من أجل مفهوم آخر ومقاييس جديدة للوطنية

                   د. منصف المرزوقي

يوم 20 أفريل نيسان  ، نشر  موقع'' تونس- نيوز''  على الانترنت شهادة شدّت انتباهي وهي  لمتطوّع تونسي عن المغامرة والمأساة التي تعرّض لها هو وبقية المتطوعين العرب الذين هبّوا من كلّ الوطن العربي لنصرة العراق،  علّهم يعوّضون تخاذل الأنظمة وجيوشها الرابضة بكل فخر واعتزاز على أطراف الدويلات التي صنعت حدودها معاهدات ''سايكس- بيكو'' في الماضي  والمستعدة لبذل دمائها الطاهرة للدفاع عن الحدود التي سترسمها معاهدات '' سايكس -بيكو'' في المستقبل. وهذا المتطوّع ذهب هو الآخر مدفوعا بأنبل القيم ومسكونا بأجمل الصور ليواجه  الحقيقة المخيفة . هذه الحقيقة لم تكن  نيران جيوش الغزو  الهائلة و كانت متوقعة،  وليست ظروف الحرب الرهيبة وأخطارها ،  فطلاب البطولة والاستشهاد لا يرهبونها بل هم أتوا أساسا للبحث عنها. المفاجأة غير السارّة تمثلت في ما  تعرّض  له الرجل ورفاقه  على يدي الضبّاط العراقيين من إهمال  ودفع للمواقع التي يستحيل الدفاع عنها  وتركهم دون تعليمات ثم التخلي عنهم في العراء. وليس هناك ما يجعلنا نشك في صدق هذه الشهادة فقد نشرت جريدة'' لوموند'' الفرنسية  بتاريخ 11 أفريل مقالا عنوانه ''جاءوا لإعانة العراق - المتطوعون العرب يشعرون بأنهم خدعوا''. في هذا المقال نجد نفس تفاصيل التيه والضياع داخل العراق إبان الحرب بلا تدريب ومهام وأوامر ونفس القصص عن فرار الضباط العراقيين وتشرّد المتطوعين  ومحاولاتهم اليائسة للعودة إلى أوطانهم وهذا  جزء من الشهادة المنشورة :''يقول المتطوع التونسي الأسعد جراد -30 سنة-: إن المتطوعين العرب الذين سبقوه بالعودة من حيث أتوا قالوا له: "إن الجبهة كلها خيانات"، موضحا على سبيل المثال كيف أن متطوعا يمنيا همّ بضرب طائرة "أباتشي" أمريكية لكن ضابطا عراقيا صاح في وجهه: "لا تطلق النار.. إنها عراقية". ويضيف الأسعد قائلا: "إن الكثيرين من المتطوعين العرب شعروا بالإحباط أمام تدهور الوضع العسكري في الجبهة بفعل الخيانات التي حدثت وتتناقل الألسن حكايتها .

لكن الصدمة  الكبرى التي أذهلت الشبان    وأفقدتهم    رشدهم   كانت  مواقف بعض المدنيين العراقيين ''ويقول المتطوع عماد -25 سنة-: "الأهالي هاجمونا بشكل مكثف وأطلقوا علينا النار وكانوا يسألوننا: لماذا أتيتم إلى هنا؟ لتدافعوا عن صدام؟!"، ويضيف عماد أن هجوم الأهالي تسبب في قتل بعض المتطوعين، وأن مسلحين عراقيين قتلوا 3 منهم في عملية اختراق للصفوف الخلفية بشكل غادر''

