مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية
اللقاء السنوي السابع عشر
الديمقراطية و الانتخابات في الدول العربية
يعقد اللقاء يوم السبت
18/8/2007
في
Bernard Sanely
Room, St.
Cathrine’s College,
Universtity of Oxford, Manor Road, Oxford,
OX1 3UJ, UK.
مقدمة:
أولاً:
المحددات البنيوية للفعل الانتخابي في المغرب
1: الملكية الفاعلة
أ: خطاب الملكية حول نفسها أو الرؤية
التمجيدية
ب: الملكية الحاكمة
2: تعددية سياسية ضمن "سلطة مغلقة"
3: طبيعة التنافس السياسي وحدود الفعل
الانتخابي
ثانياً:
تجاذبات الفعل الانتخابي في المغرب
1: فعل انتخابي محكوم بأزمة التراضي السياسي
أ: التشكيك في المسار الانتخابي أو " التعايش
المأزوم "
ب: نموذج انتخابات 1997 التشريعية كتجسيد
لأزمة المسار الانتخابي في المغرب
2: انعكاسات المسار الانتخابي المأزوم على
الحياة السياسية
أ:
انسداد التوجه الإصلاحي
ب: شرعية التوجه الجذري
ج: تداعي التمثيلية السياسية
3: آفاق التجاوز
أ : "التناوب التوافقي" كتجاوز مرحلي للمسار
الانتخابي
ب : تجاذبات التطبيع الانتخابي في " العهد
الجديد"
ج : تأهيل الفعل الحزبي كمدخل للتحول في تدبير
المسألة الانتخابية
على سبيل الختم:
الإشكالية الانتخابية في المغرب
مقاربة أسس الحكم وتجاذبات المسار الانتخابي
د. يونس برادة
ملخص
الدراسة: تسعى هذه الدراسة إلى بسط ملامح
المسار الانتخابي في المغرب انطلاقا من مقاربة
مقومات الفعل السياسي وأسس الحكم في علاقتها
بالممارسة الانتخابية. فالترابط بين المسارين
يعد جدليا ويساعد على استشفاف ما ظل يعتبر في
المغرب السياسي منذ أولى تجاربه الانتخابية
سنة 1960 بمثابة " أزمة بنيوية" تتصل بجوهر
السلطة السياسية.
ولعل محاولة الفهم انطلاقا من المستويين تجد
سندها في ما قد تتيحه من عناصر تحليلية على
صعيد استجلاء جوانب محورية في " حقيقة السلطة"
وطبيعة العلاقة بين الفاعلين.
فالمسألة الانتخابية لم تخرج في المغرب عن
المسار الطبيعي لمختلف الاحتكاكات الاحتجاجية
والمطلبية في سياق ما يوصف ب" المسلسل
الديمقراطي".
ومن هذا المنطلق تتحدد الانتخابات ضمن أفق
إشكالي واضح المعالم ترتيبا على تجاذبات
الحركات المطلبية السياسية في المغرب وخاصة
الأحزاب السياسية التي ظلت تتفاعل مع
الانتخابات وفق تصور دائري هيمنت عليه ولا
تزال حيثيات العلاقة مع المؤسسة المركزية
المتمثلة في الملكية.
مقدمة
يطرح الفعل الانتخابي داخل الفضاء السياسي
العربي منذ موجة الاستقالات والتخلص رسميا من
المد الاستعماري المباشر كترجمة لأزمة الحكم
وما استتبعها من إشكالات على صعيد التعامل مع
مؤسسات الدولة ومكونات المجتمع.
فالديمقراطية كما تتحدد مرجعيا لا تخرج مطلقا
عن تأسيس الفعل الانتخابي بجعله أداة حسم
وبناء وتجسير للحياة السياسية والمؤسسية
برمتها
وترجمة لمفهوم
المواطنة
وتعبيرا عن " سيادة
الشعب" عبر تفعيل الإحساس بالانتماء وجعل
القوى السياسية أمام حقيقة تمثيليتها
.
غير أن الواقع السياسي العربي حمل بين ثناياه
تجارب مختلفة اتسمت بتفعيل أساليب لم تستحضر
استراتيجيا القيمة الانتخابية للتعامل مع
الشأن السياسي والمجتمعي العربي.
فبين القومية
والليبرالية المعلنة أو الاشتراكية وغيرها
تناسلت توصيفات لم تخرج عن إطارها السياقي
العربي أي إطار استعصاء تجاوز " عطب السلطة"
بكل تلا وينه .
وإذا كان التفاعل مع القيمة الانتخابية يختلف
حسب طبيعة الأنظمة السياسية العربية وترتيبا
على مضامين بنيات السلطة داخلها، فذلك لا يحجب
واقع الالتقاء الموضوعي بين مختلف مكونات
الجسم السياسي العربي حول حقيقة وجود أزمة في
تأسيس الفعل الانتخابي الذي يقتضي في ما
يقتضيه إعادة النظر في البناء المؤسسي بجعله
خاضعا للمنافسة السياسية والانتقال استراتيجيا
إلى بنيات تداولية تتجاوز جذريا احتكار السلطة
وتعطي معنى حقيقيا للممارسة السياسية.
ومن هذا المنطلق يبدو الحديث عن الانتخابات في
العالم العربي مقترنا بداهة بتشخيص القضايا
الأساسية اللصيقة بالسلطة ، بل يمكن الاتجاه
بالرأي إلى أن العلاقة بين تمثلات الفعل
الانتخابي وتصورات ممارسة السلطة تكتسي بعدا
تسانديا إن لم يكن انصهاريا. فالحديث عن
الانتخابات هو قبل كل شيء حديث عن أسس السلطة.
والوقوف على أزمة الانتخابات أو أزمة التعبير
التمثيلي هو وقوف على " عجز بنيوي" في
المراهنة على الإرادة الشعبية في تشكيل القرار
السياسي وبناء مؤسسات الدولة والمجتمع.
على هذا الأساس تبدو التجربة الانتخابية
المغربية مترعة بالدلالات في قراءة " الأزمة"
ومحاولات تجاوزها واستشفاف إمكانيات التحول
وحدوده وملامسة بنيات الحكم وانعكاساتها على
مستوى تدبير الشأن السياسي على وجه العموم.
فمنذ مستهل الستينيات دخل المغرب السياسي
رسميا منعطف التعبير التمثيلي محليا ووطنيا
ضمن تصور هيمنت عليه
منذ البداية ملامح الصراع بين مختلف مكونات
الحقل السياسي من خلال الملكية من جهة وما
يصطلح عليه بأحزاب الحركة الوطنية
من جهة أخرى.وظلت
الانتخابات مدخلا أساسيا في ملامسة طبيعة ومدى
وحدود وتمظهرات التوتر أو الانفراج في الفضاء
السياسي المغربي واختزالا لوضعية السلطة في
المغرب من خلال تجاذبات مضامين "البناء
الديمقراطي" في ظل غياب أو صعوبة بلورة أرضية
مشتركة لمقاربة آليات الممارسة السياسية
ومحدداتها الإستراتيجية ومضامينها المؤسسية.
وتعد لحظة التعبير التمثيلي مرحلة شاخصة في
قياس مدى التحول داخل النظام السياسي المغربي
وخاصة على صعيد تحديد جوهر العلاقة بين مختلف
الفاعلين أو بالأحرى بين المؤسسة الملكية
ومكونات الحقل الحزبي،
غير أنها تقترن بدءا
بالإشكالية المركزية المتمثلة في المنافسة
السياسية داخل النظام المغربي.
فالاختلاف حول مضمون وجوهر السلطة السياسية
وصيغ بلوغ ممارسة تكتسي بعدا ديمقراطيا
والتباين حول الاختيارات الإستراتيجية في
المغرب المستقل ( منذ 1956) ظلت بمثابة عوامل
معرقلة في تحقيق الحد الأدنى من التوافق
السياسي حول المنطلقات والأهداف ومن خلالها
الوسائل والآليات.
وهو ما أفرز، بنسب
متفاوتة، توترا مستمرا بين مكونات الطبقة
السياسية تبعا لمراحل تطورها وترتيبا على
طبيعة تفاعلاتها. كما أن تحولات المشهد
السياسي الوطني ومن خلالها رموز السلطة في
المغرب استحثت المهتمين بالشأن السياسي الوطني
على التساؤل حول مواطن التمايز بين ما يوصف
بالعهد السابق –أي عهد الحسن الثاني- والعهد
الجديد أو عهد محمد السادس
. وبين خيوط التساؤل
تعن محددات أساسية لفهم آليات الحكم في المغرب
وضوابطه المركزية ونطاق الاستمرارية وحدود
التحول.
ومن هنا يبدو أن هذه الدراسة قد لا تجد مسوغا
منهجيا لمقاربة الإشكالية الانتخابية خارج
المنظومة التحليلية الأم المتمثلة في جوهر
النسق السياسي المغربي وانعكاساته على تدبير
المسار الانتخابي.
فالسلطة السياسية في المغرب تعتبر – حسب عدد
من الدراسات الأكاديمية
- مغلقة البناء مع ما
يقتضيه ذلك من تجاوز بنيوي لإمكانية المنافسة
السياسية المفتوحة أو تشاور واسع في مسلسل
تشكيل القرار السياسي في مساراته
الإستراتيجية.
ولعل محاولة النفاذ إلى الدلالات السياسية
والإيديولوجية للانتخابات في المغرب تجر
الباحث إلى مقدمة أساسية لا محيد عنها تتمثل
في بلورة تقابل موضوعي بين طبيعة الفعل
الانتخابي وجوهر الفعل السياسي أو طبيعة
السلطة السياسية. فهذا التقابل يبقى عامل
إثراء لكل نقاش يسعى إلى ملامسة آفاق الممارسة
الانتخابية ودلالاتها المباشرة.
أولا: المحددات البنيوية للفعل الانتخابي في
المغرب
لا يمكن فهم الواقع الانتخابي في المغرب ، على
الأقل كما ترجم على مستوى الممارسة السياسية ،
دون استقراء الأرضية الموضوعية المفرزة له إن
على صعيد التصور أو على مستوى آليات التفعيل .
واقع تتداخل في سياقه معطيات شتى يمتزج فيها
البنيوي بالظرفي والمرحلي بالاستراتيجي.
فالنفاذ إلى السياق يفرض نفسه منهجيا لأنه
يتيح ، إلى حدود معينة، إمكانية قراءة من
الداخل تتسم باللمسة الجوهرية وتتجاوز
القراءات الاسقاطية التي تغض الطرف – على
العموم- عن واقع الحال لتفرض تصورا غالبا ما
يجافي الصواب أو يجعل القراءة مترعة بذاتية قد
لاتسائل الواقع مطلقا ومن ثمة قد لا تجد سبيلا
إلى فهمه والنبش في مدلولاته.
1: الملكية الفاعلة
تحتل الملكية في المغرب مكانة إستراتيجية سواء
من حيث تعبيرها عن ذاتها أو بالنظر إلى
تموقعها في البناء المؤسسي والسياسي . ولعل
مكانتها المحورية على الأقل في المغرب السياسي
المعاصر – الذي يمكن تأريخه منذ الحصول على
الاستقلال سنة 1956- تقابلها موضوعيا وضعية
باقي أطراف العملية السياسية كما تجلت على
صعيدي الخطاب والممارسة. وهو ما يمكن مقاربته
من خلال مساءلة معطيين متداخلين : معطى خطاب
الملكية حول ذاتها ومعطى واقع التحكم في حقيقة
السلطة.
أ: خطاب الملكية حول نفسها أو الرؤية
التمجيدية
في أول خطاب للعرش بعد وصوله إلى سدة الحكم
في 30 يوليو 1999 كان الملك محمد السادس
منطقيا إلى أبعد الحدود مع الهندسة الفكرية
والإيديولوجية العامة التي رسمت ملامح الحكم
في المغرب وخاصة في عهد والده الحسن الثاني (
1961-1999) الذي كرس هيمنة الملكية على الهرم
المؤسسي والدستوري طيلة فترة حكمه.
فبتأكيده أن الملك سيظل " الموجه المرشد
الناصح الأمين الذي يعلو فوق كل انتماء"
يكون العاهل المغربي
قد حدد الفلسفة العامة للسلطة في المغرب ومن
خلالها تصور الملكية حول ذاتها وجوهر تفاعلها
أو ردود فعلها إزاء باقي شركاء الفعل السياسي.
وتحرص الملكية في خطابها حول ذاتها – وهو ما
يقابله موضوعيا تحديدا تلقائيا لمكانة باقي
الفاعلين- على استحضار بعدين متداخلين على
مستوى انعكاساتهما الوظيفية: بعد ديني- سياسي
وبعد براغماتي.
يمكن ملامسة البعد الأول عبر دأب الملكية في
مخاطبة باقي مكونات الحقل السياسي على جعل
مسألة السلطة السياسية في المغرب مسألة دينية
في المقام الأول مع ما يترتب عن ذلك من
انعكاسات مؤسسية وفي طليعتها تغييب العنصر
التشاركي ناهيك عن التنازعي في جوهر السلطة
السياسية.
السلطة السياسية – يقول الحسن الثاني في تبرير
هذا المسار التوقيفي – "أمانة لا يمكن تفويتها
ولا تفويضها"
. فهي – حسب محمد
السادس – " بيعة الإمامة الشرعية التي تطوق
عنقنا وعنقك موصولة بما سبقها على امتداد أزيد
من اثني عشر قرنا موثقة السند بكتاب الله وسنة
رسوله الكريم ومشدودة العرى إلى الدستور
المغربي."
ويمكن النحو إلى أن تصورا من هذا القبيل يحيل
مبدئيا على ما يمكن الاصطلاح عليه ب"الشرعية
الأصيلة" التي تتجاوز منطلقات الشرعية
الديمقراطية التي تظل في مبناها مكتسبة بفعل
الصراع " المهذب" حول السلطة انطلاقا من
الانتخابات بصفة حصرية وفق النظام المعياري
الديمقراطي .
وفي هذا السياق مثلا نجد الملك الحسن الثاني
لا يتردد في مستهل تقلده الحكم في رفض كل
شرعيات منافسة قد يدفع بها حزب من الأحزاب
لتبرير مواقفه على
الساحة السياسية أو المطالبة بمسار مخالف لما
ترتئيه الملكية. فإذا كان حزب الاستقلال يرى
انه " هو الذي حرر المغرب"
فالملكية لا ترى ضيرا
في الدفع ، ضمن تصورها الخاص بالسلطة السياسية
، بأنها غير مدينة لحزب معين أو فئة محددة. "
فحينما – يقول الحسن الثاني - رجع الملك
المظفر ( محمد الخامس – 1955-1961- ) من منفاه
لم يأت في عربة حزب ولا حركة معينة حتى يصير
أسيرا لها وحتى يعطيها كهدية مقاليد الحكم
ورقاب المغاربة."
