مواطنون أم رعايا ؟... سياق و تعريفات....
المصطفى صوليح
elmostafa.soulaih@menara.ma
فيما يتجاوز مفهوم المواطن ( citizen ) المعنى المعجمي ليدل على الفرد المشارك، فإن مفهوم
المواطنة (citizenship) هو بدوره يفوق ذلك ليحيل على
عملية المشاركة وعلى فعل الفرد المواطن فيها.
وهكذا، ففي التعريف الكلاسيكي الذي يختزله قراء التاريخ
الأوروبي القديم، يقصد من مفهوم المواطن عند الإغريق كما نشا في أثينا الديمقراطية،
الفرد من خارج العبيد والنساء والأجانب الذي يشارك بحرية في الشؤون المدنية والسياسية
على قدم المساواة مع غيره من الأفراد الأحرار.
وهو المفهوم الذي توسع بعد ذلك في
روما ليشمل، من حيث الفئات، العامة ثم الشعوب الأخرى الخاضعة للإمبراطورية
الرومانية، ليتخذ بعدا قانونيا انطلاقا من سنة
ودون تفصيل حول المشاركة المتساوية
في الحياة العامة التي ضمنتها فئات النبلاء والكهنة والمحاربين المنتمية إلى
دويلات المدن في بلاد الرافدين وغيرها التي سبقت أو زامنت حضارة أثينا وروما، ولا
حول المدونات القانونية التي عرفتها المنطقة مثل مدونة أورنامو الصادرة في القرن
الواحد والعشرين قبل الميلاد، ومدونة حمو رابي التي تعود إلى النصف الأول من القرن
الثامن عشر قبل الميلاد والتي تعتبر بموادها البالغة 282 مادة أضخم تقعيد عرفي في
عصرها للحقوق والواجبات لفائدة الأحرار والمساكين والأرقاء،،، وباستثناء، هنا
أيضا العبيد والنساء، شكلت مشاركة الرجل الحر واحدة من أهم المستلزمات التي حتمتها
طبيعة القبيلة العربية التقليدية وكذا حاجاتها إلى التشاور في تدبير شؤونها
الجماعية وإلى تنظيمات داخلية لاتخاذ القرارات وتقاسم الأدوار. وهي المشاركة التي
غمقتها أكثر ظروف السلم التي أحاطت قبيل الإسلام بدويلة المدينة القصية في مكة
وذلك من خلال نظامها الرئاسي مجلسها الخاص ببطون قريش، ودار الندوة.
أما بعد ذلك، أي مع ظهور الإسلام،
فإن هناك من الدارسين من يستند إلى تجربة الدولة الإسلامية في المدينة يثرب، وذلك
قبل توسعها، ليجزم بان تسمية "المسلم" في القرن السابع للميلاد تتجاوز،
من حيث مدلولها ومن حيث الذين تطلق عليهم، المفهوم اللاتيني الإغريقي الذي اصطلح
حديثا على ترجمته في اللغة العربية بالمواطن، بل ويعتبرونها الأكثر تطابقا مع
التطور المعاصر الذي لحق بهذا المفهوم. ودليل ذلك في نظر هؤلاء أن الفرد الحر،
رجلا أو امرأة، كان يحظى بالعضوية الكاملة في المجتمع السياسي للمدينة مباشرة إثر
اعتناقه للإسلام، وبالتالي كان يتمتع بالحق في المشاركة في اقتراح وإدارة أمور
المجتمع الجديد. وبمساواة مع غيره من المسلمين كان بإمكانه أن يفحم الآخرين من
داخل مسجد الرسول، حيث كانت تقام الصلوات اليومية الخمس ويوجد
مقر الحكومة، بآرائه التي كانت تؤخذ بعين الاعتبار. وفي هذا الإطار، تعتبر
"الصحيفة" التي أقرها النبي محمد (ص) مع المسلمين وغيرهم من سكان يثرب
عهدا مدنيا يضمن حقوق تلك المشاركة المتساوية بين المسلمين، وفي نفس الآن اتفاقا
سلميا على تنظيم الحقوق والواجبات بين مسلمي المدينة ويهودها.
