في المفهوم
بداية
يجدر التطرق ولو
إيجازا لتعبير
المجتمع المدني لعرض
ما يتضمنه هذا
المفهوم من إشكاليات،
خاصة منذ كثر التداول
في شأنه في تسعينيات
القرن الماضي. بات
المصطلح يشير إلى
كتلة اجتماعية يُفترض
أن يتوفر فيها مقدار
من التجانس والقيم
والأهداف المشتركة.
فهي في موقع بين
المجتمع الواسع وبين
الدولة التي لا تمثل
البشر في كل شئ. لا
بل ينظر للمجتمع
المدني كحامي للأفراد
من تدخلات الدولة
وتجاوزاتها، كما
ويناط به تقديم خدمات
أساسية لهم بعد
انسحاب الدولة منها.
أي أنه يتكون من
مؤسسات ثانوية (
تعاونيات ونقابات
ونوادي ومنتديات
واتحادات طلابية وغرف
تجارية وصناعية
وأوقاف ومنظمات خيرية
وجمعيات غير حكومية
وصحافة حرة الخ)
تساعد المجتمع على
ادارة نفسه. كما
وتقوم غالباً على
نشاط طوعي وغير ربحي
لأفراد يحرصون على
الاستقلالية عن
الدولة وفي ادارة
شئونهم ولا يسعون
للسلطة، بل يعملون من
خلال سلطة مضادة وضمن
آليات ضغط على السلطة
السياسية القائمة .
هناك من الباحثين من
ينكر وجود المصطلح في
مجتمعاتنا العربية.
ومنهم من يفضل تعبير
المجتمع المدني
الإسلامي. مرد
الاعتراض إلى أن
تعبير المجتمع المدني
يدلل على تبلور الفكر
الليبرالي الغربي
الذي واكب تحرر
المجتمعات الغربية من
مفهوم السلطة المطلقة
ومن الانتماءات
الدينية أو الريفية.
كما هيأ الأرضية
للدولة المدنية التي
اتخذت العلمانية فيها
شكلاً براغماتياً في
بلدان مثل ألمانيا
وبريطانيا، ونضالياً
عنيفاً مثل فرنسا.
هذا المعطى، أي
الدولة الدنيوية
المدنية التي تحترم
نظرياً ما سمي
بالحقوق الطبيعية (حق
الحرية والمساواة
والملكية والمقاومة)،
يتيح تنظيم
العلاقات الاجتماعية
على أسس إنسانية،
بحيث يعامل الفرد
كمواطن له حقوق
وواجبات. مما يخضع
المؤسسات والحياة
السياسية لإرادة
البشر وممارستهم
لحقوقهم
وفق ما يحقق مصالحهم
وسعادتهم. هذه
الصيرورة يفترض بها
أن تتيح انبعاث
المجتمع المدني وتجيز
التنوع الإيديولوجي
والسياسي وتفتح الباب
لدولة القانون. مع ما
يتبع ذلك من نظام
برلماني ديمقراطي
وتداول على السلطة
وتعبير حر عن الرأي
وحق التنظم والاجتماع
الخ.
الواقع في المجتمعات
العربية، وبالرغم من
الفروقات فيما بينها
ومن انتحال بعضها
أشكالاً حداثية، لم
يستطع أن يجسد هذا
المفهوم فعلياً. لذا
فالرأي منقسم بين من
يتكئ على وجود أحزاب
ونقابات وجمعيات
أهلية ومنظمات طلابية
ووسائل إعلام متنوعة
ليدلل على وجود
المجتمع المدني. ومن
ينكر استعمال هذا
التعبير، منطلقاً من
عدم وجود علاقة جدلية
وصراعية بالمعنى
الفعلي للكلمة بين
السلطة وبين المجتمع
المدني، كقوة مضادة
لها حقيقية وذات
مصداقية. وذلك بسبب
غياب المواطنة
الفعلية وأسبقية
الانتماء للطائفة أو
العائلة، التي تتحكم
فيها نخب نافذة
لتثبيت أو تأبيد
سيطرتها. وحيث تمسك
الطغمة الحاكمة أو
الحزب الأوحد
والمهيمن برقاب
العباد وتخنق عليهم
أنفاسهم، لحد يصبح أي
تحرك مشروطاً بموافقة
هذه الأطراف
وتوجيهاتها.
