هناك سقوط إن لم يكن انهيار تام للسلطات التي نتجت
عن الشكل السائد من "الديمقراطية التمثيلية"
باتجاه تشكيل حالة سلطوية غارقة في مصالحها الخاصة
تعيش اغترابا أقرب إلى الانفصال عن الشارع..في
الانتخابات الأخيرة في لبنان كشفت البرجوازية و
القوى المتحالفة معها عن حقيقة موقفها من الشارع و
مفهومها عن الديمقراطية , تصرفت هذه القوى و تحدثت
و كأنها لوردات حرب طائفية أو أهلية هذا الموقع
الذي تمارسه القيادات العراقية منذ زمن بصورة
عملية كقادة ميليشيات سياسية عسكرية تمارس العنف
ضد أي كان من الآخر إلى الشقيق باسم المقدس
الطائفي أو الوطني أو حتى دون حجة مناسبة..تبقى
الديكتاتوريات الاستبدادية تشكل خلفية الصورة أو
المشهد السياسي في كل مكان من مجتمعاتنا أنظمة
عائلية مافيوية تمتلك هي الأخرى ميليشياتها
المضادة للمجتمع..هناك واقع مدمر يغلب اليوم على
حياتنا السياسية يتمثل في سيطرة القوة سواء
الفيزيائية أي العسكرية أو قوة القبضايات أو قوة
النفوذ المالي و الاقتصادي و ثانيا أن القيادات
السياسية تتصرف على أنها قيادة ميليشيات سياسية و
عسكرية في أغلب الأحيان و ينطبق هذا أولا على
الأنظمة التي تحاول الحفاظ على السلطة بكل أشكال
القمع الممكنة..هذا ينطبق على الجميع من مقتدى
الصدر إلى حارث الضاري إلى أي حاكم عربي إلى قادة
14 آذار و ربما 8 آذار في لبنان و يجري هذا في
إطار من تأبيد تهميش الإنسان رجل الشارع و تشديد
اغترابه عن مصيره و حياته و حريته..هناك حالة من
همجية القوة المنفلتة الذي كان هناك بالتأكيد من
قبل و ربما منذ وقت أطول مما نعتقد لكن وعينا به
اليوم أصبح أشد مع سقوط الأوهام الذي قوض أركان
حالة العزاء التي كنا نمارسها تجاه إنسانيتنا
المهمشة أمام كم القهر الهمجي هذا..المؤلم هنا ليس
حالة سقوط الوهم التي فرضت نفسها مع اشتداد أزمة
الأنظمة الديكتاتورية و سقوط جدار برلين بل هي
عملية محاولة تسويق أوهام جديدة..تستند هذه
الأوهام إلى فكرة الديمقراطية التمثيلية التي تقدم
على أنها المخرج الديمقراطي من سطوة
الديكتاتوريات..في الممارسة أصبحت الديمقراطية
التمثيلية وسيلة لإنتاج سلطة قوى موجودة بالفعل
كانت مكبوتة أو تشغل دور الحليف الهامشي في إطار
سيطرة الديكتاتوريات قوى تؤسس سيطرتها ما قبل
الدولتية أي قبل أن تحولها إلى سلطة فعلية ( كما
سبق القول ) إما على وضعيتها العائلية أو المالية
أو دورها في مركز المجموعات الطائفية أو المؤسسات
العقيدية لهذه الطوائف أو المجموعات العشائرية..في
إطار الصراعات السياسية التي تدور حول مفاهيم
الديمقراطية التمثيلية هناك هراء سياسي أو سفسطة
فارغة عن الدستورية و الشرعية التي تشبه دروس
سيبويه في تفسير الدستور أو القوانين من حيث قواعد
اللغة أي حالة أشبه بالفقه الديني , هذا الهراء
السياسي الذي لا يتعلق بأي حال من الأحوال بحالة
الشارع لا بحريته و لا بمستوى مشاركته أو تنظيمه
السياسي و لا بوضعه المعاشي الذي يذكر دائما إلى
جانب أوصاف من قبيل المأساوي أو المتردي في أفضل
الأحوال , إنه جزء من إنتاج وهم جديد حالة عزاء
تسمح بتقبل كل سليبات الوضع الراهن لصالح تشكيل
السلطة الجديدة سلطة القوى الطائفية و التقليدية
المتحالفة مع رأس المال السياسي..تعتمد فكرة
الديمقراطية التمثيلية على أن دور هذا الشارع
يقتصر على انتخاب مؤسسات تمثيلية تختزل إرادة هذا
الشارع نظريا لكن من المؤكد أن هذه الديمقراطية
التمثيلية في حالة وجود رئيسي لقيادات اجتماعية أو
مالية أو تقليدية أو طائفية كما هو الحال في
مجتمعاتنا و في حالة تهميش الشارع السياسي و
الاقتصادي تتحول إلى آلية لإنتاج سلطة هذه القوى و
للإمعان في تهميش الإنسان الذي يفترض أن يشكل
مرجعية السلطة..إن الليبرالية البراغماتية
الأمريكية ترفع فعل الترميز إلى مستوى أقرب
للمقدس..هذا الترميز الذي لا يلبث إلى أن يصبح
غاية بحد ذاته مع غياب الهدف الأبعد المفترض و
أخيرا اختفاؤه بعيدا في غياهب النسيان..هكذا يولع
الأمريكان بتحويل حقوق الإنسان إلى مجموعة من
القوانين و الدساتير و التعديلات و المؤسسات التي
تصبح في ذاتها "روح" الديمقراطية فيما تترجم هذه
المؤسسات سيطرة القوى السائدة اجتماعيا إلى سيطرة
سياسية..هنا يمكننا مثلا أن نفهم لماذا يتكأ الفكر
السياسي الأمريكي على جون لوك الذي كان أول من صاغ
هذه الرموز و التي دعاها بحقوق مدنية و ينأى بنفسه
عن روسو الذي دعا في نفس الوقت إلى العدالة و
الحرية متسائلا عن سر غياب المساواة بين البشر
السياسية و الاجتماعية..إن هذا العبث السياسي
الفارغ و انفلات القوة المستهتر بالإنسان يطرح
مخرجين أساسيين للأزمة الراهنة المتمثلة في
العلاقة المشوهة بين السلطة و الإنسان و المجتمع :
إما إعادة إنتاج ديكتاتوريات جديدة بأسماء أو
شعارات جديدة أو الاحتفاظ بالقديمة في حالة عطالة
و أزمة مزمنين أو تجاوز هذه الديكتاتوريات و سيطرة
الطبقة السياسية التقليدية و رأس المال السياسي
إلى بناء صيغ حقيقية من الديمقراطية المباشرة التي
تنقل السلطة فعلا إلى الشارع إلى الإنسان و تضع
حدا لهمجية القوة و عبثية الصراعات السياسية
الراهنة بين القوى المسيطرة على مصائرنا..
. |