وانسجاما مع النسق التصوري نفسه تتجه الملكية
إلى تكثيف ما يمكن وصفه ب" شرعية الوجود" التي
تجد سندها في طرح جدوى المؤسسة الملكية على
صعيد وحدة الشعب المغربي وتماسكه وانتظامه. "
إذ لولا الملكية- يقول الحسن الثاني- التي
ارتضاها المغاربة في هذه البلاد عن طواعية
واختيار لرأينا ملوك الطوائف".
ويبلغ هذا النسق التمجيدي مداه بجعل المؤسسة
الملكية مرتبطة عضويا بهوية المغرب السياسية.
فهي " التي صنعت المغرب" يقول الحسن الثاني
الذي لا يتردد في
الجزم بأنه " لولا ملكية شعبية لما كان المغرب
أبدا"
قبل أن يخلص إلى فكرة
الحتمية السياسية للملكية التي يعتبرها "
ضرورة ولزوما"
وتبقى " أكبر عامل
في صنع تاريخنا المديد ، فهي التي كفلت
استمرار المغرب طيلة قرون تحت سلطة أسلافنا
المقدسين كدولة لها كيان محفوظ وحوزة منيعة
ومقومات محترمة."
ويستشف من هذا التصور التركيبي أننا أمام
مقاربة تجعل الملكية " مؤسسة المؤسسات" أي
المؤسسة القادرة من حيث شرعيتها وطبيعة وجودها
على إعطاء معنى سياسي ومؤسساتي بل ووجودي
للمغرب بشكل يجعل باقي آليات ممارسة الفعل
السياسي في مكانة هامشية إن لم تكن مغيبة
فعليا وخاصة الأحزاب السياسية التي وجدت نفسها
في المغرب المستقل محكومة بالتعامل الواقعي مع
وضعية هيكلية أساسها اتجاه موازين القوى إلى
تجاوز بحكم الواقع للأهمية الوظيفية للفعل
الحزبي .
ومن هذا المنطلق يمكن التساؤل عن الفعالية
المؤسساتية للملكية والتي من خلالها يتحول
الخطاب التمجيدي إلى ممارسة فعلية للسلطة
السياسية استنادا إلى دعائم تاريخية ودينية
وسياسية فضلا عن مؤشر موازين القوى الذي يجعل
الملكية – في المغرب السياسي المعاصر- القوة
الأكثر تنظيما والأكثر فعالية على مستوى خلق
شروط اللعبة السياسية .
ب: الملكية الحاكمة
لا يمكن فهم طبيعة النظام السياسي المغربي
بالاقتصار على فحوى الوثيقة الدستورية على
اعتبار أن جوهر الفعل السياسي يتصل بممارسات
تتجاوز في عمقها المدلولات المباشرة التي
يتيحها استقراء النص الدستوري. وبالمزج بين
المسارين قد تبدو الرؤية أكثر وضوحا وأكثر
اقترابا من مكنون الواقع خاصة في ظل أرضية
سياسية وإيديولوجية تتسم بتداخلات بين المعلن
والمضمر والمكتوب والعرفي.
وأول ما يسترعي الانتباه في هذا السياق هو أن
المؤسسة الملكية تعتبر سلطة تأسيسية أصلية أي
هي التي كانت ولا تزال وراء المبادرة
الدستورية – على الأقل من الناحية الرمزية
وتجاوزا لما قد يعتبر تأثيرا مطلبيا لبعض
الأحزاب الفاعلة - وهو ما أهلها لأن تحتكر
ضبط قواعد اللعبة السياسية والتحكم في مسارها
العام حسب طبيعة وتطور الأزمنة السياسية
التي يمر منها المغرب
.
فالملكية ظلت حريصة ، ترتيبا على هذا الواقع ،
على بلورة سموها المؤسساتي من خلال التحكم
موضوعيا في الجهازين التشريعي والتنفيذي على
اعتبار أن مبدأ فصل السلط ، الذي يعتبر
منطلقا استراتيجيا في المنظومة الديمقراطية،
لا يجد له مسوغا نظريا أو فعليا حسب التصور
الملكي. " فإذا كان هناك فصل للسلط- يقول
الحسن الثاني- لا يمكن في مستواي، بل فصل
السلط هو في مستوى أدنى . فالملك يحكم بلاده
ويسير سياستها مستعينا بسلطتين: السلطة
التنفيذية...والسلطة التشريعية. "
وعلى هذا الأساس ، ظلت الملكية منذ دستور 1962
والى غاية دستور 1996 متمسكة بوضعيتها
الإستراتيجية في الهرم الدستوري. فتشريعيا
يخول الدستور للملك التدخل المباشر في الحياة
البرلمانية من خلال مخاطبة البرلمان مع ما
يعنيه ذلك من توجيه للحياة السياسية وتأطيرها
بل ورسم الملامح الكبرى للسياسة العامة دون أن
يكون مضمون الخطاب موضع نقاش.
ويمكن للملك أن يضع حدا للحياة البرلمانية وفق
سلطة تقديرية واسعة سطرها الفصل الخامس
والثلاثون من الدستور في حالة وجود تهديد
لحوزة التراب الوطني أو وقوع أحداث من شأنها
أن تمس بسير المؤسسات الدستورية.
وعلى الصعيد التنفيذي يلاحظ أن الملك ظل يحافظ
على مفهوم "الملكية التنفيذية" أو الرئاسية
في مختلف الدساتير بما فيها دستور 1996 – الذي
اعتبرته المعارضة المشاركة في المؤسسة
البرلمانية تطورا رئيسيا في المسار الدستوري
الوطني -
إذ أن الملك هو الذي
يعين الوزير الأول
دون تحديد للوضعية
السياسية التي يتم على أساسها هذا التعيين،
كما أن أمر الإعفاء لا يخرج عن المبادرة
الملكية. وهو ما يستحث على القول بأن الملك
الذي يرأس المجلس الوزاري
يستطيع من موقعه
التأثير هيكليا في تدبير لشأن العام وتوجيه
السياسة الحكومية ناهيك عن سلطة الملكية في
مجال التعيين في المناصب العليا المدنية
والعسكرية، ما يؤهلها إلى التحكم في الهندسة
العامة لتشكيل النخب في المغرب بمختلف
مستوياتها.
ويمكن الاتجاه بالرأي إلى أن البناء الدستوري
في المغرب يحيل مبدئيا على هندسة ثنائية يمتزج
في سياقها البناء التقليدي الذي يجد أساسه في
" البنية المخزنية- التراثية للنظام"
والشكل التحديثي الذي
يجد بعض تعبيراته في تفعيل –شكلي على الأقل –
لبعض الأسس المتعارف عليها في المنظومة
الديمقراطية من قبيل اختصاصات الجهازين
التنفيذي والتشريعي والعلاقات بينهما وبعض
مبادئ دولة الحق والقانون والتنصيص على أن
القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الآمة
وإلزامية امتثال الجميع له ومبدأ التساوي
أمامه.
غير أن محاولة فهم أسس الحكم في المغرب لا
تستقيم دون الوقوف على ما يمكن وصفه ب"
المفتاح التأسيسي لحقيقة السلطة" وهو الفصل
التاسع عشر من الدستور الذي ينص على أن الملك
هو " أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة
وضامن دوام الدولة واستمرارها ، وهو حامي حمى
الدين والساهر على احترام الدستور. وله صيانة
حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات.
وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في
دائرة حدودها الحقة."
والواضح أن هذا الفصل الذي لا يتجاوز نظريا
وأكاديميا مقارنة وتحليلا وتمحيصا
على مستوى استجلاء محددات النسق السياسي
المغربي يسعف بجلاء في فهم طبيعة السلطة
السياسية ومن خلالها الدينامية الممكنة أو
المتاحة في تدبير كل مسار " تنافسي"،وهو ما
يمكن فهمه عبر الملاحظات الآتية:
أولا:
يركز هذا الفصل ، الذي ما انفك يهيكل مختلف
الخطابات حول الإصلاح السياسي والدستوري في
المغرب
على " الحضور
الاكتساحي" للملك في كل مواطن القرار السياسي
بدءا من التمثيلية - التي أضحت إستراتيجية
ومختلفة من حيث الجوهر والدرجة عن باقي
التمثيليات السياسية المحتملة- ومرورا بتأمين
المسار الحقوقي والمؤسساتي داخل الدولة ووصولا
إلى ضمان كيان الدولة في حد ذاته.
ثانيا:
يتيح هذا الفصل تأمين هيمنة فعلية للمؤسسة
الملكية على الشأن السياسي وخاصة على مستوى
تدبير قواعد الممارسة السياسية
بل وأيضا على صعيد
تأسيس الوضعية التنفيذية للملكية بجعلها سائدة
وحاكمة، آذ كما يقول الحسن الثاني:" الشعب
نفسه لا يستطيع أن يفهم كيف يمكن أن يكون ملكا
ولا يحكم ، فلكي يستطيع الشعب أن يعيش ...
وتكون الدولة محكومة ، يجب أن يعمل الملك وان
يأخذ بين يديه سلطاته ويتحمل مسؤولياته."
ثالثا:
يحيل هذا الفصل على قدرة تأويلية واسعة، يمكن
وصفها ب" سلطة التأويل الاستراتيجي "
التي تجعل الملكية
قادرة على تكييف وضعية سياسية معينة أو اتخاذ
قرار محدد مع إضفاء الشرعية عليه دون الوقوع
في مأزق ملاءمة القرار للنص القانوني أو
الدستوري بل ودن الاضطرار إلى إظهار وجود
تسويات سياسية ضمنية معينة تقتضي تنازلات ما
في سياق معين. وغالبا ما توظف الملكية حمولتها
الرمزية في عملية التبرير قبل الوصول إلى
القرار السياسي حتى يكون مواءما مع طبيعة
الظرفية ومستلزمات الموقف.
وفي هذا الصدد يمكن إدراج التبريرات التي
ساقتها الملكية في كل مراجعة دستورية كتعبير
شاخص عن التحكم في " التأويل الاستراتيجي" وفق
منظورها الخاص للسلطة السياسية وحسب مواقع
موازين القوى في البلاد.
فقد اعتبرت الملكية الدستور الذي صاغته سنة
1962 " تجديدا لعهد صادق وميثاق مقدس ربط
دائما الشعب بملكه"
غير أنها سرعان ما
خلصت إلى إعلان حالة الاستثناء في يونيو /
حزيران/ 1965 واضعة حدا لمرحلة سياسية بكاملها
اتسمت حسب وصف أحد الباحثين ب" الفشل
الانتخابي للنظام"
، وبررت ذلك ، في
تسويغ يحيل إلى هذا التصور التأويلي ، بأنه "
في الدستور من الفصول ما لايساعد على ضمان سير
المؤسسات البرلمانية سيرا مستقرا سليما ، كما
أن فيه من الثغرات والإبهام ما يعرقل ذلك
السير. لذلك لا مناص من مراجعة تلك الفصول
وتدارك هذا الخلل قصد تكميل الدستور وتحيينه."
وفي يوليوز / تموز/ 1970 ، أصدرت الملكية في
سياق سياسي مشحون دستورا جديدا اعتبرته
المعارضة الحزبية المعترف بها - مشخصة في حزبي
الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية -
تراجعا عن الدستور السابق
كما وصف بكونه "
تكريسا لملكية شبه مطلقة"
. غير أن الملكية التي
أرادت بهذه المراجعة الدستورية إنهاء حالة
الاستثناء والدخول في توازنات جديدة ذهبت إلى
أن هذا الدستور " سيفتح صفحة جديدة "
في الحياة النيابية
المغربية. وبررت جعل السلطة التنظيمية حكرا
على الملكية – في تراجع واضح عن دستور 1962
حيث كانت متقاسمة مع الوزير الأول- بضرورة أن
تكون " الصلات أقرب وأوثق بين البرلمان والملك
حتى لا يكون أي عامل من العوامل بمثابة الحاجز
بين السلطة التشريعية وبين أعلى سلطة في
الدولة"
. واعتبرت الملكية
العدول عن نظام الثنائية البرلمانية الذي كان
معمولا به في دستور 1962 بمثابة تأكيد لرغبة
في " جمع شمل ما كان مشتتا في المجلسين
الأولين."
وبعد محاولة انقلابية استهدفت الملكية على يد
فئة من الجيش سنة 1971 وجدت " مؤسسة المؤسسات"
نفسها في شبه عزلة خاصة وأن التجربة
البرلمانية الثانية بات محكوما عليها بالفشل
لغياب المعارضة عنها من جهة ولعدم تزكيتها من
جهة ثانية حتى من طرف الأحزاب الموالية مبدئيا
للنظام باستثناء الحركة الشعبية ذات المنحى
الأمازيغي.
وكان على الملكية أن تجد مخرجا جديدا على
المستوى الدستوري توخيا لإخراج الحياة
السياسية من حالة الضمور ووضعية الاضطراب عبر
إدماج المعارضة في مرحلة ما بعد حالة
الاستثناء ، فكان أن راهنت مجددا على المراجعة
الدستورية من خلال دستور 1972 الذي تحول في
منظور التأويل الاستراتيجي للملكية إلى رغبة
في توزيع المسؤولية. "هناك السلطة – يقول
الحسن الثاني- التي توازي المسؤولية والتي
بدونها لا يمكن لأية مسؤولية أن يكون لها
مدلول. تلك السلطة... نريد أن ننظر فيها فنفرق
بين ما هو تنظيمي وتشريعي.. ثم نوزعها ..
توزيعا يضمن التوازن."
وحسب هذا المنطق التسويغي المتواصل - الذي
يمكن القول انه يشكل عماد الدينامية السياسية"
لدى المؤسسة الملكية
منذ الحصول على الاستقلال-
أصبح دستور 1972 يعطي في منطوقه" الحكومة
جميع الوسائل لتنفيذ وتطبيق الأوامر
والتوجيهات... ويوسع نطاق اختصاصات القانون
لمراقبة أعمال الحكومة في ميادين أوسع
وأشمل."
والواضح أن هاجس المسايرة هو ما جعل الملكية
تعي – في حدود نظرتها للسلطة السياسية وثوابت
النظام- التحولات التي شهدها المجتمع السياسي
المغربي في العقدين اللذين كان دستور 1972
مرجعيتهما الشكلية
فقررت – في سياق شبه تفاوضي
- مراجعة دستورية جديدة
في شتنبر / أيلول/1992 .
