لا
شيء يسترعي الانتباه في الانتخابات التشريعية الجزائرية
التي تمت منتصف مايو/ أيار الجاري, ما شاهدناه هو تعددية
مزيفة من أساسها.. افتعال الإدارة الحياد التام.. انتصار
أنصار السلطة التنفيذية.. تقاسم الغنائم بين أحزاب بيت
الطاعة.. عزوف الناخبين كآخر سلاح بين أيديهم للاحتجاج على
لعبة يسخر فيها من ذكائهم ومن كرامتهم، بغضّ النظر عن
التعدي على مصالحهم.
كل هذا كان متوقعا وجرى حسب السيناريو المبتذل الذي أصبح
سمة من سمات النظام السياسي العربي، ولم يعد فيه ما
يفاجئنا أو نتعلم منه. هل نحن متأكدون من هذا؟
ثمة ظاهرة بالغة الأهمية وراء كل هذا الابتذال انتبهت لها
سليمة غزالي في مقال نشرته يوم 18 مايو/ أيار بصحيفة
ليبراسيون الفرنسية، هي طبيعة المتنافسين على مقاعد
البرلمان.
فأغلبهم خاضوا معركة التعيين الحقيقية قبل توجّه أول
جزائري نحو مركز الاقتراع، هم تقاتلوا لتوجد أسماؤهم في
القوائم القابلة للنصر.
ويبدو أن فيهم من دفع كثيرا للحصول على دائرة انتخابية
مضمونة، وأن هناك من غيّر ولاءه منتقلا من حزب لآخر حسب
قوانين العرض والطلب.
هؤلاء الناس هم الذين سيراقبون مصاريف الدولة، ويسنون
القوانين الضامنة للحقوق ومنها قوانين العقاب على التزييف
وانتحال الصفة.
ربما يلاحظ البعض أننا نعطي قيمة زائدة لهؤلاء الناس على
اعتبار أن دورهم شكلي. خطأ، فهم عيّنة من نموذج عام طبع
الكثير من الفاعلين داخل الجهاز التنفيذي والمخابرات وفي
السلك القضائي وحتى داخل منظمات المجتمع المدني، أي نموذج
الفاعل السياسي الانتهازي المزيف الفاسد.
ما لم تركّز عليه الصحفية وما أريد لفت الانتباه إليه هو
مكان هؤلاء في تاريخ النظام السياسي العربي، حيث هم الحلقة
الثالثة في سلسلة الفاعلين الفاسدين المفسدين, هذا الجيل
إذا لم يكن الأخير فإن إمكانيات نهوض هذه الأمة في هذا
القرن الحالي ستصبح شبه معدومة.
إن البرلمانيين الجزائريين الذين وقع تعيينهم أخيرا هم
عينة لا أكثر من هذا الجيل الثالث، مما يعني بالطبع هذا أن
هناك جيلا أول وجيلا ثانيا.
الأول هو جيل الآباء المؤسسين الذين وضعوا أسس الدولة
العربية المعاصرة في بداية الخمسينيات والستينيات على
قواعد عبادة الشخصية وسيطرة الحزب الواحد والمراقبة
الاجتماعية والحكم بالخوف، وأبرزهم جمال عبد الناصر
وبومدين وبورقيبة.
كأني أسمع صراخ الاحتجاج: كيف يمكن اتهام هؤلاء القادة
العظام والذين لا ننكر لا نزاهتهم ولا نضاليتهم– بالفساد،
والحال أن أهمّ خاصية تميزهم عن الذين يتحكمون اليوم
برقابنا هو نظافة اليد؟
قد يكون هذا الاعتراض فرصة لتوسيع المفهوم، حيث إن فساد
الشيء يعني في اللغة عدم أهليته أو عدم صلاحيته لوظيفته
وليس ملتصقا بالضرورة بالرشوة والعمولات.
من هذا المنظور يمكن القول إن الآباء المؤسسين، وإن لم
يعرفوا قذارة نهب أموال شعوب فقيرة ليضعوها في بنوك
الخارج، فإنهم هم الذين يتحملون مسؤولية هذه الظاهرة
المخزية لأنهم هم الذين وفروا لها كل شروطها.
فعندما وظفوا القضاء ومنعوا الصحافة الحرة وتصدوا لتكوين
الجمعيات المستقلة، منعوا بروز الآليات الوحيدة التي كان
بمقدورها ردع المجرمين.
وسواء كانت خياراتهم المشؤومة نتيجة هيمنة نظام الحزب
الواحد في العالم الثالث والكتلة الشيوعية في عصرهم، أو
نتيجة أمراضهم الشخصية، أو عن قناعة بأن النظام "القوي" هو
أقصر طريق للتقدم ولرفعة الوطن، فإن عواقب هذه الخيارات
السلبية طغت على كل الإيجابيات المفترضة، ومن أهم هذه
السلبيات تربية الجيل الثاني من القادة الفاسدين المفسدين.
