مقدمة:
بتاريخ
13/7/2006، شنت إسرائيل حرباً غير إنسانية على
لبنان، دمرت خلالها البشر والحجر، وارتكبت من
المجازر ما يندى له جبين البشرية، وجبين الأمم
المتحدة ومجلس الأمن، ومعها القانون الدولي الذي
كان يعرفه القانونيون في العالم أجمع قبل الحرب.
ولقد تبين أن الحرب التي استمرت (33) يوماً، تمت
بتواطؤ بين أمريكا وإسرائيل، وكانت الغاية منها
الدخول إلى الشرق الأوسط من خلال تدمير لبنان
والمقاومة اللبنانية وإراقة الدم اللبناني، لإقامة
شرق أوسط جديد. لكن الهزيمة التي ألحقتها مقاومة
حزب الله بإسرائيل، وصمود الشعب اللبناني، كشفت أن
الهزيمة لم تكن لإسرائيل وحدها، وإنما كانت
لأمريكا التي نصبت جسراً جوياً بينها وبين إسرائيل
لتزويدها بكل أسلحة القتل والتدمير، أمام سمع
العالم وبصره، انطلاقاً من أن ما تقوم به إسرائيل
هو دفاع عن النفس، في مواجهة ما قام به حزب الله
ضدها من اختطاف جنديين إسرائيليين. فهل ما قام به
حزب الله من اختطاف للجنديين يشكل حرباً ضد
إسرائيل يفتح لها باب القانون الدولي لشن حرب
مدمرة على لبنان تحت ذريعة الدفاع عن النفس؟
ومن ناحية أخرى، فإذا كان صمود المقاومة وصمود
الشعب اللبناني قد أفشل مخطط أمريكا وإسرائيل في
إقامة شرق أوسط جديد، ودفع أمريكا إلى استصدار
القرار (1701) من مجلس الأمن بهدف حماية إسرائيل،
فما هي الأبعاد القانونية والواقعية لهذا القرار؟
وهل توقف المشروع الأمريكي بعد صدمة فشل تحقيقه عن
طريق الحرب، أم أن أمريكا لجأت إلى وسائل جديدة
لتشن حرباً من نوع جديد على لبنان والمنطقة،
مستخدمة القانون الدولي ومجلس الأمن أداة لتحقيق
ذلك، من خلال لبنان أيضاً؟
هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه.
أولاً: أمريكا هي الخصم الحقيقي ومع
ذلك أصبحت الحكم:
منذ قيام اسرائيل على الأرض العربية في فلسطين عام
1948، وهي تقوم بشن الحرب تلو الأخرى على الدول
العربية، وتمارس عمليات القتل وارتكاب المجازر ضد
أبناء فلسطين ولبنان وغيرهم من أبناء الدول
العربية. وفي جميع ما كانت تقوم به اسرائيل ولا
زالت، فإن ذريعتها المدعاة دائماً هي الدفاع
المشروع عن النفس. والغريب في الأمر، أن أمريكا
مستعدة دائماً لتأييد إسرائيل، وتأكيد أن ما تقوم
به هو دفاع عن النفس. ومهما كان موقف باقي دول
العالم وشعوبها من عدم القبول بتصرفات إسرائيل،
وأياً كانت انتهاكات إسرائيل لميثاق الأمم المتحدة
والقانون الدولي، فإن هذا لا يعني عند إسرائيل
شيئاً ما دامت أمريكا تسخر مجلس الأمن لخدمة
إسرائيل وكأنه دائرة من دوائر وزارة الخارجية
الأمريكية. ويكفي أن نعلم هنا، أنه منذ عام 1982
حتى الآن، قامت أمريكا بإستخدام حق الفيتو (32)
مرة ضد قرارات مجلس الأمن التي كان يمكن أن تدين
إسرائيل أو تنتقد سياساتها، وهذا الرقم يفوق في
مجموعه عدد مرات حق الفيتو الذي تم استخدامه من
قبل جميع أعضاء مجلس الأمن الآخرين، كما أجهضت
أمريكا جميع الجهود العربية التي تسعى لإخضاع
برنامج التسليح النووي الإسرائيلي لأجندة وكالة
الطاقة الذرية الدولية، في الوقت الذي دمرت فيه
العراق وذبحت شعبه تحت ذريعة كاذبة هي تطويره
لسلاح نووي، وأخذت تدق طبول الحرب ضد إيران تحت
هذه الذريعة أيضاً.
وفوق ذلك، فقد أكد الأستاذان
Professor John J.
Mersheimer)
أستاذ العلوم السياسية والإستراتيجية في جامعة
شيكاغو و
Professor Stephen M. Walt
أستاذ وعميد كلية كينيدي لعلوم الحكومات في جامعة
هارفارد)
في دراستهما: "اللوبي الإسرائيلي والسياسة
الأمريكية الخارجية" في شهر آذار/ مارس 2006
(The Israel
lobby and U.S Foreign Policy, March 2006)
المنشورة في
"London Review of Books Vol.28, No.6"
وأصبحت تُعرف بتقرير هارفرد، نقول، أكد هذان
الأستاذان أنه منذ حرب أكتوبر عام 1973، فإن
واشنطن قد زودت اسرائيل بمستوى من الدعم يصغر
أمامه أي دعم زودت به أمريكا أية دولة أخرى، وكانت
اسرائيل المتلقي السنوي الأكبر للمساعدات
الأمريكية الإقتصادية منذ عام 1976، كما كانت
المتلقي الأكبر على الإطلاق للدعم الأمريكي منذ
الحرب العالمية الثانية. ومنذ عام 1976 وحتى عام
2003 بلغ مجموع الدعم الأمريكي المباشر لإسرائيل
ما يزيد على (140) مليار دولار، وتتلقى اسرائيل ما
يقارب (3) مليار دولار سنوياً على شكل مساعدات
خارجية مباشرة، كما قامت أمريكا بتزويد إسرائيل
بما يقارب (3) مليار دولار لتطوير أنظمة تسليحية
مثل (طائرات ليفي)، وفتحت لإسرائيل باباً للدخول
على أعلى مستوى من نظام التسليح الأمريكي مثل
طائرات "البلاك هوك" وطائرات "إف-16"، ومنحت
أمريكا لإسرائيل إذن الدخول إلى المعلومات
الإستخبارية التي لا تقبل أمريكا أن يدخل إليها
حتى شركاؤها في حلف الناتو، (لمزيد من التفصيلات،
أنظر في ترجمة الدكتور محمد الحموري لدراسة اللوبي
الإسرائيلي والسياسة الأمريكية الخارجية، مكتبة
مدبولي، القاهرة 2007، ص14-16).
وفوق ما سبق جميعه، فإن أمريكا وحدها هي التي
أصبحت تقرر من هو المعتدي ومن هو الذي في حالة
دفاع عن النفس، وأصبح الخصم هو الحكم في عالم
اليوم.
إن مبدأ "حق الدفاع المشروع عن النفس" هو في الأصل
مبدأ أخلاقي إنساني، وأقرت به الشرائع السماوية
والأرضية، وأصبح جزءاً من منظومة القوانين
الداخلية في دول العالم أجمع، وأكدته الشعوب كافة
ليستقر كنصٍ في المادة (51) من ميثاق الأمم
المتحدة. وتنص هذه المادة على ما يلي:
"ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق
الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن
أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم
المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير
اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي".
وحتى نعلم من هو المعتدي، لبنان أم إسرائيل ومعها
أمريكا، ومن هو الذي استخدم حق الدفاع الشرعي عن
النفس من الناحية القانونية، فإنه ينبغي أن نبدأ
بمعرفة خلفيات ما جرى في حرب تموز عام 2006.
وأنوّه هنا إلى أنني سبق أن عرضت خلفية الأحداث
ومن هو صاحب حق الدفاع الشرعي عن النفس، لبنان أم
إسرائيل، في كتابي "قراءات في المشهد اللبناني بين
الحقوق القانونية والمصالح السياسية والدولية"
الصادر عن دار الأمير في بيروت، 2007، على الصفحات
من (153-162)، ونقتبس ببعض التصرف والإضافة، تحت
البندين التاليين ثانياً وثالثاً، جوانب مما ورد
في الكتاب المذكور، لتتضح الصورة كاملة أمام قارىء
هذه الدراسة بدلاً من إحالته إلى الصفحات سابقة
الذكر.
ثانياً: الخلفية الواقعية والدولية
للأحداث:
منذ توقيع الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949 حتى
الآن، لم يشهد الواقع إعتداءً قامت به الدولة
اللبنانية أو المقاومة اللبنانية على الكيان
الصهيوني لمجرد الإعتداء، وإنما كانت لبنان
والمقاومة اللبنانية في حالة دفاع عن النفس، وكان
ما تقوم به ردّات فعل على الممارسات العدوانية
لإسرائيل. لن نتحدث عن تاريخ الصراع العربي
الإسرائيلي في هذا المقام، لأنه أصبح في العلم
العام للجميع، ولكن يكفي هنا أن نبدي ما يلي بخصوص
حالة لبنان تمهيداً لموضوعنا:
أ.