وبقطع النظر عن مواقف الطبقة السياسية مجسدة
أساسا في أحزاب المعارضة البرلمانية، اعتبرت
الملكية أن هذه المراجعة الأساسية الثالثة من
نوعها - والتي أصبحت بموجبها الحكومة
خاضعة لتنصيب البرلمان- ستجعل الشعب المغربي "
عزيزا مرموقا بين الدول والشعوب."
وتمثلت التبريرات الرسمية في كون الدستور
الجديد – الذي كان ينتظر أن يشكل غطاء لمرحلة
التناوب على العمل الحكومي في المغرب- يعطي
الحكومة " مسؤوليات أكثر حتى يمكنها عند
الامتحان أن تعز أو تهان" ويمنح المنتخبين "
الوسيلة القانونية والموضوعية لمراقبة الحكومة
وتشجيعها على السير أو الطلب منها أن تتوقف عن
العمل". أما الملكية فتبقى ساهرة على سير "
هذا كله لتسير الدواليب متوازنة ومرضية
لاتطاحن فيها ولا اعوجاج."
وذهب الحسن الثاني في تصوره للنص الجديد إلى
انه " قابل من حيث هو لكل تطوير وتطور... لكن
دون الرجوع إلى استفتاء جديد"
لكن سرعان ما تداعى
هذا الطرح بفشل انخراط حزبي المعارضة
الرئيسيين – الاستقلال والاتحاد الاشتراكي
للقوات الشعبية- بعد فشل مشروع " التناوب"
ليظهر بعد ذلك ، على مستوى التسويغ السياسي ،
أن دستور 1992 بات قابلا للتعديل.
وبررت الملكية المراهنة على دستور جديد في
شتنبر / أيلول/ 1996 برغبتها في " المساهمة
والمثابرة على إصلاح الأمور إصلاحا تدريجيا
نمطيا يتلاءم مع روح العصر... ومع الجغرافيا
البشرية والفكرية والسياسية لهذا البلد
العزيز."
فالتأويل الاستراتيجي الذي يحكم وضعية الملكية
في المغرب يقوم في مؤداه على إمكانية التفاعل
التبريري الذي يضفي "الشرعية الرسمية" على
تصور طبيعة المرحلة السياسية أو بسط منظور
الملكية للشأن العام .
رابعا:
إذا كان الفصل التاسع عشر من الدستور يضفي
الشرعية على النظام السياسي ضمن تصور تراثي
فان ما يتيحه من هامش تأويلي يجعل الملك بصفته
أميرا للمؤمنين وممثلا أسمى للأمة في حل من كل
التبريرات القانونية الصرفة المختزلة في مسألة
المشروعية كما تكون الملكية في ضوئه قادرة على
وضع التكييفات الملائمة لتصورها للشأن العام
في لحظة ما من تطور المغرب السياسي.
وفي هذا السياق يبرز الدور المهيمن للملكية في
محاولة التحكم في الفعل السياسي من خلال تصور
اكتساحي لا يمكن في خضمه وجود فراغ مؤسساتي
محتمل على اعتبار أن الملكية قادرة ،ارتكازا
إلى موقعها والى الشرعيات المحركة لنسقها، على
القيام بمختلف الأدوار وفي مقدمتها دور تدبير
الأزمات السياسية . ذّلك أن التواجد الملكي
يعد لازمة في قواعد الممارسة السياسية
المغربية. فمن الحياة المؤسساتية إلى الحياة
الاقتصادية والاجتماعية إلى كل المبادرات التي
تكتسي بعدا اجتماعيا وشعبيا أو إعلاميا ،
يتمثل الحضور الملكي رمزيا وفعليا لتكريس
ممارسة شاملة للسلطة السياسية من منظور تفاعلي
أفقيا وعموديا.
" فليعلم أولئك – يقول الحسن الثاني في تلخيص
جامع لهذا التصور- الذين سيأتون ليعملوا
بجانبي أنهم سيجدون مواطنا مسلما مغربيا. ملكا
أمامهم ووراءهم وعن يمينهم وعن شمائلهم."
وانطلاقا من هذه القراءة لمكانة الملكية يصبح
التساؤل عن معنى التعددية السياسية في
المغربية ومدلولات الفعل الانتخابي وحدوده
البنيوية داخل النظام السياسي المغربي إشكاليا
بكل المقاييس. وهو ما يمكن الوقوف على بعض
ملامحه من خلال النبش في معنى التعددية
السياسية في المغرب من جهة وتناول مسألة
المنافسة السياسية من جهة أخرى.
2: تعددية سياسية ضمن "سلطة مغلقة"
وعت الملكية منذ السنوات الأولى للاستقلال أن
تكريس التعددية الحزبية في المغرب يتماشى
وضرورة بلورة خطابها عن الديمقراطية. " فلا
ديمقراطية دون أحزاب سياسية".
غير أن هذا الواقع لا
يغيب معطى التداخل بين الماضي والحاضر أو "
ارث الماضي بأعرافه وسلوكياته إزاء السلطة
وارث الحماية"
في سياق ما قد يصطلح
عليه ب" الشخصية المغربية".
على المستوى النظري يلاحظ أن التعددية
السياسية في المغرب يتجاذبها تياران سرعان ما
يتداخلان عند ولوجهما القراءة الوقائعية من
خلال محاولة استشفاف السياسة الملكية إزاء
الأحزاب السياسية وهما تيار المقاربة
الانتربولوجية وتيار المقاربة الإرادية.
تنطلق المقاربة الأنتربولوجية من محددين
ضابطين يتمثلان في طبيعة المجتمع المغربي
كمجتمع " مركب" ( المستوى المجتمعي) من جهة
وطبيعة التشكيلة السياسية الوطنية المتسمة
بالتنافر المذهبي والصراع السياسي ( المستوى
السياسي ) من جهة أخرى.
وحسب هذه المقاربة – التي يعتبر وليام زارتمان
أحد أقطابها- يلاحظ ارتباط يكاد يكون عضويا
بين المظهر السياسي والواقع المجتمعي الذي
يمتزج فيه التقليد بخطاب الحداثة.
وهو ما يذهب أليه
الباحث الفرنسي كلود بالا زولي بتأكيد دور "
العقليات والتقاليد ودرجة تطور المجتمع
المغربي" في إفراز واقع حزبي تعددي أو على
الأقل المساعدة في تسريع وتيرته.
غير أن طرحا من هذا
القبيل غالبا ما ينحو في جوهره إلى غض الطرف
عن نوع من السلوك الإرادي ذي الطابع التحكمى
في تشجيع مظهر سياسي تعددي قد يخدم المصالح
الإستراتيجية للنظام ويعبد الطريق لنوع من
"التنافس السياسي المغلق" أي خارج دائرة "
حقيقة السلطة".
أما المقاربة الإرادية فيمكن اختزالها مبدئيا
في مفهوم " التدخل الفوقي" الذي يجد ترجمته في
الواقع السياسي المغربي من خلال سياسة تحفيزية
للنظام في تنامي وضعية سياسية يطبعها التعدد
الحزبي.
وإذا كان الباحث الأمريكي واتربوري يركز على
أطروحة الانقسامية كتصور أنتربولوجي لطبيعة
المجتمع المغربي وكمفتاح لفهم أسس النظام
السياسي المغربي ، فهو يعد مع ذلك أحد
المنتسبين نظريا للتيار الإرادي إذ يثير مسألة
توظيف الانقسامية المجتمعية لضبط المجال
السياسي والتحكم في قواعد اللعبة السياسية.
ووفق هذا المنظور يصبح التاريخ السياسي
المغربي مختزلا في "سعي السلاطين الحثيث إلى
استغلال الانقسامات داخل مكونات المجتمع
المغربي قصد الاستمرار في السلطة"
، وذلك أساسا من خلال
التموقع كحكام للفصل في النزاعات الاجتماعية
والسياسية حتى يكونوا رمزا للحياد.
وينتقل واتربوري في مقاربته إلى سحب الماضي
على الحاضر معتبرا أن المؤسسة الملكية فرضت
نفسها متوسلة إستراتيجية دائرية تقوم على
تشجيع المنافسات وتشتيت الزعامة السياسية
لتعضيد ضرورة وجود رمز يضمن الاستمرارية .
وبذلك يتم الانتقال من الزعامة الطبيعية
المترتبة عن مكونات المجال السياسي في بعديه
التلقائي والأصلي إلى الزعامة المفتعلة التي
لا تعدو كونها ترجمة لمبدأ " فرق تسد".
ويلاحظ على هذا الصعيد أن الملكية تنفي أن
يكون تحريم نظام الحزب الوحيد منذ دستور 1962
هو من باب " فرق تسد" إذ الأمر لا يعد في
نظرها ترجمة لتعددية تكون الملكية بمقتضاها "
فوق الأحزاب".
ويثير هذا الطرح ملاحظتين أساسيتين: أولا ،
فالقول بالتواجد السياسي المكثف للملكية
والعمل على تقزيم القوى السياسية المتميزة
نسبيا يلغي ردود فعل الطرف المقابل إذ تتحول
الأحزاب السياسية – بما فيها تلك التي تتمتع
بقاعدة شعبية لكي لا نقول انتخابية عريضة- في
ضوء هذا التصور إلى منظومة استقبال وانتظار
مبادرة النظام من خلال المؤسسة الملكية.
ثانيا، يتسم هذا الطرح بالحتمية السياسية عبر
التغييب العملي لإمكانية بلورة إيديولوجية
تعبوية قد تتحول في خضمها شرائح واسعة من
المجتمع إلى إطراف فاعلة في المسار العام
للبلاد.
وتأسيسا على هذا التحديد يصبح المغرب السياسي
في دائرة مغلقة تقوم على استبطان الممكن
والمستحيل وتحكم على الدينامية السياسية في
المغرب بضيق الأفق ومحدودية التطور.
ويمكن الدفع بأن كل أطروحة قد تجد ما يعضدها
في الواقع السياسي للمغرب ، غير أن الجزم بطرح
معين ينتهي بالقراءة إلى النظرة المبتسرة
منهجيا وواقعيا .
وهنا يستساغ الاتجاه بالرأي إلى أن التعددية
الحزبية في المغرب تأسست عمليا في عهد
الاستعمار وكانت مدخلا لطور الاستقلال الذي
اتسم بصراع سياسي تباينت حدته ومستوياته حسب
تطور موازين القوى سواء داخل مكونات الحركة
الوطنية أو خارجها أو بين المعارضة – كما
تشكلت مرحليا واستراتيجيا- والمؤسسة الملكية.
وإذا كانت الملكية ، باعتبارها محور النظام ،
لم تغب عن هذا الصراع السياسي بل وفرضت نفسها
كطرف فاعل في مجرياته ، فذلك لا يعني تحكمها
الكامل في جميع الفرقاء السياسيين أو وقوفها
الحتمي والتلقائي وراء كل سلوك أو موقف قد
يتخذه هذا الطرف أو ذالك. فالدفع الجازم بدور
الملكية في كل تحرك حزبي أو رد فعلي سياسي
يحكم على الحياة السياسية بالعبث.
ومع ذلك نجد أن الملكية بلورت سياسة حزبية
تتماشى وتوجها الاستراتيجي القائم على وحدة
السلطة أو احتكار حقيقة السلطة بأن راهنت على
الأحزاب الموالية لها استراتيجيا وتوجيهها
لمسلسل التعددية السياسية سواء مع الحصول على
الاستقلال سنة 1956 أو من خلال واجهة النص
الدستوري عبر تشجيع تنامي أحزاب مواجهة
استراتيجيا لما يوصف بأحزاب الحركة الوطنية
التي اكتسبت شرعية جلية في مواجهة المد
الاستعماري.
3: طبيعة التنافس السياسي وحدود الفعل
الانتخابي
اللافت للانتباه في المسار المؤسسي والسياسي
المغربي هو أن الانتخابات ظلت حاضرة ضمن
الصيرورة السياسية مع كونها محل تشكيك يكاد
يكون مستحكما بشكل يبعث على التساؤل عن
وظيفتها الجوهرية في سياق مأزوم هيكليا.
فالصراع داخل المغرب السياسي ظل موسوما بهيمنة
المؤقت سواء في البناء الدستوري أو في التجارب
المعتمدة فضلا عن غياب التراضي حول أرضية
الفعل السياسي. وهو ما يمكن اختزاله في مسألة
المنافسة السياسية.
على هذا الصعيد يلاحظ أن طبيعة السلطة
السياسية في المغرب محكومة بجعل المؤسسة
الملكية ليس فقط حاكمة وسائدة بل وكذلك مقدسة.
فثلاثية الحكم والسيادة والقدسية تجعل السلطة
في المغرب متداخلة البناء وتحكم على باقي
أطراف العملية السياسية بهامشية في شرعية
عملها أولا وفي سياقات تحركها ثانيا.
ولعل الإشكالية المركزية في المغرب السياسي
منذ الحصول على الاستقلال في التوفيق بين واقع
الملكية الحاكمة وتحقيق الديمقراطية كما هي
متعارف عليها في المنظومة المرجعية، إذ أن
التلازم بين الواقع الأول والمطلب الثاني
يكتسي بعدا تنازعيا لا جدال فيه. وظل بالنتيجة
السمة المهيمنة على المشهد
السياسي-الإيديولوجي في المغرب حتى بعد تعيين
ما يسمى بـ"حكومة التناوب" سنة 1998 كتتويج
لمسار "تصالحي" مع المكونات الأساسية في
المعارضة الحزبية المغربية.
وبالوقوف على جوهر السلطة السياسية في المغرب
يبدو جليا أن المؤسسة الملكية جعلت نفسها فوق
المنافسة السياسية مع كونها محور كل العمليات
السياسية. فالملكية تؤكد طابعها "القدسي"
باعتبارها "مؤسسة المؤسسات" وهو ما يؤهلها
انطلاقا من المنطق السياسي المهيمن في النظام
السياسي المغربي إلى أن تكون "أكبر" من أن
تخضع لقواعد التنافس السياسي.
وتجد "قدسية" الملكية سندها المرجعي في
الانتماء لآل البيت الذي شكل إحدى آليات تثبيت
شرعية الملكية الحاكمة .
في هذا الخضم، يحيل المجال
السياسي-الإيديولوجي في المغرب على ثنائية
التقليد والحداثة كإشكالية تنازعية في تمثل
طبيعة السلطة السياسية إذ تصطدم مظاهر الحداثة
سياسيا بجوهر تقليدي يتم توظيفه سياسيا ليتحول
بذلك النظام في عمومه إلى "تقليدوية أداتية".