لنتصور ذهول هؤلاء الشباب العرب المتحمسين المخلصين وهم يقتلون برصاص  مدنيين عراقيين يرون فيهم مرتزقة عرب جاءوا للدفاع عن  الدكتاتور  شتّان بين الواقع الذي تدافع إليه هؤلاء الشبان والصورة المنمقة الجميلة التي كانت تدفع بهم إلى المحرقة. شتّان بين الحلم الجميل التي كانت الجماهير تحلمه  على وقع صوت الصحّاف وبين الواقع الذي أفاقت له. أليس الهذيان أن نخلط بين الواقع والأحلام  وهل هناك من هذيان أخطر من ذلك الذي يدفع له الإنسان حياته ثمنا ؟ وهذا الأخير  مرض   مزمن ظهرت الكثير من  أعراضه إبان غزو الكويت.  يومها ذهلت وأنا أرى مناضلي رابطة حقوق إنسان التي كنت أرأسها يتظاهرون تحت يافطة تقول بالكيماوي والمزدوج اقتلهم يا صدّام،  وخيّل لي أنني أكتشف مجانين بالمعنى الطبي للكلمة وراء تصرفات  أناس توسمت فيهم  يوما ما التعقل. ما أغرب أن ترى ديمقراطيين ينازعون الدكتاتور التونسي في كل سياساته ويتبركون بالدكتاتور العراقي وهو أقسى وأفظع منه قمعا ألف مرّة. ما أغرب أن ترى كبار قيادات حركة حقوق الإنسان تؤيد دكتاتورا سجلّه حافل بآلاف الإعدامات والقتلى تحت التعذيب في نفس الوقت الذي تقاوم  فيه بشراسة دكتاتورا من الدرجة الثانية ليس في سجلّه إلا –إن صح التعبير وهو لا يصحّ- عشرات الموتى تحت التعذيب. ما أغرب أن ترى أناسا يتحدثون عن المكيالين وازدواج المعايير عند الآخرين ولهم ألف تبرير في غزو بلد عربي مستقل؟ والأغرب من هذا كلّه العمى التام عن ترتبات العملية وخطورتها على الشعب العراقي والأمة ككل. وفي فترة زخم الهذيان الجماعي  قلت وكتبت أن الدكتاتورية واحدة والقمع واحد وغزو أراضي الآخرين واحد، أنه من الجنون الانخرط في تأييد النظام العراقي في حماقة مثل غزو الكويت. يومها طالب نائب رئيس الرابطة  باستقالتي وتساءل البعض عن مدى انتفاخ حسابي البنكي وكادت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان  أن تنفجر وتبرأ مني أهلي  ونشرت لهم صحيفة حكومية بالأحمر الغليظ عريضتهم وعنوانها ''المرازيق  يتبرّأون من منصف المرزوقي'' واكتشف الجمع فجأة أنني صهيوني وبصق عليّ مجهول في الطريق العامّ وصرت لا أدخل اجتماعا إلا ونهض أحد ليعلم الحشد أنه يرفض الجلوس مع خائن للعروبة كتب عن أم المعارك أنها أم الهزائم .هكذا أصبح الوطني ابن الوطني بين عشية وضحاها خائنا يشار إليه ببنان الريبة والاستهجان .

ورغم أن دكتاتورية صدّام حسين ستطبع لزمن طويل ذاكرة العرب بما فيها من شطط وغلوّ في القمع والفساد  حتى بالمقاييس المعتادة للدكتاتوريات العربية، فقد حافظت إلى  لحظة سقوطها على بريق غريب حتى عند من كفروا بالمنقذ المحلّي. ونحن لن نفهم الظاهرة إن لم نعد لمفهوم الوطنية وبنيته التحتية التي تشكلت بالأساس على  كره دفين للاستعمار والصهيونية. وقد كان من السهل على الدكتاتورية العراقية أن تلعب على هذا الشعور العميق لتنسي العرب أن بوسع ابن الدكتاتور أن  يقتل مواطنا ويسلم من العقوبة وأن قصور الرئيس ابن الشعب  ليس  لها شبيه  في العالم، أن حلبجة  وصمة عار في جبين الأمة. ومما تناساه المخدوعون من ديمقراطيين وحقوقيين  عندما أشاحوا بالبصر عن عذاب الشعب العراقي تحت نير الاستبداد أنّ لكل دكتاتور  أداة عمل لتبرير دكتاتوريته وإضفاء الشرعية عليها فهذا اختصّ بالدفاع عن الإسلام  وآخر نذر حياته للوحدة وثمة حتّى من بلغت به الصفاقة إلى حدّ تبرير دكتاتوريته  بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي هذا لم يختلف صدّام  حسين عن زملائه إلاّ في اختيار أداة العمل وهي القومية والوطنية و محاربة أمريكا والصهيونية  ونسي الناس بسرعة أن الدكتاتور العراقي  خدم مصالح  أمريكا في الحرب المجنونة ضد إيران ولما أرادت التخلص منه انقلب عليها مفضلا خراب البصرة على خراب حكمه.

