يستخدم
فوكو، وآخرون غيره، مفهوم الطبقة عند تحليل الوقائع
الاجتماعية. وبما أن نظامنا التحليلي، الذي أعلنا عنه منذ
البداية، يرتكز على أدوات تحليلية مغايرة تبدأ بالسلطة
ورموزها وتنتهي بمحاورها التي تحرك الحدث التاريخي، فإننا
نحتفظ بحق الاعتراض، ومن ثم هدم، مفهوم "الطبقة" لفراغ
محتواه وعدم جدواه في تفسير أحداث التاريخ، وهو الأمر الذي
ضخمته الإيستوغرافيا الماركسية على وجه الخصوص.
يتأسس مفهوم "الطبقة" على ثلاثة أبعاد رئيسة: الأول منها
تفاوت الثروة (وملكية وسائل الإنتاج)، أما الثاني فيتمثل
في الوعي الطبقي، بينما يمثل الصراع ثالث أبعادها.
إن "الطبقة" لا تتشكل كطبقة إلا إذا تميزت بمواصفات مشتركة
في الثروة، أما إذا حددناها اعتمادا على وسائل الإنتاج فإن
ذلك سيطرح معضلة أخرى، إذ سنعتبر الحداد البسيط من طبقة
أعلى من المهندس، فقط لأن الأول يمتلك وسائل الإنتاج أما
الثاني فلا.
إن "الطبقة" ثانيا، لا تشكل طبقة داخل المجتمع إلا إذا
كانت على نسق معين من الوعي (والتفكير) الذي لا ينفك يتطور
وينضج بفعل صراعها مع طبقة، أو طبقات، أخرى مناقضة لها،
مما يولد اصطداما بينها ينتهي بظهور وانتصار "الطبقة"
الأكثر تقدمية تاريخيا.
هذا التحليل الذي يبدو متماسكا على المستوى النظري، ليس في
الواقع أكثر من وهم يحاول أن يمد ظلاله على الواقع الفعلي،
إذ ليس هناك من معايير عقلانية تسمح لنا بتصنيف الناس حسب
الثروة، فبالأحرى الوعي والتفكير. وحتى لو افترضنا أن
المجتمع منقسم إلى طبقات، فإن الأمر بالنسبة لميلاد وتطور
الحدث التاريخي لا يسير وفق الطريقة التي زعمها بعضهم، ففي
الانتفاضات والثورات الاجتماعية - وهي أحسن ما يمكن أن
يقدمه هذا التحليل دليلا على صراعه الطبقي المزعوم - لا
تقف طبقة (متجانسة في الثروة والوعي) ضد طبقة أخرى منافية
لها، بل إننا نجد مجموعة اجتماعية مختلطة، وقد تكون
متعارضة (في الثروة والتفكير)، تتصارع مع مجموعة أخرى
مختلطة بدورها، وهذا ما دفعنا إلى ابتداع مفهوم "محاور
السلطة"، الذي سنفصله لاحقا. فكل إنسان يختار المحور الذي
يخدم مصالحه تبعا "لرموز السلطة" التي تحركه، ووفق الظرفية
التي يعيشها، مما يعني أنه قد يغير "محوره" في أية لحظة:
إن استعمالنا لهذا المفهوم (الطبقة) من الآن فصاعدا لا يجب
أن يفهم على أننا نتبناه، بحمولته المتداولة الساذجة.
الآن، وبعد أن وضحنا تصورنا المبدئي من مقولة "الطبقة"
نستطيع أن نواصل تحليلنا لمقولة "السلطة" لكن باستحضار هذا
التصور مبدئيا.
يجيب فوكو في رده على مقولة السلطة في ملك "طبقة" وملكيتها
لها أساسها الغلبة: «إن السلطة لا تمارس نفسها بهذا
النحو... فهي استراتيجية أكثر منها ملكية... فهي تمارس
أكثر مما تتملك، ليست حقا تحتفظ به لنفسها الطبقة السائدة
وتحتكره، بل هي مفعول مواقعها الاستراتيجية... وسيؤكد فوكو
من خلال تحليله للأوامر الاستبدادية بالحبس أو النفي والتي
كان يصدرها الملوك، أن تعسف السلطان لا يتجه من أعلى إلى
أسفل، كصفة لسلطته المتعالية، بل هو استجابة لطلب يتقدم به
إليه أبسط الناس والآباء والجيران والزملاء الذين يرغبون
في حبس أحد مثيري الفتن التافهين أو المحرضين على الشغب»
(دلوز ص31...)، مع التنبيه إلى أن كلمة "استراتيجية"
تستعمل عنده عادة بثلاثة معان: أولا) للتدليل على اختيار
الوسائل المستخدمة للوصول إلى غاية معينة. ثانيا) الطريقة
التي نحاول التأثير بها على الغير. ثالثا) مجمل الأساليب
المستخدمة في مجابهة ما. (العيادي، 1994، ص64).
