رسالة إلى الرأي العام

د. صلاح الدين سيدهم

الجزائر

 

منذ تسع سنوات، حاول البوليس السياسي التابع للنظام الجزائري إسكاتي بتوريطي في "أعمال تحريضية " جاء ذكرها في اعترافات انتزعت تحت التعذيب من صديقين جامعيين.

هكذا أمكن للبوليس تجهيز ملف محبوك بغرض محاكمتي بطريقة تذكرنا بالمحاكمات الستالينية. إلا أن هذا السعي مني بخيبة أمل كبيرة، حيث قضت المحكمة بانتفاء وجه الدعوى.

واضطر البوليس السياسي لاستنفار الصحافة المأجورة التي قامت بحملة شعواء للتشهير بي واستباحة دمي وتحريض القتلة علي. لقد كانت الدعوة لقتلي صريحة لا شائبة فيها. ولم يكتف البوليس السياسي بذلك، بل بادر بإرسال ثلاثة من المجرمين إلى بيتي لتصفيتي. لكن شاءت الأقدار أن أنجو من تلك المحاولة.

أمام إرهاب دولة لا تلتزم بخلق أو قانون، اضطررت إلى الاختفاء، رافضا كل النصائح والدعوات التي وجهها إلي أصدقائي في الجزائر وخارجها، لمغادرة البلاد واللجوء إلى الخارج. لقد رفضت ذلك رفضا قاطعا ليقيني بأن النضال السياسي والكفاح من أجل كرامة الإنسان وحق الجزائريين في تقرير مصيرهم، إنما يتم على أرض الجزائر وليس خارجها مهما كلف ذلك من ثمن.

لقد استطعت بعون الله وتوفيقه أن استقر في ذلك النضال من أجل الكرامة وكشف الحقيقة بالرغم من الصعوبات الجمة والعراقيل الكثيرة. الأمر الذي دفع البوليس السري لإعادة الكرة فحبك ملفا سنة 1996، يتهمني فيه "بالتحريض والمشاركة في حركات تمرّد والتآمر ضد سلطة الدولة ومحاولة قلب النظام وغيره". وما أشبه هذه الاتهامات بتلك التي كانت تكال جزافا ضد الوطنيين المخلصين المعارضين لدكتاتورية الرئيس العقيد في السبعينات والثمانينات، والذين كانوا يحاكمون بمقتضاها أمام المحاكم "الثورية"  و محاكم أمن الدولة سيئة الذكر.

لقد استطاع البوليس السياسي أن يستنفر قضاءه مرة أخرى سنة 1997 والذي قضى علي غيابيا بالسجن عشرين سنة. هكذا وتحت غطاء حالة الحصار والقوانين الاستثنائية وفي أجواء خطة الاستئصال السائدة، وقع تجريم نشاطي السياسي ونضالي من أجل حقوق الإنسان، دون إمكانية استنكار إرهاب الدولة أو إدانة الإنقلاب العسكري سنة 1992، أو إمكانية الدعوة لحل سياسي للأزمة. فمثل ذلك هو من قبيل المساندة للقتلة في الديمقراطية الجزائرية العجيبة.

مع ذلك، لا زلت أعتقد بأن إرهاب الدولة هو المسؤول الأول على دوامة العنف الجهنمية التي طحنت البلاد.

طوال هذه الفترة، فرضت علي معتقداتي وقناعاتي وكل القيم الحضارية التي أؤمن بها أن أتحمل مسئوليتي كاملة أمام المأساة التي يعيشها وطني. وهكذا التزمت بخط أخلاقي في مقاومة النظام الشمولي الذي أعلن حربا شرسة على جزء من شعبه.

أمام المآسي المفروضة على شعبنا والتعتيم الإعلامي ونسيج الكذب والبهتان الذي يغطيها، رأيت من واجبي التعاون مع أبناء وطني الشرفاء لكشف خدعة القرن الكبرى التي انطلت عليهم. وتمكّنا من نشر مئات الشهادات وقوائم بأسماء الآلاف من المواطنين، رجالا ونساء من ضحايا همجية مخطط الاستئصال. لقد استطعنا مجابهة الآلة الدعائية المذهلة للنظام وزبانيته وأعوانه بقوة الحقيقة ودقة الأدلة وصحة الوقائع، كذلك بإرادة صلبة وعزيمة صادقة، يحدونا الأمل العميق في إبراز الحقيقة في النهاية.

