تصاعدت
نبرة وحضور اليهود المعادين للصهيونية
ولسياسات إسرائيل الوحشية في السنوات
الأخيرة، وما تزال تتصاعد. يحدث هذا في
أوروبا على وجه التحديد، كما في الولايات
المتحدة، ويحدث أيضاً في إسرائيل. وبرغم
أنه يحدث في أغلبه وسط النخب الثقافية
والفكرية والأكاديمية، وقليل منه يصل إلى
وسائل الإعلام الرئيسية (mainstream
media)، فإن هذا لا ينتقص من أهميته
وإيجابيته. أحد المنعطفات الزمنية لتجدد
واستقواء النقد اليهودي التقدمي لإسرائيل
والفكرة الصهيونية هي الانتفاضة
الفلسطينية الأولى 1987، التي فتحت عيون
كثيرين في العالم على مظالم ووحشية
إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. الأساليب غير
العنفية التي تبنتها تلك الانتفاضة خاصة
في سنواتها الأولى كانت المفتاح الأساس
لكثير من القناعات المغلقة في الغرب وغيره
حول مظلومية إسرائيل وبراءتها المفترضة
والافتراضات البدهية بوجوب دعمها من دون
نقاش. ليس معنى هذا غياب وجود نقد يهودي
للفكرة الصهيونية في مرحلة ما قبل
الانتفاضة. فذلك النقد ترافق تاريخياً مع
بروز أول بذور الصهيونية وتبلورها في إطار
الطموحات القوميات الأوروبية مع هرتزل
وحتى قبله في القرن التاسع عشر. آنذاك كان
رفض الصهيونية يقوم على أسس دينية يهودية
بحتة، وعلى اعتبار أن الصهيونية هي في
التحليل الأخير خروج عن مسار القناعات
التقليدية اليهودية.
امتد الجدل المعاصر في السنتين الأخيرتين
ونشرت كتب عدة بالغة الأهمية من ضمنها
كتاب آلان هارت (جزءان بالانكليزية)
بعنوان «الصهيونية: العدو الحقيقي
لليهودية»، وكتاب عالم الدين اليهودي
الكندي ياكوف رابكن (بالفرنسية ثم ترجم
إلى العربية) بعنوان «باسم التوراة: تاريخ
المناهضة اليهودية للصهيونية»، وكتاب
باسكال بونيفاس «من يجرؤ على نقد إسرائيل»
(بالفرنسية ثم ترجم للعربية)، وهناك أيضاً
كتاب حديث بعنوان «أساطير الصهيونية»
(بالانكليزية) للبريطاني جون روز. لكن
تمثلات ذلك الجدل على مستوى الناشطين
السياسيين لا يقل أهمية. ففي بريطانيا
أصدرت مجموعة كبيرة من اليهود البريطانيين
وتضم أسماء كبيرة مثل المؤرخ إريك هوبسبوم
والكاتب المسرحي هارولد بنتر من ضمن 350
شخصية أخرى بياناً بعنوان «اصوات يهودية
مستقلة»، انتقدت فيه إسرائيل وانتقدت فيه
أيضاً المؤسسة اليهودية الرسمية في
بريطانيا بسبب تأييدها غير الناقد
لإسرائيل. وفي المانيا هناك مجموعة من
اليهود الألمان طالبت الاتحاد الأوروبي
والولايات المتحدة بفتح الحوار مع الحكومة
الفلسطينية التي شكلتها «حماس» بعد فوزها
بالانتخابات العام الماضي.
