المعركة المثالية لأهالي
المفقودين في الجزائر....
أحمد سي مزراق
الجدير
بالذكر أن أعمال العنف بدأت عام 1992 عندما ألغيت الانتخابات التشريعية التي فازت
بها الجبهة الإسلامية
للإنقاذ وصودر اختيار الشعب الجزائري بجرة قلم وحدث الانقلاب على
المسار الديمقراطي. وقد اعترف الرئيس بوتفليقة بعيد
تسلمه الحكم بكون الانقلاب عمل عنف مضيفا أنه لو كان عمره عشرون سنة لكان من عداد الذين
التحقوا بالجبال.
منذ ذلك الحين بدأت عمليات المداهمات
والاعتقالات التعسفية و التعذيب والتقتيل وكانت ظاهرة الاختطاف والاختفاء جزءاً من
الممارسات اليومية حيث كان يتم القبض على الأشخاص في الليل و النهار في مساكنهم
وفي المقاهي والأسواق وفي أماكن عملهم ثم يقتادون إلى مراكز قوى الأمن أو إلى
السجون قبل أن يختفوا نهائيا .
لم بيأس أهالي المفقودين ولم يملوا البحث عن ذويهم في مراكز الشرطة والدرك وثكنات الجيش
والميليشيات والسجون وأماكن الاحتفاظ بالجثث في المستشفيات والمقابر ولكن بدون
جدوى . كما قامت أيضاً تلكم الأهالي
بتقديم الشكاوى إلى السلطات المعنية وناشدت الحكومة والبرلمان ورئيس
الجمهورية. وعلى الرغم من الوعود المتكررة من جانب الحكومة بالتحقيق في حالات
الاختفاء هذه، إلا أنه لم يتم أي تحقيق كامل ومستقل في أي من حالات الاختفاء.
على كل حال يرجع
إليهن الفضل في إبراز
قضية المفقودين وتدويلها حيث كان الحديث عنهم ممنوعا وخاصة عن الجهة المسؤولة عن
اختفائهم.
مما أدًى
بالفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان إلى القول بأن "عزم أهالي المفقودين
وجهودهن في البحث عن الحقيقة ورفع الستار عن اختفاء ذويهن ساعدت على الاعتراف
بظاهرة الاختفاء وتبني إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعلق بحماية كل
الأشخاص ضد الاختفاء القسري واعتبار الممارسات المنتظمة للاختفاء القسري من قبل بعض
الأجهزة كجريمة ضد الإنسانية وهذه كلها انتصارات أقل شيء على الصعيد الدولي في سجل
تلك الأهالي "[1].
تحت عنوان
"حق البكاء" جاء مدحهن على لسان الممثلة السينمائية ايزابيل
أدجاني بهذه الكلمات إكراما لهن :"
شجاعتهن عظيمة في البحث عن الحقيقة, يطالبن عدالة أوَلية تكاد تقضي عليهن( ..)
يتصارعن من أجل حق
البكاء, لا ينبغي للدموع أن تسيل هدرًا. يجب
عمل كل شيء حتى لا يكون أمهات مفقودين, فلنسمع إلى شهاداتهن وليكن أخر صمت, صمت
احترامنا. اختفاء وصمت ؟ لا..بل عدالة وحقيقة "[2]
معظم أمهات المفقودين يرددن العبارات التالية :
"
أريد فقط أن أعرف أين ابني هل حي أم ميت" وتقول الأخرى :
"اختفاء
ابني يحرقني كأنني قابضة على الجمر المتأجج .أعاني من
هذا الألم منذ تسعة أعوام ولكن لا أستطيع أن أترك" .
ولا أحد
يعرف حقا كم عدد المختفين. أغلبهم كانوا رجالا تتراوح
أعمارهم بين 14 و80 عاما.
وبالرغم من
خشيتهم مغبة الاحتجاج العلني لمدة سنوات إلا أنه ومنذ أغسطس 1998 قامت مئات
الأمهات بتنظيم اعتصامات كل أسبوع أمام مقر اللجنة
الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان التي يرأسها المحامي فاروق قسنطيني للمطالبة بعودة أبنائهن أو بمعلومات عما آل إليه مصيرهم.
شرعن في الخروج في
مظاهرات منتظمة في العاصمة، الجزائر، وفي المدن الأخرى مطالبين بإخبارهن عما حدث
لأقاربهن المفقودين. ومع أنه قد سُمح لهن بمظاهرات الاحتجاج، إلا أن قوات الأمن
قامت في عدد من المناسبات خلال السنوات الربعة الأخيرة بتفريق المظاهرات بالقوة
والتهديد والترهيب والضرب والشتم وجرهن على الارض واعتقالهن وهذا كله لم يثنيهن عن
مواصلة المعركة حتى تحطم جدارالصمت على أيديهن.