لقد وقفنا على الدوام الموقف الذي يفرضه علينا الضمير. وهكذا عندما قلبت الدبابات صناديق الاقتراع وانتهكت السيادة الشعبية وأهانت الشعب وحقوقه، أدنّا ذلك الصنيع في حين صفق له الكثيرون. كذلك عندما انتهكت حقوق الإنسان بشكل واسع ومفضوح تنفيذا لسياسة الاستئصال أدنّا ذلك واستنكرناه، عندما سكت عنه البعض وأدان بعضهم بعضه وسانده وصفق له آخرون.

لقد كنا شهودا يقظين لأخطاء وفظائع النظام ورأينا منها وسمعنا عنها وشهدنا عليها. ومع مرور الوقت، تمكن المناضلون والمناضلات من أجل حقوق الإنسان وغيرهم من المثقفين والضباط، بما أوتوا من إرادة لا تقهر وعزيمة لا تتزعزع، من دكّ جدار الصمت الذي أقامته الدكتاتورية حول المأساة الجزائرية وعلى كشف وجهها الكالح الذي سعى النظام جاهدا كي يتوارى عن الأنظار.

هكذا تجمعت الشهادات والأدلة المادية القاطعة، وهي الآن على مكاتب المؤسسات المختصة والمنظمات العالمية والمحامين الدوليين.

لقد اتضح للعالم اليوم أن "الذين أنقذوا الجزائر من الهمجية الأصولية" قد ارتكبوا جرائم أبشع من جرائم خصومهم. كما واتضحت للجميع الطبيعة الحقيقية للنظام الجزائري وقدرته الفائقة على تدبير المكائد وتحريك خيوط الإجرام ضد مواطنيه من أجل الحفاظ فقط على امتيازاته. هكذا انكشف الأمر بأكمله وتوضّحت الصورة وظهر أن حاميها هو حراميها وأن من قدّم نفسه درعا ضد الإرهاب هو نفسه الذي أجرم ضد الإنسانية.

لقد ساهمت بقسطي المتواضع مع غيري من رجال ونساء الجزائر في إزالة القناع وكشف الوجه الحقيقي والطبيعة الدفينة للنظام وممارساته.

هكذا، وبعد تسع سنوات من النضال في سبيل الحق والعدل والكرامة، وفي سبيل كل المبادئ والمعان السامية، قرّرت وضع حد لاختفائي وتقديم نفسي للقضاء للاعتراض على الحكم الظالم الذي أصدره علي غيابيا بسجني 20 سنة. إني عميق الثقة ومطمئن الضمير بأني لم أعمل في كل ذلك إلا واجبي وواجبي وحده المتمثل في تقديم الشهادة عن الواقع الجزائري.

إني أخرج من الاختفاء مطمئن الضمير لأواجه جهاز النظام القمعي الذي بات الآن معروفا للعالم كله. ولا شك أني سأعتقل وأسجن، وهذا ثمن متواضع يدفعه الأحرار في بلد بلا قانون.

إنّ ما دفعه آباؤنا بالأمس من أجل الاستقلال الوطني هو ذاته الذي ندفعه اليوم من أجل الحرية والعدالة. وسأواصل كفاحي من السجن كي انتزع حقي كسجين رأي. كذلك للحصول على الضمانات الكافية من أجل محاكمة عادلة وبحضور مراقبين أجانب.

سأواصل وراء جدران السجن ما بدأته حراً، معتمدا على الله سبحانه لتأييدي ونصرتي في كفاحي من أجل حق مواطني في تقرير مصيرهم بكل حرية ومن أجل ضمان كرامتهم الإنسانية. كذلك من أجل جزائر تتسع للجميع دون إقصاء، ومن أجل مجتمع عادل وديمقراطي متجذّر في أعماق قيمه الحضارية ومتفتحا على العالم.

                                             وأشهد الله عز وجلّ على ما أقول وأفعل.

 

                                              الجزائر في 29 سبتمبر 2003

                                              د. صلاح الدين سيدهم