لقد  لعب الدكتاتور العراقي  بمهارة على الوتر الحسّاس  عند الجماهير العربية، خاصة الوتر الفلسطيني، فتجاوبت معه وقد غلب عليها  كرهها الغريزي  للاستعمار  على كرهها الجديد للاستبداد. المضحك في الأمر أن الدكتاتورية السورية كادت تستعيد شيئا من بريقها بموجب هذا المنحى الطبيعي في تفكيرنا  عندما رفعت الصوت مؤخرا  ضدّ التهديدات الأمريكية . فجأة  بدأ البعض  يحلمون  بمصالحة وطنية على قاعدة العداء المشترك للاستعمار. ويا لها من سذاجة أن يخلط المرء بين العداء الجوهري للاستعمار الذي يحمله الوطني الحقيقي وبين العداء الظرفي أو التكتيكي له عند الدكتاتورية. إنّ  الدكتاتور أيا كان،  لا يخدم إلا مصالحه وبقاؤه في السلطة فإن كانت محاربة الاستعمار تجارة رابحة حارب الاستعمار وإن بارت تنازل له عن كل شيء. لا غرابة أن  يتبخّر الحلم كضباب الفجر  فسرعان ما عادت الدكتاتورية السورية  إلى قواعدها سالمة معلنة عن قبولها اللا مشروط  بكل الشروط ومنها رفض  استقبال مواطنيها  الفارين من العراق  بينهم  رئيس سابق. لا غرابة أن نجد هذا الوازع العميق عند  المتطوعين العرب الذين ذهبوا للعراق  يحملون في عقولهم وفي قلوبهم تناقضا  ضيّع عليهم قدرة الحساب.

 

 

 وحتى نفهم كيف تخبّط جزء كبير من النخبة والشارع داخل أوهام وأفكار منها التي انتهت بموت متطوعين عرب على أيدي عراقية  لا بدّ من الرجوع إلى بيت القصيد : كيف نحب ونخدم  هذه الأرض  التي نريد أن نفرّ إليها  و أن نفرّ منها  والتي أطلقنا عليها اسم الوطن.

وطنية الاستبداد

ممّا  لا شكّ فيه أن المتطوعين  هبّوا لنجدة  العراق من باب هذا الشعور النبيل الذي نشأنا جميعا عليه. لولا وطنيتهم الصادقة  لقبعوا في بيوتهم ليشاهدوا الحرب على شاشة التلفزيون مثل كل الناس يشاركونهم نفس شعور القهر والألم لكن  وطنيتهم  لم تتوقف عند المشاعر فتجاوزتها لتصبح أيضا أفعالا وطنية. يصبح السؤال ما هي المشاعر الوطنية التي تستطيع عندما تلتهب وتحتدّ أن تؤدي إلى تصرفات وطنية قمتها الذهاب لجبهة النار طمعا في الاستشهاد ؟  هذه المشاعر هي بداهة كره وحب، والكره هو كره المستعمرين والصهاينة الذين أذاقونا على مرّ العقود منذ قرابة قرن  علقم الإذلال ومرّغوا مرّة تلو الأخرى أنفتنا في التراب. وهي حبّ جارف للوطن المهان ولصورة مثالية له نحملها في العقول وفي القلوب ونأمل أن نراها تتحقق  في حياتنا أو نتركها مشروعا مقدسا للأجيال القادمة.  لكن ما هو بالضبط هذا الوطن الذي نكره أن يذلّ ونريد له الحرية والكرامة والرخاء و لا  نخشى، عندما نكون شبابا متحمّسين، من التبرع بدمنا لسقاء تربته ؟إن الإجابة الخاطئة على هذه السؤال'' البسيط'' هي التي أدخلتنا طيلة نصف قرن كل أصناف الهذيان منها  التي أودت بحياة وطنيين عرب على أيدي وطنيين عراقيين يتشاركون في نفس المشاعر الجياشة من حب ومن كره . وحتى نفهم ما جرى لا بدّ لنا من عودة إلى بداية انتصاب الدول '' المستقلّة '' في كل قطر عربي. فبقدرة قادرة اختزل الوطن في شخص ونظام وأصبح الوطني من ينتسب للحزب الحاكم ويسبّح بحمد المنقذ الملهم الأخ القائد. هكذا اختصر الخطاب الرسمي تونس العشرة ملايين مواطن وكذلك الزيتون والنخل والبحر وتاريخ انطلق منذ  قرطاج في حزب وشخص بورقيبة ثم من بعد في شخص بن علي  . لا غرابة أن  نقرأ في صحف النظام  عناوين من نوع