غير أنه (ومع الإشارة إلى أن تسمية
"المواطن" لدى الأثينيين أو الرومان لا صلة لها بتسمية
"المسيحي") إذا كان كل من المفهومين، مفهوم المواطن لدى الأوروبيين
ومفهوم "المسلم" الذي يفترض بأنه المقابل له في المجتمع الإسلامي الأول،
قد اندثرا معا، الأول طيلة فترة العصور، فترة صعود أنظمة الحكم الملكي المطلق التي
سادت عشرة قرون (300 م – 1300 م)، والثاني مع الانهيار العملي، لا النظري على كل
حال، لنظام لم يتمكن من الاستمرار في كفالة المساواة في المشاركة بين الأفراد
المسلمين المكونين للمجموعة السياسية المستندة إلى مرجعية الدين إلا لمدة قصيرة
انتهت مع مقتل الخليفة عثمان بن عفان سنة 656 م، واتجاه الحكام نحو التخلي عن مبدإ الشورى
وتبنيهم لأنظمة حكم غير مقيدة، فإن أوروبا عادت من جديد لاكتشاف مفهوم المواطن مع
البوادر الأولى لنهضتها العامة. أما منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فلم يحدث
فيها ذلك الاكتشاف إلا خلال العقدين الأخيرين من النصف الثاني من القرن العشرين.
على مدى الاثني عشر قرنا الماضية
من تاريخ الإمبراطوريات الإسلامية والدول القطرية التي تفرعت عنها، أفلت بصفة
نهائية وضعية الفرد المشارك وآلت مكانته إلى مجرد تابع، حيث نشأ وترسخ مفهوم جديد
يحدد العلاقة بين الفرد و الدولة هو مفهوم الرعية. فما المقصود من ذلك ؟
الرعية ( أو الرعايا )، هي جمع
بغير مفرد، يشير إلى ساكنة ليس لأعضائها كيان حقوقي مستقل و قائم الذات . تتجسد
الصفات المحمودة المطلوبة فيهم في شخص الحاكم (السلطان، أو الأمير، أو الملك، أو
الشيخ، أو الإمام، أو الوالي، أو الرئيس ،،) المتميز بفرادته و بتنزهه عن الخطإ،
الذي كانت له الغلبة، بفعل النسب أو العصبية أو القوة، على غيره في الولاية عليهم.
وهم يعيشون في تراب إمارته التي يعتبرون في علاقتهم مع بعضهم أبناءها، وهو أبوهم
وراعيهم، يلحم وحدتهم ويسوقهم إلى ما يراه خيرهم. يدفعون ما تحتاجه من مكوس
ويشيدون عمرانها ويجندهم للدفاع عن حوزتها. يهللون لطلعاته ويدبجون خطبهم وأحاديثهم
بإنشاءات يحفظونها عنه. لهم أن يتناسلوا، ومن أمكنه منهم إسكان وإطعام وإكساء
وتفقيه نفسه وعياله كان له ذلك، ومن لم يستطع
فتلك مشيئة الله. ولأن معظمهم، في نظره، رعاع تغويهم الأهواء والفتن، فما
عدا التطاحن و التنابذ بينهم، وجب عليهم تجنب الخوض في أمور السياسة والاجتماع
والاقتصاد، فإذا جاروا، أي جادلوه أو ثاروا عليه، جاز السيف لقطع دابرهم والتنكيل
والسجن لإصلاح اعوجاجهم واستردادهم إلى طاعته التي هي من طاعة الله. وإذا أذعنوا
ظفروا بتساهله ورضاه ودعواته لهم في صلواته ومجالسه بالرحمة والعافية وأكثر من جمع
صدقات التآزر وإعادة توزيعها عليهم. وأما الذين يأذن لهم بمخالطته في السلطان،
ومنهم المفتون والحجاب والوزراء وكبار الضباط والقضاة والمدونين لما تعج به
الأفئدة فلا يفعلون إلا بنور سداده وبعد
إشارته، فإن خالفوه تركهم في هداياه لهم وفي ما تملكت أيمانهم، وأذلهم ونساءهم
وذريتهم أيما إذلال.
ورغم أن ساكنة أوروبا لم تسلم هي
بدورها من هكذا وضعية، فإن الدينامكية العامة، الدموية تارة والهادئة تارة أخرى،
التي دشنت بها هذه القارة وخاصة في أطرافها الشمالية الغربية ولوجها إلى العصور
الحديثة وذلك ابتداء من القرن الثالث عشر للميلاد، قد عجلت بتفكيك نظم الإقطاع وبالإيذان
بتأسيس الدول القومية خارج نفوذ الكنيسة، كما عجلت في خضم ذلك بعودة المواطن من
جديد إلى موقع الصدارة في شتى المنجزات التي تم تحقيقها والتي من بينها الانتقال
نحو الديمقراطية وتعزيز شروطها ثم تنمية مبادئها ومنهجياتها وآفاقها.
