في إحدى مداخلاته التي لا تحصى في
الِشأن اللبناني كان الرئيس الفرنسي
السابق(لتوه ) جاك شيراك يحاجج في
مسألة الأقلية والأكثرية في لبنان
بقوله: الموالاة تحكم طيلة المدة التي
انتدبت خلالها من طرف الناخبين ثم
تتقدم في الاستحقاق الانتخابي التالي
مع حصيلة عملها فان كانت الحصيلة
مناسبة جدد الناس ثقتهم بها وإن لم
تكن مناسبة اختاروا المعارضة. ويختم
بما معناه : لا يمكن للمعارضة
اللبنانية أن تتجاوز أمد الدورة
البرلمانية وتطالب بالمشاركة(الثلث
الضامن) في حكومة انتدبها الناخب
لبرنامج مختلف.
كان الرئيس شيراك جادا في قوله المرسل
عبر فضائيات لبنانية مقربة من الحكومة
ولعل النظر في تعابير وجهه خلال
المقابلة لا يثير مقدار ذرة من التوجس
إزاء ما يقول بل ظهر بمظهر حكيم
ديموقراطي مجرب إذ لفت انتباه محاوريه
الصحافيين اللبنانيين المتشوقين لسماع
المزيد" ... حكومة السنيورة تعاني
صعوبات مع المعارضة وهناك من لا يرضى
عنها. وهل تظنون أن حكومتي في فرنسا
تحظى برضى الجميع".
لم يغير درس شيراك "التربوي" موقع
شعرة واحدة في طبيعة المعادلة
اللبنانية فقد احتسب لمصلحة الحكومة"
الفاقدة للشرعية" على حد تعبير
المعارضة وكان الاحتساب في محله خصوصا
أن الحجة نفسها ما برحت تطلق في وجه
المطالبين بحكومة "وحدة وطنية" بكلام
آخر دخلت الحجة في سياق خطاب تعبوي
ينزع إلى الحشد والاصطفاف خلف وجهة
فئوية لا يكف أصحابها عن عرضها بحلة
وطنية وديموقراطية.
خرج " الدكتور شيراك" كما كان يسميه
الراحل ياسر عرفات خرج من الحكم في ظل
رهان من طرف بعض الواهمين اللبنانيين
في صفوف الفئتين الموالية والمعارضة
أن بلاده ستقول كلاما آخر في المسألة
اللبنانية في عهد نيكولا ساركوزي وما
عزز هذه الأوهام أن الرئيس الجديد طرح
شعار "القطيعة" مع سياسات سلفه. بيد
أن الوهم اللبناني لم يعمر طويلا
(لحسن الحظ). فإذ بمعزوفة الدفاع عن
الديموقراطية اللبنانية الفريدة من
نوعها تنطلق مجددا من أروقة القرار في
باريس وكأن لا "قطيعة" ولا من يحزنون
الأمر الذي يحملنا مجددا على
الاستنتاج أن فرنسا لا تبحث عن مساومة
جديدة في لبنان بل عن " دعم فريق 14
آذار بوضوح " على ما قال وزير
الخارجية الفرنسي الجديد برنار كوشنير
وهو للمناسبة اختصاصي ناجح و مجرب في
تغطية التدخلات الأمريكية والأوروبية
بإنشاء ديموقراطي وإنسانوي من نوع" أن
تدخل فرنسا العسكري في العراق بعد
سقوط بغداد يسرع في تحقيق السلام في
هذا البلد"
والحق أن الإنشاء الديموقراطي
المرسل على لسان شيراك و كوشنير
يحتاج إلى مغفلين كثر حتى يصبح حجة
مرشحة للتداول كما يحتاج إلى قادة
سياسيين لا تحد أقوالهم حدودا أخلاقية
على غرار الكثير من قادتنا الذين
تنهشهم الكبرياء نهشا إلى حد استبطان
الإنشاء نفسه وجعله سلاحا مضحكا في
معادلة " يا قاتل يا مقتول" .