تنبري بعض التيارات
الإسلامية، وخاصة
الشرائح الدوغمائية
منها، لتساجل في
موضوع المجتمع
المدني، بما تشعر به
تهديداً لأطروحاتها،
من نافذة أصولها
الغربية وتمهيدها كما
يقولون للعلمانية
السياسية والفكرية.
مما عمّق الهوة بين
تيارات فكرية، مصنفة
في نفس الخانة من
أنظمة حاكمة استفادت
من هذه الخلافات
لمحاربة نشوء مجتمع
مدني قادر على
مواجهتها. يستطيع
المشاركة في تحديد
الخيارات لكسب معارك
ليس فقط الديمقراطية،
وإنما أيضا التنمية،
خاصة مع تفاقم
البطالة والفقر
والتهميش والهجرة.
هذا إن لم نضف
للقائمة مسألة
استغلال بعض هذه
الهيئات لمواقعها في
سبيل تعزيز مصالحها
الضيقة على حساب
المشروع التغييري
الجاد.
يضاف لذلك أيضاً أنه
في السنوات الأخيرة
أصيبت مفاهيم
الديمقراطية وحقوق
الإنسان بمرض خبيث
شوّه لحد كبير وجهها.
ذلك مع سوء استعمال
هذه المفردات من قبل
الإدارة الأمريكية
التي صادرتها لتكمل
باسمها فرض هيمنتها
على شعوب العالم
وخاصة العربي
والاسلامي، وتنادي
بالتغيير الاجتماعي
والثقافي وبنوع خاص
السياسي. مما وضع
العاملين في هذا
المجال والمنادين
بحقوق الأفراد
والشعوب في موقع صعب.
حيث ظهروا وكأنهم
يعملون لتطبيق
السياسات الغربية،
وبالخصوص الأمريكية
من خلال أجندات
نشاطاتهم.
نشأ علاوة على ذلك شئ
من الريبة تجاه
تكاثرهم المضطرد
وحيويتهم غير
المعهودة التي أصبحت
مآل استهداف السلطات.
في الحين الذي بتنا
فيه أكثر من ذي قبل
في أمس الحاجة لهذا
النوع من المواطنين
الذين يشعرون
بمسؤولية تجاه
مجتمعاتهم. والذين
يرغبون بلعب دور
الرافعة، بدلاً من
المتلقي السلبي
والقانط القابع في
انتظار زمن التغيير
والمستعيض عنه بنسج
الأحلام والآمال
والأوهام. هذا
الإنسان الذي ننشده
هو الفاعل المسؤول
والمنتمي لهوية تزود
عن الوطن والأمة. لا
بل وتدافع، ضمن توجه
نقدي ورقابي على
سياسات من أنيط بهم
الشأن العام، عن
الإنسانية جمعاء.
هؤلاء الأفراد الذي
يضحون بالكثير
ليقدموا لشعوبهم خير
ما يستطيعون هم قيمة
عالية. وعلى
مجتمعاتهم أن لا
تتخلى عنهم وتتركهم
لقدرهم أمام عنف
الأنظمة الجائرة التي
تخاف على نفسها من
وجود من يمكن أن
يعطوا المثل ويقفوا
لها بالمرصاد. هذه
الأنظمة التي كثيراً
ما تحارب الديمقراطية
الحقيقية بالطقوس
الاستعراضية
لديمقراطية مزيفة.
لكن التنطح لتغيير
المجتمعات يبدأ
بتغيير النفوس، ولا
بد من اتباع النقد
الذاتي والعمل على
الذات لتنقية ما فيها
من شوائب وترجمة
الأقوال بالأفعال.