فالسلطة السياسية من خلال الدفع بطابعها
القدسي تنتج نوعا من "الإذعان الصامت"
و"الطاعة اللامشروطة" ويستحيل معها العمل
السياسي إلى ممارسة محكومة بمنطق "تفويض
السلطة" و"الولاية الكبرى والمسؤولية العظمى".
على هذا الأساس يمكن الذهاب مع الرأي القائل
بأن القاعدة الأساسية لكل عملية سياسية في
المغرب هي استمرارية السلطة الملكية التي "لا
يمكن لأحد أن يشكك فيها دون أن يغامر بأن يجد
نفسه خارج القانون". ذلك أن الملك يظل خارج
المنافسة السياسية لأنه هو "سيد الإطار وسيد
اللعب".
على هذا الصعيد تطرح الاستشارات الاستفتائية
كمجال لفهم أسس المنافسة السياسية في المغرب
باعتبار وجود المؤسسة الملكية كطرف مباشر إذ
أنها هي التي تقترح مضمون المشروع الذي يتعين
إجراء الاستفتاء بشأنه. كما أن هذه
الاستفتاءات تجسد من حيث انعكاساتها
المؤسساتية جوهر التوازنات السياسية التي لا
تقبل الخلل في ظل ثوابت النظام السياسي
المغربي.
ويعكس تعامل الملكية مع هذه الاستفتاءات
نظرتها الإستراتيجية للسلطة السياسية أولا
ولمضمون التوازنات السياسية الخاصة بالنظام
ثانيا. ذلك أن مقاربة النتائج الرسمية لمختلف
الاستفتاءات الدستورية التي شهدها المغرب تحيل
على منطق "المساندة الإجمالية" التي تجعل
الاستفتاء تزكية لمقترح ملكي أولا وأخيرا.
ويلاحظ أن هذه المساندة لا ترتبط بتاتا من حيث
نتائجها الرسمية بمضمون مواقف المعارضة بل
وحتى بالسياق العام الذي تتم خلاله.
ثانيا: تجاذبات الفعل الانتخابي في المغرب
لاشك أن الانتخابات في المنظومة الديمقراطية
تبقى الأداة الحاسمة المؤدية إلى اختيار
الشعب لممثليه وترجمة مفهوم المواطنة في
مختلف أبعاده ومستوياته.
ومن ثمة يضطلع
الاقتراع بوظائف مباشرة منها إضفاء الشرعية
على الحاكمين خاصة في الاقتراع العام المباشر
الذي يرمز إلى " سيادة الشعب" وتفعيل الإحساس
بالانتماء وجعل القوى السياسية أمام حقيقة
تمثيليتها.
وتطرح في هذا السياق الانتخابات التنافسية
كمحدد محوري لديمقراطية الاختيار ، إذ أن
الطابع التنافسي لاقتراع ما يجد سنده في حرية
الناخبين من خلال نزاهة العملية الاقتراعية
والتنافس بين المرشحين فضلا عن الرهانات
السياسية المتصلة بطبيعة الاقتراع.
على هذا الصعيد تعتبر نزاهة الاقتراع شرطا
تأسيسا لبلورة أي توجه ديمقراطي وإتاحة مؤسسات
تمثيلية حقيقية تنال ثقة الشعب ناهيك عن
الاعتبارات السوسيولوجية التي تعد وازنة في
تحديد معالم الخارطة الانتخابية شريطة أن يكون
ذلك في سياق تنافسي أصلا.
غير أنه بالوقوف على مختلف الاستحقاقات
الانتخابية التي شهدها المغرب منذ أولى
التجارب التشريعية سنة 1963 يتضح أنها اتسمت
بميل حاد إلى التشكيك في مصداقيتها واتهام
السلطات الإدارية من طرف الأحزاب المعارضة
بتزييفها والوقوف وراء التجاوزات المؤدية إلى
الإجهاز على شرعيتها. وهو الواقع الذي اكتسى
طابعا هيكليا أصبحت معه الاستحقاقات
الانتخابية في حالة " حلقة مفرغة" تعيد إنتاج
نفسها وفق الضوابط ذاتها.
وإذا كان المغرب السياسي قد دخل منذ سنة 1998
في توازن سياسي جديد وصف ب " التناوب" من خلال
إشراك أبرز أحزاب المعارضة التاريخية في العمل
الحكومي فذلك لم يتح تأسيسا نهائيا للفعل
الانتخابي
كما أنه لم يجسر
بلورة معادلة جديدة لحقيقة السلطة ضمن تصور
تشاركي يؤسس لمنافسة سياسية حقيقية.
ومن هذا المنطلق يمكن دراسة ما يمكن وصفه
بالمأزق الانتخابي في المغرب من خلال المسار
الانتخابي وأزمة التراضي قبل تناول حالة
انتخابات 1997 التشريعية كنموذج لواقع "
الحلقة المفرغة" التي عاشها المسلسل الانتخابي
في المغرب الذي بحث منذ 2002 عن آفاق جديدة
لتجاوز الوضعية الانسدادية.
1: فعل انتخابي محكوم بأزمة التراضي
السياسي
لم تسلم أي تجربة انتخابية في المغرب –
باستثناء انتخابات 2002 التشريعية نسبيا- من
التشكيك في مسارها والطعن في مدلولها رغم حديث
الملكية المتواصل عن ضمانات مركزية ، ما أدى
إلى تحول الانتخابات إلى مجرد " واجهة" في رأي
عدد من مكونات المعارضة التي اختلفت ردود
أفعالها بين المشاركة مع التشكيك والتشكيك
بالانسحاب والتشكيك بالمقاطعة.
أ) التشكيك في المسار الانتخابي أو "التعايش
المأزوم"
فقبل الدخول في ما وصف في تاريخ المغرب
المعاصر ب" حكومة التناوب التوافقي" سنة 1998
ظل المشهد السياسي المغربي موسوما بتركيبة
حزبية ثلاثية : أحزاب معارضة مطلبية إصلاحية
تتمثل في مكونات أساسية من الحركة الوطنية
التي قبلت بالانخراط في المسار الانتخابي
والمؤسسي الرسمي مع المطالبة المستمرة بإعادة
النظر في توازناته؛ وأحزاب مطلبية جذرية معترف
بها غير أنها ترفض التوازنات القائمة وقواعد
الممارسة السياسية المعتمدة ثم أحزاب داعمة
ارتبطت هويتها الإيديولوجية والوظيفية بمساندة
الاختيارات الإستراتيجية للنظام سواء كانت
ممثلة في الجهاز التنفيذي أو بعيدة عنه.
والواضح أن الفئة الحزبية الأولى تجسد اختيار
المشاركة في المسار الانتخابي مع التشكيك
استراتيجيا في شرعيته وذلك انسجاما مع
اختياراتها القائمة علي " تدبير الممكن"
والتفاعل "الواقعي" و"البراغماتي" مع أسس
السلطة في البلاد. ولعل مواقفها تعكس طبيعة
الأزمة الانتخابية وحدود التنافس السياسي في
المغرب .
فالدخول في دوامة عدم الحسم في المسار
الانتخابي بدا بجلاء منذ انتخابات مايو / أيار
1963 التشريعية على اعتبار أن السياق العام
الذي تمت فيه اتسم بتوتر شديد بين المعارضة و"
النظام".
وإذا كانت الملكية قد دعت المواطنين إلى إعطاء
الدليل في أول انتخابات من نوعها يشهدها
المغرب على " نضجهم السياسي وتربيتهم الخلقية
وشعورهم الوطني الذي يجب أن ينمو فوق كل
اعتبار"
فان التوازنات
السياسية المنشودة والمتمثلة في إيجاد "
أغلبية قارة ولا مشروطة"
قد ألقت بظلالها على
الحملة الانتخابية وعلى ظروف هذا الاقتراع
وعلى نتائجه الرقمية والسياسية.
فقد اتهم حزبا المعارضة الرئيسيان / الاستقلال
والاتحاد الوطني للقوات الشعبية/ الحكومة
بالضغط على الناخبين خاصة بالبوادي ، التي
تشكل مركز الثقل الانتخابي للنظام
، قصد ترجيح مرشحي "
جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" التي كانت
تقدم على كونها " حزب الملك"
.
وبعد ظهور نتائج الاقتراع الرسمية – حيث حصل
حزبا المعارضة على 69 مقعدا من أصل 144 ( 43
لحزب الاستقلال و26 للاتحاد الوطني) – اعتبرت
المعارضة أن هذه الانتخابات كانت " فضيحة" بكل
المقاييس ودعت إلى إقالة الحكومة
فيما نحا وزير الداخلية ( الذي فاز أحزاب
الجبهة التي يتزعمها بتسعة وستين مقعدا انضافت
إليها مقاعد ستة من " اللامنتمين" لتكون
الأغلبية
مؤمنة)
إلى وصف الاقتراع بكونه " ترجمة لنضج الشعب
المغربي" وولوج " عهد الديمقراطية".
فكانت حصيلة ذلك كما وصفها حزب الاستقلال "
برلمانا مشوها خططوا له ليكون صورة مزرية عن
شعب يسعى لدولة المؤسسات وسيادة الحق
والقانون".
وفي سنة 1969 أرادت الملكية الخروج نسبيا من
واقع الفراغ السياسي الذي أحدثته حالة
الاستثناء المعلن عنها منذ يونيو/ حزيران
1965 فأعلن الحسن الثاني عن انتخابات محلية
غير أن حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني قررا
المقاطعة بسبب "الخروقات التي شابت الاقتراع
"
فيما كان "اللامنتمون"
أداة سياسية بديلة عن الأحزاب السياسية في
سياق التوازنات الإستراتيجية للنظام.
وسنة 1970 صدر دستور جديد ونظمت انتخابات
تشريعية جديدة قاطعتها " الكتلة الوطنية"
ممثلة في حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني
للقوات الشعبية ولم يشارك فيها سوى حزب الحركة
الشعبية المرتبط استراتيجيا بمصالح الحكم فضلا
عن " اللامنتمين" ، فكان الفشل النتيجة
الطبيعية لتهميش الأحزاب السياسية وازدراء
المعارضة.
وفي إطار التوازنات السياسية لمسلسل "التعبئة
حول الوحدة الترابية" شرعت الملكية في ما سمي
ب" المسلسل الديمقراطي" الذي دشنته في أكتوبر
1976 بانتخابات جماعية تم الإعداد لها سياسيا
بإحداث مجلس خاص ب" سلامة ونزاهة سير
الانتخابات" مثلت فيها جميع الأحزاب المتواجدة
في الساحة في أشخاص قادتها. غير أن هذه الهيئة
سرعان ما أظهرت قصورها قانونيا ومؤسساتيا مما
أدى إلى انسحاب " الاتحاد الوطني للقوات
الشعبية" في شخص أمينه العام عبد الله إبراهيم
ومقاطعته الانتخابات الجماعية ومن خلالها
المسلسل الانتخابي برمته فيما فضل الاتحاد
الاشتراكي للقوات الشعبية الذي تأسس سنة 1974
بعد انشقاق عن الاتحاد الوطني المراهنة على
إستراتيجية مطلبية إصلاحية قوامها تدبير "
الهامش الديمقراطي".
ورغم هذا السياق المأزوم ظلت المعارضة حاضرة
في المسلسل الديمقراطي – باستثناء الاتحاد
الوطني- خاصة وأن الخروج من هذا المسلسل كان
سيعني إنهاء مختلف التوازنات السياسية المتصلة
بالتعبئة حول الوحدة الترابية. وحرصت الملكية
مجددا على الدخول في رهانات الضمانات الذاتية
إذ تم تعيين أربعة وزراء دولة / بدون حقيبة/
في الحكومة يمثلون الأحزاب السياسية بما فيها
حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات
الشعبية.
وتتمثل المهمة المسندة لوزراء الدولة كما أعلن
عنها العاهل المغربي في " السهر على السير
القويم للانتخابات" حتى تمر " في جو الفرحة
والابتهاج وتسفر عن أحسن النتائج."
وخلافا للنبرة التفاؤلية التي حاول الملك
رسمها في الحملة الانتخابية والقائمة على أن
انتخابات يونيو / حزيران 1977 التشريعية سيخرج
منها المغاربة " ناخبين ومنتخبين منتصرين
غانمين مهيئين لخوض معارك أخرى" كانت هذه
الاستحقاقات تجسيدا للحدود البنيوية للمنافسة
السياسية في المغرب . ونددت المعارضة مجددا
بنتائج هذا الاقتراع الذي أسفر عن فوز "
اللامنتمين " بالأغلبية ضمن تصور فعلي يقوم
على ازدراء العمل الحزبي.
وكان من ذيول هذه الانتخابات إعلان عبد الرحيم
بوعبيد – زعيم الاتحاد الاشتراكي - استقالته
من الحكومة معتبرا أن حزبه الذي أعلن عن فوزه
بخمسة عشر مقعدا من أصل 264 يشكل في الحقيقة "
الأغلبية" وانه قادر في ظل " غياب التزوير"
على الظفر بأزيد من خمسين في المائة من
المقاعد.
وهو ما عكسته بإلحاح
دعوة اللجنة المركزية للحزب سنة 1979
بالانسحاب من " المجالس المنتخبة" احتجاجا على
" تزييف وإجهاض الإرادة الشعبية".
أما حزب الاستقلال فلم
يحل دخوله الحكومة في أكتوبر/ تشرين الأول -
1977 في ظروف ظل يصفها ب" الاستثنائية" - في
إشارة إلى قضية التعبئة الترابية – دون إدانة
هذه الانتخابات لما اتسمت به من " ضغط وتزييف
وتلاعب" لتكون بالنتيجة " غير عاكسة للخريطة
السياسية للبلاد."
واستمر المنطق ذاته في الطور الثاني من "
المسلسل الديمقراطي" الذي استهل بتنظيم
الانتخابات الجماعية في 10 يونيو /حزيران 1983
دون أن تسلم من الإدانة التي اكتست بعدا يكاد
يكون اجماعيا ، إذ علاوة على أحزاب الحركة
الوطنية المشاركة شككت في مصداقيتها حتى بعض
الأحزاب المدرجة في خانة الأحزاب الموالية
استراتيجيا للنظام وخاصة " التجمع الوطني
للأحرار".
وأمام موجة التشكيك في نزاهة الانتخابات
اعتبرت حكومة " الوحدة الوطنية" التي شكلت في
30 نونبر/ تشرين الثاني 1983 بمثابة جسر موطئ
لضمان نزاهة الانتخابات التشريعية اللاحقة
التي أعلن العاهل المغربي عن تأجيلها إلى غاية
شتنبر / أيلول 1984.