وقد تدعمت هذه العودة الجديدة
للمواطن الأوروبي إلى دائرة الحياة السياسية بصدور عدة نصوص تعترف بحقوقه وحرياته
الفردية والجماعية وتقننها ضد تعسف الملوك وأجهزة الدولة، وذلك وفق مسارين :
أحدهما ثوري في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، والآخر إصلاحي في إنجلترا. ففي
هذه الأخيرة، وبتاريخ 12 يونيه 1215، اضطر الملك جون سان تير إلى إصدار ميثاق
الشرف الأعظم (ماغنا كارتا)، والذي من خلال مواده الثلاث و الستين ضمن للرجال
الأحرار الخاصة و العامة كما للكنيسة مجموعة من الحقوق، ولم يفته أن نص على تقعيد
حق الملك في التصرف في أموال البلاد وعلى الحق في إعلان رفض القرارات العدوانية ضد
الناس التي يمكن أن تصدر عنه. وإلى ذلك، شكلت حرية الضمير و الرأي و التنقل بالإضافة
إلى منع اعتقال أي شخص أو إكراهه أو نزع ملكيته أو نفيه بدون محاكمة عادلة بعضا من
أهم الحقوق التي كفلها هذا الميثاق للمواطنين والتزم الملك باحترامها. وفوق ذلك
اتسعت في سنة 1265 قاعدة المشاركة في البرلمان لتشمل إلى جانب مكوناته السابقة
مواطنين اثنين من كل مقاطعة، الأمر الذي سيتوج بمؤسسة تشريعية جديدة هي "مجلس
العموم البريطاني الذي يعتبر أحد أهم منابع الديمقراطية الحديثة".
وإذا كان هذا المسار قد عرف تراجعا
ما بين 1231 و 1834 إثر موجة الاضطهاد الفظيع الذي باشرته "محاكم التفتيش"
الكنسية ودمر خلال تلك الفترة حوالي 300
ألف روح بشرية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، فإن حقوق المواطن قد تعززت مع ذلك، و
دائما في انجلترا، بنصوص موالية تمثلت في "عريضة الحقوق" لسنة 1689 الذي
يعتبر بمثابة الأساس الأول للدستور الانجليزي.
ولأن القرن الثامن عشر هو قرن
الإنسيين، كان المواطنون فيه على موعد مع نصين مهمين هما إعلان استقلال الولايات
المتحدة الأمريكية في 04 يوليوز 1776 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26 غشت 1789
بفرنسا. إعلانان فيما ضمنا لكل فرد حقوقا مدنية وسياسية وقيدا سلطات الدولة،
فإنهما قد ارتكزا على مبادئ من قبيل الحرية والمساواة والكرامة التي سيتضمنها
دستور كل من الجمهوريتين لتصبح قيما للمجتمع الديمقراطي.
ولكن هذا التطور لم يعط، مع ذلك،
حقوق المواطن إلا للبعض وواصل حرمان البعض الآخر منها. فدستور 1787 الأمريكي الذي
أنشأ ديمقراطية تعتمد "على المساواة والحرية
ومسؤولية المواطن" أقصى السود ولم يعتبرهم مواطنين متساوين حتى بعد تحريرهم من العبودية
سنة 1800 ، و هو ما لم يتحقق لهم إلا بعد أزيد من قرن ونصف أي إلى غاية سنة 1965.
ونفس الحال كان بالنسبة للنساء والشعوب الأصلية. وفي فرنسا حيث تمكنت الثورة من
إسقاط الملكية المطلقة و تعويضها بالجمعية الوطنية التي أكدت بأن "الناس يولدون
أحرارا و متساوين في الحقوق"، وصوتت للإعلان الأول الذي استبدل في سنة 1793
بإعلان ثاني يدمج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويؤكد على المساواة كحق أساسي
وعلى أن المساواة الاجتماعية والسياسية هي حق للجميع، لم تلغ العبودية على الأراضي
الفرنسية إلا في عام 1848، كما ظلت النساء على الصعيد السياسي خارج دائرة
المواطنين محرومات من الانتفاع من الحقوق السياسية.