وفي
ألمانيا ذاتها، حيث مقاربة كل ما له شأن
بإسرائيل تمتاز بحساسية بالغة ومبالغ فيها
بسبب إرث الهولوكوست، صدر العدد الأخير
(صيف 2007) من دورية Internationale
Politik الرصينة وربما تكون الأهم في
ألمانيا كلها في مجال العلاقات الدولية،
ليحمل مقالاً جريئاً في نقد إسرائيل
للكاتب اليهودي ألفرد غروسر، الحائز على
إحدى جوائز السلام ذات الشأن من قبل اتحاد
الكتب الألماني. غروسر ولد في فرانكفورت
عام 1925 لأبوين يهوديين هربا من هتلر إلى
فرنسا يوم لم يتعد غروسر العاشرة. اشتغل
غروسر في الصحافة والكتابة وظل موزعاً بين
هويتين ألمانية وفرنسية، وعمل على محاربة
كل أنواع العنصرية واللاسامية إنطلاقاً من
تجربة عائلته الصغيرة وعائلة أبيه التي
قضى بعضها في محارق هتلر. يذكر في مقاله
هذا أنه تحدث مع البابا بينيدكتوس السادس
عشر بعد عدة أيام من إلقاء محاضرته
الشهيرة في جامعة ريغنبيرغ في أيلول
(سبتمبر) 2006 وسأله لماذا لم يشر في تلك
المحاضرة إلى «اللاسامية المسيحية»؟
غروسر من الأصوات الإنسانوية العميقة في
فرنسا. وهو يكتب بروحية شفافة متجاوزة
للولاءات الضيقة. في مقالته هذه يقول إن
«التضامن مع معاناة الآخرين وفهمها» هو
قيمة أوروبية أساسية، ومن الغريب أنها
تتوارى عندما يتعلق الأمر بالصراع
الإسرائيلي - الفلسطيني. ويقول إنه لما
أصدر كتابه الأول عام 1953 عن معاناة
الألمان جراء قصف الحلفاء لمدن هامبورغ
ودرسدن فإنه أراد أن يقول إن التضامن
الأولي مع معاناتهم هو البوابة الأوسع
والأكثر صحة كي يفهموا معاناة من طحنهم
هتلر من اليهود ومن غير اليهود. وبنفس
الروحية يقول إنه من المفهوم أن تصدر عن
الفلسطينيين أنواع تطرف قصوى بسبب عدم
الاعتراف الأولي بمعاناتهم وخسائرهم.
غروسر يشير، في نفس السياق، إلى كتاب
سوزان سونتاغ الشهير «حول معاناة
الآخرين»، وهي اليهودية الأميركية الذائعة
الصيت (والتي توفيت عام 2004). لكن آراء
غروسر أكثر جسارة وإنسانوية ووضوحاً. وهو
يقول: لا نستطيع أن نضع رؤوسنا في الرمال
ونتهرب من السؤالين الكبيرين اللذين
يطرحهما العرب والفلسطينيون دوماً: لماذا
ندفع ثمن أوشفيتز (المعتقل الذي نفذ فيه
النازيون المحرقة بحق اليهود)، ولماذا
يُطرد الفسطينيون من أرضهم ولا يُسمح لهم
بالعودة، بينما تستقبل الأرض نفسها أي
يهودي في العالم؟
لكن
العدد نفسه من الدورية التي نشرت مقال
غروسر تضمن مقالاً آخر فيه رد شديد عليه
وهجوم قاس على شخصه كتبه ماثياس كونتزل
وهو كاتب ألماني يهودي ومؤلف كتاب سيصدر
حديثاً بعنوان «الجهاد وكراهية اليهود:
حول الحرب الجديدة ضد اليهود». في هذا
الرد يصنف كونتزل غروسر في قائمة اليهود
الذين يتخذون من نقد إسرائيل وسيلة للظهور
الإعلامي، وهو ينتقد معظم إن لم نقل كل
الأسماء اليهودية الكبيرة التي تنتقد
إسرائيل وتعتبر نفسها ضمن شريحة ما يُعرف
بـ «اليهود الجيدين أو الطيبين» (Good