وهذا لا يحصل بين
ليلة وضحاها بالطبع،
بل قد يتطلب أكثر من
جيل. عامل الوقت مهم
لتحسين النوع بتجويد
البيئة الثقافية
والاعتياد على
السلوكات الصحية
وبناء المواطنة
الفعلية القائمة على
الانفتاح على الآخر
والثقة بالذات. خاصة
وأننا نشهد في أحيان
كثيرة الولاء للغير
وتقليده والارتهان
لأجنداته في ظل عولمة
متوحشة تفرض عقليتها
بالقوة باسم الحداثة
والتقدم. لكنها في
الحقيقة لا تبحث سوى
عن أسواق جديدة تروج
فيها بضائعها،
باختراقها الحدود
وعبثها بالهويات تحت
مسميات فضفاضة
وخادعة.
المهام
وحيث أن المطلوب هو
التطلع للحاجات
المحلية والعمل على
تطوير الواقع، تنطحت
لذلك جمعيات غير
حكومية وجدت في
الهامش الصغير المتاح
لها مجالاً للخلق
والمساهمة بالدفع نحو
التغيير المنشود. هذه
التكوينات متواجدة في
أكثر من مكان في
عالمنا العربي وتحت
مسميات وألوان
متعددة. جماعات صقلها
غالباً الانفتاح
المعرفي وسعة الأفق
وحفزها الاحساس بمآسي
مجتمعاتها وأزمات
نموها في زمن ما زال
القوي يأكل الضعيف
بأشكال مختلفة.
هذه التكوينات، محلية
كانت او قطرية او
دولية، والتي يطلق
عليها بشكل عام اسم
الجمعيات أو المنظمات
غير الحكومية أو
جمعيات المجتمع
المدني، هي أساساً
طوعية لا تستهدف
الربح. ينشئها أشخاص
لهم اهتمامات مشتركة
وأهداف نبيلة بعيدة
عن السياسة بمفهومها
المتعارف عليه لتقديم
أنواع مختلفة من
الخدمات. وحيث ترتكز
إجمالاً على الشرعة
الدولية لحقوق
الإنسان، منها ما هو
عام يعنى بحقوق
الإنسان كافة. ومنها
ما هو متخصص ببعض هذه
الحقوق، أو يتوجه
لفئات اجتماعية
معينة، لتقديم
المساعدة أو تأهيل
الضحايا أو حتى حماية
المدافعين عن حقوق
الإنسان. وغالباً ما
تسعى هذه الجمعيات
للانضمام إلى شبكات
واسعة وبناء تحالفات
فيما بينها، انطلاقاً
من عالمية حقوق
الإنسان ومن رفضها
للخصوصيات وللتجزئة
على أسس ثقافية او
دينية أو عرقية. ذلك
من أجل تبادل الخدمات
والمنافع والمعلومات
وزيادة إمكانيات
تأثيرها، كما لتأمين
الحماية الضرورية
لنشاطاتها حيث في
الاتحاد قوة.
أعتمد هنا على نموذج
من هذه الكيانات وهو
المثال الأقرب لي، أي
اللجنة العربية لحقوق
الإنسان التي لي شرف
تمثيلها هنا، لأعدد
بعض هذه المهام:
فإضافة للنشاط
الإبداعي الفكري الذي
يشرّح معطيات الواقع
انطلاقاً من موروث
ثقافي وتوقاً لبناء
لبنات التغيير، نجدّ
في رصد الانتهاكات
عند القيام ببعثات
تقصي حقائق وإجراء
البحوث وتوثيق
المعطيات وتحليل
المعلومات وصياغة
التقارير. ذلك إلى
جانب التعامل اليومي
مع المستجدات
والوقائع والتفاعل
الإعلامي والقانوني
مع تأثيراتها. كذلك
من ضمن هذه المهام
التربية على حقوق
الإنسان والتصدي لهذه
السيرورة التي يتعرف
الناس من خلالها على
حقوقهم لجعلها قاعدة
للحوار ومبعثاً
للتغيير وحافزاً على
تبادل ثقافة الاحترام
والتسامح، انطلاقاً
من شمولية هذه الحقوق
وضمن إطار المشاركة
والتفاعل مع الغير.