قامت إسرائيل باجتياح لبنان في عملية الليطاني عام
1978، كما قامت باجتياحه واحتلال أراضيه عام 1982،
والإعتداء على كل ما هو إنساني في لبنان. ورغم
إنسحاب إسرائيل الجزئي من لبنان، إلا أنها ظلت
تحتل جزءاً من أرضه وتواصل إعتداءاتها عليه بشكل
مستمر.
ب.
وفي عام 2000 تمكنت المقاومة اللبنانية (حزب الله)
من طرد إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة،
وعلى نحو دفع إسرائيل الى التخلي عن المنطقة التي
كان يحتلها جيش أنطون لحد الذي أنشأته إسرائيل في
الجنوب اللبناني في المنطقة المحاذية للكيان
الصهيوني. ومع أن إسرائيل طُردت طرداً من لبنان
بقوة مقاومة شعبية مشروعة وفقاً للمادة (51) من
ميثاق الأمم المتحدة، إلا أنها، أي إسرائيل، ادعت
حين خروجها أنها انسحبت تنفيذاً لقرار مجلس الأمن
الدولي رقم (425) الصادر سنة 1978. وفي حقيقة
الأمر، فإن إسرائيل لم تستجب يوماً على نحو طوعي،
لقرار دولي ملزم بالإنسحاب من أراض عربية احتلتها،
وكانت القوة وحدها هي التي تجبرها على التخلي عن
الأرض العربية التي تحتلها، إلا أن إسرائيل خرجت
على العالم وعلى شعبها بادعاء الإنسحاب من لبنان
تنفيذاً للقرار (425)، للحفاظ على ماء الوجه ليس
إلا.
جـ. ورغم الإنسحاب غير الطوعي، فقد استمرت
إسرائيل في احتلال مزارع شبعا وكفار شوبا حتى
الآن، والاحتفاظ بالأسرى اللبنانيين الذين
اختطفتهم في سجونها، وتركت حقول الألغام التي
زرعتها في الجنوب اللبناني تهدد حياة المواطنين
الأبرياء في لبنان.
د.
وفي ضوء ما سبق، تركزت المطالب اللبنانية
والمقاومة اللبنانية في ضرورة:
-
انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية.
-
الإفراج عن الأسرى اللبنانيين في السجون
الإسرائيلية.
-
تسليم لبنان خرائط حقول الألغام التي زرعتها
إسرائيل.
هـ. رغم قرارات الأمم المتحدة التي تنص
على انسحاب إسرائيل من أراضي لبنان، ورغم المطالب
اللبنانية بتنفيذ تلك القرارات، إلا أن إسرائيل لم
تستجب لمطالب لبنان.
و.
ومن الناحية الواقعية، فإن إسرائيل والأمم المتحدة
ودول العالم أجمع، تعلم جيداً أنه لا يوجد أي
تناسب من أي نوع بين قدرات الجيش اللبناني وقدرات
جيش الكيان الصهيوني. وأمام عدم قيام الأمم
المتحدة بدورها في إجبار إسرائيل على الإستجابة
للمطالب اللبنانية، واعتماد إسرائيل على قوتها
العسكرية التي لا يستطيع الجيش اللبناني مواجهتها،
فإنه يصبح من الطبيعي أن يمارس الشعب اللبناني حقه
في الدفاع عن أرضه ومطالبه العادلة، التي تقرها له
المواثيق الدولية في مواجهة إسرائيل. وهذا ما
أكدته المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، على ما
أسلفنا.
ز.
وإنطلاقاً من عدم قدرة الجيش اللبناني على مواجهة
آلة الحرب الإسرائيلية في حرب نظامية، فقد أصبح
حزب الله يمثل المقاومة الشعبية المسلحة للدفاع عن
أرض لبنان وحقوق شعبه. وقد أكدت هذا الحق الدولة
اللبنانية بشكل واضح وصريح، إذ جاء في البيان
الوزاري الذي قدمته حكومة لبنان الحالية الى مجلس
النواب اللبناني للحصول على ثقة المجلس ما يلي:
"إن المقاومة اللبنانية هي تعبير صادق وطبيعي عن
الحق الوطني للشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع
عن كرامته في مواجهة الإعتداءات والتهديدات
والأطماع الإسرائيلية والعمل على استكمال تحرير
الأرض اللبنانية."
وقد قام مجلس النواب اللبناني بمنح ثقته للحكومة
على أساس البيان المذكور، وبالتالي فإن الدولة
اللبنانية تقر وتؤكد حق حزب الله كمقاومة شعبية في
الدفاع عن الوطن اللبناني وتحرير أرضه واسترداد
حقوقه وإجبار إسرائيل على الإستجابة لمطالبه
المشروعة سابقة الذكر.
حـ. أكد حزب الله كمقاومة شعبية لبنانية
على ضرورة استجابة إسرائيل للمطالب اللبنانية
الحقّة، وأعلن أنه لم يعد هناك من وسيلة للضغط على
إسرائيل لتسليم الأسرى اللبنانيين سوى القيام بأسر
جنود إسرائيليين لمبادلتهم بالأسرى اللبنانيين،
خاصة وأن إسرائيل قد استجابت في الماضي الى عملية
مبادلة الأسرى. وأكد حزب الله إعلانه هذا مرات
عديدة في وسائل الإعلام المختلفة، وأمام الحكومة
اللبنانية ومجلس النواب اللبناني، وفي لجنة الحوار
الوطني اللبنانية التي تمثل كافة القوى والأطياف
السياسية والطائفية في لبنان، وأصبح هذا الأمر
معروفاً لإسرائيل ولكل دول العالم، هذا مع الأخذ
بعين الإعتبار أن حزب الله يتمتع بمصداقية عالية
حتى في أوساط الكيان الصهيوني، بالنسبة لجديته
فيما أعلن عنه، وأن لديه الإمكانية لتنفيذ عملية
الأسر.
ط.
ومع عدم إستجابة إسرائيل لأي مطلب لبناني، قام حزب
الله بدخول الأراضي التي يحتلها الكيان الصهيوني
من فلسطين يوم 12/7/2006، وأسر جنديين إسرائيليين،
بعد معركة مع القوات الإسرائيلية قتل فيها ثمانية
من جنود إسرائيل. وكانت عملية حزب الله موجهة ضد
العسكريين الإسرائيليين تحديداً ودون أي مساس
بالمدنيين، الى الحد الذي أطلق عليها بأنها عملية
عسكرية نظيفة.
ي.
وفي أعقاب أسر الجنديين، شنت إسرائيل على مدى (33)
يوماً، كما أسلفنا، هجوماً جوياً وبحرياً وبرياً
على لبنان ودمرت البنايات والمنازل على ساكنيها،
وارتكبت المجازر دون أية مراعاة لإنسانية البشر
أطفالاً وشيوخاً ونساءً وآمنين، وهدمت البنية
التحتية للبنان واستخدمت الأسلحة المحرمة بنصوص
واضحة في الإتفاقيات والمواثيق الدولية، حتى تلك
التي وقعت عليها إسرائيل.
ثالثاً: المقاومة اللبنانية هي صاحبة
الحق في الدفاع الشرعي عن وطنها، وإسرائيل هي
المعتدية بالتواطؤ مع أمريكا:
1.
أعلنت إسرائيل أن قيامها بشن حرب على لبنان على
النحو الذي حدث، هو مجرد دفاع عن النفس، لأن أسر
الجنديين يشكل إعتداءً مسلحاً على إسرائيل وشن حرب
عليها. وبالرغم من هذا الذي قامت به إسرائيل ضد
المدنيين في لبنان، فقد وقف المجتمع الدولي موقفاً
مخزياً عندما أيدت بعض الدول الغربية، وعلى رأسها
أمريكا، الذريعة الإسرائيلية، وصمتت دول غربية
أخرى صمتاً أصبح يُحمل على أنه موافقة ضمنية على
ما تقوم به إسرائيل، في حين أن بعضاً ثالثاً من
الدول أصبح يتحدث عن الإفراط في الاستخدام
الإسرائيلي للقوة على النحو الذي حدث، دون أن يرتب
أي موقف على هذا الذي اعتبره إفراطاً في استخدام
القوة.
2.