صرحت ليلى ايغيل رئيسة الجمعية الوطنية
لعائلات المفقودين في الجزائر" أن الجمعية التي
ترأسها منذ سنوات والتي تختص بتحديد هوية الأشخاص
والجهات التي تقف وراء حالات الاختفاء القسري في التسعينات, جمعت ما يزيد على سبعة
آلاف ملف. وقالت
" أن لديها أدلة تؤكد أن 80 في
المائة من حالات الاختفاء يقف وراءها أفراد من الأمن الجزائري و"هذه حقائق
موثقة لدينا ولا يمكن أن يتهرب منها واحد".
واعتبرت إيغيل, في لقاء مع "الحياة", أن نشاط اللجنة الخاصة بمتابعة ملف
المفقودين لا يرتقي إلى ما هو مطلوب وقالت "أن اللجنة ترغب في تقديم تعويضات
مادية لعائلات المفقودين وهو ما نرفضه تماماً لأنه ينطلق من فكرة التعويض في مقابل
النسيان وقالت إيغيل إن حل المشكلة (المفقودين) يمر حتماً عبر العدالة. لكن هذا
يتطلب توفر نية سياسية من رئيس الجمهورية لإيجاد حال نهائي ". [3]
أما
الأستاذ قسنطيني فقال في تصريح لوكالة ارويتر بتاريخ 16ديسمبر أنه من المحتمل أن يكون رجال الأمن
مسؤولين بشكل فردي عن موت 5200 مدني من المفقودين
" لكن الدولة لم ترتكب جريمة " وأضاف "أن رجال الأمن قاموا
فرديا بتصرفات غير قانونية(...) يجب ان تفهموا أن
التجاوزات التي ارتكبها مسؤولون بالأجهزة الأمنية لم تتم بأوامر من الدولة بل من
أنفسهم وأنه يتفهم معانات أهالي المفقودين وآلامهم وأن من حقهم أن يعرفوا الحقيقة
عن أفراد أسرهم . " ووعد بتقديم ملفاته للأسر إذا
أرادت إحالة القضايا للمحكمة.
وتقدر
رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان التي يرأسها الوزير السابق علي يحيى عبد النور عدد المفقودين
في الجزائر بما يناهز الثمانية عشر ألف.
بالرغم من الجدال الدائر حول
الأرقام , يبقى عددهم في الجزائر جد مرتفعا حيث يتراوح بين ثمانية آلاف و ثمانية
عشر ألف نسمة.
يتضح من خلال دراسات مختلفة نذكر من بينها دراسة أجريت على 477حالة
أنجزتها مجموعة عمل تضم المصلحة الدولية
لحقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة والفدرالية اللاتينو أمريكية للجمعيات
المتعلقة بالاختفاءات والاعتقالات (فيديفام) ولجنة المفقودين الجزائريين, يتضح من
خلالها أن خمسة وسبعين بالمائة من المفقودين في الجزائر هي بفعل قوى الدولة
المتكونة من الجيش والأمن العسكري والقوى الخاصة المشتركة والشرطة والدرك وميليشيا
الباتريوت وحرس الدفاع الذاتي.
في معظم الحالات تتضمن هذه الدراسات ذكر هوية الهيئة أو المصلحة
الرسمية المسؤولة عن الاختفاء, تارة تذكر أسماء الضباط المسؤولين أو الذين ساهموا
في العمليات وكذلك الشهود والأماكن حيث اقتيد الأشخاص المختفين (محافظات الشرطة
ومقرات الفرق للدرك الوطني والثكنات والسجون )
حسب الدراسة المذكورة , قام
الأهالي والأقارب بمساعي تجاه السلطات تتمثل في رفع دعاوى مختلفة يبلغ عددها 380
من بينها 321 دعوى تجاه الهيئات القضائية لم تأتي بنتائج مرضية.
خلص منجزو الدراسة إلى القول بأن عمليات الإيقاف والاختفاء تجري في
جو اللاعقاب التام, حيث يتصرف الفاعلون في أي ساعة من النهار أو من الليل
وباستطاعتهم شل كل بحث أو عمل قضائي.
ويفهم من تصريحات الرئيس بوتفليقة أن
السلطات المعنية جادة بشأن إلقاء الضوء على ما جرى في الماضي وفي الكشف عن الحقيقة
ومحاسبة المجرمين. لا شك أن الرئيس أفضى إلى التأكد من أن نجاح عملية المصالحة
مرهون بتسليط الضوء علي قضية المفقودين وتطبيق العدالة لإنصافهم.
