الدكتورة
فيوليت داغر
لا
تدعي هذه الأسطر الإلمام بموضوع شائك ومعقد، موضوع العلاقة بين المدافعين
والمدافعات عن حقوق الإنسان والتغيير السياسي في بلد محدد، لكنها ستحاول القيام
بمراجعة سريعة لبعض التجارب ووجهات النظر التي عرفها العالم العربي في العقود
الثلاثة الأخيرة. عبر هذه القراءة ستحاول استقراء بعض الاستنتاجات
الأولية.
يمكن
القول أن أول اندماج في الإصلاح السياسي لمنظمة حقوق إنسان كان ذلك الذي قامت به
الرابطة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان بوقوفها مع التحرك النقابي والديمقراطي في
عام 1980 مع ما ترتب على ذلك من توجيه ضربة قاضية لها من قبل السلطة السورية بعد
إضراب اليوم الواحد في 31 مارس/آذار 1980. كان من الملاحظ مدى التقاطع، حتى لا نقول
التطابق، بين برنامج الرابطة عشية الإعتقالات وبرنامج التجمع الوطني الديمقراطي من
جهة والنقابات المهنية الحرة من جهة ثانية، ذلك رغم الاستقلال التام بالأشخاص بين
القيادات السياسية والحقوقية.
بعد
هذا الحدث، سجل المحامي جوزيف مغيزل ثاني تجربة تخوض فيها منظمة حقوق إنسان في دور
سياسي مباشر. فمن صلب الحزب الديمقراطي الذي سبق وأسسه طرح عدة مسائل في برنامج
الجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان في 1985. من هذه المسائل علمانية الدولة والقانون
الاختياري المدني للأحوال الشخصية والتحالف مع الحركة الوطنية ضد الاحتلال
الإسرائيلي والمشاركة في الفعاليات السياسية. توج الأستاذ مغيزل هذا الخيار بترشيحه
للنيابة وانتخابه نائبا في انتخابات قاطعتها عدة قوى سياسية وسجلت عدة احتجاجات بما
يخص نزاهتها. لقد احتفظ وقتها مغيزل
بمركزه كرئيس للجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان مع مقعده النيابي.
أمثلة
أخرى على هذا الموضوع تطالعنا في الجزائر والسودان وتونس والمغرب ومصر.
من
الضروري التوقف عند الجزائر وتونس لما في هاتين التجربتين من فرادة. ففي الجزائر
طرح السؤال من جديد عند مشاركة الأستاذ علي يحيي عبد النور في مؤتمر روما عام 1995
، ومن ثم انتخابه ناطقا رسميا باسم جماعة روما مع احتفاظه بمنصبه كرئيس للرابطة
الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان. اعترض مدافعون عن حقوق الإنسان على الجمع بين
المهمتين منهم هيثم مناع الذي يذكر سببين في مداخلة له في نهاية 1995
هما:
1-إن
هناك أطرافا في اتفاقية روما لم تتخل عن العمل المسلح، ما يمكن أن يخلقه ذلك من خلط
بين حقوق الإنسان واستعمال العنف.
2-إن
الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت تتطلب منظمات غير حكومية قوية ومستقلة
للدفاع عن الضحايا.
وقد
اقترح وقتها أن يصبح بن يحيي رئيسا فخريا للرابطة، تجنبا لجمع المهمتين، أو أن
يتوقف دوره عند منسق في المؤتمر وموجه لخطه السياسي فيما ينسجم مع الشرعة الدولية
لحقوق الإنسان.
ردا
على مناع، كان هناك رأي آخر يقول بأن بقاء علي يحيي في موقع المسؤولية المزدوج ضمان
لاقتراب أكبر لأنصار روما من حقوق الإنسان. وهذا ما جرى تاريخيا في فرنسا عندما
كانت الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان في صلب مشروع الجبهة الشعبية قبل الحرب
العالمية الثانية.
نجد
في السودان مثلا مشابها لمثل الجزائر عبر شخص الأستاذ فاروق أبو عيسى، الناطق
الرسمي باسم التجمع الوطني الديمقراطي في السودان. الفارق هنا هو في كون مواقع
الأخير في منظمات إقليمية لا في رئاسة منظمة سودانية لحقوق
الإنسان.
يمكن
اعتبار التجربة التونسية بإيجابياتها وسلبياتها مثلا لعدم جمع المهمتين على الأقل
من الناحية الاسمية. فقد تولى الوزارة من تولاها بعد خروجه من مواقع المسؤولية في
الرابطة، كذلك رشح للنيابة من رشح بعد تركه قيادة الرابطة. وهذا حال الدكتور منصف
المرزوقي الذي رشح نفسه لانتخابات الرئاسة في مواجهة مفتوحة مع الطابع التعسفي
للسلطة بعد تركه قيادة الرابطة.
الجديد
في التجربة التونسية بدأ مع ولادة المجلس الوطني من أجل الحريات. هذا المجلس، وإن
كان قد توجه نحو السلطات للحصول على ترخيص من أجل العمل كجمعية غير حكومية، إلا أنه
في صلب معركة تفكيك السلطة التعسفية والإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي. توضح
ذلك من خلال الشحنة التي أعطاها للمنظمات غير الحكومية الأخرى من جهة والمهمات التي
يطرحها على نفسه من جهة أخرى (بما فيه مهمة المؤتمر الوطني التي تتجاوز المفهوم
التقليدي لعمل منظمات حقوق الإنسان).