بل إن المجتمع الدولي الذي أصبحت تجسده أمريكا، قد
تجاهل تفاهم نيسان الموقع في 26/4/1996 الذي ترعاه
أمريكا وفرنسا والإتحاد الأوروبي وروسيا. إن هذا
التفاهم الذي يستند الى ميثاق الأمم المتحدة
وقواعد القانون الدولي، ووقعته الأطراف الدولية
المذكورة، يلقي إلتزاماً دولياً محدداً على
الجانبين الإسرائيلي واللبناني بعدم التعرض
للمدنيين أو المساس بهم، في أي مواجهة بين
الفريقين. لكن إسرائيل في حرب الـ (33) يوماً
استهدفت المدنيين والأهداف المدنية وارتكبت
المجازر في لبنان، دون أن يحرك ذلك ضمير الأطراف
الدولية التي وقعت على التفاهم المذكور. وفي حقيقة
الأمر، فإن ما قام به حزب الله يشكل عملية عسكرية
محدودة لم يمسس فيها أي مدني إسرائيلي، الأمر الذي
لا يبرر لإسرائيل ما قامت به من تدمير في لبنان
بأي معيار من المعايير التي أصبحت مقبولة في
المجتمع الدولي، وبشكل خاص الولايات المتحدة
والأمم المتحدة. ومما يؤكد ذلك أن إسرائيل مارست
عمليات القتل والأسر والاختطاف في لبنان وفلسطين
على حد سواء، دون أن يفكر أحد في الأمم المتحدة
وفي دول العالم الغربي، بأن ما قامت به إسرائيل
يشكل إعتداءً مسلحاً يستوجب العقاب. فوفقاً لما
أكده البيان المشترك لمؤتمر الرابطة الدولية
للمحامين الديمقراطيين واتحاد المحامين العرب
المنعقد في باريس يومي 26 و 27 آب/أغسطس 2006،
فإنه منذ عام 2000 حتى قيام حرب تموز، سجلت الأمم
المتحدة أكثر من (11000) خرق إسرائيلي للخط الأزرق
الذي يفصل لبنان عن إسرائيل.
وفي هذا المجال، فإنه يكفي أن نسجل ما يلي:
-
في عام 1989، قامت إسرائيل بخطف الشيخ عبد الكريم
عبيد من غرفة نومه في بيته في قرية جبشيت في لبنان
وذلك لمبادلته بطيار الفاتنوم الإسرائيلي رون أراد
الذي سقطت طائرته في لبنان عام 1986 وتم أسره من
قبل حركة أمل وتسلمه منها حزب الله عام 1988.
-
وفي عام 1992، قامت إسرائيل باغتيال السيد عباس
الموسوي داخل لبنان، عندما كان وقتها أميناً عاماً
لحزب الله، وذلك إنتقاماً لأسر الطيار الإسرائيلي.
-
وفي عام 1994، اختطفت إسرائيل السيد مصطفى
الديراني (أبو علي) من بيته في قرية قسرنبه في
لبنان من أجل مبادلته بالطيار رون أراد.
وجميع هؤلاء من قيادات حزب الله، وتم قتلهم أو
اختطافهم من قبل إسرائيل داخل لبنان.
- قامت إسرائيل باستخدام السيارات
المفخخة لاغتيال كل من:
+ جهاد جبريل، عام 2002
+ علي صالح، عام 2003
+ غالب عوالي، عام 2004
(أنظر الدراسة المتميزة للدكتور خير الدين حسيب
المنشورة في مجلة المستقبل العربي، عدد
أيلول/سبتمبر، 2006، ص6 وما بعدها، وخاصة ص12،
هامش 12)
- بل حتى بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم
(1701) ووقف القتال بين المقاومة اللبنانية
وإسرائيل، قامت إسرائيل بعمليات إنزال وخطف وأسر
داخل الأراضي اللبنانية، كان آخرها الأشخاص الستة
الذين اختطفتهم إسرائيل يوم الجمعة 8/9/2006،
وفرضت على لبنان والشعب اللبناني حصاراً برياً
وبحرياً وجوياً ينتهك قرار مجلس الأمن الدولي رقم
(1701)، ومارست ولا تزال تمارس إنتهاك حرمة أجواء
لبنان ومياهه الإقليمية وذلك بالمخالفة للقرار
(1701) أيضاً.
3.
ورغم جميع أعمال القتل والخطف والأسر التي تبينها
الأمثلة السابقة، فقد صمت مجلس الأمن وسكتت الأمم
المتحدة والمجتمع الدولي عن إبداء أي احتجاج أو
استنكار أو اتخاذ أي موقف ضد ما حدث. ويبدو أن هذا
أمر طبيعي عند المجتمع الدولي، ما دامت أمريكا
ترغب في ذلك، لأنها، أي أمريكا، تعتقد أنها هي
المجتمع الدولي في الوقت الحاضر، وهي التي تقرر
المسموح والممنوع في هذا العالم. فإذا كان ما قام
به حزب الله يعتبر إعتداءً مسلحاً على إسرائيل
يبيح للمجتمع الدولي وللأمم المتحدة الوقوف هذا
الموقف الذي تم إتخاذه بشأن لبنان، فقد كان على
المجتمع الدولي والأمم المتحدة الوقوف ذات الموقف
من عمليات القتل والخطف والأسر التي قامت بها
إسرائيل على النحو الذي سبق ذكره. أما الكيْل
بمكياليْن، فهو أمر لا تقرّه الطبيعة البشرية ولا
شرعة حقوق الإنسان ولا المواثيق والإتفاقيات
الدولية.
4.
ولعل أدق وصف لوضع إسرائيل وما تقوم به على
المستويين الواقعي والقانوني في مواجهة العرب، هو
ما ورد ذات مرة على لسان بن غوريون عندما خاطب
ناحوم جولدمان
(Nahum Gorldman)
رئيس المؤتمر اليهودي العالمي
(President of the
World Jewish Congress)
قائلاً:
"لو كنت قائداً عربياً فإنني لن أقيم أبداً علاقات
متبادلة مع إسرائيل، وهذا أمر طبيعي: فنحن قد
أخذنا بلدهم وأرضهم، صحيح أننا انحدرنا من
إسرائيل، ولكن ذلك كان منذ ألفي عام، أيعني هذا
لهم شيئاً؟ وصحيح أنه كان هناك معاداة للسامية،
النازي، هتلر الألماني، لكن هل هذه غلطتهم؟ إنهم
لا يرون إلا شيئاً واحداً وهو: أننا جئنا إلى هنا
وسرقنا وطنهم، فلماذا عليهم القبول بذلك."
وبكلمات بن غوريون حسبما أوردها ناحوم جولدمان:
"If I were an Arab leader
I would never make terms with Israel. That is
natural: we have taken their country … We come
from Israel, but two thousand years ago, and
what is that to them? There has been anti
Semitism, the Nazis, Hitler, Auschwitz, but was
that their fault? They only see one thing: we
have come here and stolen their country. Why
should they accept that?" (Nahum Goldman, The
Jewish Paradox, trans. Steve Cox-NY: Grosset and
Dunlap, 1978,-p.99-quoted in the Israeli Lobby,
op.cit, p.17).
5.
والغريب في الأمر غرابةً تبلغ حد الشذوذ، أنه خلال
فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز
وارتكاب عمليات التدمير والمجازر والقتل، فقد عطلت
أمريكا اجتماع مجلس الأمن الذي تقضي به المواد (35
و 36 و 39) من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك من أجل
مزيد من القتل والتدمير في لبنان. فبعد أسبوع من
الإعتداء الإسرائيلي على لبنان، أي في 18/7/2006،
صرّحت كوندليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا بالقول
أنه لم يحن الوقت بعد لوقف إطلاق النار وصدور قرار
من الأمم المتحدة بهذا الشأن، وكررت ما قالته عدة
مرات بعد ذلك، عندما أكدت أن هذه الحرب سوف تؤدي
الى ولادة شرق أوسط جديد يتم فيه إعادة ترتيب
المنطقة، بما يعني ذلك أن القتل والمجازر والتدمير
في لبنان أمور مباحة ما دام أن إسرائيل هي التي
تقارفها، وما دام أن ذلك سوف يحقق الهدف الأمريكي
في ولادة الشرق الأوسط الجديد.
6.
ولعل أي حجة أو ذريعة تبديها إسرائيل أو أمريكا
ومن يسبح في فلكها، في اعتبار أن ما قام به حزب
الله من خطف للجنديين يشكل مبرراً لجرائم إسرائيل
في لبنان، يدحضه ما تم كشفه أخيراً من أن إسرائيل
وأمريكا كانتا قد رتبتا أمر هذه الحرب منذ أكثر من
عام عندما تم وضع خطة تقوم بموجبها إسرائيل
باجتياح الجنوب اللبناني بشكل مباغت للإجهاز على
حزب الله، سواء تمت عملية حزب الله وأسر الجنديين
أو لم تتم، لكن مصادفة قيام حزب الله بالعملية هو
الذي عجّل الهجوم الإسرائيلي قبل موعده. وفي هذا
المجال، يؤكد ماثيو كالمان
(Matthew Kalman)
في مقاله تحت عنوان "إسرائيل وضعت خطة حربها منذ
أكثر من سنة
Israel set war plan more than a year ago"
في "كرونيكال فورين سيرفس"
(Chronicle Foreign
Service)
عدد 21/7/2006: "بأن الحرب الذي تقوم بها إسرائيل
الآن (أي وقت نشر المقالة) قد تم وضع خطتها
النهائية منذ أكثر من سنة ... وتم شرحها
للأمريكيين". ونقلاً عن أستاذ العلوم السياسية
بروفيسور جيرالد ستينبرج
(Gerald Steinberg,
Professor of Political Science at Bar-Ilan
University)،
فإن الكاتب ماثيو كالمان يضيف في ذات المقالة:
"في جميع حروب إسرائيل منذ عام 1948، فإن هذه
الحرب كانت أكثر الحروب التي استعدت لها إسرائيل".
