خضع مفهوم الديموقراطية، مثله مثل بقية المفاهيم
الحديثة، لتغيرات وأقلمات عديدة، ومتغايرة، مع أن
كلمة الديموقراطية ظهرت، ربما، لأول مرة، في أثينا
اليونان القديمة، وعنت وقتها حكم الشعب، حيث كانت
الأنظمة تنصف وفق تصنيفات ثلاثة، أولها حكم الفرد
الواحد، أو النظام الملكي، وثانيها حكم بعض
الأفراد، أو النظام الأرستقراطي، وثالثها حكم
الكثير من الأفراد، أو النظام الديموقراطي.
ثم تغايرت حياة هذا المفهوم، حين جرت محاولات
وأده في العصور الوسطى، ولم تتجدد عملية إعادة
أقلمته في العصر الحديث إلا في النصف الثاني من
القرن الثامن عشر، وبالتحديد مع أنوار الثورة
الفرنسية، حيث يمكن اعتبار كتاب "العقد الاجتماعي"
لـ"جان جاك روسو" بمثابة البناء النظري الحديث
للنظام الديموقراطي وسيادة الشعب. وكان هدف "روسو
– وقتئذ - وضع حدّ لديكتاتورية ملوك فرنسا وأوروبا
الذين كانوا يزعمون أنهم يمثلون ظل الله على
الأرض. وطالب بأن تكون السيادة للشعب، عبر انتخابه
لممثليه الذين يحكمونه من خلال القوانين العامة
المجمع عليها، وعليه فإن أقلمة الديموقراطية في
العصر الحديث، عنت انتقال مشروعية الحكم من القمة
إلى القاعدة، ومن فرد واحد إلى كافة أفراد الشعب.
قد تكون الديموقراطية أقل الأنظمة السياسية
سوءاً كما يقال، لكنها برهنت على الدوام بأنها
أفضل نظام سياسي ممكن. وهي تعني مهما اختلفت
أقلماتها وحمولات مركباتها، حكم الشعب.
في الحالة العربية، تشكل الديموقراطية أحد
المسائل الملحة التي لا تزال مطروحة في الساحة
السياسية والثقافية العربية. وكثيراً ما يتم طرح
السؤال حول إمكانية تطبيق الديموقراطية في أي
مجتمع عما إذا كان المجتمع في حد ذاته مؤهلاً
لممارسة الديموقراطية بشكل صحيح، أم أنه لا يملك
المستوى المطلوب من الثقافة السياسية الذي يؤهله
لهذه الممارسة. وهناك أطروحة مفادها أن المجتمعات
العربية ليست مؤهلة للديمقراطية. بينما حقيقة
الأمر تبيّن أن هذه الأطروحة هي حجة الخطاب
التسلطي العربي الذي لا يؤمن إلا بـ"ديموقراطية"
ملحقة بشعاراتية مخادعة، مثل الديمقراطية الشعبية،
الديموقراطية المسؤولة، ديموقراطية الجماهير، وسوى
ذلك.
إن الديموقراطية ممارسة وإبداع يومي، تتكفل
مختلف عناصره تخفيف الضرر الناجم عن تكليف قطاع
واسع من الناس لممثلين منهم بإدارة شؤونهم خلال
فترة معينة من الزمن. ويعلمنا التاريخ أن الشعوب
كالأفراد لا تتعلم إلا من تجاربها الناجحة
والفاشلة، وأضمن وسيلة للتعلم هي الشروع في التعلم
باكراً. مع أن الديمقراطية لا يمكن تصورها من دون
جملة المفاهيم المرتبطة بها، كالمواطنة وحقوق
الإنسان واستقلال القضاء وحرية الرأي والتعبير،
والتداول السلمي للسلطة وغير ذلك. وعليه فإن
التعامل مع الديموقراطية، ينطلق من اعتبارها
منظومة تاريخية في طور التجريب، وعلى المهتمين
بالشأن العام المشاركة في تطويرها، بوصف
الديموقراطية مشروعاً سياسياً، يهدف إلى تجسيد
المساواة والعدالة والحرية والكرامة والسلم التي
يريدها لتسود في المجتمع، وتتحكم في مناحيه، ولها
آليات معينة ومحددة تماماً.
وهنا نشير إلى أن اختزال الديموقراطية في بعدها
الإجرائي يحولها إلى مجرد أداة لضبط موازين القوى
القائمة، بينما يؤدي تحميلها مضامين قيمية بعينها
إلى انتهاك مبدئها الأساس، وهو ضمان حق التعددية
الفكرية واختلاف وتباين الآراء والبرامج، أي حرية
الاعتقاد والتفكير والوعي التي تعتبر أساس الحريات
العامة ومنطلقها.
ومازالت بلداننا العربية تعيش مراحل تتسم بصعود
مختلف الولاءات ما قبل المدنية، ولم نشهد قيام
الدولة الحديثة ومرجعياتها كذلك. ومع الإقرار
بحاجة مجتمعاتنا للديموقراطية لإقامة الحكم
الصالح، وتشييد المواطنة، وتحقيق المساواة
والعدالة وتكافؤ الفرص، فإنها بحاجة أيضاً إلى
التحرر السياسي والاقتصادي بما يعني بناء
مجتمعاتنا الحرة والمتحررة وثقافتنا القومية
وهويتنا الوطنية.
ويمكن القول أن أقلمة الديموقراطية قد تختلف من
إقليم إلى آخر، على أن نفهم الإقليم ليس بوصفه
جغرافيا فقط، بل بشراً ومحيطاً وبيئة مكتنفة.
فالديموقراطية في الهند لها مركباتها وحمولاتها
وتحققاتها المختلفة عن الديمقراطية في فرنسا
مثلاً، لكن، في جميع الأحوال، لا يمكن وصف أي نظام
شمولي، في كل الأوقات، بأنه نظام ديمقراطي، إذ لا
يمكن أن تكون هنالك ديموقراطية في ظل استئثار
الحزب الحاكم بالسلطة، أو في ظل قوانين الطوارئ
والأحكام العرفية، بل ولا يمكن تحقيق المواطنة في
ظل مثل هذه الأحكام.
كاتب سوري |