هذا الجيل هو جيل أغلبية القادة العرب المتمسكين بكراسيهم
بأظافرهم وأسنانهم، والذين خلقوا نظاما سياسيا نكاد نتميز
به نحن العرب من بين كل الأمم باستثناء كوريا والكونغو
(النظام الجملكي).
وفي مستوى الجيل الثاني يكتسب الفساد كل معانيه من لا
صلاحية طرق الحكم إلى تعفنها بالرشوة وتهريب أموال الشعب،
واستغلال النفوذ لمصلحة العائلة والطائفة وعصابات الحق
العام.
الخاصية الأساسية لهؤلاء القادة أننا أمام أناس جد عاديين
وأحيانا أقل من عاديين لم يلعبوا أي دور في ملحمة
الاستقلال الأول، ولم يصلوا للأماكن التي وصلوا إليها بفضل
خصالهم وإنما بفضل انعدام هذه الخصال.
لنتذكر أن النظام الاستبدادي قائم برمته على عبادة شخصية
الدكتاتور وأن هذا الأخير بحاجة إلى أعوان تنفيذ لا
لشركاء، إنه لا يتحمل من يعارضه فما بالك بمن يهدد هيمنته
المطلقة ومنها مصادرة كل الفضائل الشخصية.
لا غرابة أن تنطلق حال وضع أسس النظام الاستبدادي تصفية كل
الشخصيات القوية الحاملة لوظيفة النقد البناء والقادرة على
لعب دور البديل في كبرى الأزمات.
على العكس يقع تقريب وإعلاء كل من فهموا أن المطلوب هو
الولاء وليس الكفاءة. هكذا تقع على امتداد السنوات عملية
معاكسة لعملية النشوء والارتقاء في عالم الطبيعة، حيث يتم
اصطفاء الأكثر طمعا وجبنا ونفاقا وانتهازية أي الأردأ على
حساب الأشجع والأشرف والأكثر جدية ووطنية وكفاءة.
تمتلئ شيئا فشيئا كل مراكز القرار بأناس لا يستمدون وجودهم
لا من كفاءتهم ولا من تفويض شعبي وإنما من قدرتهم على تملق
الزعيم الأوحد والتكيف بمزاجه وأهوائه.
هذا هو جيل الفاعلين السياسيين الذي اصطفاه الآباء
المؤسسين في بداية السبعينيات بعد أن "طهروا" الدولة من
الداخل، وأغلقوا ساحة الفعل المجتمعي المستقلّ واضطهدوا كل
القوى من داخل النظام ومن خارجه الوحيدة القادرة على
إنقاذه.
وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الجيل لم يكن قادرا بحكم شدة
شعوره بهشاشة شرعيته من خيار غير السير في النهج الذي
أنتجه، بل والمراهنة على ملء كل دواليب القرار بمن يظهرون
أكثر ولاء وأقل كفاءة مما أظهر حتى هو لمواصلة التمتع إلى
آخر رمق بسلطة تم فك الارتباط كليا بينها وبين كل ما من
شأنه حل مشاكل المجتمع. هؤلاء الناس لا يهمهم مصير
أطفالنا، كلّ ما يعنيهم مصير أطفالهم.
وهذا الجيل الثاني الذي سينتهي على أقصى تقدير في العشرية
المقبلة بفعل عامل العمر، هو الذي ربى لنا جيلا أكثر شؤما
سنتحمله ربما للعشريتين القادمتين .
نحن إذن كشعوب عربية في وضعية شركة تقودها إدارتها
للإفلاس، لكن عوضا أن تعوّض هذه الإدارة نراها تنقل
صلاحياتها للصف الثاني من المسؤولين لمواصلة نفس السياسة,
مما يؤدي إلى مزيد من الإفلاس, لكن الشعار دوما "وداوني
بالتي هي الداء" حيث يتمخض جيل المسؤولين هذا عن جيل أردأ
يوصل الشركة إلى الهاوية.. وليس للعمال وأصحاب رأس المال
الحق إلا في الخضوع أو التمرّد.
ثم بعد هذا تريدون لشعوبنا وللأمة مستقبلا.. كيف تسمونه
؟.. زاهرا.
لنلخّص أهم خصائص النظام السياسي العربي الحالي عبر أجياله
الثلاثة هذه:
1-هو نظام نزف كلّ ما فيه من شرعية وهيبة ومصداقية ومات في
العقول والقلوب.
2-هو نظام مبني على منطلقات أساسية في قيادة المجتمعات وقع
التخلي عنها في كل مكان تقريبا من سطح الأرض لاتضاح كلفتها
الهائلة من الدم والدموع ولا فعالية لها في حل الأزمات.