وإذا كانت هذه الانتخابات قد تميزت ولأول مرة
بجعل وسائل الإعلام العمومية رهن إشارة
الأحزاب السياسية فإنها شكلت مجددا مناسبة
أخرى تكرس فيها ما يمكن وصفه ب" العطب البنيوي
الانتخابي " مما أسفر عن تشكيك أحزاب الحركة
الوطنية المشاركة في الانتخابات في نزاهة
الاقتراع
كما عاد حزب الاستقلال إلى المعارضة
البرلمانية لتكون حصيلة ذلك كما جردها الحزب "
عودة المغرب أدراجه ليجتر المشاكل الاقتصادية
والاجتماعية".
وجاءت انتخابات 1992 الجماعية و1993 التشريعية
لتكرس الواقع ذاته رغم اقترانها بمجموعة من
الضمانات التي رامت من الناحية الشكلية تأمين
شفافية الاقتراع ومنها التمويل العمومي
للحملات الانتخابية واستعمال وسائل الإعلام
العمومية على قدم المساواة وتقديم الضمانات
الإدارية والقضائية المتصلة بالتسجيل في
اللوائح الانتخابية ومراقبة هوية المصوتين و"
المعاقبة الصارمة لكل غش انتخابي."
واقترن التهييء للاستحقاقات الانتخابية بإصدار
قانون انتخابي جديد خرج عن المسطرة العادية
المتبعة في التصويت على أي نص قانوني ليمزج
بالسياق السياسي العام الذي تم في إطاره وهو
الحديث عن " التراضي" بين مكونات الطبقة
السياسية في المغرب.
وكانت انتخابات 1992 الجماعية مقدمة أساسية
للطعن في الاقتراع إذ اعتبرتها المعارضة
المشاركة ترجمة لأسلوب " التزوير المكشوف
وبأحط أشكاله" من خلال " تسخير المال" و"
تحريف القانون" و" زحف الجهاز الإداري على
المسيرة الديمقراطية".
ومما جعل الطعن في هذه الانتخابات يجسد الطابع
البنيوي للأزمة السياسية كما يترجمها المسلسل
الانتخابي واقع التعارض الجلي بين الالتزامات
الرسمية والمآل السياسي للاقتراع إذ كانت أهم
الضمانات السياسية واردة على لسان الملك الحسن
الثاني الذي التزم بحياد السلطات الإدارية
قائلا: " إن التدخل في الانتخابات جعلته حراما
على نفسي وحرمته على الحكومة والإدارة "
ولم تكن انتخابات 1993 التشريعية لتخرج المغرب
السياسي من " الدائرة المفرغة" المكرسة على
مستوى مسلسله الانتخابي رغم أن أحزاب الحركة
الوطنية الممثلة في البرلمان عقدت عليها آمالا
عريضة بعد الضمانات التي حصلت عليها. فعادت
المعارضة لتندد سياسيا بما طال المسار
الانتخابي من " تزوير وضغوط" مارسها – حسب
الأمين العام لحزب الاستقلال- " التحالف
الإداري الاستغلالي الانتهازي" مما حال دون
تجسيد " القوة الحقيقية للأحزاب الديمقراطية"
وحرمانها بالنتيجة من " تسيير الأمور تسييرا
يوافق مصلحة الوطن".
واللافت للانتباه أن هذه الانتخابات اكتست
أهمية إستراتيجية لكونها كانت ستسمح بتحول
المعارضة إلى العمل الحكومي ضمن مشروع "
الانتقال الديمقراطي" الذي أعلنت عنه الملكية
في أفق تطبيع الحياة السياسية وتجاوز الارتياب
المستحكم الذي أجهز موضوعيا على المؤسسات
التمثيلية.
تأسيسا على ذلك يمكن الاتجاه بالرأي إلى أن
المراحل التي قطعها التشكيك في المسار
الانتخابي منذ 1963 ترتبط في جوهرها بغياب
التراضي السياسي بين الملكية والمكونات
الحزبية المؤثرة بشكل تكون فيه التوازنات
الضمنية الخاصة بالاختيارات الإستراتيجية
للنظام وخاصة الحفاظ على " السمو السياسي"
للمؤسسة الملكية المحدد الفاصل في التعامل مع
الخارطة السياسية بقطع النظر عن التطور
التفاعلي ( التنازعي أو التصالحي) بين أطراف
اللعبة السياسية. وهو ما يؤثر في الحسم
سياسيا ومؤسساتيا في الاقتراع ومن خلاله مسلسل
" الدمقراطة". وهذا ما تكرس من خلال انتخابات
1997 التشريعية الأخيرة التي شهدها المغرب في
القرن العشرين دون أن تكون حاسمة في رسم
اختياراته أو ضابطة لتوجهاته.
ب) نموذج انتخابات 1997 التشريعية كتجسيد
لأزمة المسار الانتخابي في المغرب
يمكن اعتبار انتخابات 1997 التشريعية ترجمة
ساطعة لأزمة المسار الانتخابي في المغرب مع
نهاية القرن العشرين وجوابا سياسيا جليا عن
تعذر الوصول إلى تطبيع العملية الانتخابية في
وقت كان في غاية الدقة والحساسية من الناحية
السياسية لارتباطه بالسنوات الأخيرة في حكم
الحسن الثاني من جهة ولكونها كانت ستشكل مدخلا
طبيعيا ومنطقيا لولوج طور الانتقال السليم
لجزء أساسي من " المعارضة التاريخية
المغربية" إلى العمل الحكومي في حالة فوزها
في الانتخابات.كما أن هذه الاستحقاقات جاءت
لتتوج مسارا تصالحيا بين الملكية وعدد من
مكونات ما يوصف بأحزاب الحركة الوطنية بعد
تزكيتها لدستور شتنبر /أيلول 1996 في سلوك كان
بمثابة تحول سياسي في العلاقة بين الملكية
وهذه الأحزاب على صعيد النظرة للتطور
المؤسساتي وللتوازنات المحورية للنظام.
وكانت هذه الانتخابات ، على المستوى المبدئي،
الإطار السياسي الطبيعي لبلورة التوجهات
الجديدة التي حاولت الملكية رسمها في سياق
البحث عن " التراضي السياسي" الذي ظل يراوح
مكانه بفعل تحكم " التوازنات الإستراتيجية"
للنظام في التوازنات الطبيعية للممارسة
السياسية.
وأحيطت هذه الانتخابات بضمانات سياسية
وقانونية استثنائية مقارنة بسائر الاستحقاقات
التي كان المغرب على موعد معها منذ 1960.
وفي هذا السياق نلاحظ أن الملك حرص على تدشين
المسلسل الانتخابي بتجديد الالتزام بالحرص على
سلامة الاقتراع والقطع مع " الدوامة المفرغة"
للمسار الانتخابي. غير انه مما يسترعي
الانتباه على صعيد الدلالات السياسية هو أن
الملكية لم يسبق لها أن حددت معالم " المأزق "
الانتخابي مثلما كان عليه الأمر سنة 1997 ،
ذلك أن الحسن الثاني ربط بين واقع التشكيك في
المسار الانتخابي وسمعة المغرب الدولية كما
أعلن التزامه المباشر بالسهر على نزاهة
الانتخابات بأن يضع " ثقله" و" هيبته"
وصلاحياته الدستورية " لتمر جميع الانتخابات
المتوالية في هذا البلد على أحسن ما يكون في
جو من الاستقامة والشفافية والنزاهة."
وبرر العاهل المغربي هذا الالتزام بقوله: "
لأنني مللت أن أسمع أو أن يسمع عن بلدنا أن
انتخاباته لم تكن نزيهة أو أن استشاراته كانت
مخلوطة أو مشوبة."
ويثير هذا الالتزام ملاحظتين أساسيتين:
أولا
، بإعلان الملكية انخراطها المباشر في
الضمانات الانتخابية تكون قد انتقلت من مستوى
التسامي الحيادي الذي ظل يشكل مناط خطابها
الانتخابي في سياستها الحزبية.
ما يعد إقرارا ضمنيا
بأن العمليات الاقتراعية السابقة لم تكن
سليمة.
ثانيا،
الالتزام الشخصي للملكية بالحرص على تأمين
النزاهة الانتخابية يعني ، من الناحية
المبدئية، عزما على تأسيس الجانب الممكن في
المنافسة السياسية بالمغرب مجسدا في
الانتخابات على اعتبار أن الطور الجديد جاء في
خضم محاولة تجاوز أزمة التراضي السياسي
والانتقال إلى مستوى " التوازنات المتوازنة".
وفي السياق ذاته تم التوقيع في مستهل سنة 1997
على تصريح مشترك بين السلطات العمومية ممثلة
في وزارة الداخلية والأحزاب السياسية الممثلة
في البرلمان يعبر في حد ذاته عن حجم الخلل في
المسار الانتخابي وواقع غياب التراضي حول
قواعد اللعبة الانتخابية من جهة وهاجس البحث
عن مخرج سياسي لهذا " المأزق" الهيكلي من جهة
ثانية.
وعلى هذا الأساس تعهدت الحكومة بأن تسهر على "
التطبيق السليم لجميع القوانين وكل القرارات
والإجراءات المتفق عليها ، وأن تمنع بصرامة كل
تدخل غير مشروع ... ولن تتردد في معاقبة كل
متلاعب بالسلطة أو النفوذ أو أموال الدولة أو
استعمال المال غير المشروع في التأثير على
سلامة الانتخابات ونزاهتها."
أما التزامات الأحزاب السياسية فتتمحور حول
احترام جميع القوانين والقرارات والإجراءات
الانتخابية التي اتخذت بالتراضي مع الحكومة
وعدم السماح باستغلال الطعون القضائية للتشكيك
في مصداقية العمليات الانتخابية وبالتنويه
بنزاهة الانتخابات وسلامة المؤسسات الناتجة
عنها " إذا طبقت جميع القوانين والإجراءات
بصفة سليمة ونزاهة وفي شفافية مطلقة."
واقترن التصريح بملحق تضمن ست قواعد في إطار
ما اصطلح عليه ب" الميثاق الأخلاقي" تهم
الالتزام بتطبيق التشريع الجاري به العمل على
مستوى التمويل والامتناع عن التمويل السري
والتزام الإدارة بالحياد وعدم استعمال
الامتيازات أو السلطات واستعمال وسائل الإعلام
العمومية بالمساواة والالتزام باحترام قانون
الصحافة.
ومن بين المؤشرات القوية في هذا المنحى
التصويت بالإجماع 13 مارس 1997 على " مدونة
الانتخابات". وهو تصويت حمل بين طياته دلالات
سياسية عميقة على مستوى هاجس التوافق حول
قواعد جديدة للعمل السياسي لتجاوز بعض مظاهر
الأزمة السياسية المستحكمة التي يعتبر المسلسل
الانتخابي أحد أبرز دلالاتها.
وظلت مدونة الانتخابات مبدئيا توطئة أساسية
على المستويين القانوني والسياسي لتلافي عوامل
التشكيك وتجاوز أزمة المسار الانتخابي خاصة
وأنها اقترنت بضمانات سياسية مركزية حددتها
المؤسسة الملكية. غير أن المآل الذي صارت إليه
انتخابات 1997 جعل سائر الضمانات السياسية
والقانونية مجرد إطار شكلي سرعان ما تداعى
أمام واقع الممارسة وثقل التوازنات السياسية
الإستراتيجية.
وهكذا نلاحظ مثلا على مستوى الانتخابات
الجماعية ( المحلية) عدم تجاوز أحزاب المعارضة
المشاركة في الانتخابات لما مجموعه 31.71 في
المائة حسب النتائج المعلن عنها في ظل ظروف
وصفها تقرير للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان
ب" استعمال الأموال غير المشروعة والعنف إلى
جانب الخروقات المتصلة بالترشيحات والبطائق
واللوائح الانتخابية" و" تدخل السلطة للتحكم
في الانتخابات وتوجيهها" ناهيك عن اعتقال عدد
من المواطنين في بعض الدوائر على خلفية
احتجاجهم على تدخلات السلطات المحلية لفائدة
بعض المرشحين و" تزوير" نتائج الاقتراع.
ومن بين المفارقات أن العاهل المغربي نفسه أقر
بواقع استعمال الأموال كظاهرة اعتبر أنها
ستعود بأوخم العواقب على العمل السياسي برمته.
ولعل وضع الانتخابات الجماعية لسنة 1997 محل
مساءلة سياسية من طرف المعارضة يعني فشل الطور
الأول من صيغة " التراضي السياسي" كما حاولت
الملكية ومكونات أساسية من أحزاب الحركة
الوطنية بلورتها منذ دستور 13 شتنبر / ايلول
1996.ومما زاد المر تعقيدا أن هذه الانتخابات
كانت مقدمة أساسية من حيث نتائجها الرقمية
والسياسية لانتخاب " مجلس المستشارين" كغرفة
ثانية بالبرلمان المغربي، وهو ما يحيل
بالضرورة على أن انتخابات " مجلس المستشارين "
التشريعية غير المباشرة لن تعدو كونها نتيجة
حتمية لمآل الفشل السياسي الذي صارت إليه
الانتخابات الجماعية المباشرة.
ولعل الواقع ذاته استنسخ في الاستحقاقات
التشريعية من حيث التشكيك في نزاهة الاقتراع
ليس فقط بسبب عدم حصول المعارضة على الأغلبية
– كما كان مرتقبا
لتشكيل حكومة تؤهل المغرب سياسيا وفق نهج
التراضي – بل أساسا عبر الاضطراب السياسي الذي
طبع الاقتراع والخروقات التي نسفت بناءه
وتصوره وإفرازاته السياسية والمؤسسية.
ففي الوقت الذي اعتبرت فيه وزارة الداخلية
الانتخابات التشريعية " انتصارا للديمقراطية
الحسنية"
نددت أحزاب " الكتلة
الديمقراطية" بالمسلسل الانتخابي في شموليته
من خلال " التدخل المباشر والسافر لأجهزة
ورجال السلطة في مختلف المستويات... وتغيير
نتائج مكاتب التصويت" و" الاستعمال المكثف
للمال وار شاء الناخبين وتكوين عصابات العنف
والاستحواذ على تجمعات سكنية بكاملها واستعمال
الخمور والمخدرات لاستمالة الناخبين."
ويمكن على سبيل المقارنة ملاحظ التباين الجلي
في تقييم التجربة الانتخابية بين أحزاب
المعارضة والأحزاب " الموالية استراتيجيا
للنظام" التي لاحظت " الظروف الجيدة التي مرت
فيها العملية الاقتراعية وما طبعها من احترام
للحريات ونزاهة وشفافية وحياد إداري."