'' الصحافة الفرنسية تهاجم تونس'' والحال أن الموضوعية كانت تقتضي أن تكتب '' الصحافة الفرنسية تهاجم انتهاكات حقوق الإنسان للسلطة في تونس''. بنفس الكيفية والآليات والأبواق المأجورة،  اختزل الخطاب الرسمي  في سوريا ملاحم وآمال وآلام شعب عريق في  المصحّح الكبير المدعو حافظ الأسد. كذلك  أصبح من يهاجم حسني مبارك عدوّا لدودا  للأهرام والنيل  ، وهكذا أصبحت كل المعارضات تجمعات لخونة مارقين. وهكذا نشأت ما يمكن تسميته بالوطنية النظامية وهي   التواصل المنطقي لاختزال الوطن في القائد. إلاّ أنّ  زيف  هذه الوطنية لم يلبث أن اتضح للجميع باتضاح خواء كل الشعارات من كل مضمون حقيقي. ورغم هذا أو ربما من أجل هذا تمسرح  الهذيان الجماعي  في شكل حلم القائد  بأنه يحكم شعبا محبا مطيعا يرقص في الشوارع أنه سيفديه بالروح وبالدم  وتمسرح أيضا في كابوس الشعب  وهو يرى نفسه  محكوما من قبل  وحوش دموية  وقد أدرك أن  حبّ النظام للوطن ليس  بالقلب وإنما   بالأسنان التي ترحي  واللسان الذي يتلمّظ ....حب شبيه بحب الشره الأكول للدجاج المحمّر.  و لا يفيق هذا من الحلم  وذاك  من الكابوس  إلا يوم تسقط فيه التماثيل ويبصق الراقصون على صورة القائد المفدّى. وبين السقوط في براثن الكابوس والاستفاقة ترى العداء للدكتاتورية  يتنامى في كل أرجاء الوطن الكبير لا يشذّ العراق  عن القاعدة  ولنفس الأسباب الهيكلية أي مصادرة سيادة الشعب وامتهان كرامة المواطن وإطلاق يد عصابات الحق العام من أقارب ومقرّبين في أموال الأفراد والمجموعات ناهيك عن إطلاق عصابات البوليس السياسي لترويع الناس وكسر كل بذور التمرّد . هذه الوطنية النظامية هي التي أطلق عليها الرصاص المدنيون العراقيون وهم يخلطون بين من ظنوهم أتوا لصدّام وهم لم يأتوا إلا للعراق .

ويا لها من مأساة أن يقتل وطنيون عرب بسلاح  وطنيين آخرين  كل هذا لأنه ليس لنا  لحدّ الساعة  مفهوم محدّد، واضح  جديد ومتفق عليه للوطنية. وهذه أولى الخطوط العريضة لنقاش واسع داخل الأمة لكي ننتهي من الوطنية النظامية الخادعة ونبني على أنقاضها مفهوما يدافع عن مصالحنا لا عن مصالحهم.