3- هو نظام في قطيعة تامة مع المكونات الحية للمجتمع، وفي
صراع دائم معها من منطلق أن أحسن ما في المجتمع لا يقبل أن
يستبدّ به أسوأ ما فيه.
4-هو نظام يخلط بين العنف والقوة، يجهل أو يتجاهل أن قوة
النظام السويدي في خلو الشوارع تقريبا من البوليس وضعف
النظام العربي في كثرته فيها، حيث يبدو كجيش احتلال داخلي
أصبحت مهمته حماية الجريمة المنظمة من المجتمع لا حماية
المجتمع من الجريمة المنظمة.
5-هو نظام غير قادر لطبيعته على التجدد من داخله بل على
العكس حيث تجبره هذه الطبيعة على التحول من سلطة الحزب إلى
سلطة مراكز القوى فإلى سلطة العصابات.
6-هو نظام لا مخرج له غير الهرب إلى الأمام في ميادين
التزييف والقمع وتوسيع دائرة الفساد لتصبح طبقة في حد
ذاتها تدافع عن وجودها بكل الوسائل، وهو ما يرفع تدريجيا
من منسوب العنف داخل المجتمع إلى حد الوصول به يوما إلى
حالة الحرب الأهلية.
هذه هي الحالة المعروفة وبتداعياتها الرهيبة المتوقعة.
لنتساءل الآن عن طبيعة ومواصفات القيادات السياسية الجديدة
التي تستطيع الارتفاع إلى مستوى التحديات المصيرية التي
تتخبط فيها أمة لها ربما ماض، لكن يبدو أنه ليس لها مستقبل
إذا تواصلت على المنوال الحالي.
1-القطع مع نموذج الجيل الأول على مستوى الذهنية والخيارات
واعتبار الآباء المؤسسين أخطأوا عن حسن أو سوء نية، وعلى
كل حال لا مجال لتكرير تجربتهم المبنية على الشخصانية وحكم
المخابرات وقمع حركة المجتمع الذاتية أو اعتبار أن جغرافيا
الوطن ليست مرسومة على جلد كل مواطن وأن الوطنية الحقيقية
شيء مغاير للمواطنية.
2-القطع مع مفهوم الرجل العنيف، والنموذج هتلر وستالين
وصدام، للارتباط بمفهوم الرجل القوي والنموذج شارل ديجول
وتشرشل أو مانديلا. هؤلاء حقا رجال أقوياء خدموا بلدانهم
بكل قواهم وبكل قوة ثم انسحبوا لعلمهم أنه لا يوجد شخص
يفوق شعبا، وهؤلاء هم الذين كرمهم التاريخ.
3-القطع مع مفهوم هيبة الدولة وقوتها مرتبطة بعدد البوليس
في الشوارع وشراسة المخابرات وربطها بالشرعية التي لا
تمنحها إلا انتخابات حقيقية وتصرفات أخلاقية تثير
الاحترام، وحكم مؤسسات غير مغشوشة وقانون ينطبق على
الجميع.
4-القطع مع مفهوم الدولة كبعبع مهمته مراقبة مجتمع خطير
وتوفير المتطلبات الدنيا له لكي يسلم قياده، بل اعتبار
المجتمع هو مصدر السلطة والدولة أهم مؤسساته مهمتها السهر
على شؤون معينة بالتعاون مع سائر المؤسسات المدنية الأخرى.
5- إرساء مبدأ الكفاءة فالكفاءة ثم الكفاءه في كل مراكز
القرار.
6-إرساء مبدأ التقييم المستمر عبر الصحافة الحرة وصندوق
الاقتراع والتداول السلمي على السلطة.
لقائل أن يقول كفي أحلاما يا هذا. من أين سيخرج لنا مثل
هؤلاء القادة، والجامعات والجوامع والجمعيات لا تعج إلا
بنماذج تكرر بوعي وأغلب الوقت دون وعي النماذج التي قادتنا
إلى التهلكة لأن الناس دوما على دين ملوكهم ؟
إنه من الغباء التعامل مع عالم هكذا ووضع هكذا بتفاؤل، لكن
من الظلم التعامل معه بتشاؤم لما يزخر به من قوى تجدد
وتعاف، لذلك أحسن موقف هو حسب تعبير إميل حبيبي التشاؤل.
على كل حال، هذه الأمة موضوعة أمام خيار مصيري: إما أن
تغير نظامها السياسي وإلا فإن بغداد وغزة مجرد عينات مما
ينتظرنا في كل رقعة من الوطن العربي.
كلنا نعرف أن الأمم لا تنتحر وإنها مسألة وقت قبل أن
تستعيد توازنها. هذا النص مساهمة متواضعة في عملية استعادة
التوازن وهي سبقتنا جميعا وستتواصل بعدنا.
كل ما هنالك أن مزيدا من الوعي ومن تحمل المسؤولية من طرف
كل عربي وعربية يمكن أن يسرع بها.
كاتب تونسي
|