وبكلمات الكاتب:
"Of all Israeli's wars
since 1948, this was the one which Israel was
most prepared."
7. أما الأكثر تفصيلاً عن التواطؤ
الأمريكي الإسرائيلي، فقد جاء في دراسة تحقيقية
للكاتب الأمريكي الشهير سيمور هيرش
(Seymour M. Hersh)
تحت عنوان "مراقبة
لبنان
"Watching Lebanon
التي تتكون من (8) صفحات، في مجلة نيويوركر
New Yorker،
عدد 21/8/2006، حيث يبين الكاتب بوضوح أن الإدارة
الأمريكية كانت شريكاً لإسرائيل في التخطيط للحرب
ضد حزب الله، وكان الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني
قانعين بذلك، ثم لحقت بهما كونداليزا رايس، وتم
توزيع الأدوار على الفريقين الإسرائيلي والأمريكي
وفقاً لهذه الخطة منذ أكثر من عام، وأنه سواء قام
حزب الله بعملية 12/7/2006 أم لم يقم بذلك، فإن
خطة الهجوم عليه وتدميره كانت جاهزة للتنفيذ
وتنتظر إشارة البدء.
8. وفي ضوء ما سبق، فإن ما قامت به
إسرائيل في لبنان كان عملاً مبيتاً ومخططاً له
سلفاً ومرتباً له مع أمريكا، مما يجعل ما قارفته
إسرائيل من جرائم قد تم عن سابق عمد وتصميم
وإصرار، ويجعل من أمريكا التي تواطأت وقدمت السلاح
لإسرائيل، حتى المحرم منه دولياً، على نحو عاجل،
شريكاً كاملاً لإسرائيل في مقارفة تلك الجرائم.
9. ويلاحظ هنا أن القرار (1701) الذي
أصدره مجلس الأمن، قد تم اتخاذه تحت الفصل السادس
من الميثاق، الذي لا يمكن الإستناد إليه في
استخدام القوة لفض النزاعات الدولية، لأن هذا
الفصل يتطلب استخدام الوسائل السلمية في هذا
المجال، لكن أمريكا استطاعت أن تضع في القرار
المذكور بنداً خطيراً جداً لكي تتولى بعد ذلك
إدخال الأمر تحت الفصل السابع الذي يؤكد أنه إذا
وقع تهديد للسلام والأمن الدوليين، فإن مجلس الأمن
هو الذي يقرر ما يجب اتخاذه من تدابير، بما فيه
استخدام القوات الجوية والبحرية والبرية لحفظ
السلم والأمن الدوليين. ومن هذا المنطلق، فقد أصرت
أمريكا على أن تضع في الفقرة الأخيرة من مقدمة
القرار ما يلي:
يقرر مجلس الأمن:
"أن الحالة في لبنان تشكل تهديداً للسلام والأمن
الدوليين."
وبمقتضى هذا الذي أرادت أمريكا أن يقرره مجلس
الأمن، فقد فتحت الباب على مصراعيه للدخول الى
الفصل السابع من الميثاق واستخدام القوة العسكرية
الدولية ضد لبنان وحزب الله في المرحلة القادمة مع
جميع ما يترتب على ذلك من نتائج.
رابعاًً: استخدام القانون والمحكمة
الدولية كان قبل تموز وسيلة ضغط فشل جدواها:
1.
تهديد سوريا وحزب الله لم يُجْدِ عند أمريكا نفعاً:
يشكل احتلال أمريكا للعراق في نيسان /أبريل عام
2003 واحدة من أكثر الأعمال والحروب قذارة في
التاريخ الإنساني، وتشكل الأعذار التي استخدمتها
أمريكا أكثر الأعذار قباحة في تاريخ الحروب. إن
تدمير أمريكا لدولة العراق وإعادة واقعها إلى
القرون الوسط، كان يستند إلى ذريعة وجود أسلحة
الدمار الشامل فيه. وعندما ظهر زيف هذه الذريعة،
أصبحت الذريعة التي تليها رغبة أمريكا في إقامة
الديمقراطية في العراق. ولم تخجل أمريكا ولا من
يقف معها في استمرار الحديث عن ذريعة الديمقراطية،
في الوقت الذي يشهد فيه العراق تمزيقاً إلى شيع
وطوائف، وذبحاً وقتلاً لأبنائه على مدى أكثر من
أربع سنوات حتى الآن، تم خلالها الإجهاز على مليون
عراقي، وإشعال حرب أهلية بين سكانه، وأصبحت شركات
القتل الأمريكية التي تستأجر المرتزقة من كل
الألوان والأجناس ومعها الموساد الإسرائيلي والجيش
الأمريكي، تتقاسم أجزاء العراق لتتنافس وتتسابق
على الفوز بجائزة من يقتل أكثر. وكان اللوبي
الاسرائيلي في أمريكا المتعاضد مع المحافظين الجدد
وراء إحتلال العراق وعلى رأس أهدافهم تحقيق مصلحة
اسرائيل. ويكفي في هذا المجال أن نشير إلى ما أكده
رجل الكونغرس الأمريكي جيمس موران (Congressman
James P. Moran)
في جريدة الواشنطن بوست على أعقاب التحضيرات
النهائية لإحتلال العراق وقبيل الحرب مباشرة، أي
في 11/3/2003، حيث قال:
"لو لم تكن هذه الحرب من أجل التأييد القوي
للجالية اليهودية، فما كنا لنقوم بها"
وبلغة موران:
If we were not for the
strong support of the Jewish community for this
war with Iraq, we would not be doing this.”
على أنه ما إن تم إحتلال العراق، حتى أخذ اللوبي
الاسرائيلي في أمريكا، ومعه المحافظون الجدد،
بتوجيه أمريكا لإعلان حربها على سوريا وعلى حزب
الله الذي يشكل المقاومة على الأرض اللبنانية ضد
إسرائيل. وإذا كان هذا الأمر أصبح من العلم العام
للجميع ولا يحتاج حديث أو شرح، فإننا نكتفي هنا
بالإشارة إلى بعض ما أعلنه فرسان الحروب على
أمتنا، حيث كتب (David
R. Sands)
في الواشنطن بوست بتاريخ 16/4/2003 يقول: "علينا
توجيه حرب إلى سوريا مماثلة لحرب العراق". وفي
15/4/2003، كتب يوسين كلين هليفي في جريدة لوس
أنجلوس تايمز مقالة بعنوان: "الخطوة الثانية هي
توجيه القوة ضد سوريا". وفي 16/4/2003، كتب زيف
شافيتز مقالاً لجريدة نيويورك تايمز بعنوان:
"سوريا صديقة الإرهاب تحتاج إلى تغيير أيضا". أما
بالنسبة لحزب الله، فقد كتب أوري نير (Ori
Nir)
في الـ (Forward)
بتاريخ 11/4/2003 مقالة بعنوان: "القدس تستعجل
بوش: الهدف التالي حزب الله". "Jerusalem
Urges Bush: Next Target Hezbbollah".
وبتاريخ 12/12/2003، وقّع الرئيس بوش "قانون
محاسبة سوريا" "The
Syria Accountability Act"،
بعد أن تم إقرار هذا القانون في مجلس النواب
بأغلبية (398) صوتاً ضد (4) أصوات، وفي مجلس
الشيوخ بأغلبية (89) صوتاً ضد (4) أصوات، وذلك
بضغط من اللوبي الإسرائيلي والمحافظين الجدد.
وهكذا، أخذت أمريكا بفتح النار بإتجاه سوريا (Gunning
for Syria).
وخلال الفترة منذ منتصف عام 2004 حتى 12
تموز/يوليو عام 2006، أطلقت أمريكا على سوريا
بالإضافة الى إيران وكوريا الشمالية اسم دول محور
الشر. وأخذت أمريكا توجه التهديد تلو التهديد إلى
سوريا، حتى وصل الأمر بأمريكا أن جعلت شبح الحرب
يخيم على العالم، وبأنها توشك أن تعاقب سوريا بشن
الحرب عليها.
أما مطالب أمريكا من سوريا من أجل التهدئة معها،
فهي وقف مساعدتها للمقاومة في العراق، ومساعدة
أمريكا للقضاء على المقاومة العراقية لإخراج
أمريكا من ورطتها في العراق، ووقف تعاونها مع
إيران، ثم وقف مساعدة سوريا ومساندتها لحزب الله
في لبنان وحماس في فلسطين، وطرد قيادات المقاومة
الفلسطينية من دمشق.
أما حزب الله، فرغم أنه في عيون العالم العربي
والعالم الإسلامي يشكل المقاومة الشريفة التي
تدافع عن أرضها ووطنها، وقامت بتحرير أرض لبنان
عام 2000 من الإحتلال الاسرائيلي، وفرضت على
إسرائيل حقوق لبنان عام 2006 في حرب تموز، ويعتبره
الشارع العربي والإسلامي ظاهرة تحتذى في الجهاد
والتضحية، ويدعو المخلصون من أبناء الشعوب العربية
والإسلامية للإقتداء بها، نقول رغم ذلك، فلا مانع
عند أمريكا أن تتحدى مشاعر مليار ونصف عربي ومسلم
وتعلن أن حزب الله منظمة إرهابية. وصمدت سوريا
أمام الضغوط الأمريكية، وصمد حزب الله في القيام
بواجبه المقدس في الدفاع عن أرضه ووطنه .