                                                               وطنية المواطنة

لقد حدّد لنا الاستبداد مفهومه للوطنية جاعلا من الزعيم ومن النظام مركزي الثقل في المفهوم. هو فرض علينا أن  مقياس الوطنية مدى ولاء المرء للزعيم وولاءه للنظام ومقياس الخيانة مدى كرهه للزعيم وللنظام ذلك بحجة أن الزعيم والنظام  في خدمة الوطن ومن ثمة فإن خدمتهم هي آليا في صالح الوطن الذي يخدمان.

 أمّا وقد انهار النظام الاستبدادي العربي على أرض الواقع في العراق وقريبا جدّا في كل مكان فقد آن الأوان لنحدّد نحن مفهومنا للوطنية  لتفادي الكارثة داخل الكارثة أي  استبدال ثومة ببصلة كما يقول المثل الشعبي  و هو ما يعني مواصلة الدوران في نفس الحلقة المفرغة للعقم والفشل . والمقترح أن نبني وطنيتنا الجديدة على ثلاث دعائم .

1-الوطن هو المواطن :  لقد اختزل القرآن كل موضوعنا  في  الآية الكريمة '' من قتل نفسا بغير حق فكأنّما

قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعا '' . ما أبلغ هذا القول وأعمقه وأصدقه لأنّه نبّهنا أن كل إنسان هو '' المثل الشرعي والوحيد'' للإنسانية جمعاء ، ومن ثمّة يصبح قتل واحد كقتل الكلّ وإحياء الواحد كإحياء الكلّ. ما أبعدنا عن عنطزة الديكتاتورية أو أمثلتها الحقيرة ومن أشهرها ''واحد كألف وألف كأفّ'' . ولأنّهم لا يفهموا ولا يقبلوا أن يتجلّى الوطن في كل مواطن مهما كان بسيطا وجاهلا وحتى عدوّا لهم،  فإن المستبدّين ملئوا السجون والمقابر بمن قرّروا أنهم جماعة أفّ والحال أن اللّه جعل من كل واحد منهم ليس ممثلا للوطن فحسب وإنّما ممثلا للبشرية جمعاء. والقضية ليست إشكالية   فكرية تبت بالحجج مع مثقفي الاستبداد  وإنما صراع سياسي يفرض على من فرضوا علينا وطنيتهم  المجرمة أن المواطن هو بالنسبة لنا الممثل الشرعي والوحيد للوطن  لا يجوز المساس بكرامته وأننا نعتبر أن  كل المعاملات المشينة  لأي شخص  تطاولا على الوطن والتعذيب الجريمة العظمى التي سيكون لها في القانون الجنائي المستقبلي العقوبة الأشدّ.

2-الوطن هو المواطنون : إن المواطن يوجد كشخص ويوجد كجزء من مجموعة تتبادل بينها علاقات اجتماعية

واقتصادية وسياسية في إطار حقوق وواجبات . هذه الحقوق والواجبات قسمها  الإعلان العالمي لحقوق لكي تكون عادلة وفعالة إلى حقوق فردية ( الحياة ، الحرية ، العدالة ، الحرمة الجسدية ) وحقوق سياسية ( الحق في الرأي المخالف للسلطة، الحق في المعتقد، الحق في التنظم، الحق في انتخاب من يحكمه وفق انتخابات حرة) وحقوق اقتصادية اجتماعية (الحق في الصحة والتعليم والعمل  والثقافة ومستوى معيشي لائق). ألا يعني تحقيق هذه الحريات تحرير المجتمع ورفع مستواه وتحقيق العيش الكريم لكل أعضائه ؟ أليست الوطنية الصادقة تلك التي  تجعل نصب عينيها تحقيق هذه الحقوق والحريات وهي سبيل الأغلبية لهذا العيش الكريم . ؟ فلتكن من هنا فصاعدا  وطنية كل شخص وكل نظام سياسي في مدى احترامه لهذه الحقوق وتعهده لها والسهر على تطويرها.

