"إن أسوأ ما يوجد على الأرض هو الطاغية"
أفلاطون
يحكى أن طاغية سيراقوص ديونسيوس الأول كان يقرض
الشعر،
وأنه طلب من الشاعر فيلوكسينوس رأيه في هذا
الشعر، فقال فيلوكسينوس إن هذا أسوأ شعر سمعه في
حياته، فأدخله الطاغية السجن.
بعد مدة أحضره الطاغية من جديد ليسمعه قصيدة
"تراجيدية" كان قد انتهى من تأليفها،
فما كان من الشاعر، بعد أن استمع إليها، إلا أن
مال على حارسه وقال:
"عد بي إلى السجن".
كان التراث الأرسطي، في السياسة، يرتكن إلى مقولة
"الإنسان مدني بالطبع"، قبل أن يرتد هوبز على هذا
التراث، ويعلن أن الفوضى هي الحالة الأصيلة في
الإنسان، والأصلية فيه، وأن حرب كل واحد ضد كل
واحد، هي التي جعلته يدخل حالة التنظيم، وبالتالي
ابتداع السلطة، ومن ثم نشوء المجتمع السيامي
الأول، الذي ينقسم إلى حاكمين ومحكومين.
وسؤال تاريخ السياسة، المتجدد، هو الذي يبحث في
طبيعة العلاقة بين هؤلاء الحاكمين والمحكومين، إنه
جوهر كل أشكال الحكم عبر التاريخ، وجوهر كل العلوم
السياسية الراهنة أيضا.
لكننا في هذه الورقة لن ندعي تتبع كل أشكال الحكم
السياسي، وأنى لنا ذلك، بل نريد فقط أن نسهم قي
إلقاء بقعة من الضوء على شكل واحد منها، هو الذي
يعنينا ويعني أنظمتنا الراهنة، وسنرى أن له خصائص
جامعة يشترك فيها جميع الحكام الذين يحكمهم منطق
واحد، هو منطق الطغيان، منطق القائد الملهم، الذي
يذيب إرادة الجماهير، ويعيد تشكيلها، والتعبير
عنها، وبها، كيف شاء.
على الرغم من أن نفسية الطاغية، كل طاغية، تكون
حقيرة، حقودا، خرابا، أمارة بالسوء، تقتات على
نفوس الآخرين وتعمل على تدميرها، لأنها تترقب
الغيلة والغدر من الجميع، وتعيش حالة لا متناهية
من الرهاب، ومن الجميع أيضا، فإن الطاغية يفكر،
ويشتغل بمنطق المتعالي (Transcendent)
، بالمعنى الذي يعطيه ميرلوبونتي للكلمة، أي فيه
شيئا من تعالي الألوهية: إن إرادته فوق إرادة
البشر، لأن طبيعته غير طبيعتهم.
طبيعته فوق طبيعة كل الناس، وعلمه فوق علمهم: إنه
المدبر الحكيم، والعليم الخبير، الذي لا يسأل عما
يفعل وهم يسألون، وهذا يعطيه الحق في أن يشرع،
ويقرر، ويجتهد في كل الأمور: (في التعليم والسياسة
والاقتصاد والحرب...)، إنه لا يُعانَد ولا يُكابَر
ولا يُضاد...، وحتى إذا كانت اجتهاداته خرقاء، فلا
أحد يجرؤ ليقول له ذلك، وهذا ليس أسوأ ما فيه، بل
الأسوأ أن المتلقي ـ سواء كان فردا أو "مؤسسة" -
ما عليه إلا أن يلوي ذراع الوقائع والأحداث حتى
تستقيم مع اجتهادات الطاغية، ويستوي في هذا الأمر
الحكم الفرعوني القديم، مع الاستبداد الشرقي
المعاصر، الذي يختفي خلف "مؤسسات" زائفة، يستشيرها
أو لا يستشيرها الطاغية، هذا شأنه، إذ إن مهمتها
الحقيقية تنحصر في البحث عن كل الطرق لإضفاء
الشرعية والمشروعية على قراراته، ثم تطبيقها، فهي
(المؤسسات) بهذا مجرد مرآة تعكس صورته، وتجمّلها
في نفس الآن، ومن يأبى تحل به اللعنة، تماما
كاللعنة الفرعونية القديمة، هكذا يدخل الطاغية في
حالة من التماهي المطلق مع السلطة، بحيث يرى نفسه
هي، وهي هو، وما على الآخرين إلا الخضوع لإرادته
أو حتى نزواته، إنه يأنف، بل لا يرى أن هناك حتى
أدنى ضرورة، لأن يقتسم مع الآخرين بعضا منها
(السلطة)، وهذه حالة مرضية ميئوس منها، وعند هذه
النقطة يتعطل القانون، فيبدأ الطغيان، كما يقول
جون لوك، أو يبدأ التاريخ الكُلياني، كما يقول
هيغل، وعند هذه النقطة أيضا لا يعود الطاغية يرى
أي حرج في أن يقطع الشجرة لكي يقطف إحدى ثمارها،
على حد تعبير مونتيسكيو الممتاز، دون أن يسمح لأحد
بانتقاد هذا السلوك، أو حتى استهجانه، لأن حرية
التفكير، بله التعبير، محظورة، حتى لو كان منصوصا
عليها في القانون، أو لنقل مع منطق الطاغية
البروسي فريدريش الأكبر: "دعهم يقولون ما يشتهون،
وأفعل ما أشتهي" دون أن يسمح بانفلات الأمور فعلا
إلى ما يشتهون، لأنه يمتلك الآلة القمعية ولا
يتورع عن استعمالها، وله في ذلك منطقه أيضا: "إن
في يدي القوة، وإذا لم أستعملها فما جدواها؟"
نعرف، كما قال أرسطو يوما، بأن من سمات حكم
الطاغية عدم الاستقرار، بسبب انتشار الكراهية
وكثرة التذمر بين أتباعه، لكن هل تكفي الكراهية
والتذمر وحدهما لإقلاق راحة الطاغية فعلا؟
وهل يجب انتظار الطغاة حتى يقتنعوا، من تلقاء
أنفسهم، وينهجوا نهج "صولون" الذي اعتزل السياسة
وتفرغ للشعر، رافضا أن يكون طاغية؟
أم أن الصمت، حتى لو كان صمت المكره، على الوضع
القائم/حكم الطاغية، دليل على القبول به؟ لأنه ما
ينبغي على الجبان أو الرعديد أن يشتكي، في ظل
قبوله بالهوان، حتى لو كان تحت سلطان العنف أو
الإرهاب، بعد أن تحول نصف المجتمع إلى وشاة
وجواسيس، والنصف الآخر إلى متملقين ومنافقين؟
فيتأكد فينا، نحن الشعوب الشرقية، ما قاله أرسطو
قبل ألفي عام، من أننا نتقبل حكم الطغاة بغير شكوى
أو تذمر... وكأن قضاءنا المبرم أن يعيش طغاتنا،
وحدهم أحرارا بيننا، كما قضى "عقل" هيغل؟