وخلال هذه الفترة تم اغتيال المرحوم الرئيس رفيق
الحريري في 14/2/2005. وكان لهذا الحادث الآثم
آثاره الكبيرة وصداه المدوي في لبنان والعالمين
العربي والإسلامي وجميع أنحاء المعمورة، وأصبح من
الضروري معرفة من كان وراء هذا العمل الإرهابي
ليمثل أمام القضاء ونيل الجزاء الذي يستحقه.
وأصدر مجلس الأمن قراره رقم (1595) بإنشاء لجنة
تحقيق دولية وتم تعيين القاضي الألماني ديتليف
ميليس رئيساً للجنة التحقيق، حيث قدم هذا القاضي
تقريرين تحقيقيين: الأول بتاريخ 19/5/2005،
والثاني في 12/12/2005. وبمعزل عن مخالفة
التقريرين لبديهيات علم التحقيق وأصول الإجراءات
الجزائية في النظام القانوني اللبناني والعربي
والنظام اللاتيني الجيرماني والنظام
الإنجلوأمريكي، من حيث كشفه لأسماء الشهود
والمواقع والتواريخ والتفصيلات التي لا يقبل بها
أي نظام قانوني، نقول بمعزل عن هذا، فقد وجه
القاضي ميليس الإتهام في التقريرين إلى سوريا
مباشرة، وتناقلت هذا الإتهام وسائل الإعلام في
العالم، لتصبح سوريا متهمة بمقارفة جريمة اغتيال
المرحوم الحريري أمام الرأي العام العالمي بموجب
هذين التقريرين.
وكانت رسالة واضحة من أمريكا لسوريا، عندما طلب
القاضي ميليس أثناء إعداد تقريره الثاني، التحقيق
مع خمسة مسؤولين سوريين على أرض لبنان. وفهمت
سوريا أن الغاية من ذلك، اعتقال هؤلاء المسؤولين
في لبنان من أجل إخضاعهم للضغوط وبعدها المساومات،
ورفضت سوريا الإستجابة، لتنشب بينها وبين القاضي
ميليس بعد ذلك، معركة حول المكان الذي سوف يجري
فيه التحقيق. وأخيراً أصبح المكان هو فيينا في
النمسا، بعد تدخلات عربية وإقليمية ودولية للوصول
إلى اتفاق على هذا المكان. وصدر تقرير ميليس
الثاني في 12/12/2005. وكانت المفاجأة أن ميليس
طلب من سوريا في الفقرة (أ) من البند (74) من
تقريره، احتجاز المسؤولين السوريين الذين تعتبرهم
لجنة التحقيق مشتبهاً في تورطهم باغتيال المرحوم
الحريري، وإلا فإنها ستكون قد خالفت قرار مجلس
الأمن رقم (1636). ورفضت سوريا طلب القاضي ميليس.
ورغم انكشاف كذب الشهود الذين أسس ميليس إتهامه
لسوريا على أقوالهم، ورغم طرد هذا القاضي من لجنة
التحقيق وافتضاح أمر ارتباطه هو ومساعده مع جهات
استخبارية أجنبية، إلا أن أمريكا ظلت مع شركائها
في الإثم، توجه الإتهام إلى سوريا. وصمدت سوريا
أمام الإتهام والتشهير. وفي صباح يوم 12/12/2005،
وهو اليوم الذي أصبح فيه التقرير الثاني للقاضي
ميليس الذي يتهم فيه سوريا، على طاولة مجلس الأمن،
تم إغتيال المرحوم جبران التويني، وهو مسيحي
أرثودكسي ومن قيادات فريق الأغلبية التي تتولى
الحكم في لبنان، وبعد دقائق من انتشار خبر
الإغتيال، تم توجيه الإتهام إلى سوريا، وصمدت
سوريا.
واجتمعت الحكومة اللبنانية في ذات يوم الإغتيال،
وقررت بالأغلبية الطلب من مجلس الأمن إنشاء محكمة
ذات طابع دولي لتتولى محاكمة قتلة المرحوم الحريري
ورفاقه، وذلك على الرغم من انسحاب وزراء المعارضة
من جلسة الحكومة وتعليق عضويتهم فيها، احتجاجاً
منهم على حالة الإستعجال والمفاجأة التي تم فيها
اتخاذ القرار، وعدم البحث في التفصيلات المتعلقة
بالجوانب التنظيمية والإجرائية والموضوعية التي
ينبغي ان يحتويها نظام المحكمة المطلوب إنشاءها.
وكان طلب إنشاء المحكمة في 12/12/2005 رسالة جديدة
لسوريا، بإعتبار أن أصابع الإتهام موجهة إليها،
وأن محاكمة المسؤولين فيها أصبحت قريبة. وصمدت
سوريا وقاومت الإتهام والرسائل.
وظل طلب حكومة لبنان بإنشاء المحكمة على طاولة
مجلس الأمن ثلاثة شهور ونصف دون قرار، حدث خلالها
توجيه الرسائل الإيحائية والصريحة لسوريا
بالإستجابة لمطالب أمريكا، لكن سوريا صمدت وقاومت.
وبتاريخ 29/3/2006 أصدر مجلس الأمن قراره رقم
(1664) بالموافقة على إنشاء المحكمة ذات الطابع
الدولي (A
Tribunal of International Character)،
ونص القرار على أن يتفاوض الأمين العام للأمم
المتحدة مع الدولة اللبنانية بشأن وضع مسودة
لإتفاق المحكمة بين لبنان والأمم المتحدة، مرفقاً
به مسودة نظام لهذه المحكمة. ومرة أخرى أصبحت
الرسائل الإيحائية والصريحة الموجهة إلى سوريا
تقول، إن العقاب قد اقترب إلا إذا وافقت سوريا على
المطالب الأمريكية بشأن العراق والتخلي عن حزب
الله والمقاومة الفلسطينية ووقف تعاونها مع إيران.
وصمدت سوريا أيضاً وقاومت ولم تستجب للمطالب
الأمريكية. وخلال الفترة من 29/3/2006 حتى
13/7/2006، سكتت الأخبار عن الحديث عن المحكمة،
ولم يصدر عن مجلس الأمن شيئاً بهذا الخصوص، وحمل
المهتمون بالأمر هذا السكوت، على أنه ليس هناك من
عجلة، ما دام أن التحقيق لم ينته بعد، ويمكن أن
يحتاج إلى سنة أو سنوات. لكنه ظهر واضحاً أن
التهديد والتخويف بإستخدام القانون ووسائله
العقابية الموجه إلى سوريا وبالتالي حزب الله،
بدءاً من تقرير ميليس الأول في 19/10/2005، لم
يُجْدِ نفعاً، فكان لا بد من استغلال أية فرصة أو
سبب لتشن اسرائيل، بالتواطؤ مع أمريكا، الحرب على
لبنان، فلعلها باستخدام القوة لإنهاء حزب الله
تحقق ما فشل التهديد والتخويف لسوريا بإنهائه
طوعاً. وهكذا وقعت حرب تموز عام 2006.
2.
وتم استخدام القوة الاسرائيلية الأمريكية في حرب
تموز، دون جدوى أيضاً:
بتاريخ 12/7/2006 قامت المقاومة اللبنانية ممثلة
بحزب الله بأسر جنديين اسرائيليين، كما أسلفنا.
وكان هذا الأسر للجنديين ذريعة لتشن اسرائيل حربها
على لبنان إبتداء من صباح 13/12/2006 ولتستمر (33)
يوماً، بهدف القضاء على حزب الله الذي رفضت سوريا
قبول المطلب الأمريكي في عدم التعاون معه وإنهائه
طوعاً. وكانت محصلة الحرب مفاجأة لإسرائيل وأمريكا
والقوى الدولية المؤيدة لها، عندما استطاع حزب
الله تحقيق نصر على الجيش الإسرائيلي الذي كان لا
يقهر، رغم ترسانته العسكرية التي تفوق بكثير تسليح
الجيوش العربية مجتمعة، بل ورغم الجسر الجوي الذي
أقامته أمريكا لوضع ترسانة الجيش الأمريكي في خدمة
الجيش الإسرائيلي. وتبين بعد ذلك، كما أسلفنا، أن
التخطيط والتنفيذ لهذه الحرب قد تم بالتواطؤ بين
أمريكا وإسرائيل قبل الحرب بوقت طويل.