3-الوطن هو المصلحة العليا للمجموعة الوطنية:  غالبا ما ننسى أن ما نسميه الوطن  فضاء نستعيره من أطفالنا ومن أحفادنا ولا بدّ أن نرجعه لهم في أحسن حال لتتواصل الملحمة الجماعية وتطيب الحياة وتزداد نبلا وثراء جيلا بعد جيل. ولو تأملنا في الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان العالمي لرأينا أنها أقوى محرّك لخلق الثروة  المادية  والقيم والقوانين والثقافة وحتى الجمال الذي لا يتعايش مع القبح والبذاءة وهما دوما من سمات الدكتاتورية . . يعني هذا أن الوطنية هي أن نتصرّف  كالآباء المخلصين الذين يعملون ليلا نهارا  لا لمتعتهم فقط وإنما ليتركوا لأبنائهم اسما وثروة ترفع رؤوسهم بين الناس. تأملوا من هذا المنظور '' وطنية '' الدكتاتور وعصابته وهم يمنعون الشعب من تنمية قوانينه وثقافته وهم  يسرقون قوته في وضح النهار وهم يتقاسمون أسماله كما تقاسم  جنود قيصر ثوب المسيح بعد صلبه. تعجّبوا من وطنيتهم وهم   يقايضون وجودهم كعصابة أشرار بما يسمحون للأجانب بنهبه  من خيرات  الوطن  غير عابئين لا بهذا الجيل ولا بمن يليه.

ولو لخّصنا نظرتنا للوطنية الجديدة لأمكن القول أنّها تقاس بالاقتراب أو البعد من فرض  الحرمة الجسدية والروحية  و الحريات السياسية و العدالة الاجتماعية وغياب الفساد. إن هذه الوطنية التي يمكن تسميتها بالمواطنية  تتمثّل بالنسبة  لكل واحد منا في الالتزام و النضال من أجل تحقيق هذه المؤشرات الأربعة. أمّا ساكن البلد الذي لا يعنيه التعذيب ولا تهمه الحريات والعدالة الاجتماعية فهو بعيد عن الوطنية بعد الأفق عن الكسيح. وأما النظام المتهيكل حول الفساد وقمع الحريات والظلم الاجتماعي و التعذيب  فهو الخيانة الوطنية بأمّ عينها ولو لبس بردة الرسول.

يبقى أن تبتّ   المواطنية في قضية العلاقة مع الآخر. وثمة  في هذا المستوى داخل الفكر العربي إشكالية مسمومة وأخرى  مغلوطة. أما  المسمومة فهي التي تتعلق باعتبار الآخر وخاصة الغرب العدوّ أو الخصم أو المنافس  ومن هذا المضمار تقاس الوطنية بمدى العداوة للآخر وهي وصلت ذروتها عند بن لادن الذي حدد لنا العدو بأنه  اليهود والنصارى – هكذا بكل بساطة- والحمد لله الذي لن يرينا يوما انتصاب مثل هذه الوطنية  التي ستضع  فيروز وإيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة  وحتى الأخطل في خانة  أعداء أمتنا والحال أنهم من ركائز ثقافتها. وفي مواجهة الوطنية الضدية لا بد من بلورة وطنية إنسانية ترى في كل حضارة من الشرق أو  الغرب مجتمعات مدنية صديقة وقيم حضارية يحب أن ننهل منه- ونحن أمة بنت حضارتها  أيضا على  أعمال مترجمي بغداد - وأخيرا أنظمة سياسية تمرّ بشطحات استعمارية  هي عدوتنا في ذلك   الظرف لا غير.

أمّا الإشكالية المغلوطة فهي التي  تعتبر أن الخلاص من الاستعمار لا يكون إلا بأنظمة قوية كالتي مثّلها صدام حسين.