من
قراءة مشروع المنظمات المصرية حول الإصلاح الديمقراطي قبل عامين، والتوقف على عمل
المنظمات الفلسطينية من أجل دستور ديمقراطي في فلسطين (مثلا ندوة الميزان الأخيرة
في أيلول الفائت ودراسة الحق حول القضاء في فلسطين)، وكذلك ما تقوم به اللجنة
العربية لحقوق الإنسان لإصدار دراسات في الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، نلاحظ أن
مسألة الإصلاح السياسي لم تعد غريبة عن المنظمات الكفاحية لحقوق
الإنسان.
إذن
من جملة الأسئلة المطروحة علينا اليوم:
1-هل
بالإمكان توفير خوض معركة الإصلاح السياسي والركون وراء صيغة تقوم على حماية
المنظمة قبل حماية المجتمع وترتيب الأولويات على أساس التواجد التنظيمي في حد ذاته
؟
2-ألسنا
معنيون بالمشكلات المباشرة للعمل السياسي مثل فصل السلطات وتفعيل وسائل المحاسبة
والفساد ودمقرطة الدساتير والقوانين كما نحن معنيون بالاعتقال التعسفي والاختفاء
والتعذيب الخ ؟
3-كيف
يمكن التوفيق بين طبيعتنا كسلطة مضادة والاحتمال القائم في الفرز المستمر لكوادر من
حركة حقوق الإنسان لعالم السياسة والسلطة السياسية ؟
إن
تعريفنا للمنظمة غير الحكومية لحقوق الإنسان كسلطة مضادة يشمل في جوهره مراقبة كافة
مؤسسات السلطة التنفيذية وعلاقتها بالسلطات الأخرى من جهة والمجتمع من جهة ثانية.
فكيف يمكن تصور منظمة حقوق إنسان تغض النظر عن طرق تنصيب الحكام والمسؤولين وتغمض
العين عن تجاوزات المؤسسات الأمنية وتتهاون في تشريح طبيعة العسف السياسي وتدعي
حماية الأفراد والجماعات في الوقت نفسه. هل من الضروري التذكير أن صحافة موسوليني
كانت تنتقد انتهاك الحريات في الدول التي تحاربها. ومثل الخلافات السورية
–العراقية
خلال 30 سنة وكيف يحتضن كل منهما لجنة للدفاع عن حقوق الإنسان عند الآخر معبر جدا
على صعيد المصداقية والتوظيف والاحتواء. وإن كنا بالفعل منسجمين مع أنفسنا فلا بد
لنا من خط منسجم داخل وخارج حدود بلداننا من جهة ومع العسف بكل أساليبه وأشكاله من
جهة ثانية.
ليس
لدي إجابة حاسمة على هذه الأسئلة، لكنني اقترح صيغة منهجية للتعاطي معها بشكل يسمح
للمنظمات غير الحكومية بتناول الحقوق الأساسية الستة (المدنية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية) دون أن تجد في كل يوم من يشكك في
نزاهتها النضالية أو من يوظف الحقوقي لصالح الحزبي أو يخلط بين مشروع السلطة
والسلطة المضادة. هذه الصيغة تقوم على عدم الجمع بين المهمات القيادية السياسية
والحقوقية. فكل إنسان كائن سياسي واجتماعي لا جدال في ذلك، والحديث عن منظمات
غير سياسية ليس دقيقا بقدر ما هو دقيق الحديث عن منظمات غير متحزبة (non
partisane). لا شك بأن السياسة بالمعنى السياسوي هي التي تبتعد بتحالفاتها
وحرتقاتها عن السياسة بالمعنى النبيل للكلمة، كمشاركة في هموم ومشاكل المجتمع. بهذا
المعنى يكون دورنا إسماع صوت من لا صوت له في المجتمع، وبالتالي دور من يؤثر الدفاع
عن الأقلية المظلومة وعن الفرد المخنوق ولو لم تكن قضيته مصدر رضى الأغلبية العددية
في لحظة ما. ومن الضروري أخذ المبادرات والمشاركة في المبادرات السياسية الطابع في
الدول التسلطية لأننا طرف أساسي في التخلص من الدكتاتورية وعملية البناء
الديمقراطي. فنحن قوة اقتراح هامة تأخذ بعين الاعتبار المبادئ قبل المصالح الآنية
وقوة مراقبة على التعبيرات السياسية في برامجها وتصرفاتها ومنسق أساسي في كل ظروف
الأزمات حيث يغيب الوسيط القادر على تثبيط العنف. ونحن بالضرورة في معسكر
الديمقراطيين لمناهضة العسف وإن كان دورنا باستمرار أن نكون يقظين لمدى احترامهم
لمبادئهم المعلنة ولحقوق الأشخاص والجماعات في برامجهم وممارساتهم. ومن حقنا
كمواطنين التصويت واختيار من نريد كأفراد وتحديد مواقفنا بما ينسجم مع قناعاتنا
فرديا أو جماعيا، كذلك من حقنا كأفراد أن نشارك مباشرة في العمل السياسي على أن لا
نشغل في وقت واحد دور المراقب والمشارك، أي أن لا نكرر ما تفعله السلطات التعسفية
التي تحدد المرشح وتعود لمبايعته وتطالب الناس بفعل ذلك تحت رقابتها..
من
السابق لأوانه القول أن حركة حقوق الإنسان هي المولد الجديد لدينامية إعادة تكون
التشكيلات السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر في أكثر من بلد عربي. لكن في الوقت
التي تقدم فيه حركتنا كوادر سياسية نوعية في أكثر من قطر، من الضروري أن نحرص على
تحديد التخوم بين السلطة والسلطة المضادة من جهة، وبين السياسة السياسوية والسياسة
المواطنية التي تضع الإنسان نصب عينها غاية وحقوقه برنامجا.
أعدت
لمؤتمر النشطاء في الرباط اكتوبر 2000.