إن الكيان الصهيوني بطبيعته الديمغرافية
والجيوسياسية، لا يحتمل الحرب الطويلة الأمد، ومنذ
نشأة هذا الكيان، فقد اعتمد في استراتيجيته
العسكرية على الحرب الخاطفة مع الدول العربية، لأن
المجتمع الاسرائيلي قام على أساس انه مجتمع عسكري،
المدنيون فيه هم في الأصل عسكريون، تدريبهم متواصل
واستعدادهم للحرب مستمر، ومع كل طارئ ينتقل أفراد
هذا المجتمع من الحياة المدنية إلى الإلتحاق كل
بوحدته العسكرية المحددة له. بعبارة أخرى، الدولة
في هذا الكيان في خدمة الجيش وليس العكس كما في
سائر دول العالم. وبالرغم من أن إسرائيل شنت حرب
إبادة على المقاومة ودمرت البنية التحتية في
لبنان، إلا أن طبيعة الإستراتيجية التي استخدمها
حزب الله في رده على إسرائيل، أدت إلى رحيل سكان
النصف الشمالي من إسرائيل إلى نصفه الجنوبي، وأخذت
الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى الخارج بالتصاعد
مع إستمرار الحرب.
ولم تستطع إسرائيل الإحتمال، الأمر الذي أدى
بأمريكا إلى جمع مجلس الأمن بعد (33) يوماً من
الحرب، وإصدار القرار رقم (1701). وهكذا فشلت
إسرائيل وأمريكا مرة أخرى في حربها ضد المقاومة
حليفة سوريا.
3.
في الأبعاد القانونية لقرار مجلس الأمن رقم (1701):
لقد سبق أن بحثتُ القرار (1701) في دراسة تفصيلية
منشورة في كتابي: "قراءات في المشهد اللبناني"
سابق الإشارة إليه، على الصفحات من (138-152). ومن
أجل أن يتكامل الموضوع الذي نبحثه هنا، فسوف نقتبس
بإيجاز وتصرف، بعض جوانب من الدراسة المذكورة على
النحو الذي يخدم موضوعنا، وذلك تحت البنود (أ ، ب،
جـ) التالية:
أ.
من حيث النصوص:
أ/1. لقد تم اتخاذ القرار (1701) تحت
البند السادس من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتحدث
عن حل الخلافات بالطرق السلمية، وذلك بالرغم من
محاولة أمريكا وضع هذا القرار تحت الفصل السابع من
الميثاق الذي يعطي لمجلس الأمن، عندما يصل النزاع
الى حالة تهدد السلم والأمن الدوليين، حق التدخل
في النزاع عن طريق استخدام القوة العسكرية، براً
وبحراً وجواً. وعندما فشلت أمريكا في مسعاها، فرضت
الفقرة الأخيرة من مقدمة القرار التي تنص على أن
مجلس الأمن: "يقرر أن الحالة في لبنان تشكل
تهديداً للسلم والأمن الدوليين"، وذلك من أجل أن
يؤدي أي تبادل مستقبلي للقتال بين حزب الله
وإسرائيل، الى الإعتماد على الفقرة المذكورة،
واستخدام مجلس الأمن للقوة العسكرية على النحو
السابق، وقد أكدت ذلك بوضوح الفقرتان (16 و 19)
عندما تركت باب مجلس الأمن مفتوحاً لقرار آخر.
أ/2. إن الفقرة رقم (1) من القرار
اعتبرت كل ما يقوم به حزب الله هجمات ضد إسرائيل
وينبغي وقفها، في حين أن ذات الفقرة أوجبت على
إسرائيل وقف الأعمال العسكرية الهجومية، وذلك
إنطلاقاً من أن عمليات إسرائيل التي تعلنها وتقرها
عليها أمريكا، هي عمليات دفاعية، خاصة وأن أمريكا
في النهاية ستكون لها الكلمة العليا في مجلس الأمن
عند تقرير هل العملية العسكرية الإسرائيلية كانت
هجومية أم أنها كانت مجرد عمليات دفاعية لا تخالف
قرارات مجلس الأمن.
أ/3. تهدف الفقرة رقم (3) من القرار الى
نزع سلاح حزب الله، منتصرة بذلك الى بعض القوى
اللبنانية التي تنادي بهذا الأمر.
أ/4. يهدف البند الثاني والبند الثالث
من الفقرة (8) من القرار وكذلك الفقرتان (12 و 13)
منه، الى جعل منطقة جنوب الليطاني خالية من أي
سلاح للمقاومة، ونشر قوات لبنانية وقوات الأمم
المتحدة، في حين:
أ.
أن القرار لم ينشر قوة دولية في الجانب
الإسرائيلي،
ب.
أن قوات الجيش اللبناني غير مؤهلة لمواجهة
إسرائيل،
جـ. أن على قوات الأمم
المتحدة المتمركزة في جنوب الليطاني منع قيام حزب
الله من دخول أي قتال مع إسرائيل، واستخدام القوة
العسكرية الدولية ضد الحزب، [فقرة 12 من القرار].
أ/5. تهدف الفقرات (ب،ج،هـ،و) من البند
(11) والبند (14) الى تأمين حدود إسرائيل عن طريق
مراقبة حدود لبنان البرية والبحرية بواسطة الجيش
اللبناني بمساعدة قوات الأمم المتحدة التي يطلبها،
مع العلم أن هذا الطلب كان معلوماً إبتداءً وهو
تحصيل حاصل من الحكومة اللبنانية، وتم ذلك
بالتنسيق مع الجهات الدولية التي كانت وراء نصوص
القرار وعلى رأسها أمريكا.
أ/6. يهدف البند (15) الى منع وصول أي
سلاح أو إمدادات الى حزب الله، مع أنه مقاومة
شعبية مشروعة وفقاً للمادة (51) من ميثاق الأمم
المتحدة، وأنه هو الذي فرض حقوق لبنان على المجتمع
الدولي، وبالتالي ترك لبنان معتمداً في دفاعه عن
نفسه على جيش ضعيف، تسليحاً وإعداداً ومعدات، في
مواجهة الجيش الإسرائيلي.
ب.
من حيث الجانب الواقعي للقرار:
في ضوء ما تكشف خلال الحرب وبعدها، وخاصة بعد ما
نشره سيمور هيرش وماثيو كالمان، وفقاً لما أسلفنا،
من أن الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان تم
التخطيط لها مسبقاً بتنسيق مشترك بين إسرائيل
وأمريكا قبل أكثر من عام، فإن النصوص السابقة
للقرار هي أقل تشدداً من تلك التي كانت تطمح إليه
أمريكا وإسرائيل معاً.
ومن ناحية أخرى، فإنه إذا كانت النصوص السابقة
تهدف الى إضعاف حزب الله وتجريده من سلاحه، ومنع
أي إمدادات تسليحية له، وجعل المنطقة بين نهر
الليطاني وإسرائيل منطقة عازلة لحماية إسرائيل،
فإننا نجد أن ذلك جميعه ربطه القرار (1701) بإرادة
الدولة اللبنانية وبقرار من الحكومة اللبنانية، في
حين أن ما قبلت به الحكومة اللبنانية الحالية تحت
ضغط ظروف الحرب، لا يعني قبول الحكومات اللبنانية
اللاحقة به:
ب/1. ذلك أن حزب الله هو حزب لبناني وتؤكد
الحكومة اللبنانية ومجلس النواب اللبناني أنه
مقاومة شعبية مشروعة ونالت الحكومة اللبنانية
القائمة ثقة مجلس النواب على هذا الأساس، كما
أسلفنا.
ولذلك، فإن نزع سلاح الحزب أو إضعافه يشكل أموراً
داخلية لبنانية ويستوجب قراراً حكومياً لبنانياً،
في حين أن مثل هذا القرار تحكمه توازنات سياسية
وطائفية ومناطقية في لبنان، ولا تستطيعه حكومة
لبنان الحالية، لأن وجودها وإعطاء مجلس النواب
الشرعية لها، مرتبط بالإقرار بشرعية المقاومة التي
يمثلها حزب الله. يضاف الى ذلك أن فرض أي أمر بهذا
الخصوص من الخارج، على الحكومة اللبنانية بشأن حزب
الله، هو تدخل في الشؤون الداخلية في لبنان، ويمكن
أن يؤدي إلى حرب أهلية. وفي هذا المجال، فإن قرار
مجلس الأمن رقم (1701) يجعل هذا الأمر هو من
اختصاص الحكومة اللبنانية.
ب/2. إن قوات الأمم المتحدة في
لبنان قد تم استحضارها بطلب من الدولة اللبنانية،
وفقاً للفقرة الثامنة من مقدمة القرار رقم (1701)،
لتقديم المساعدة للجيش اللبناني. صحيح أن القوة
الدولية الحالية التي وافق عليها لبنان تسيطر على
المياه الإقليمية اللبنانية وما بعدها في عمق
البحر، وتسيطر على الشريط الحدودي مع إسرائيل، إلا
أن من حق لبنان الإستغناء عنها بقرار يتخذه، ومثل
هذا القرار تحكمه التوازنات اللبنانية السابقة.
ب/3. إن الصورة العدائية لحزب
الله التي عكستها نصوص القرار لم تضف جديداً الى
عداء أمريكا وإسرائيل ومن يسير في فلكهما لحزب
الله من حيث الواقع الذي كان سائداً قبل القرار.