عندما يتعلق الأمر بنقطة حساسة كالاستبداد وممارسة السلطة،
لا بد من التحديد الدقيق للمفاهيم والعبارات، لا يمكن
لفوكو أن يقدم طرحا مُرضيا وسليما لسلطان "مستبد" يستجيب
للطلبات المقدمة من طرف أبسط الناس! لا شك أن صفة
الاستبداد هنا هي في غير محلها. إن المستبد يدعي، مثلا، أن
سبارتاكوس (زعيم العبيد الثوار الذي أقض مضاجع روما سنتين
قبل أن يقتل سنة 71 ق.م) تافه ومثير للفتن والشغب ولا
ينتظر حكم عامة الشعب، إن تعسف السلطان هنا تعسف يتجه من
الأعلى إلى الأسفل، إنه – عكس ما زعم فوكو – يجسد السلطة
المتعالية، وهي ذات الملاحظة التي نسجلها ونسحبها على عدد
لا يعد من الممارسات السلطوية عبر التاريخ القديم أو
المعاصر.
إن "المستبد" في هذه الحالات هو الذي فسر كيف شاء "إثارة
الفتن"، كما أنه يمارس سلطته كيف يشاء في جبايته للضرائب
التعسفية، وفي كلتا الحالتين لا يكن الأمر برغبة من الناس
البسطاء. ولعل هذا ما جعل فوكو يقر بأنه حيثما قامت السلطة
إلا وترتبت عنها مقاومة، أو بالأحرى مقاومات، لأن المقاومة
عنده تتخذ صورا وأشكالا متنوعة: المقاومة العنيفة،
والمقاومة المتوحشة، والمقاومة الضرورية، والمقاومة
المنعزلة، والمقاومة الميالة إلى الصلح، والمقاومة الهادفة
لتحقيق مصلحة... وهي كلها لا تتحقق إلا في حقل استراتيجي
لعلاقات قوى. (حفريات المعرفة، ص125)، دون أن يجرفنا ذلك
إلى اختزال الحكم على السلطة في أنها هيئة سلبية وظيفتها
تتلخص في ممارسة القمع، إنها أكثر من ذلك بكثير، إنها شبكة
منتجة تمر عبر الجسم الاجتماعي كله، وهذا ما حاولت إظهاره،
يقول فوكو، في كتابي "المراقبة والعقاب" (نظام الخطاب،
ص74).
لنوضح الغموض الذي يكتنف فكر فوكو نقول: إنه يعتبر السلطة
ممارسة بطريقة أو بأخرى، وهذا صحيح، ولتفسير ذلك لا بد أن
نُذكّر بأن للمال سلطة، وللجمال سلطة، وللتقاليد سلطة،
وللأخلاق سلطة، وللجنس سلطة، وللذات سلطة... إنها "رموز
السلطة"، إننا بهذا التحليل وعبره نوسع، ونعمق، ما صاغه
بورديو(1986) عن مدلولات "الرمز والسلطة"، قبل أن نتساءل
بعد: ما الذي أكسب هذه "الرموز" سلطتها؟
إن العامل السيكوسوسيولوجي (بولنتزاس1983 ص119...) شرط
أساس لتفسير هذا اللغز. لنأخذ مثال الحب/الكره،
بمستوياتهما المختلفة (حتى لا يتخذ هذا المثال دلالة جنسية
صافية، ننبه إلى أنه مجرد مثال اخترناه من ضمن أمثلة عديدة
يحددها الضابط السيكوسوسيولوجي كالخوف والغيرة وغيرهما...)
فأنا أحب شيئا معينا إذن سيمارس علي نوعا من السلطة
(إخضاع)، وسأسعى بالتالي إلى تملكه، أما إذا كرهت شيئا آخر
فسأسعى لممارسة سلطتي عليه، ولو تمكنت منه لدمرته. وهنا
سننقاد بطريقة جدلية إلى الدين (عقيدة – يسميها البعض
أيديولوجيا دوغمائية – تنطوي على مقومات ثابتة). إن أقصى
درجات الحب (الخضوع) هي العبادة وإذن الدين، حيث إن
العبادة في الشرع خضوع وحب، وبما أنني أحب ديانتي لدرجة
العبادة، فذلك يفترض النقيض الأقصى له، أي أنني أكره أعداء
ديانتي لدرجة التدمير. وهذا يقودنا للتساؤل: كيف يتعايش
الناس رغم وجود كل هذا الاختلاف؟ والجواب الضروري لذلك هو
أن التنازل شرط ضروري للتعايش.
إذا كنا قد جعلنا لكل "رمزٍ" سلطةً حددناها في علاقة قوى
بقوى أخرى، فأي هذه الرموز "يعقل" ممارسة السلطة؟
إنه الكائن البشري قطعا: فقد يمارس الحيوان، غير الواعي
طبعا، على الإنسان سلطة معينة، أو تحفة فنية جامدة تمارس
على الإنسان سلطة من نوع آخر... وبالمثل قد يمارس الإنسان
سلطة أخرى على الحيوان، لكن الحيوان لن "يفلسف" الأمور على
هذا النحو، وبالتالي فإنه لا "يعقل"، وإن كان يحس، بأن
سلطة ما قد مورست عليه، بينما "يعقل" الإنسان بأنه مارس
سلطة على الحيوان.