وظل الطعن السياسي لأحزاب المعارضة في المسلسل
الانتخابي المترتب عن دستور 1996 في حاجة إلى
سند تكون له الحجية المطلقة. وهو ما تأتى من
خلال حالتين تخصان الاتحاد الاشتراكي للقوات
الشعبية أي أحد أقطاب المعارضة التاريخية في
المغرب.
وفي هذا السياق يمكن الاتجاه بالرأي إلى انه
إذا كانت أحزاب المعارضة قد حاولت على مر
الاستحقاقات الانتخابية طرح قضية التزوير
كمعطى بنيوي في الحياة السياسية المغربية فان
انتخابات 1997 التشريعية أفرزت بالملموس
حالتين نادرتين في التاريخ السياسي والانتخابي
بالمغرب تمثلا في إقدام مرشحين عن الاتحاد
الاشتراكي أعلن رسميا عن فوزهما على الطعن في
هذا الفوز.
إن ما بات يعرف في تاريخ الانتخابات المغربية
بحالتي " حفيظ" و" أديب"
يجسد عمق أزمة
الانتخابات بالمغرب .ذلك أن المرشح الأول بعث
برسالة إلى الكاتب الأول / رئيس/ حزبه والى
المجلس الدستوري يعلن لهما فيها أنه تثبت من
وقوع تزوير لفائدته وانه يرفض أن يكون
"برلمانيا مزورا" معتبرا أن الأمر يندرج في "
إطار خطة مبيتة ترمي إلى المس بمصداقية الحزب
وتشويه سمعة مناضليه وأطره وتنظيماته."
واعتبر المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي في
تعليق على حالة " حفيظ"أن هذا الإقرار يشكل "
مساهمة فريدة ومتزنة في تدعيم رصيد الاتحاد
الاشتراكي... وجاء لتسليط الضوء على الممارسات
الإدارية التي طالما أفسدت العمليات
الانتخابية."
وإذا كانت تطورات الحالتين تجسد إلى حد ما "
سكونية" واقع " المأزق" الانتخابي في المغرب
فإنهما تعكسان حلقة
ضمن سلسلة متواصلة من عمليات التزوير اعترف
بكونها شابت الاقتراع دون أن تتخذ " المعارضة"
موقفا حساما بشأنها رغم أنها متصلة في جزء
منها ببعض مرشحيها. بل إن المفارقة ستبرز
بجلاء عندما ستقبل " المعارضة" ذاتها بمشاركة
حاسمة في ما اصطلح عليه " حكومة التناوب
التوافقي" سنة 1998 رغم أن المسار الانتخابي
لم يخرج من النفق المسدود.
وتأسيسا على واقع التشكيك الانتخابي يستساغ
الاتجاه بالرأي إلى أن انتخابات 1997 كانت
الإطار الأكثر وضوحا لبروز ما يمكن وصفه
بتأسيس " الفضيحة السياسية" على الصعيد
الانتخابي بالمغرب،
وهو حاولت أحزاب المعارضة، بنسب متفاوتة وحسب
تباين مصادر شرعيتها ومنطلقاتها السياسية،
بلورته وفق " إستراتيجية دفاعية" تقوم أولا
وأخيرا على مبدأ الإحراج دون جعل التوازنات
الإستراتيجية للنظام في إطار مفهوم " الملكية
الدستورية" موضع سؤال هوية أو محل إعادة نظر
جذرية.
وفي كل الأحوال ، يبدو أن تصور التشكيك
المستمر لأحزاب المعارضة في المسار الانتخابي
يدخل ضمن واقع النزاع المبدئي حول قواعد
اللعبة السياسية وانطلاقا منها أسس المنافسة
السياسية في المغرب التي تصبح دون مضمون حتى
في مستواها غير المرتبط مباشرة بحقيقة
السلطة. كما أن واقعا من هذا القبيل يجعل
مسألة الديمقراطية مطروحة باستمرار. وهو ما
يفرض التساؤل حول أهم انعكاسات أزمة المسار
الانتخابي على الحياة السياسية بالمغرب.
2: انعكاسات المسار الانتخابي المأزوم على
الحياة السياسية
من الطبيعي أن تكون لأزمة المسار الانتخابي
،التي استفحلت منذ 1963 في المغرب، انعكاسات
مباشرة على الحياة السياسية باعتبار أن
المسألة الانتخابية تتصل رأسا بواقع الحرية
السياسية في المجتمع التي لاتقوم لها قائمة
دون قبول السلطة والتراضي حول قواعد اللعبة
السياسية،
فضلا عن تأسيس الفعل
الانتخابي حتى يصبح بمثابة " تقرير مصير جماعي
للمواطنين"
في هذا السياق تتمفصل انعكاسات أزمة المسار
الانتخابي المحورية إلى ثلاثة مستويات:انسداد
التوجه الإصلاحي وشرعية الخطاب الجذري والحلقة
المفرغة للمؤسسات التمثيلية وازدراء الممارسة
السياسية.
أ) انسداد التوجه الإصلاحي
تحيل أدبيات أحزاب المعارضة التاريخية – على
الأقل إلى حدود تشكيل حكومة "التناوب
التوافقي"- في تعاملها مع المسألة الانتخابية
على تركيز استراتيجي يهم مطلب الانتخابات
النزيهة كمدخل حاسم لبلوغ " الديمقراطية" في
المغرب بل وكإطار أمثل لتحقيق التطور في
أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
واتسم التاريخ السياسي للمغرب بوجود " معارضة
دائمة" داخل المؤسسات التمثيلية اتخذت من
المشاركة في الانتخابات مدخلا للتغيير وتدبيرا
براغماتيا للممكن أي لواقع السلطة في المغرب
واستعصاء الوصول إلى منافسة سياسية مفتوحة.
وفي طليعة هذه الأحزاب نجد الاتحاد الاشتراكي
للقوات الشعبية والاستقلال اللذين اصطدما
بتناقضات جلية في خطابهما حول الإصلاح
السياسي والدستوري وفي واقع مشاركتهما وحجم
إسهامهما في بناء ما يصطلح عليه ب" المغرب
الديمقراطي".
ولعل الحلقة المفرغة في المسار الانتخابي
تترجم جزءا من الواقع الانسدادي للخطاب
المطلبي الإصلاحي.
ويترجم تعامل أحزاب المعارضة مع المسألة
الانتخابية في واقع الأمر ليس فقط استمرار
أزمة المنافسة السياسية في جانبها الانتخابي
بل كذلك طبيعة المسار برمته في استمراريته
التاريخية ليكون - كما وصفه الباحث الاسباني
لوبيث غارثيا- " تاريخ مسلسل التراجع المستمر
في التسيس والمشاركة السياسية."
على هذا المستوى يطرح السؤال منهجيا حول أسباب
استمرار المعارضة في مسلسل انتخابي " مأزوم"
وبعيد عن ترجمة طموحاتها الذاتية ( التمثيلية
السياسية) والموضوعية (النجاح في مسلسل
الدمقرطة)، خاصة وأن المشاركة الانتخابية
تعتبر قبولا ضمنيا للعمل السياسي داخل النظام
وفق قواعده المضمرة وتوازناته السياسية على
الأقل مرحليا.
في هذا المنحى يمكن الدفع بان تفاعل أحزاب
المعارضة مع المسلسل الانتخابي يجد ترجمته
الموضوعية في طبيعة علاقتها بالمؤسسة الملكية
تاريخيا وسياسيا وتصورها العام مرحليا
واستراتيجيا للمسألة الديمقراطية. ومن ثمة
تنتقل الأزمة الانتخابية من مستوى الخطاب
الحزبي المطلبي الداعي إلى المراهنة
استراتيجيا على الاقتراع كمحدد موضوعي للعمل
السياسي إلى مستوى العلاقات بين الأحزاب حسب
موقعها في النظام من جهة ودروها في المسلسل
الانتخابي من جهة ثانية.
في هذا المنحى نستشف أن أزمة المسار الانتخابي
لم تنعكس فقط على خطاب المعارضة من خلال
التنديد بأطوار العمليات الاقتراعية بل تترجم
أيضا في نهج أسلوب " المحاكمة السياسية" إزاء
ما يوصف بأحزاب " الأغلبية المستمرة" أي تلك
التي بنت نسقها السياسي والوظيفي على أساس دعم
اختيارات المؤسسة الملكية في كل مواقفها.
فأحزاب المعارضة المشاركة في المسار الانتخابي
وجدت نفسها في حالة تهميش فعلي ، إذ أن
انخراطها في العمل المؤسساتي يوازيه ارتباط
التوازنات السياسية للنظام بوجود أحزاب "
موالية" للحكم . وهو ما يجعل المسلسل
الانتخابي مرتهنا بضوابط تتجاوز النصوص
والضمانات السياسية المعلنة لتجد دلالاتها
العميقة في حقيقة السلطة.
ووفق هذا المنظور تلجأ المعارضة إلى سلوك "
تعويضي" من خلال التشكيك في شرعية الأحزاب
المرتبطة عضويا باختيارات النظام – على الأقل
قبل الدخول في تجربة التناوب سنة 1998-. وهو
ما يحيل إلى وضع حقيقة الخارطة السياسية
الانتخابية أمام إشكالية غياب الحسم ومن ثمة
الطرح المستمر لشرعية الممارسة الانتخابية
ذاتها كإطار سليم في العمل السياسي بالمغرب.
ويتمظهر السلوك "التعويضي" لأحزاب المعارضة
إزاء مكونات "الأغلبية المستمرة" في خطاب
ازدرائي تتحول معه هذه الأحزاب إلى " تحالف
إداري استغلالي انتهازي"
و " أحزاب مصطنعة "
في أيدي " الفئات الحاكمة".
وبغض النظر عن ظروف ظهور هذه الأحزاب ومدى
ارتباطها بحاجة مجتمعية أو إستراتيجية ملحة
يصبح الوصف العام الذي تطلقه أحزاب المعارضة
على نفسها حاملا بين طياته ملامح إقصاء الطرف
المقابل من شرعية التمثيل السياسي بل أيضا من
شرعية الاستقلالية التنظيمية ، إذ في مقابل "
القوى الديمقراطية "
يوجد " تجمع غير
ديمقراطي"
و" كيانات وهمية
للحزب السري".
على هذا الأساس تطرح بالنسبة لأحزاب المعارضة
مسألة وظيفة الأحزاب المقابلة لها داخل النظام
السياسي المغربي. وهي وظيفة لا يمكن أن تخرج
عن أزمة المسار الانتخابي وتأثيرها الوازن على
التمثيلية السياسية ومن خلالها الخارطة
الحزبية في كليتها.
وتنجم عن هذه الوضعية " مفارقة" سبق أن أوضح
معالمها حزب الاتحاد الاشتراكي في مؤتمره
الثالث تتمثل في وجود " حكومة تصنع أغلبية
برلمانية مزيفة وتعمل جاهدة على الحفاظ عليها
بالترضيات ... والتهديد والوعيد" بدل أن تكون
" أغلبية برلمانية تنصح الحكومة وتوجهها
وتراقبها."
ولعل هذا الواقع ، الذي تصبح في سياقه
المنافسة السياسية غير ذات موضوع ، هو ما جعل
الملكية تسعى باستمرار غالى إيجاد تسويات
تنسجم مع اختياراتها الإستراتيجية ومن بينها
مسألة " التناوب" التي طرحت منذ 1993 ولم تعرف
طريقها إلى التطبيق الا سنة 1998 لمحاولة
الخروج من أزمة " التراضي السياسي " بعيدا عن
طرح الاختيار الجذري في معادلة التوازنات
السياسية.
ب) شرعية التوجه الجذري
ثمة أحزاب منتسبة للمعارضة خارج المؤسسات
التمثيلية فضلت في ظروف سياسية معينة مقاطعة
المسار الانتخابي وطالبت بإعادة النظر في
التوازنات السياسية القائمة خاصة عبر الوصول
إلى " دستور ديمقراطي" وانتخابات تنافسية ومن
بينها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي
خرج من رحمه سنة 1974 الاتحاد الاشتراكي
للقوات الشعبية الذي انشق عنه منذ 1983 تيار
حمل معالم المطالب الجذرية هو " حزب الطليعة
الديمقراطي الاشتراكي".
في هذا السياق يلاحظ أن نزاهة الانتخابات شكلت
مكونا ثابتا في الخطاب السياسي لأحزاب
المعارضة المطلبية الإصلاحية إلى درجة أن
البناء الديمقراطي أصبح رهينا بحل معادلة ما
يمكن تسميته بتأسيس الفعل الانتخابي في المغرب
.ذّلك أن المعارضة الإصلاحية راهنت طويلا في
خطابها وفي تفاعلها مع تطور الممارسة السياسية
على ضمان انتخابات نزيهة تكون تنافسية في
أساسها وتعطي للتصويت مضمونه الكامل.
غير أنه في ظل أزمة المنافسة السياسية تصبح
مساءلة جدوى المشاركة مطروحة بإلحاح خاصة وأن
الخطاب الجذري بنى شرعيته على أساس نقد اختيار
الانخراط في " المسلسل الانتخابي" في ظل أزمته
المستحكمة لارتباطه بتزكية الوضع القائم
وتكريسه في النهاية للاختيارات الرسمية دون
أن يكون لذلك أي مفعول على تغيير موازين
القوى أو إعادة النظر في ترتيبات الحكم في
اتجاه الانتقال نحو الديمقراطية.
على هذا الصعيد يلاحظ أن حزب الاتحاد الوطني
تحول إلى حزب رافض لكل الترتيبات السياسية
المراهن عليه خارج نسقه الخاص لاسيما بعد ما
آلت اليه انتخابات 1976 الجماعية .ذلك أن
الرغبة في عدم الوقوع في " المأزق السياسي
الرديء الذي يتخبط فيه المغرب منذ 1976"
أي عدم تزكية المسار
الذي اتخذه ما يوصف ب" المسلسل الديمقراطي"
سواء على مستوى النص الدستوري أو على صعيد
الأطوار الانتخابية المتلاحقة هو ما يفسر موقف
التواري الذي راهن عليه الحزب ارتكازا إلى
ثلاثية " لا يشارك ولا يعرقل ولا يتحمل
مسؤوليات التجربة"
والتي يتحول في سياقها
سؤال المشاركة في المسار الانتخابي - من منظور
التقرير االمذهبي لمؤتمر الحزب الرابع-
إلى مجرد " سؤال صوري
بحث ومغالطة في حقيقة الأوضاع المغربية"
.