ب/4. إن طلب حكومة لبنان للقوات
الدولية والقبول بوجودها على أرضه وفي مياهه
الإقليمية، قد جاء تحت ضغط دولي لمصلحة إسرائيل،
وتحت ظروف الحرب الضاغطة والتدمير الذي مورس على
الشعب اللبناني من جهة، ورغبة بعض القوى السياسية
والطائفية اللبنانية التي لها مواقف معروفة ضد حزب
الله من جهة أخرى. وهذا يعني أن اختلاف تركيبة
الأغلبية في مجلس النواب اللبناني والحكومة
اللبنانية في المستقبل، ووصول تركيبة مؤيدة
للمقاومة الى الحكم، سوف يعطيها فرصة التحرر من
قوات الأمم المتحدة التي تصادر عملياً سيادة
لبنان.
ب/5. ووفقاً لما تناقلته الأخبار،
فإن فكرة حزب الله وطريقة تنظيمه وكثافة وجوده في
لبنان، وخاصة في الجنوب اللبناني، وعمق تغلغل فكرة
المقاومة المسلحة التي زرعها في وجدان الشعب
اللبناني، لن تؤثر على كفاءته وقدرته على فرض الحق
اللبناني على الواقع حاضراً ومستقبلاً، وذلك رغم
المساندة الأمريكية لإسرائيل. ومما يؤكد هذا، أن
هذا الحزب قد استطاع فرض المطالب اللبنانية على
القرار (1701) وعلى إسرائيل التي كانت تنكر حق
لبنان بهذه المطالب، كما سنبين في البند اللاحق.
جـ. ما حققته المقاومة في القرار رقم
(1701):
تجسدت المطالب اللبنانية التي حملها حزب الله على
عاتقه وفقاً لما أسلفنا، كمقاومة شعبية لبنانية،
في إعادة مزارع شبعا وكفار شوبا، وعودة الأسرى،
وتسليم خرائط الألغام الإسرائيلية على أرض لبنان.
وكانت إسرائيل تنكر هذه المطالب على لبنان، حكومة
ومقاومة شعبية. ورغم إنطلاق إسرائيل، بتأييد من
أمريكا وحلفائها، من منطق القدرة التي يتمتع بها
الجيش الإسرائيلي في مقابل ضعف الجيش اللبناني،
إلا أن ما قام به حزب الله من مقاومة باسلة شلت
الحياة في إسرائيل، فرض مطالب لبنان على القرار
(1701) وعلى المجتمع الدولي، وذلك على النحو
التالي:
جـ/1. بالنسبة لاستعادة مزارع شبعا وكفار
شوبا، فإنها لم تكن ضمن قرار مجلس الأمن رقم (425)
لعام 1978 المتعلق بانسحاب إسرائيل من الأراضي
اللبنانية. ولذلك فإن هذه المزارع كانت تعتبر أنها
داخلة في القرار (242) لعام 1967 المتعلق بانسحاب
إسرائيل من أراض عربية، في حين أن هذا القرار قد
طواه الزمن الأمريكي وأصبحت قيمته تاريخية. لكن ما
قام به حزب الله أدخل المزارع المذكورة ضمن القرار
(425) عندما وردت الإشارة الى هذا القرار في قرار
مجلس الأمن الجديد رقم (1701) المتعلق بلبنان، في
أول بند من فقرات مقدمته، وفصّل عن هذه المزارع في
الفقرات اللاحقة، حيث أدخلها ضمن التسوية بين
لبنان وإسرائيل وذلك على النحو التالي:
جـ/1/أ. لقد ورد ذكر
المزارع في البند السابع من بنود مقدمة القرار
عندما أحال الى المقترحات اللبنانية السبعة.
جـ/1/ب. كما دخلت هذه
المزارع ضمن الفقرة رقم (5) من القرار رقم (1701)،
التي أكدت أن سيادة لبنان وحدوده المعترف بها
دولياً، هي على النحو الوارد في اتفاقية الهدنة
العامة بين إسرائيل ولبنان المؤرخة في 23
آذار/مارس 1949.
جـ/1/جـ. وبعد ذلك، جاءت
الفقرة رقم (10) من القرار (1701) لتطرح بشكل واضح
وصريح موضوع مزارع شبعا ومعالجته ضمن ترسيم الحدود
بين إسرائيل ولبنان، وتكليف الأمين العام بعرض
مقترحاته بخصوص هذا الترسيم وتلك المزارع خلال
(30) يوماً من القرار.
جـ/1/د. والجدير بالذكر هنا
أن إسرائيل تدعي أن المزارع هي سورية وتدخل في
القرار (242) سابق الذكر، في حين أن سوريا أعلنت
أن المزارع ليست سورية وإنما لبنانية، وسبق أن
بعثت سوريا برسالة الى مجلس الأمن بلبنانية
المزارع، ودخل هذا الإقرار السوري في سجلات مجلس
الأمن.
جـ/2. وبالنسبة لمطلب استعادة الأسرى
اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، الذي كانت
إسرائيل ترفضه، وقام حزب الله بأسر الجنديين
الإسرائيليين من أجل مبادلتهما بالأسرى
اللبنانيين، فبالرغم من الحرب التي قامت بها
إسرائيل على لبنان بحجة استعادة الجنديين، وبالرغم
من رفضها طيلة فترة القتال، مبادلة الجنديين
بالأسرى اللبنانيين، إلا أن ما قام به حزب الله،
فرض على القرار (1701) موضوع استعادة الأسرى. وقد
أكد البند رقم (4) من المقدمة على: "تسوية مسألة
السجناء اللبنانيين المحتجزين في إسرائيل على وجه
عاجل". ورغم اختلاف صياغة البند (3) من المقدمة
الذي يقرر ضرورة إعادة الجنديين الإسرائيليين
اللذين أسرهما حزب الله بدون شروط، فإن المحصلة
التي يشهدها الواقع التنفيذي للقرار في الوقت
الحالي، هي واحدة، إذ أن الذي يجري الآن هو
التفاوض على تبادل الأسرى بين لبنان وإسرائيل،
وعلى نحو أصبح معه النص على تسليم الجنديين
الإسرائيليين دون شروط، فاقد القيمة.
وأعتقد أن اختلاف الصياغة المتعلقة بإطلاق
الجنديين الإسرائيليين دون شروط، قد جاء لحفظ ماء
وجه إسرائيل أمام شعبها وأمام العالم، عندما ذكر
البند أن تسليم الجنديين يتم دون شروط. وأعتقد
أيضاً أن ما يجري حالياً من حيث الإرتباط بين
إعادة الأسرى من قبل الفريقين، يكشف أن اختلاف
الصيغة قد جاء نتيجة تفاهم مسبق على أن اختلاف
الصياغة لن يؤثر على التبادل للأسرى.
جـ/3. وبالنسبة لمطلب تسليم خرائط
الألغام، فقد أوجب البند (6) من الفقرة (8) من
القرار أن تقوم إسرائيل بتسليم الأمم المتحدة تلك
الخرائط، وقد قامت إسرائيل بتسليم الخرائط فعلاً
الى الأمم المتحدة بعد وقف العمليات العسكرية.
وترتيباً على ما سبق، فإن قرار مجلس الأمن رقم
(1701)، الذي جاء على أعقاب حرب إسرائيل على لبنان
تحت ذريعة خطف الجنديين، قد دفع إسرائيل والمجتمع
الدولي والأمم المتحدة الى التجاوب مع مطالب لبنان
والمقاومة اللبنانية التي يجسدها حزب الله.
صحيح أن ثمن التجاوب الإسرائيلي الدولي المذكور هو
ما قامت به إسرائيل من قتل ومجازر وتدمير في
لبنان، لكنه صحيح أيضاً أن استرداد الحقوق والدفاع
عن الأوطان والكرامة لا يمكن أن يحدث من غير
تضحيات، وخاصة إذا كان العدو بمثل وحشية إسرائيل.
ولكن لا يجوز أن تبقى هذه الوحشية الإسرائيلية من
غير ملاحقة جزائية دولية، وفقاً للآليات التي يسمح
بها القانون الدولي.
3. وقد يكون القادم في الحرب
القانونية أعظم, وعلى العروبيين أخذ الحذر
والإعداد للأمر عدته:
إن هزيمة إسرائيل وأمريكا في حرب تموز عام 2006,
قد غيّرت الموازين العسكرية والنفسية والدولية
لصالح العروبيين. فعلى المستوى العسكري, أثبت
انتصار حزب الله، أن الانتماء للمبدأ والتضحية في
سبيل الوطن والأمة، عندما يصاحبه تنظيم دقيق مدروس
للمقاومة وقيادة مؤمنة مخلصة, يُفقد العدو عند
الالتحام مزية التفوق في تسليحه العسكري, ويجعل
الانتصار مؤكداً. وهروب سكان إسرائيل من نصفها
الشمالي إلى نصفها الجنوبي، خير شاهد على ما نقول.