إن مأساة العقل العربي أنه لم يستوعب إلى اليوم أن الاستعمار كان وسيبقى تتويجا  للاستبداد والاستبداد موطأ قدم للاستعمار ، أن الاستعمار استبداد خارجي  والاستبداد استعمار داخلي، أن الاستبداد والاستعمار  وجهي نفس عملة النقد. لقد دخل الاستعمار بلادنا لأنها كانت محكومة بأنظمة أنهكتها وأضعفتها وأطمعت فيها العقبان إذ كان ولا يزال  همّها الأوحد   بقاؤها وليس بقاء الوطن و ما نراه اليوم في العراق ليس إلا تكرارا لما حدث في القرن التاسع وما سيحدث في كل قرن آت لأن قدر كل ضعيف في هذا العالم أن يسام الخسف فردا كان أم أمّة .

لنتصور أن الكويت كانت سنة 91 دولة تعيش تحت راية المواطنية وليس تحت راية الوطنية النظامية والضدية  أي انها كانت دولة  محكومة بالحقوق والحريات وعدم التمييز بين السكان وغياب الفساد. أقول أنه لو كان الأمر كذلك لما تجاسر الدكتاتور  العراقي على تخطي الحدود ولما وجد أصلا مبررا للأمر ولو فعل للاقى مقاومة الأبطال. بنفس الصفة تصوروا عراقا يعيش تحت راية  نفس المواطنية عشية الهجوم الأمريكي. من نافل القول أنه لو وقع مثل  هذا الهجوم،  وهو أمر جد مستبعد لغياب كل المعاذير، لما سقطت بغداد بمثل السهولة التي سقطت بها ولما قتل متطوعون عرب برصاص مدنيين عراقيين. تصوروا الآن أقطارا  عربية توحدت في نفس المفهوم للوطنية وفيها تداول سلمي وسريع على السلطة وأجهزة وحدوية وتنظيم وتنسيق وثقة متبادلة. أقول أنه لو كان لنا مثل هذا الهيكل لحلت مشكلة فلسطين منذ زمن بعيد حربا أو سلما. لقد آن الأوان لنفهم أن الخيار ليس بين نظرية المؤامرة وبين نظرية الوهن الداخلي ولكن بين الإمعان في الهذيان وبين الخروج منه. فمن نافل القول أن الاستعمار لا ينتصب  إلا في أرض  من كان قابلا للاستعمار مثلما لا يصيب المرض الجرثومي  إلا جسما انهارت مناعته. وكما لا يتخلص الجسم من جراثيمه إلا بتقوية مناعته،  لا تتخلص الشعوب من احتلال الخارج إلا بالتخلص من أسباب ضعفها والدكتاتورية اليوم السبب الرئيسي في ضعف الأمة .

ويا لفداحة خطأ من يتصوّر أن مقاومة  الإحتلالين هي أساسا أو فقط مسلّحة،  فالأمر للأسف الشديد أعمق وأخطر من هذا بكثير . نحن  مطالبون بإعادة صياغة البيت من السقف على القاع لأن عملية الخراب التي تطلبت قرنا كاملا لن تستبدل إلا  بعملية بناء تأخذ مثل هذا  الزمن  وربما أكثر.  فقلب موازين القوى لصالحنا  مسألة بالغة التعقيد، بالغة الطول تمرّ أساسا بتحقيق الاستقلال الثاني أي التحرّر من عصابات الحق العام التي تحكمنا وبناء الوطن الصغير والوطن الكبير  الذي خرّبته الدكتاتورية  على المبادئ الأربعة للوطنية الجديدة. وآنذاك سنبدأ في استعادة أسباب القوة التي أعوزتنا طوال القرن الماضي  لأننا بقينا كما  يقول إيليا ابو ماضي '' نرجو الخلاص بغاشم من غاشم   لا ينقذ النخاس من نخاس ''  فهل سنستطيع أن نفرض رؤيا جديدة للوطن والوطنية أم هل سنبقى  نبيع أنفسنا بأنفسنا  في  سوق النخاسة يصرخ فينا  الغربي أو الشرقي  كما كان يصرخ الفيلسوف ديوجين :  من يشتري له سيدا ؟

****