ويعتبر نقد جوهر السلطة ومضامين الممارسة
السياسية في المغرب أحد مرتكزات خطاب الإدانة
لدى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وذلك
انطلاقا من محددين أساسيين: أولا ، الجزم بكون
البنيات السياسية القائمة في المغرب تظل "
مزورة" لأن التجربة الانتخابية لم تتوفر لها
الشروط القانونية والسياسية اللازمة
مما أدى إلى " أزمة سياسية خانقة ...عزلت
المؤسسات السياسية عن الأمة"
. أما المحدد الثاني
فيتمثل في إدماج الأحزاب السياسية في جهاز
السلطة وتحويلها إلى "مجرد ظل لها " مما أسفر
– حسب زعيم الحزب عبد الله إبراهيم- عن "
تدمير الوسائط مع الجماهير وتكريس ما بات يوصف
بالمسلسل الديمقراطي المزعوم."
وتعتبر الإشكالية الديمقراطية صلب الأزمة
الشاملة في المغرب من منظور حزب الطليعة
الديمقراطي الاشتراكي الذي جعل أول مؤتمر له
بعد القطيعة التنظيمية مع الاتحاد الاشتراكي (
24-26 دجنبر /كانون الأول 1993) متمحورا حول
شعار " مواصلة النضال لتحقيق ديمقراطية من
الشعب والى الشعب " بل وينحو إلى أن وضعية
"الديمقراطية المزيفة" هي التي جسرت فرض ما
يوصف ب" الاختيارات اللاشعبية واللاديمقراطية
على المستويين الاقتصادي والاجتماعي."
وعلى غرار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تصبح
المقاطعة النتيجة المنطقية لتصور حزب الطليعة
لطبيعة رد الفعل إزاء توازنات الحكم السياسية.
ذلك أن الحزبين- كما هو عليه الأمر بالنسبة
لبعض تيارات الحركة الماركسية-اللينينية التي
انبعثت في العقد الأخير من القرن العشرين في
خضم مراجعة نقدية لطبيعة ممارستها السياسية
المتبعة في السبعينيات- يراهنان على مقولة "
عدم تزكية" الاختيارات الرسمية وفي مقدمتها
المسار الانتخابي حيث تصبح أحزاب المعارضة
المطلبية الإصلاحية موسومة بطابع "
الانتهازية" لانخراطها في مجريات " المسلسل
الديمقراطي" كما حددت معالمه الملكية رغم
ثغراته البنيوية وتعثراته المتلاحقة عبر ما
يوصف ب " اللعبة الانتخابية المغشوشة".
ج ) تداعي التمثيلية السياسية
تكون الانتخابات داخل المنظومة الديمقراطية
الإطار الأمثل والأسلم لضبط التمثيلية
السياسية للناخبين ووزن مختلف الفاعلين
باعتبار واقع إخضاعهم لتقدير الرأي العام.
وبدون مؤسسة الاقتراع كوسيلة للحسم السياسي
تتهاوى إمكانية الحديث عن الوظيفة التمثيلية
للأحزاب السياسية ومن خلالها الوساطة بين
الدولة والمجتمع
كما تستحيل الممارسة السياسية إلى إعادة إنتاج
التوازنات ذاتها في سياق تصور اجتراري تنتفي
معه شروط الحركية السياسية.
وبملامسة العواقب المباشرة للأزمة البنيوية
التي تحيط بواقع المنافسة السياسية في المغرب
يصبح من المشروع إثارة إشكالية التمثيلية
السياسية كإحدى تجليات هذه الأزمة خاصة على
مستوى الجهاز التشريعي الذي يصبح في ظل غياب
تأسيس منافسة سياسية مفتوحة مجالا لتركيز
المواقع وإعادة إنتاج التوازنات الضمنية
للنظام أكثر منه إطارا طبيعيا لتحديد
المستويات التمثيلية.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى ظاهرتين
طبعتا الممارسة التمثيلية في المغرب وهما
تلاشي الهوية الحزبية في المؤسسة التشريعية
والتوظيف السياسي للامنتمين.
على المستوى الأول لوحظ خاصة منذ الولاية
التشريعية الخامسة ( 1993-1997) استشراء ظاهرة
الاستقطاب البعدي للنواب داخل عدد من الأحزاب
السياسية في البرلمان بشكل أصبحت تتلاشى معه
الهوية الحزبية لتتحول إلى ارتباطات شخصية أو
عمودية لم يعد فيها البعد الانتمائي الأصلي أو
الارتباط الاستراتيجي بالحزب السياسي المرشح
باسمه في الانتخابات محددا أساسيا في المؤسسة
التشريعية .
وقد أثارت الملكية هذه الظاهرة التي أطلق
عليها وصف " انتقال النواب" بمناسبة الولاية
التشريعية السادسة ( دجنبر/كانون الأول 1997)
معتبرة أن الانتقال بين الفرق البرلمانية من
شأنه أن " يشتت عاجلا أو آجلا كيانات الأحزاب
السياسية الموجودة في البرلمان كيفما كانت
وكيفما سميت."
وإذا كان موقف الملكية بهذا الخصوص يجد سنده
في موقع التسامي الذي تحرص "مؤسسة المؤسسات"
على إبرازه في الأزمات والاختلالات السياسية
فانه يعكس في الوقت ذاته بعض تداعيات المأزق
الانتخابي الذي ارتبط بتوازنات متصلة بطبيعة
السلطة ورهاناتها الإستراتيجية.
ويمكن الاتجاه بالرأي إلى أن هذه الظاهرة أدت
إلى " لاتسيس فعلي " للمواطنين من خلال ازدراء
المؤسسة التشريعية وتنامي ما يصفه الباحث
الفرنسي جورج بالانديي ب" الارتياب في فعالية
الأجهزة السياسية".
كما أنه من المسببات
الموضوعية لهذه الظاهرة الانتقال من مفهوم
الترشيح إلى مفهوم الترشح حيث تنامى سلوك
التزكية الحزبية الارتجالية أو القائمة على
الارتباطات الشخصية بدل الضوابط التنظيمية
والولاءات العضوية. وهي حالات رصدت بحدة منذ
الولاية التشريعية الخامسة( سنة 1993) حتى في
صفوف أحزاب المعارضة في غياب سياسة انتخابية
حزبية متكاملة تربط بين مستلزمات الممارسة في
الحقل السياسي وفق قواعدها الموضوعية وأصول
الانتماء الحزبي. وهو ما حاولت الملكية تجاوزه
ضمن تصور تفاعلي مع الحقل السياسي بتشجيعها
لصدور قانون جديد سنة 2006 متعلق بالأحزاب
السياسية يحظر على النواب تغيير الانتماء خلال
مدة الانتداب.
وبخصوص "اللامنتمين" فيلاحظ توظيفهم في فترات
الفراغ السياسي كما كان عليه الأمر سنة 1969
بمناسبة الانتخابات الجماعية أو 1970 في إطار
الانتخابات التشريعية حيث تم اللجوء إلى عدد
من المتموقعين خارج الإطار الحزبي لمحاولة
إنجاح تجربة انتخابية شهدت مقاطعة الأحزاب
السياسية. كما شكلت " كتلة اللامنتمين "
الخيار المرحلي للنظام في ظل تجاذبات الانتقال
السياسي ضمن توازنات التعبئة حول الوحدة
الترابية.
ويلاحظ انه منذ سنة 1983 أصبح حضور اللا
منتمين مقتصرا على الانتخابات المحلية دون
الانتخابات التشريعية المباشرة علما أن
الانتخابات الأولى يمكن أن تؤدي إلى البرلمان
( في انتخابات مجلس المستشارين غير المباشرة
منذ 1997) . وهو ما يجعلهم مرتعا خصبا
للمساومات الانتخابية داخل بعض الأحزاب
السياسية بشكل يعمق اضطراب الممارسة
الانتخابية في المغرب ومن خلالها شكليات
المنافسة السياسية.
وبقطع النظر عن المعطيات الرقمية التي تظل ،
في كل الأحوال ، مؤشرا شكليا في غياب قواعد
انتخابية واضحة وممارسة اقتراعية حاسمة يعتبر
التوظيف السياسي للامنتمين مكونا ضمن السياسة
الانتخابية للنظام على مستوى رهاناته السياسية
للتحكم في التوازنات الانتخابية وما يستتبعها
من إفرازات عل الصعيد السياسي.
3: آفاق التجاوز
إذا كانت الإشكالية الانتخابية تحيل على واقع
أزمة سياسية بنيوية في المغرب متصلة بتدبير
الشأن السياسي والتحكم في حقيقة السلطة فان
التعامل مع هذا المعطى بدأ يحمل مؤشرات
التجاوز النسبي خاصة منذ الدخول في ما سمي
بتجربة "التناوب التوافقي" في مارس /آذار 1998
وكذا مع وصول الملك محمد السادس إلى سدة الحكم
في يوليو 1999 وإعلان رغبته في " بناء نموذج
مغربي للديمقراطية"
.
أ) "التناوب التوافقي" كتجاوز مرحلي للمسار
الانتخابي
يجب الاعتراف بأن الحديث عن قطيعة مع الماضي ،
رغم كونه يشكل قوام الخطاب الرسمي، سرعان ما
يجد نفسه مطوقا بسلوكيات تحيل على تجذر الأزمة
وضرورة الانخراط في مسار طويل لإعادة البناء
يؤهل الحقل السياسي والحقول المتصلة به على
نحو تدريجي واستراتيجي .
على هذا المستوى يمكن الدفع بأن حكومة "
التناوب التوافقي" التي قادها عبد الرحمان
اليوسفي ( ما بين مارس / آذار 1998 وأكتوبر/
تشرين الأول 2002) انبثقت في سياق سياسي مأزوم
من خلال تداعيات فشل الانتخابات التشريعية
سواء من حيث شرعيتها
السياسية أو على مستوى توفير الأرضية الملائمة
لانخراط طبيعي لمكونات المعارضة في العمل
الحكومي.
في هذا المنحى يمكن الجنوح بالرأي إلى انه قد
يستعصى فهم أو قراءة انخراط أحزاب كانت تجعل
من الانتخابات مقدمة للإصلاح في العمل الحكومي
خارج نسق تجاوز المعادلة الانتخابية والمراهنة
على معادلة سياسية قامت على شرعية " التعاقد
مع جلالة الملك" من أجل الإصلاح والتغيير.
وإذا كانت الحكومة قد اكتست طابعا ائتلافيا
فان وجود المكونات المطلبية الأساسية في
صفوفها بقيادة وزير أول من الاتحاد الاشتراكي
للقوات الشعبية جعل الطرح التعاقدي مع الملكية
أكثر جلاء لما يحمله ذلك من إغفال للمقاربة
الجذرية في التعامل مع المسار الانتخابي من
جهة والقبول بتوافقات ضمنية
للسير المؤسساتي والسياسي من جهة ثانية.
ولعل الطرح التعاقدي يرتبط في جوهره بتكريس
الإرادة الملكية في ضبط التوازنات السياسية
انطلاقا من بلورة تصور أداتي للمشاركة في
الجهاز التنفيذي الذي يصبح من منظور المعارضة
إطارا لممارسة مهمة " إنقاذية" عبر الانتقال
من الطور الاحتجاجي إلى المرحلة التدبيرية
وبالتالي من ثقافة المعارضة إلى ثقافة
المشاركة.
ويقترن التعاقد مع الملكية بتصور تسويغي
للمشاركة في الحكومة يستحيل معه التناوب ،
الذي اعتبره الحسن الثاني " واقعا ملموسا"
إلى مجرد توافق مرحلي
يجسر للتناوب " الحقيقي" الذي يعني " التداول
الديمقراطي... عبر انتخابات حرة ونزيهة تعبر
عن الإرادة الحقيقية لأغلبية الناخبين وتجسد
رغبتهم في التغيير."
ويمكن الاتجاه بالرأي إلى أن وجود الأحزاب
الإصلاحية في الجهاز التنفيذي ارتبط
باستبطان مفهوم " الملكية الحاكمة والتحكيمية"
كمعطى هيكلي في الهرم السياسي والدستوري بشكل
يعيد إنتاج مفاهيم الولاء واستحضار الموروث
الرمزي الذي تكرسه البنيات التقليدية في
المغرب الدينية منها والمخزنية.
ويبدو أن المراهنة داخل جل أحزاب المعارضة
الإصلاحية على اختيار المشاركة في الحكومة يجد
سنده أيضا في الصيرورة الاستقطابية داخل
المؤسسات من جهة ووضعية الاستنزاف الفعلي في
ظل توازنات ضمنية مهيكلة للحقل الحزبي برمته
من جهة ثانية، إذ انعكست على ردود الفعل داخل
" النظام" من خلال واقع " المعارضة المستمرة"
التي جعلت المكونات الإصلاحية في موقع انحصار
فعلي تتداعى معه فرص بلورة هوية حزبية ضاغطة
بموازاة انسداد تنظيمي رديف لغياب الممارسة
السياسية " المنتجة" حيث برز التحول إلى
المستوى الحكومي كإعادة نظر في صيغة
الإستراتيجية الحزبية ومساءلة مرحلية لمسار رد
الفعل حيال الملكية باعتبارها صلب النظام
السياسي المغربي.
ولعل واقعا من هذا القبيل يطرح بداهة إشكالية
التغيير ضمن حدودها الممكنة خارج نطاق تقليص
الحضور الشامل للملكية ، كما يترجم السياق
العام للفعل الحزبي ومن خلاله فرضية "انتخابات
سليمة" في المغرب ارتكازا إلى المحددات
البنيوية التي يتهاوى في إطارها التمايز بين
موقعي الدعم اللامشروط والمطالبة الإصلاحية في
لحظات التحالف الاستراتيجي. فالتعاقد على
ضرورة الإصلاح والتغيير يقترن ضمنيا بالحسم في
سلطات الملكية وعدم الخروج عن النسق السياسي
والرمزي القائم.
ب) تجاذبات التطبيع الانتخابي في " العهد
الجديد"
رغم أن الملكية لم تتجاوز منظورها الاكتساحي
للسلطة السياسية مع وصول محمد السادس إلى
الحكم سنة 1999 فقد ظلت حريصة على منحى تفاعلي
لتواجدها الاستراتيجي عبر إعطاء معنى جديد
للفعل السياسي لاسيما من خلال تركيز الخطاب
الرسمي على مفهوم " العهد الجديد" الذي يقوم ،
من بين ما يقوم عليه، على " التركيب الخلاق –
يقول محمد السادس – بين أصالة التقاليد
المؤسسية المبنية على نظام البيعة والشورى
والتسامح والاعتدال الإسلامي والتضامن
والتكافل والحكم الجماعي المحلي – وهو ما يشكل
جوهر الديمقراطية- وبين حداثة الآليات العصرية
للديمقراطية، موظفا هذه الآليات لتحديث وعقلنة
مؤسساته العريقة في وئام تام بين الحفاظ على
هويته ... وبين متطلبات الانخراط في عصره من
خلال التدبير الديمقراطي للشأن العام ضمن نظام
ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية."