Jews). كونتزل حاول تنفيد آراء غروسر إزاء
عدوانية الفكرة الصهيونية وإقصائها للآخر
الفلسطيني وعنصريتها. وأراد أن يُقنع
القارىء بأن الأنوية والتجمعات الأولى
للمشروع الصهيوني في فلسطين كانت تجمعات
تعاونية لاقت ترحيباً من قبل الفلسطينيين
الذين وجدوا في قدوم المهاجرين اليهود
«فرصة لتحسين ظروفهم الاقتصادية». لكن
«الترحيب والتعاون الفلسطيني» (الذي لا
وجود له من ناحية تاريخية حقيقية) تعرض
بحسب ما يرى كونتزل إلى ضربات متلاحقة من
قبل تيار الحاج أمين الحسيني (الأصولي)،
وهو التيار الذي استمر في ضرب «المتعاونين
الفلسطينيين» في السنوات اللاحقة وحتى
سنوات التسعينات في قطاع غزة (على يد
«حماس» و «الجهاد الإسلامي»). ويخلط
كونتزل هنا، ربما قصداً وعمداً، بين
«التعاون» المتخيل الذي يفترضه بين
الفلسطينيين والتجمعات الاستيطانية
الأولى، و»التعاون» الجاسوسي بين العملاء
الذين كان يُسقطهم جهاز الأمن الإسرائيلي
(الشين بيت) ويستغلهم للتجسس على المنظمات
الفلسطينية والناشطين في المدن
الفلسطينية. لكن بعيداً عن التهويمات
التاريخية التي يربط من خلالها ما لا يمكن
ربطه فإن أخطر ما يطرحه كونتزل هو ضرورة
التوقف عملياً عن نقد إسرائيل، لأن مثل
هذا النقد ينطوي على «لاسامية» واضحة كانت
أم متضمنة.
وهو
يقول هنا إن «التفكير الأوروبي» السائد
إزاء نقد إسرائيل حاول أن يؤسس لإطار عملي
يتم من خلاله الفصل بين «نقد إسرائيل»
و»اللاسامية». وهذا الإطار يعتمد على
ثلاثة عناصر: الأول هو أن لا تتم مساواة
أو تشبيه السياسة الإسرائيلية بالسياسة
النازية وأن لا يتم استخدام أي رموز أو
تعبيرات معروفة بصفتها اللاسامية لوصف
إسرائيل، والثاني: أن لا يتم إنكار حق
إسرائيل في الوجود في سياق أي نقد يوجه
لها، والثالث: أن لا تكون هناك ازدواجية
خطاب أو ازدواجية مطالب حيث يُطلب من
إسرائيل أن تقوم بما لا تُطالب به أي دولة
ديموقراطية أخرى. ونقاد إسرائيل برأيه
ينقسمون إلى شريحتين، واحدة تقول بضرورة
إفناء إسرائيل علناً وتعتمد على
«بروتوكولات حكماء صهيون» كمرجعها الفكري
ومن هؤلاء إيران و «حماس» و «حزب الله»,
والثانية تضم اولئك الذين يجاملون الشريحة
الأولى عبر نقد إسرائيل من منطلقات أخرى
بالنسبة لكونتزل كما لكل غلاة الصهيونية
الآن وبالأمس وغداً، إسرائيل فوق النقد
وفوق التاريخ.
لكن
هؤلاء الغلاة كانوا معنا طوال بروز وصعود
الفكرة الصهيونية وليسوا جدداً على
الساحة. الجدد الذين يستحقون الاهتمام
والترحيب هم تيار الفرد غروسر المتشكل من
اليهود غير الصهاينة الذين ينتصرون
لإنسانيتهم قبل أي شيء آخر. والترحيب
الحقيقي بهم ليس بلاغياً من ناحية ولا
يتوقف عند استقبالهم في منتدى هنا أو
مؤتمر هناك، بل في تبني خطاب عربي وإسلامي
إنسانوي يطرح جانباً كل الترهات العنصرية
الإثنية والدينية المعتمدة على تخريفات
«بروتوكولات حكماء صهيون» أو ما شابهها.
كاتب فلسطيني اردني - جامعة كامبردج.
|