محاور السلطة
لا
ينقسم المجتمع إلى طبقات، إنما إلى أفراد، وإن كان
هناك "صراع" فهو صراع أفراد لا "صراع طبقات"،
والصراع يدعو إلى التحالف، والتحالف يجر إلى
"محاور سلطة" وليس إلى طبقات. والعلاقة بين رموز
السلطة، أو الصراع الذي ينشأ داخل المحور الواحد
أو بين محاور متباينة، أو التحالف الذي يطفو على
السطح أحيانا... مجموع هذه العلاقات نقترح نعتها
ب: "علاقات سلطة".
إن انتماء جماعة من الناس لمحور سلطة واحد، لا
يعني أن رموز السلطة التي تحركهم واحدة بالضرورة:
فقد تتحرك مجموعة بشرية باتجاه هدف واحد مكونة
"محور سلطة" لكن الرموز التي تحرك كل فرد تختلف،
فهذا تحرك بدافع اقتصادي والآخر بدافع جنسي
والثالث رغبة في الاستشهاد... فرموز السلطة إذن
مختلفة رغم أن المحور واحد. وحتى في الحالات التي
تكون العقيدة الموجهة للمحور واحدة، نظريا، فإن
فهم هذه العقيدة ذاتها يختلف داخل المحور الواحد
(الجماعة التي تكونه)، بل ربما من فرد لآخر، وغياب
التجانس التام داخل "المحور السلطوي" هو ما يجعله
قابلا للانفصام على نفسه في أي لحظة. هكذا نعتقد
أننا نؤول الوقائع والأحداث أحسن عندما نقرأها هذه
القراءة المختلفة.
في أي علاقة سلطوية، لا وجود للموقف الوسط، الحياد
لا وجود له إلا في مخيالنا الجمعي، لأنه عند
احتدام الصراع، أي صراع، تتكشف المواقف الحقيقية
التي تجعل كل واحد ينضم للمحور الذي يرضي ميوله أو
يدافع عن مصالحه، إن "الحياد في زمن الصراع تواطؤ"
(كما يقول حيدر حيدر)، ودفع التحليل بهذا الاتجاه
يجعل من الحياد مجرد موقف سطحي يخفي الموقف
الحقيقي، ويختفي بمجرد احتدام الصراع، أما المحايد
فلا محل له من الإعراب (حسين مروة).
لكن هل يعني ذلك أن الصراع يبقى صراع محاور ولا
ينزل لمستوى الأفراد داخل المحور الواحد؟
قطعا لا، لأن ممارسة السلطة، كما أسلفنا، تتم على
الأفراد أيضا، أي داخل كل محور على حدة تختفي
ممارسات سلطوية عديدة: سلطة المال، سلطة الجمال،
سلطة الجنس... يجب إذن أن نميز بين "السلطة
المحورية"، كسلطة جماعية، و"السلطة الفردية":
علاقة الناس بعضهم ببعض كأفراد، أو علاقة الرموز
المختلفة، أي ما يكون اليومي في التاريخ، وهي
علاقات لا عد لها ولا حصر يسميها بروديل (1987 ص9)
بالرتابة: إنها تحريضات واندفاعات وغرائز ونماذج
أو طرائق والتزامات... متراكمة شذر مذر، تغرق فيها
البشرية إلى النصف، وتشكل اليومي والرتيب. ولأنها
تشكل هذا اليومي بالضبط فإن الذاكرة الجماعية،
خاصة المدونة، لا تحتفظ بها عادة. وهي لأجل ذلك
أيضا تبقى في حدود ممارسة السلطة الفردية التي لا
تتدخل بشكل فاعل في التاريخ إلا بعد أن تكتسب
أهمية أكبر- وهذا ما اقترحت نعته في مكان آخر (غوردو
2000) بالحدث/خارج التاريخ - أو من خلال السلطة
الجماعية. لا يعني ذلك تغييب الفردانية من التاريخ
- التاريخ لم يصنعه كل الناس بشكل متساو - لكن فقط
التأكيد على التفاعل بين الفردانية والجماعية
لتشكيل التاريخ البشري: فحب الزعيم (أي زعيم)
لجاريته (أي جارية) يجعلها تمارس عليه سلطة عبر
إملاءاتها ونزواتها، لكن ذلك لا يعدو كون هذه
العلاقة السلطوية، علاقة فردية، وخطورتها لا شك
ستتضاعف إذا قبل الزعيم المعني آراء جاريته، في
توريث الحكم مثلا، وطبقها على المجتمع، فتتنزل
السلطة على الجماعة، فتؤثر فيها... لتدفعنا إلى
التساؤل: كم من عرش عصف به بسبب آراء الجواري؟
يمكن أن نقدم، اعتمادا على الوقائع التاريخية،
العشرات من الأمثلة عن "علاقات سلطة" مختلفة،
بعضها مثير للغرابة فعلا، تتحكم فيها رموز سلطة
تشكل اليومي والرتيب لنا جمعا: إن واقعنا الراهن
قد تأسس على عدد كبير جدا من الأحداث التاريخية،
لكنه تأسس أيضا، ومن المؤكد طبعا، على أضعاف هذا
العدد من الأحداث خارج/التاريخية (المسكوت عنها)
والتي تساهم، بصمت، في حركة التاريخ... بعبارة
أخرى، يثيرها عادة زملاؤنا الفلاسفة، إلى أي حد
تتحمل رفة جناح الفراشة المسؤولية عن الاضطرابات
الهوائية والأعاصير المدارية؟
هذه أمثلة عن علاقات سلطة داخل المحور الواحد
والتي تسبب في كثير من الأحيان في تفجيره وبروز
الصراع داخله، أما الصراع بين "محاور السلطة"
فيعني في العمق أن تضادا ما قد وقع بين هذه
المحاور في مصالحها، أو أن محورا ما يحاول احتواء
محور، أو محاور أخرى، عبر أعمال العنف التي تجر
إلى القتل والنهب والاغتصاب... وهي أفعال يرفضها
المجتمع بين أفراده، وإن نظريا، بفعل أيديولوجيا
القانون كعقد اجتماعي، لكن الحرب والثأر، وإبداعات
بشرية أخرى، تحمل ضمنيا أيديولوجيا مبيحة، بل
مشجعة على هذه الأفعال "الكلبونية" ضد المجتمعات
الأخرى/الأعداء، حيث يتحول أكبر السفاحين إلى
"بطل" يحق له أن يفخر ببطولاته/جرائمه (غوردو
2004).
مع التنصيص على أن كل "محور سلطة" يظل، هو نفسه،
قابلا للتصدع والانشقاق في أية لحظة، رغم أن عقيدة
المحور الواحد تفترض ضمنيا رفض العنف بين أعضائه،
بيد أن استحالة الحفاظ على هذه الوَحَدَة (بفتح
الحاء) - بفعل تلاشي الانسجام المفترض نظريا بين
أجزائها - يعود إلى غياب تجانس مطلق بين هذه
الأجزاء، نظرا لخاصية الوعي التي يتمتع بها الكائن
البشري دون غيره من الكائنات.
. |