وباستثناء الموافقة لهن على قانون
الطلاق والمساواة في الإرث بين الأبناء وسن للرشد محدد في واحد و عشرين سنة، كان
على النساء أن تناضلن لعقود أخرى من أجل الحصول على الحق في الترشيح والانتخاب
وعلى ضمانات الحقوق والحماية القانونية، وبالتالي على وضعية المواطنات. وبالفعل
تتوجت هذه النضالات في سنة 1928 بصدور قانون المساواة في الانتخابات بين الرجل والمرأة
في انجلترا، وانتشرت آثار ذلك في بلدان أخرى.
وهكذا، فمع نشوء الديمقراطيات في
أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لم يعد زمن تطور الحقوق يعد بالقرون، ومع
النمو الذي عرفته هذه الديمقراطيات بناء على علاقتها الحمائية المتبادلة مع تلك
الحقوق تقلصت الوحدة الزمنية إلى العقد ثم إلى السنوات. إذ خلال نصف قرن، بدءا
بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، صدر ما يناهز 73 وثيقة أممية أو إقليمية
تخص حقوق الإنسان بصفته إنسانا أو بصفته في وضعية خاصة أو بصفته يتعرض لإحدى أخطر
الانتهاكات المتكررة. بعض هذه الوثائق عبارة عن عهود أو مواثيق أو اتفاقيات أو
بروتوكولات آمرة وملزمة وبعضها الآخر عبارة عن إعلانات مبادئ و قواعد من المتوقع
الالتزام بها. سبعة على الأقل من هذه المنظومة تخص جنسية المرأة المتزوجة، وتنص
على موافقة المرأة على الزواج كما تنص على السن الأدنى له وعلى تسجيله، وتحمي
حقوقها المدنية والسياسية وتمنع جميع أشكال العنف أو التمييز بحسب النوع أو في
التعليم أو في الأجر ضدها. وثلاثة منها على الأقل تحمي حقوق الشعوب الأصليين
والأقليات الوطنية ولغاتهم. كما أن خمسة من هذه الصكوك تعترف للأطفال بمن فيهم
المولودون خارج الزواج بالحق في الحياة والمشاركة والحماية والتنمية.
في هذا السياق تبلورت الملامح الرئيسية
للصورة المعاصرة للمواطن. إن الأمر يتعلق، من جهة، بكينونة تاريخية لم تعد تقتصر
على الرجال الأحرار الذين لم يكونوا يمثلون سوى 20% من ساكنة أثينا، بل أصبحت تشمل كل
الأفراد أعضاء المجتمع (رجالا، نساء، وأطفالا). ويتعلق، من جهة ثانية، بكيان
قانوني وسياسي مستقل، لا يختزل في مجرد الهوية، بل يكون مضمون الوجود الفعلي
بإعلان أو تبني الاختيارات المفكر فيها، وبالمشاركة المتساوية في اتخاذ القرارات
المدنية والسياسية، وفي إبداع عمليات أجرأتها. كما يتعلق، من جهة ثالثة، بكيان
قيمي إنساني، يستلهم القواسم المشتركة مع باقي أفراد المجتمع، ويجسد الديمقراطية،
ويصدر في المواقف والسلوك بناء على مبادئ الحرية والمساواة في الحقوق والمسؤوليات،
والتسامح، وتكافؤ الفرص،
والإنصاف، والتضامن، والسلم.
وفي الأخير، يبقى أن عديدا من
الأسئلة ستراود الذهن، منها على سبيل المثال: للإقرار بالوجود الفعلي لهذا الكيان
المتعدد الأبعاد الذي يمثله المواطن، هل يكفي أن تكون الدولة عبر حكوماتها قد وقعت
وصادقت على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأن تتوفر على نصوص قانونية وآليات
حمائية وطنية، وعلى دستور وبرلمان ومجالس جماعية، وأن تحرص على أن تنظم بين الفينة
والأخرى استفتاءات عامة وانتخابات محلية ووطنية ؟ وبتعبير آخر، هل يمكن أن يوجد
فعليا مواطنون بدون مواطنة؟
المصطفى صوليح
El Mostafa
Soulaih
كاتب، باحث، ومؤطر، في مجال
التربية على حقوق الإنسان و المواطنة .
من كوادر اللجنة العربية لحقوق
الإنسان