كما قالت السيدة نصيرة ديتور المسؤولة عن مجموعة أهالي المفقودين
والناطق الرسمي باسم س.و.س مفقودين : " أهالي المفقودين ينتظرن شيئا أخر غير
التعويض" و دعت السلطات إلى تحمل مسؤولياتهم لأن حسب قولها "ملف
المفقودين لم يغلق أبدا قبل أن يسلط الضوء على مصير كل المفقودين وقبل أن تظهر
الحقيقة والعدالة" كما طالبت نفس
السلطات استخلاص العبر والدروس من
المثال الشيلي الذي تبين من خلاله "أن الحقيقة وحدها وكل الحقيقة كفيلة
بانتقال الجزائر إلى الديمقراطية الحقيقية" [4]
وقالت مريم
بلعلا الناشطة في مجال حقوق
الإنسان "الشجاعة السياسية لكشف الحقيقة مثلما حدث في جنوب إفريقيا (بعد
انتهاء سياسة الفصل العنصري) غائبة في هذا البلد."
فيما يخص مسؤولية الدولة سواء منها المدنية أو الإدارية أو الجنائية
فلا ريب في ثبوتها حيث تنتج مسؤولية
الدولة كشخص معنوي عن أفعال أعوانها وتكون المسئولية جنائية إذا كانت هذه الأفعال
متعمدة وصادرة عن أوامر من كبار الضباط والمسؤولين كما هو الشأن بالنسبة للجزائر
والأدلة كثيرة على ذلك من بينها تصريحات علنية واضحة تناقلتها الصحف.
إن مصدر الإشكال في معالجة قضية الاختفاء يتمثل في انعدام الإرادة
السياسية و في الفراغ القانوني المقصود الذي ساعد على الخلط بين الاختفاء المدني
أو الغياب الناجم عن الكوارث الطبيعية أو الأحداث أو عن محض إرادة الإنسان الذي
يريد المغامرة بالنفس في عمل ما وبين الاختفاء الناجم عن الفعل الإجرامي[5].
لقد أدى هذا اللبس إلى نوع من التحايل القانوني على أهالي المفقودين وما يجب
القيام به لصالحهم من إظهار الحقيقة والعدالة ذلك أن الدولة تريد اختزال حل
المشكلة في التعويض المالي وهذا ما يرفضه إطلاقا أهالي المفقودين.
إن العفو شيء جميل ولكن الحقيقة أجمل, يقول المثل الشعبي : أرني حقي
وخذه.
لاشك أن أهالي المفقودين لا يريدون الذهاب أبعد من معرفة الحقيقة,
وهذا شرط أساسي لنجاح عملية المصالحة التي لا ينبغي أن تقوم على الظلم والتدليس
والمخادعة.
ولدينا أمثلة كثيرة على عدم جدوى العفو إذا لم يقم على أساس الحقيقة
والعدالة, لاسيما أن الجرائم المعنية غير قابلة للتقادم.
في
إفريقيا الجنوبية تمت مقايضة العفو بالحقيقة بعد أن حوكم وأدين الكثير من
المجرمين.
وفي إطار ما يسمى بخطة كوندور التي وضعت سنة 1975 لتصفية المعارضين
في الارجنتين والشيلي وبوليفيا والاورقواي والبراقواي لم يكن أي مفعول لقوانين
العفو ولم تجد المصالحة نفعا ولا التعويض المالي, بعد مرور أكثر من عشرين سنة على
ارتكاب الجرائم من طرف جنرالات الاستبداد أدركتهم العدالة من جديد ولم يشفع فيهم
لا عفو ولا تقادم ورغم شيخوختهم وتدهور صحتهم وجدوا أنفسهم متورطين في قضايا طالما
راهنوا على دفنها ونسيانها. ولذلك نرى أنه أحرى بالذين تورطوا في جرائم مثل هذه أن
يواجهوا العدالة وهم سالمون قبل التقدم في السن والشيخوخة.
إن الفراغ القانوني يمكن ملؤه بسهولة إذا توفرت الإرادة السياسية,
فبغض النظر عن المواثيق والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها الجزائر, بإمكان
أهالي المفقودين اللجوء إلى المواد 293,292,291 من القانون الجنائي الجزائري ريثما
تصدر نصوص أخرى ذات صلة بالموضوع, وهكذا
تحل مشكلة المفقودين بواسطة القضاء الجزائري ونكون قد جنبنا أهاليهم متاعب وتكاليف
القضاء الدولي.
19 \1 \ 2005