التسلح بمهارات جديدة
يفترض أن ينقل
للآخرين ولا يبقى
حكراً على المتدرب،
كون زيادة المعرفة
بحقوق الإنسان تمكن
الأفراد والجماعات من
المطالبة بحقوقهم،
وتحمّل مسؤولية
الدفاع عن حقوق
الآخرين، ومعرفة
آليات حمايتها
وتعزيزها، انطلاقاً
من المواثيق الدولية
والصكوك القانونية.
وأيضاً تؤدي لتغيير
المواقف والسلوكات
ولو كان على المدى
المتوسط أو البعيد
أحياناً. حيث من
الخطأ الاعتقاد أنه
يكفى أن يستوعب المرء
المفاهيم والأفكار
لتصبح وعياً داخلياً
وتترجم لانماط
سلوكية.
مهمة تعليم حقوق
الإنسان باتت خلال
العقدين الأخيرين
هدفاً تنشده العديد
من المنظمات غير
الحكومية وما بين
الحكومية وحتى
الحكومية أحياناً.
فهي تربط تعليم حقوق
الإنسان بالتنمية
الاقتصادية
والاجتماعية، وبحقوق
المرأة واللاجئين
وبسيادة حكم القانون
والإصلاح الجنائي.
كما بمراقبة
الانتهاكات وتوثيقها،
وتعلم إجراءات التقدم
بالشكاوى للهيئات
المحلية والدولية
المختصة، وصولاً
للمحاسبة على الأعمال
والانخراط في حل
النزاعات. هذه
الدورات لا تتوجه فقط
للمدافعين عن حقوق
الإنسان. المبتغى أن
تطال أفراد الشرطة
والقوات المسلحة، كما
المحامين والقضاة
والعاملين في مجال
الخدمات الاجتماعية
والصحية ووسائل
الإعلام، وكل الفئات
المهنية التي يجب أن
يتاح لها التعرف على
قواعد السلوك المهنية
وعواقب مخالفتها
وآليات مراقبتها
والمحاسبة على
تجاوزها.
الهدف بالنهاية هو أن
يتوصل الناس، ونحن
هنا نتحدث عن العالم
العربي، للدفاع عن
حقوقهم بمواجهة نظم
الحزب الواحد ودول
الملكيات والجملكيات
المطلقة والرئاسات
القبلية والعسكرية
وتجمعات المصالح
القائمة على الفساد
والإفساد. أن يتمكنوا
من مواجهة الأوضاع
التي جرّتها خصوصاً
سياسات الهيمنة
الدولية ومؤسسات
عابرة للحدود لفرض
التكيف الهيكلي
والتحول لاقتصاد
السوق والاندماج في
الاقتصاد العالمي
الرأسمالي.
ننشد لذلك أن لا يبقى
العمل في هذا الإطار
نخبوياً بل تعبوياً
وشعبياً. أن يصبح
تغييرياً من أجل بناء
الدولة الديمقراطية
وعالم أكثر انسانية
وانفتاحاً على
الثقافات المتعددة
التي تغتني من بعضها
وتؤسس للسلم العالمي
والعدالة الدولية.
فقد بتنا اليوم مع
ثورة الاتصالات
كمجتمعات مدنية أكثر
قدرة على تنظيم
أنفسنا والتعاون فيما
بيننا لخلق شبكة عبر
العالم تجمعها القيم
المشتركة للبشرية
التي تنبذ التسلط
والقوة والتمييز بين
البشر. نحن نعيش في
زمن يفترض أننا نشعر
فيه بالمسئولية عن
مصير العالم وبمواطنة
للإنسانية جمعاء
وانتماء لمجتمع مدني
عالمي يوحده الالتزام
الفكري والأخلاقي
بمصير البشرية.
محاضرة ألقيت في
افتتاحية مؤتمر منظمة
البحر الأبيض المتوسط
للتنمية والعمل
الإنساني في فاس-المغرب
6-7 حزيران 2007