بهذا الشكل فأوضح، وأنضج، أشكال ممارسة السلطة هي تلك التي
يمارسها الإنسان على أخيه الإنسان، وهنا نتساءل، كما تساءل
غيرنا (ألتوسير1981 ص88): ما هي حدود هذه السلطة، أليس لها
من حد أو نهاية؟
الجواب الضروري لذلك هو النفي القاطع: ليس هناك من حد أو
نهاية لممارسة السلطة، بما في ذلك الموت: الموت ذاته ليس
نهاية لها، فكل الذين قتلوا في سبيل عقيدة معينة، داخل
محور سلطة معين، يعتبرون "شهداء"، في عرف الذين يعتنقون
نفس العقيدة، وهكذا ففي مواجهة روسيا القيصرية للثوار
الشيوعيين يعتبر كل فريق بأن قتلاه "شهداء"، دائما يلصق
نوع من القداسة، الدينية في الأخير، بهذا الشكل من أشكال
العنف الذي نسميه الحرب: حتى حرب الأفيون مقدسة، والحرب في
الولايات المتحدة ضد المخدرات مقدسة، والقتلى فيها
شهداء... والحاصل أن الاستشهاد "رمز" أعلى لممارسة السلطة،
يمارس فيه القتيل سلطته، من عليائه، على الأحياء الذين
يفترض فيهم الثأر له، من جهة، وتقديسه، أو على الأقل
احترامه، من جهة ثانية.
ممارسة الموت للسلطة تأخذ أشكالا مختلفة، ولو ممارسة
مرحلية في بعض الأحيان: فعند واقعة الموت يصنَّف الأحياء
أحد اثنين، مهما اختلفت درجات تأثرهم: إما مؤمن بالحياة
بعد الموت، وبالتالي سيتيه الفكر في الحياة الأخرى، في
الجنة والنار ومصائر الخلق. وإما كافر بذلك، سواء من
الدهريين القدامى: ‹﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت
ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾› الجاثية 24، أو
الوجوديين/الملحدين المعاصرين، وهنا أيضا سيتيه الفكر فيما
بعد الموت، خاصة وأن الوجود نفسه ما هو إلا توتر مستمر،
وتحد متواصل، وهروب للذات من ذاتها، بحيث يصبح وجودها مجزء
كأشلاء متطايرة بدل أن تتوحد في كل متجانس: إن القلق
الوجودي، وحده، يوقظ الإنسان من غفوته وينتشله من السقوط
(هايدغر1986). لكن الموت يتحدى القلق الوجودي نفسه،
ويخرسه: الموت هو العدم المطلق، والسديم الضبابي المظلم،
الممتد بمد أفق الفكر اللاّ متناهي، ليتوقف الفكر الوجودي
أمام واقعة الموت، وتتوقف معه عبارة سارتر، حواري هايدغر
والمتجاوز له في آن واحد، كما لو أنها تأبى على الزمان صفة
التمادي: "الموت هو الإحباط المحتمل بالنسبة لي، رغم أنه
يقع خارج نطاق إمكانياتي... فضلا عن كونه يحرم الحياة من
كل معنى..." (الوجود والعدم، ص617...) إنه مثير للغثيان...
(الوجود والعدم، ص658).
ثم، نحن أمام اكتشاف/امتداد ثان للموت/السلطة، من قِبَل
فوكو، ما يسميه "السلطة الهائلة للموت"، وما يدفعه لأن
يخصص الفصل الأخير من "إرادة المعرفة" لتحليلها تحت عنوان
كبير: "حق الموت والسلطة على الحياة". تحليل عميق للقتل –
عبر الحرب – من أجل العيش، الذي غدا استراتيجية الدول
راهنا من أجل دفاعها عن وجودها البيولوجي... ثم تحليل ثان
أعمق للقتل – عبر عقوبة الإعدام – وحيث تتجلى سلطة فعل
"الإحياء" أو رد فعله "الموت"... ثم تحليل ثالث تركيبي
"لسلطان الموت" عبر أنظمة وقواعد الانضباط (السياستان:
التشريحية والبيوسياسية) لتشكيل جسم "السلطة البيولوجية"
في النهاية، التي ترتع في مرعى الموت بمختلف أشكاله، وخلف
ذلك تتراءى أشكال "المقاومة" والحرص على هذا الذي تقوم
الذات حارسا له، أي على الحياة والإنسان بما هو حي: الحرص
على الحياة رغم كل الرموز السلطوية التي تحاصرنا، من كل
جهة، و تضغط علينا، في كل حين.
|