وقد أدى أسلوب مقاومة حزب الله وطرائقه في التنظيم
والعمل، وانتصاره على إسرائيل، الى أن ترتفع
معنويات أبناء الأمة الى حدود الشموخ والاعتزاز,
والى أن يستقر في وجدان الأمة أن ذلك الأسلوب وهذه
الطرائق ينبغي أن تشكل الإستراتيجية لكل دولة
عربية. كما أدى الانتصار الى إعطاء المقاومة في
العراق وفلسطين طاقة معنوية لا توصف، جعلت هذه
المقاومة أكثر ثقة بإنتصارها. وفي مقابل ذلك, فقد
أدى انتصار المقاومة الى إحداث هزة كبيرة في
العقيدة العسكرية الإسرائيلية والأمريكية معاً,
والى تمزق داخل المؤسسة السياسية الإسرائيلية,
ولازالت تداعيات الهزة والتمزق في تفاعل مستمر
داخل إسرائيل بل لدى المحافظين الجدد في أمريكا
أيضاً، هذا فضلاً عن إنهاء مقولة أن الجيش
الإسرائيلي لا يقهر.
وعلى المستوى الدولي, فقد أسقطت المقاومة
بانتصارها المشاريع الأمريكية في تمزيق الدول الى
كنتونات ضعيفة وخلق شرق أوسط جديد. وفي الوقت الذي
كانت تعتقد فيه أمريكا أن تواطأها مع إسرائيل في
حرب تموز سوف يخفف الضغط عليها في العراق, فإن
الذي حدث كان العكس تماماً, إذ أن معدل الخسائر
الشهرية لأمريكا في العراق بعد حرب تموز قد تضاعف
عما كان قبل هذه الحرب.
وأمام ما سبق, فإنه لا مناص من القول، أن أمريكا
تأمل في تعويض خسارتها وخسارة إسرائيل في حرب
تموز، عن طريق الحرب القانونية التي سوف تشنها على
خصومها من خلال المحكمة. وما دامت أغلبية القضاة،
بالإضافة الى المدعي العام في المحكمة، من القضاة
الأجانب, فسوف تسعى أمريكا جاهده إلى أن يتولى أمر
المحكمة قضاة من نوعية القاضي ديتلف ميليس أو من
نوعية قضاة محكمة لوكربي. ولن تتورع أمريكا عن
استخدام وسائلها في توجيه المدعي العام لإصدار
قرارات لاستحضار خصومها، سواء بصفة مشتبه بهم أو
بصفة شهود, لممارسة الضغط عليهم والعمل على
ابتزازهم أو إصدار العقاب عليهم، من أجل تحقيق
مصالحها. وإذا كان المطلوب استحضارهم هم من أبناء
سوريا, فإن أمريكا لن تتوانى في توجيه المدعي
العام الى الطلب من مجلس الأمن بإصدار قرار بموجب
الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يأمر فيه
سوريا بتسليم المطلوبين الى المدعي العام
والمحكمة.
إنني أحذر العروبيين من الحرب التي ستشنها أمريكا
عليهم، وهي حرب سلاحها القانون وأداتها محكمة
لبنان. وعلى العروبيين أن يعدّو للأمر عدته.
إنني أتوجه الى المقاومين في لبنان الحريصين على
سيادة بلدهم وحماية دستورهم بالوقوف طويلاً عند
أية طلبات تصدر عن المدعي العام والمحكمة,
والتعامل معها على أنها قرارات صادرة عن محكمة
سياسية وليس محكمة قانونية تبتغي توقيع القصاص
العادل بمن ارتكبوا جريمة اغتيال المرحوم الحريري
ورفاقه، وأن توقفهم هذا سيكون استناداً إلى أن
اتفاق المحكمة ونظامها قد تجاهلا دستور لبنان
وسيادة لبنان.
وأذكر بأنه لا تستطيع أية حكومة لبنانية من
الناحية الواقعية، أن تنفذ طلبات المحكمة والإدعاء
العام، بمطاردة المطلوبين وإلقاء القبض عليهم
وحبسهم بالقوة ما دامت المعارضة التي تلتزم بدستور
بلدها تشكل سنداً لهم, إذ الجيش والأمن، أمام
الإنقسام بين موالاة ومعارضة سوف يلتزم الحياد،
وعند هذه النتيجة, أي ما دام أن قرارات المحكمة
والمدعي العام ستجد هذا المصير في لبنان, وعدم
واقعية استخدام مجلس الأمن عقوبات الفصل السابع
الاقتصادية والعسكرية ضد دولة لبنان, لأن في ذلك
تجاوز على المطلوب, نقول عند هذه النتيجة, فإنه
يمكن إفشال اتفاق محكمة القرار (1757) السياسية،
ليصار بعد ذلك إلى إنشاء محكمة تحاكم قتلة المرحوم
الحريري ورفاقه بدلاً من محكمة سياسية تحاكم
الخصوم السياسيين لأمريكا.
وفي المحصلة أخيراً أقول:
باعتقادي أن من يفكر في المأساة المفروضة على
لبنان فرضاً، يجد أن المصالح الإسرائيلية
الأمريكية أو الأمريكية الإسرائيلية هي التي تقف
وراء هذه المأساة. فإسرائيل تريد أن تظل محتلة
لأجزاء من أرض لبنان بمباركة أمريكا، دون أن يكون
لأي لبناني الحق في مقاومتها. والمقاومة اللبنانية
التي أثبتت فاعليتها وجدواها، متمثلة بحزب الله،
وخاصة في حرب تموز، تأبى الركوع مهما كانت
التضحيات والدم المطلوب. وحيث أن أمريكا وإسرائيل
قانعتان بأن مصدر قوة المقاومة هو سوريا وإيران،
فإن الهدف الأمريكي والإسرائيلي يصبح هزيمة
الدولتين من خلال لبنان. ومما يعزز هذا الهدف عند
أمريكا، فشلها في العراق، حيث لا تريد أن تعترف أن
هذا الفشل يرجع الى عجزها وسوء تقديرها وخطأ
حساباتها، وأقنعت نفسها وشعبها وحلفاءها، أن هذا
الحال الذي وصلت إليه في العراق، سببه التدخل
السوري الإيراني هناك. ويبدو أن أمريكا قدرت أن
سوريا هي الحلقة الأضعف وأن هزيمتها، بالتهديد
والتخويف والدس بينها وبين دول الجوار، ممكنة،
وأنه إن تحقق هذا، فسوف تنقطع شرايين التغذية وسبل
الحياة لحزب الله والمقاومة، وعندها ستكون قد حققت
نصريْن هي بأمس الحاجة إليهما لحفظ بعض الماء الذي
يتدفق في المنطقة من وجهها: نصرٌ على سوريا وآخرٌ
على حزب الله، وبعد ذلك ستظل إيران وحيدة في
الميدان يسهل التعامل معها. وهكذا، فإن سوريا
أصبحت الهدف من خلال لبنان. لكن المقاومة انتصرت
وانتصرت سوريا معها، وافتضح مطلب أمريكا وهدفها
بعد هذا الانتصار. وعند هذه النتيجة تثور عدة
تساؤلات واقعية ذات أبعاد قانونية كشفتها حرب
تموز:
-
هل كان مقتل المرحوم رفيق الحريري قد جاء في هذا
السياق لكي تصبح سوريا متهمة بالقتل كوسيلة للضغط
عليها وابتزازها لتحقيق المطالب الأمريكية، ومنها
الإنهاء الطوعي من قبل سوريا لحزب الله والمقاومة؟
-
وهل جاء المحقق الدولي ميليس في هذا السياق أيضاً،
ليكتب تقريريه اللذين قدمهما الى مجلس الأمن،
ويبدأ كل منهما باتهام سوريا، ثم بعد ذلك يحشد
الدلائل والقرائن والشهود على نحو يعزز هذا
الاتهام؟ في حين أن أقمار التجسس الأمريكية
والإسرائيلية لديها جميع التفصيلات المسجلة بأشرطة
واضحة عن قاتل الحريري؟
-
وهل مشروع اتفاق المحكمة ذات الطابع الدولي
ونظامها الذي تمت صياغته في مجلس الأمن بمعرفة
أمريكية وصهيونية، وتم تفصيله ليجعل المحكمة، التي
من المفروض أن تحاكم قتلة الحريري، محكمة سياسية
توجهها أمريكا، دون السماح بمناقشته أو تعديله
ليتفق مع الدستور اللبناني، نقول، هل ذلك تم في
هذا السياق أيضاً؟
-
وهل الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في تموز
2006 لتدمير حزب الله وبالتالي هزيمة سوريا، كان
وسيلة أخرى رديفة بعد أن فشل الضغط ومحاولات
الابتزاز، وجاءت في السياق المذكور أيضا؟
- وهل قرار مجلس الأمن رقم (1701) الذي
اضطرت أمريكا إلى استصداره من مجلس الأمن لحفظ ماء
وجه إسرائيل، بعد فشلها في الحرب على لبنان،
واستحضرت من خلاله قوات اليونيفيل، كان جزءاً
مكملاً في مجريات السياق ذاته؟
- وهل جاء في هذا السياق أيضاً قرار
مجلس الأمن رقم (1757)، الذي طوى صفحة قواعد
القانون الدولي وأحكام الدساتير ومبدأ السيادة؟
وحتى لا أخالف قناعاتي المبنية على متابعات حثيثة
للمشهد العام أقول: إن إجاباتي على جميع التساؤلات
السابقة هي بالإيجاب.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلا او جزءا الا
بموافقة تحريرية من
ادارة المنتدى
.
. |