التلفزة ، يجعل أمر توضحيها واستيعابها سهلا ومقنعا.
5. الضرورات الثلاث
نجم عن تجربة تزويج الطائفية بنظام التمثيل الاكثري منذ انتخاب أول مجلس تمثيلي العام 1922 ولغاية الوقت الحاضر تكلّسُ النظام السياسي ، وإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة لنفسها وبالتالي عدم تجديد الطبقة السياسية ، واندلاع اضطرابات سياسية بعد كل انتخابات نيابية تقريبا ، وتعمّق الشعور بعدم جدوى الانتخابات كآلية لتداول السلطة ، وبالنتيجة تجويف الحياة السياسية وبزوغ الأجهزة الأمنية كموجّه للدولة وضابط للمجتمع .
في ضوء هذه المساوئ والنواقص والتحديات تبرز حاجات ثلاث هي بمثابة ضرورات إستراتيجية للخروج من مستنقع الطائفية والعقم السياسي والفساد إلى فضاء الحرية والديمقراطية والتجدد والترقي .
أولى الضرورات اعتماد نظام التمثيل النسبي . ثمة استقطاب حادّ ومتشنج على الصعيدين السياسي والشعبي مرشح لمزيد من الحدة بفعل التدخل والتحريض الخارجيين ، مما يؤدي الى تفجير اضطرابات سياسية واجتماعية في حال الاستمرار في اعتماد نظام التمثيل الاكثري في الانتخابات القادمة . ذلك أن من شأن النظام المذكور أن يؤدي إلى فوز لوائح موالية وأخرى معارضة بفوارق أصوات ضئيلة جداً ، وبالتالي حرمان اللوائح الخاسرة لدى كلا الطرفين من أية مقاعد الأمر الذي يترك مرارة حادة في نفوس الخاسرين بل المقصيين عنوةً وسط مناخ الاستقطاب والتشنج السائد . وهي مرارة ستنتقل بالضرورة إلى الشارع حيث المواجهة في هذه الآونة بين السلطة والمعارضة وصفة لاجتذاب تدخلات خارجية سافرة . غني عن البيان انه ، في حال اعتماد التمثيل النسبي ، تنعدم أو تكاد احتمالات الاحتكاك والصراع إذ في وسع التيارات والتكتلات السياسية الفاعلة أن تكون ممثلة في معظمها في مجلس النواب حيث تتوافر القواعد والضوابط اللازمة للتعبير والاستيعاب . في اختصار ، التمثيل النسبي هو الآلية الفضلى لصون الوحدة الوطنية وتوطيد الاستقرار .
ثانية الضرورات قيام خط ثالث أو قوة ثالثة في البلاد تجسّد تلاقي القوى الديمقراطية والاجتماعية الحية في مواجهة جناحي الموالاة والمعارضة المتكاملين تاريخيا في منظومة واحدة هي الطبقة الحاكمة . آن أوان الإدراك ، بعد تجارب مريرة في عهود متكررة ومتعاقبة ، أن الموالاة والمعارضة ثنائية زائفة ، وأنهما وجهان لميدالية واحدة ، وأنهما في تركيبتهما وممارستهما إفراز للنظـام الطائفي المركانتيلي الفاسد ، وأنهما مندرجان أبداً في مسار إعادة إنتاجه لنفسه وترسيخ سيطرته على الحياة العامة . اجل ، القوى الديمقراطية والاجتماعية الحية مدعوة إلى تجاوز خلافاتها العقيدة الموروثة ، وتدوير زوايا اختلافاتها السياسية الضيقة ، والكفّ عن تذوق السلطة من فتات موائد أهل السلطـة ، والتجمع والتكامل في إطار تنظيمي وسياسي مرن ومتماسك في آن على مستوى الجمهورية ، والنظر إلى المخاطر المحلية المحدقة في منظور التحديات الإقليمية والدولية الماثلة ، ومواجهتها جميعا بعقل الجماعة وشجاعة المناضلين ، بنَفَس طويل وصبر وحكمة.
ثالثة الضرورات التخلي ، في التفكير والتدبير ، عن نمط المعارضة اللفظية التقليدية واعتماد الممانعة الوطنية الديمقراطية المتطورة إلى مقاومة مدنية وميدانية . ها هو الدكتور سليم الحص ، رجل الدولة الوطني والرصين ، يدعو بعد تجارب مريرة مع عهود أربعة إلى استخلاص توصية لافتة هي جواز اعتماد العصيان المدني ، إذا ما اقتضت الضرورة ، وسيلة لتذليل عقبات الإصلاح السياسي ( لطفا راجع كتابه الأخير " صوت بلا صدى " ، لا سيما الصفحتين 99 و 330) . فالطبقة الحاكمة ، في رأي الحص ، غير معنية بالإصلاح بل معادية له لأن تبنّيها الإصلاح هو بمثابة انتحار سياسي لها. هل تنتظر القوى الحية ، إذاً ، إيّ تغيّر أو إصلاح في ظل طبقة حاكمة متكلسة تسعى ، بجناحيها الموالي والمعارض ، إلى البقاء والاستمرار بالمحافظة على امتيازاتها ، وباستمداد الدعم من الخارج الإقليمي حينا ومن الخارج الدولي حينا آخر ، وتتقاسم وإياهما المغانم في كل الأحيان ؟ ولماذا نذهب بعيدا ؟ ألم تدرك غالبية شعبنا ، قبل جمهرة المثقفين والقوى الحية ، استحالة التغيير في ظل طبقة حاكمة فاسدة ونظام انتخابي مصنوع خصيصا لحماية مصالحها ، فتراها تقاطع الانتخابات على مرّ العهود ؟ آن أوان العمل في صفوف الناس ومخاطبة أمانيهم ومصالحهم وتطلعاتهم وتطوير مقاطعتهم العفوية للسلطة وللانتخابات إلى مقاومة مدنية بتوجّهات اجتماعية ومناهج عصرية وطاقات شبابية . ولعل أولى الخطوات الميدانية للخط الثالث ، مقاطعة الانتخابات النيابية طالما تجري على أساس النظام الاكثري والصوت الجمعي وبتواطؤ مفضوح بين جناحي الموالاة والمعارضة ، وتطوير المقاطعة تاليا إلى إشكال متقدمة وفاعلة من المقاومة المدنية ضد طبقة حاكمة طال تحكمها رغم طول زمن اهترائها .