والواضح أن هذا التفاعل الذي تتحدث عنه
الملكية اقتضى ، في طور ما بعد حكم الحسن
الثاني ، تدبيرا ينشد مواكبة تطورات المشهد
السياسي خاصة وأن التحولات المجتمعية أظهرت
تحديات كبرى وظواهر حملت ملامح الخلل في
النسيج الاجتماعي والسياسي من قبيل تنامي
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
وتواري الهيمنة السكانية للعالم القروي - الذي
كان مركز التوازنات السياسية المحافظة في
المغرب طيلة أربعين سنة-
كما أن ازدراء التسيس
خاصة من قبل الشباب حمل بين ثناياه مراهنة
ضمنية على المجهول.
في هذا السياق كانت انتخابات 27 شتنبر / أيلول
2002 ، الأولى من نوعها في "العهد الجديد" ،
بمثابة اختبار حقيقي لمدى استعداد النظام
السياسي المغربي لبلورة شرعية ديمقراطية نسبية
عبر تجسير تنافس سياسي في مستواه الانتخابي.
وإذا كانت هذه الانتخابات – التي لم تسلم من
لعبة التوافقات المسبقة والتوازنات المضمرة
التي تشكل جوهر الممارسة السياسية في المغرب
– قد نظمت في سياق غلب
عليه انتظار مواصلة " حكومة التناوب التوافقي"
مهامها
، فإنها من الناحية
السياسية أتاحت تحولا في نمط الاقتراع
وتراجعا ملموسا في التشكيك في المسار
الانتخابي
لتفرز بالتالي توضيح جملة من المعطيات
السياسية- رغم استمرار سلوكيات تحمل معنى
الاختلال على الصعيد السوسيولوجي-
وتسهم نسبيا في إعطاء الفعل الانتخابي مدلولا
ملموسا يمكن اختزاله في تجاوز المأزق
الانتخابي في مظاهره المعيبة التي تجد سندها
في بنية التزوير المهيكلة منذ 1963 للحياة
السياسية والنيابية المغربية.
وكانت هذه الانتخابات مؤشرا ايجابيا على تحول
في تدبير المستوى العمودي من المنافسة
السياسية في المغرب – أي الجانب الانتخابي-
مما أتاح ، نسبيا على الأقل، الشروع في تطبيع
الحياة السياسية وتجاوز المسار التنازعي في
شرعية العمل السياسي الذي طبع الفعل الحزبي
بالمغرب منذ الاستقلال.
غير أن هذا المنحى الايجابي ، على محدوديته،
تعرض لاختلالات جلية خاصة بمناسبة انتخابات
تجديد ثلث مجلس المستشارين – الغرفة الثانية-
في 8 أيلول / سبتمبر 2006 تمثلت أساسا – حسب
عدد من الهيئات الحقوقية- في " استمرار تزوير
الإرادة الشعبية وتحريفها باستعمال المال
لشراء ذمم الناخبين الكبار وانحياز وتواطؤ
العديد من رجال السلطة"
.
واعتبرت هذه التجاوزات
، التي استبقتها
الحكومة بتأكيد " الحرص على تخليق الحياة
السياسية والمتابعة الجنائية" للمتلاعبين
، بمثابة " إجرام في
حق الديمقراطية واستمرار تزوير حق المواطنين
في تدبير الشأن العام"
، كما يمكن النظر
إليها كترجمة لعدم الحسم في المسار الانتخابي
بجعله مكونا استراتيجيا في قواعد اللعبة
السياسية بالمغرب واستبطان مختلف مكونات الحقل
السياسي للانتخابات كمدخل للشرعية
الديمقراطية.
وإذا كانت الضمانات القانونية
تفرغ من فحواها في خضم تجاذبات التوازنات
الضمنية التي يشهدها الحقل السياسي المغربي
تبعا لتطور العلاقة بين مختلف مكوناته وحدود
التغيير في "الزمن السياسي"، فان تجددها
وتغيرها
ينم عن مخاض يحمل معنى
متناقضا: معنى الرغبة في التغيير ومعنى التعذر
البنيوي للتغيير .
ومع ذلك يمكن الاتجاه بالرأي إلى أن السياق
العام الذي يطبع انتخابات 7 أيلول /
سبتمبر2007 التشريعية يعكس منحى تطوريا في
النظر إلى أهمية الانتخابات. فالحملات
التعبوية
والدراسات الاستقصائية
والاستمزاجية التي باتت تتناول المشهد السياسي
والانتخابي الوطني
وكذا نجاح الملكية في
تجاوز ملموس لعقبة حقوق الإنسان
تعد مؤشرات على بداية
تحول في تصور البعد الانتخابي وفي انفتاح
تدريجي للحقل السياسي.
ولعل معطيات من هذا القبيل هي التي حملت حزبا
مطلبيا جذريا كحزب "الطليعة الديمقراطي
الاشتراكي" ،الذي جعل من مقاطعة الانتخابات
بكل مساراتها إحدى دعاماته الإستراتيجية
، على أن يعلن مشاركته في انتخابات 2007 مع
تأكيد عدم قبوله–على لسان أمينه العام- "
بديمقراطية الواجهة والأسياد والأوليغارشية
المالية ومخزنة الحياة السياسية."
ج ) تأهيل الفعل الحزبي كمدخل للتحول في تدبير
المسألة الانتخابية
يحيل الواقع الحزبي المغربي على " لعبة
المواقع" التي تبقى من حيث شروطها وتجلياتها
امتدادا طبيعيا للعبة التوازنات المتصلة
برهانات الحكم المركزية وتصوراته المرحلية
والإستراتيجية لمعادلة التغيير والاستمرارية.
وظلت المسالة
الانتخابية مكونا أساسيا لوضعية غياب التراضي
السياسي وعدم الحسم في الرهانات السياسية
والمجتمعية.كما استمرت الأحزاب في وضعية رد
الفعل أي وضعية الارتهان بالسياق العام
للعلاقة بين الملكية والأحزاب الوازنة
وبالاختيارات المرحلية في ظل التباين وأحيانا
التضاد البنيوي بين الممكن والمتعذر والثابت
والمتغير في أسس السلطة السياسية.
وكانت مراوحة المكان هاته على مستوى الفعل
الحزبي عاملا كابحا لسؤال المنافسة والتطور
الداخلي وإعادة النظر في البناء التنظيمي
والانخراط في صيرورة إثبات الذات باعتبارها
هدفا يمكن من بلوغ ممارسة السلطة بقطع النظر
عن مستوياتها. فحكم هذا الواقع السكوني على
الأحزاب السياسية – بما فيها تلك التي نسجت
لنفسها استقلالية تنظيمية وسياسية إزاء
السلطة- أن تهمش الدينامية التنظيمية
والديمقراطية الداخلية.
والواضح أن هذا الواقع السكوني المثقل بمخاطر
الانزلاق إلى المجهول
طرح بحدة سؤال تأطير
المجتمع. فالحلقة المفرغة للعمل الحزبي ومن
خلالها الفعل السياسي لا يمكن إلا أن تنتج
سلوكيات منفلتة مطبوعة بالتجذر وبرفض الوضع
القائم دون طرح بدائل موضوعية أو واقعية.
وهنا يلاحظ أنه في افتتاح السنة التشريعية
الثالثة من الولاية التشريعية
السابعة/2002-2007/ حرص محمد السادس على وضع
تصوره لمكانة الحزب في النظام السياسي المغربي
ودوره المفترض في التوازنات التي تريد الملكية
بلورة خيوطها للعهد الجديد على مستوى
الإستراتيجية السياسية المركزية.
ويتمثل هذا التوجه في ضرورة انخراط الأحزاب في
ما يوصف بالمشروع المجتمعي القائم على " بناء
مغرب ديمقراطي موحد، منتج وتضامني ، متقدم
ومنفتح"، وهو ما يتطلب – برأي الملكية – تقوية
دور الأحزاب بإيجاد إطار تشريعي جديد وفعال
يستمد فيه الحزب شرعيته القانونية من مشروعيته
الديمقراطية ويأتي بإجابات جماعية متميزة عن
قضايا مجتمعية عريضة ، وليس تلبية لمطامح
شخصية أو فئوية ضيقة."
ويستفاد من ديباجة القانون المتعلق بالأحزاب
لسنة 2006
- وهو الأول من نوعه
في تاريخ المغرب المستقل- أنه ينشد أساسا "
جعل الأحزاب السياسية، باعتبارها المدرسة
الحقيقية للديمقراطية، هيئات جادة في العمل
على تعزيز سلطة الدولة عبر توفير مناخ الثقة
في المؤسسات الوطنية ، بما يمكن من تحرير
الطاقات ونشر الأمل وفتح الآفاق والإسهام في
إنتاج نخب كفأة متشبعة بقيم الفعالية
الاقتصادية والتآزر الاجتماعي ، وتخليق الحياة
العامة وإشاعة التربية السياسية الصالحة،
والمواطنة الايجابية وابتكار الحلول وطرح
المشاريع المجتمعية الناجعة والمبادرات
الميدانية الفاعلة إسهاما منها في نماء مغرب
القرن الحادي والعشرين وتطويره وتوطيد أركان
دولته بالمؤسسات والهيئات والآليات
الديمقراطية الفاعلة."
والملاحظ أن هذا القانون جعل الممارسة الحزبية
مطوقة بتسييجات تصب أساسا في خانة ضمان شفافية
التأسيس والتمويل وتحقيق الديمقراطية الداخلية
على الأقل في الحدود المتاحة قانونيا.
ويبدو أن رهان هذا القانون على مستوى الفضاء
الحزبي الوطني يصب في مسألة التأطير ووضع حد
للارتياب في التمثيلية السياسية. وهو ما
لايستقيم مطلقا دون المراهنة استراتيجيا على
إتاحة منافسة سياسية مفتوحة بين الأحزاب عن
طريق الانتخابات وترجمتهما بمشاركة فعلية في
إدارة الشأن العام. ومن هنا تبرز أهمية
استحقاقات 2007 التشريعية التي تجعل "المغرب
في مفترق طرق"
وتسائل بحدة آليات
تفعيل المسار الديمقراطي بعيدا عن الاختلالات
الهيكلية أو التوازنات المضمرة
التي تجعل الانتخابات " في حقيقتها غير
تنافسية".
على سبيل الختم :
لعل تعامل المغرب السياسي مع المسألة
الانتخابية يعكس – ولو جزئيا- طبيعة النظام
السياسي المغربي وحدود التغيير بل وإمكانيات
تجاوز اختلالات تفعيل المدى الانتخابي وإكساب
النظام برمته "شرعية ديمقراطية" ضمن خصوصية ما
يصفه الملك محمد السادس ب" تمايز المسارات
التاريخية والمرجعيات الحضارية والثقافية ...
ووجاهة النهج الذي يقيم علاقة جدلية بين
الخصوصية والعالمية من جهة وبين الديمقراطية
والتنمية من جهة أخرى."
وإذا كانت تحولات المغرب على المستويين
الاقتصادي والاجتماعي - خاصة في ظل المراهنة
على الاستثمارات الأجنبية وعلى النهج التنافسي
الليبرالي وكذا في سياق تجذر أزمة اجتماعية لا
يجد المسئولون بدا من الإقرار بحدتها
- تبعث على تعامل
يمزج بين الحذر والبراغماتية فان الشأن
السياسي يظل وثيق الصلة بتدبير مختلف القضايا
ضمن تصور لا يغفل البعد التشاوري والتشاركي في
اتخاذ القرار السياسي.
من هذا المنطلق يصبح من المشروع الحديث عن
الإصلاح السياسي كأحد مداخل تجاوز الانسداد
بمختلف تجلياته ، ومن بينها الانتخابات التي
باتت ، وفق مؤشرات تطور "الزمن السياسي
المغربي" ، أمام حتمية تجاوز " عطب اللاتنافس
" .
ويلاحظ ، ضمن هذا التصور ، أن الانخراط في
دينامية إعادة تشكيل المجال الحزبي بإصلاحه
قانونيا ومؤسساتيا لم يقترن بمحاولة إعادة
النظر في التوازنات المؤسسية العامة والعلاقة
بين مختلف الفاعلين. فالديمقراطية الحزبية –
التي تبقى رهانا مركزيا في تخليق الحياة
العامة وإعادة الاعتبار للعمل السياسي - الذي
شهد " تفقيرا" مفاهيميا ومؤسساتيا وأخلاقيا-
ترتبط جوهريا بإعادة النظر في مشروع
الديمقراطية في المغرب.
فإثارة " تميز" التجربة المغربية على مستوى
تجاوز ملامح التوتر في تدبير قضايا حقوق
الإنسان وحرية التعبير غالبا ما تغض الطرف عن
مرتكزات الإصلاح السياسي الشامل الذي يعني في
ما يعنيه تدبيرا تشاركيا للسلطة السياسية.
ولعل النتيجة التي تعن على المستوى التحليلي
هي هيمنة المؤقت في تصور العمل السياسي
بالمغرب إذ ما كان يعتبر إصلاحا مركزيا
بالأمس القريب بات يشكل أساسا لتوجه مطلبي
اليوم قصد تغييره جزئيا أو جذريا حسب طبيعة
المكونات الحزبية ضمن تصور تجاوزي لا يحمل بين
ثناياه معالم الرهان السياسي الاستراتيجي .
فالنص الدستوري مثلا موسوم بسيطرة بنيوية
للملكية انطلاقا من موقعها كفاعل مركزي داخل
النسق السياسي المغربي ليس فقط على الصعيد
التدبيري بالمفهوم الضيق بل كذلك على مستوى
تحديد قواعد الممارسة السياسية.
فالمسار الانتخابي قد يشكل مدخلا أساسيا
لتجاوز الارتياب في العمل السياسي بالمغرب
شريطة أن تكون مقاربة التجاوز متكاملة بإعطاء
معنى جديد للفعل السياسي أساسه تحقيق توازن
فعلي في تدبير "حقيقة السلطة". وتلك مسألة
أخرى.
يونس برادة
أستاذ علم الاجتماع والعلوم السياسية.
المغرب
– من الأحادي الاسمي الذي طالبت
المعارضة لسنوات طويلة بإلغائه إلى
اللائحي-
. |