طبعا لم يبدأ التاريخ الفرنسي مع
شيراك وكوشنير ففي زمن ليس ببعيد كان
الماريشال بيتان والجنرال ديغول
يتنازعان الأقلية والأكثرية في فرنسا
ويتبادلان تهم العمالة للأجنبي النازي
المحتل بالنسبة للأول والبريطاني
بالنسبة للثاني. كانت الأكثرية
الساحقة المنتخبة "ديموقراطيا" تقف
إلى جانب بيتان الذي اختار التعامل مع
الاحتلال لإنقاذ " فرنسا" وكانت
الأقلية الضئيلة مع ديغول الذي اعتبر
حكومة فيشي "فاقدة للشرعية" وأطلق من
لندن نداء المقاومة الشهير في 18
حزيران ـ يونيو لإنقاذ "فرنسا" أيضا.
كان من الطبيعي إذن أن تتغير قواعد
اللعبة السياسية الديموقراطية في لحظة
الاحتلال وبالتالي أن تنزع الأقلية
الوطنية اعترافها بالأكثرية المتعاملة
مع المحتل وأن تحل محلها معادلة " يا
قاتل يا مقتول" .. لكن إزاء المحتل.
عندما تحتل إسرائيل أرضا فلسطينية
وسورية و لبنانية و تحتل أمريكا أرضا
عراقية وتهدد باحتلال أراض أخرى وقلب
أنظمة حكم عربية وعندما يطلب
المحتلون من دول المنطقة اعتماد "الديموقراطية"
في معرض طلب الخضوع والاستسلام يصبح
من الصعب مطالبة الأقلية باحترام
الأكثرية والاعتراف بها بوصفها منتخبة
خصوصا عندما تحظى الأكثرية نفسها
بعطف ودعم وحماية الغزاة.
إن ما يجري في لبنان و إلى حد ما في
فلسطين يتعدى قواعد اللعبة
الديموقراطية المتعارف عليها في بلد
مستقل ومستقر .فما بالك إذا كانت
اللعبة السياسية شديدة التعقيد في بلد
تتعايش فيه كل طوائف الشرق الأوسط
وإتنياته ويتطلب الحكم فيه ثقافة
توافق دائم ومساومة دائمة في حالة
الاستقرار والسلم وتجردا وطنيا رفيعا
في حالة المخاطر الاجنبية الداهمة.
نعم الديموقراطية تعني حكم الشعب
لنفسه بنفسه إذا كان سيدا وحرا
ومستقلا وليس محتلا ومهانا. نعم
الديموقراطية تقتضي خضوع الأقلية
المنتخبة للأكثرية المنتخبة واحترام
الموالاة للمعارضة إذا كان الأمر
يتعلق بقضايا ومصالح موضع خلاف
وإجتهادات سياسية متعددة تحت السقف
الوطني. نعم الديموقراطية تستدعي حل
المشاكل السياسية في صناديق الاقتراع
إذا كانت هذه المشاكل تندرج في إطار
المصالح العامة التي تعني الجميع .
وهي لا يمكن أن تكون حكم الشعب المحتل
ولا أكثرية الخاضعين للاحتلال ولا
صناديق اقتراع الهزيمة والمهانة
والذل.
يبقى القول أن الأكثرية في النظام
الديموقراطي تستمد شرعيتها من اعتراف
الأقلية بها وليس من نسبة الأصوات
التي حصلتها فحسب تماما كما أن
الأقلية تستمد شرعيتها من اعتراف
الأكثرية بها وبحقها في التنافس
الدوري من اجل الوطن الذي تبقى سلامته
وسيادته وحريته شرط اللعبة وعلة
وجودها ... والباقي "كله خس" على ما
يختم اللبنانيون بعض جملهم الساخرة
أنتهى.